التجريدية في الفن الإسلامي: الأصل والشكل
بقلم عز الدين بوركة
ما علينا الوقوف عنده مليا ومراجعته تاريخيا وفنيا، كما ثقافيا، هي تلك التجربة الفنية المتسمة باللمحة التجريدية المطلقة، في الفن العربي-الإسلامي، للعالَم. إذ تتسم باستقلالية في اللون وهندسية الشكل، وتجريد للشيء الخارجي عن المنجز المعبر عنه داخلها. هذا الأمر الذي لم تعرفه أوروبا بتراكمها الفني، من الزمن الإغريقي إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى، إلا في العقود الأولى من القرن المنصرم. هذا الوعي بالقيمة التجريدية والطابع الفني العميق الذي تقدمه العمل الفني œuvre artistique للمتلقي عند التقاءه به، كما الحرية في الرؤية، الغير المنحصرة في عالم المستقبِل الخارجي، بل تلاحقه في أحلامه اليقِظة، لم تتأتّ للأوروبيين إلاّ عبر تلك البعثات الاستشراقية التي قاموا بها إلى العالم الإسلامي (العربي خاصة)، والتقائهم بالحضارة الأندلسية، هكذا بدأت أوروبا تكتشف تدريجيا هذا التراث الكلاسيكي العربي الإسلامي.
ونحن لا ننسى هنا المعرض العالمي بفيينا (1873) الذي كان مسرحا لاكتشاف حضارة مغايرة. من ثم أيضا ينبع سحر الفنانين الذي رحلوا نحو شرقهم، "كإميل غراسي (إلى مصر سنة 1869)، وكلود رونوار (إلى الجزائر سنتي 1879 و 1882)، وفاسيلي كاندانسكي (إلى تونس بين 1904 و 1905 وإلى مصر وسوريا وتركيا سنة 1931)، وموريس دوني (إلى الجزائر وتونس والشرق الأوسط في ما بين 1907 و 1910)، وألبير ماركي (الذي قام بزيارات عديدة للمغرب والجزائر بين 1911 و 1945)، وبول سينياك (إلى تركيا سنة 1907)، وهنري ماتيس (الذي زار المغرب لعدة مرات منذ 1912)، وبول كلي (إلى تونس عام 1914، ومصر عام 1928)، وأوجست ماك (مع بول كلي إلى تونس)، ودايرك ووترز (إلى المغرب في 1913)، وراوول دوفي (إلى المغرب سنة 1925) وأوسكار كوكوشكا (إلى تونس والجزائر ومصر والشرق الأوسط بين 1928 و 1930)، وعدة فنانين آخرين مثل ه. بايير، ومارك شاجال، ودو ستيل، الخ، حتى فناني الأجيال الحالية".(عبد الكريم الخطيبي، الفن العربي المعاصر، (مصدر إلكتروني)).
غير أنه -في نظرنا- هذا التجريد الفني، لم يكن عن وعي كبير بالقيمة الفنية التي هم -أي العرب- يقدمون عليها، بل هو نتاج عن عقلية لاهوتية، تحاول طمس الواقع، لإدراج الإنسان إلى ميتافيزيقيتها، الرائية بتحريم التصوير. غير أن ما يجب التشييد عليه هو أن الفنان العربي كان عبقريا حينما حاول نقل ذلك الواقع دون مسّ الثقافة اللاهوتية التي تأصلت بالإنسان المؤمن، فاختار أن يجرّد العالم الخارجي من ملامحه، وجعله أكثر فنيا عبر مماثلته بأشكال هندسية (مثلث، مربع، معين، الدائرة...) واختيار ألوان أكثر تفتيحا لعين ومخيلة المتلقي (الأزرق الأخضر، الأصفر...)، وما يمكن ملاحظته هو غياب اللون الأسود وحضور اللون الأبيض في النقوش والجدران، هذا الغياب والحضور، له نفس الغاية فالغاية التي يقدمها اللون الأبيض هي نفسها التي يقدمها الأسود، من حيث إعطاء المساحة المنقوش عليها مزيد من الفراغ في المكان، لجعل المتلقي أن يملئها بتخيله، وأن يتمتع نظره بالمزيد من أريحية في النظر. (مع الذكر أن الأبيض أو الأسود ليسا بلونين، بل هما انعكاسات للضوء، والأول هو مجموعة ألوان.)
هذا ويمكننا الوقوف عند شكلين من طرق الاشتغال التجريدي، في الفن الإسلامي: التصحيف والتغفيل.
كان للإيمان التوحيدي، أثر كبير على إبداعية الفنان العربي القديم، جعله يتخذ من "التصحيف" الواقع، أي تحوير معالم الواقع الخاصة وتعديل نسبه وأبعاده وفق مشيئة الفنان عينه. وأيضا فن "التغفيل" الواقع، أو ما يمكن شرحه بالابتعاد عن تشبيه الشيء بذاته، إلى تمثيل الكلي والمطلق.
ولقد فُسّر سبب التصحيف تفسيرات مختلفة، حسب ما يقول الباحث "د. عفيف البهنيسي" في أحدى أبحاثه، فمن قائل إن الإنسان ليس إلا مخلوقاً عاجزاً عن مضاهاة الله في قدرته الخالقة. وقد أوضح القرآن الكريم الفرق الواسع بين الله والإنسان، والفرق بين وظيفة الخلق الخاصة بالله، ووظيفة العبادة المنوطة بالإنسان (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم) آل عمران/ 6، أي لا خالق ولا مصور إلا هو. وبما أن الخلق في القرآن مقصود به خلق الإنسان، لذلك كان تصوير الإنسان باعتقادهم ونحته، من الأمور التي يضاهي فيها الإنسان القدرة الإلهية، وفي الحديث: (مَن صور صورة في الدنيا، كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ). ولهذا يلجأ المصور إلى التصحيف في الشكل وإلى تغيير معالم الوجه البشري لكي يتحاشى عذاب الله كما ورد في الحديث الشريف: (إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة، الذين يضاهون بخلق الله).
ويدعي بعض المفكرين أن التصحيف كان نتيجة ضعف أهلية الفنان العربي وعدم ثقافته الفنية، ويسجلون بذلك هن في مظاهر الحضارة العربية، وهناك مَن يرى أن التصحيف محاولة للتفريق بين العمل الفني الذي لا يهتم بالشكل الأساسي وإنما يهتم بأبعاد أخرى فنية وفلسفية، وبين صناعة الأصنام والتي حرمها الله بوضوح تبعاً لتحريمه الوثنية إطلاقا.
ولقد فطن المصورون المعاصرون إلى أهمية التصحيف، فقال ماتيس: (إن الدقة لا تؤدي إلى الحقيقة). فالحقيقة ليست الصورة المطابقة للشكل ولكنها في الشكل المطابق للمعنى الكلي. لقد كان الفنان العربي يسعى إلى تجاوز عالم الشهادة للوصول إلى عالم الغيب. ولذلك فإنه عندما كان يرسم شكلاً ما، في مخطوط ككتاب مقامات الحريري الذي رسمه الواسطي، أو على جدار كما في قصر الحير وقصور سامراء، فلم يكن يسعى من وراء الصورة إلى الدقة والمحاكاة، بل إلى إسقاط حدسه العام عن عالم غير ذي حدود وفواصل، وبقدر ما تبدو الصورة مصحفة بقدر ما يكون ارتباطه بعلم الغيب قوياً، حتى يصل به هذا الارتباط إلى تحويل الفكرة إلى إشارة، وقلب الواقع إلى رمز كلي.
أما عن المبدأ الثاني الذي نتج عن الوحدانية، يقول ذات الباحث، في العقيدة العربية هو التغفيل في الفن، ويعتقد بعض المفكرين أن سبب هذا التغفيل هو العزوف عن الحياة في الدنيا واللجوء إلى الله دائماً موئل الإنسان في الحياة الأخرى. (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) الحديد/ 20.
يقول بشر فارس: (يتصفح الفنان أجزاء المادة حتى يتيسر له أن يلتقط منها ما كان نسجه أقل فساداً. وهكذا تعاني المادة ما تعانيه من اقتطاع وتضمير، فتبدو مبتورة مسحا، فتتم عن الشبهة التي تلابس ماهيتها في دنيا تفاهة أيما تفه(.
كان هدف الفنان العربي دائماً الاندماج الكلي في موضوعه، ولم يكن هدفه نقل الموضوع القائم في العالم الخارجي. فلم يكن من شأنه أن يؤكد انفصال الأشياء في ذاتها وهو المؤمن بوحدة الوجود. بل كان دوره يكمن في السعي، عن طريق الفن، إلى إلغاء الطبيعة المستقلة عنه، هذه الطبيعة التي فرضها الغلاف العرضي، لكي يندمج في روح العالم ويصبح جزءاً مغفلاً في مصدر الإمكانات التي بوسعها أن تكون أي شيء على وجه اليقين والتحديد. وهكذا فإن الرقش العربي الذي يقوم على عناصر غير تشبيهية، يرتكز على أساس صوفي حركي، على عكس بعض اتجاهات التجريد الحديث التي تقوم على أسس مكانية ساكنة وجامدة. (مقالة: أسالیب التجرید فی الفن الإسلامی، عفيف البهنيسي).
هذا ويذهب السوسيولوجي الراحل، عبد الكريم الخطيبي في كتابه الشهير "الفن العربي المعاصر.."، للقول أن هذه التجريدية نابعة من حضارة للعلامة، حيث ظل الكتاب، بخطه وقوته الزخرفية، المعبد الكتابي الذي يمنح لكل معاينة visualisation أخرى معناها الفعلي؛ وهي بأشكالها الخالصة والهندسية، ليس لها نفس التاريخ ولا نفس التأليف الجمالي الذي يتميز به الفن التجريدي الغربي. فالنظر إلى العالم "بعيون" الكتاب والتوريق، يفترض فكرا متوحدا مع تلك الرغبة في الخلود. وقد أسرّ لنا بول فاليري، هو الذي تأمل في الحضارات وموتها، بما يلي عن الفن العربي الإسلامي: "إن المخيلة الاستنباطية الأكثر تحررا، والتي واءمت بشكل باهر بين الصرامة الجبرية ومبادئ الإسلام التي تحرم دينيا كل بحث عن محاكاة الكائنات في النظام التشكيلي، هي التي ابتكرت التوريق. وأنا أحب هذا التحريم. فهو يجرد الفن من عبادة الأصنام، ومن الخيالات الزائفة والحكي والاعتقاد الساذج ومحاكاة الطبيعة والحياة، أي من كل ما ليس خالصا ومن كل ما لا يكون خصبا بذاته، بحيث إنه يطور مصادره الباطنية، ويكتشف بذاته حدوده الخاصة، ساعيا إلى بناء نسق من الأشكال يكون مستنبطا فقط من الضرورة والحرية الواقعيين التي يقوم بإعمالهما". (نفس المصدر السابق، عبد الكريم الخطيبي).
إن هذه الحضارة [الإسلامية] هي حضارة العلامة التي تغدو صورة، بينما الحضارة الأوروبية، منذ الإغريق، منحت الاستقلال للصورة في علاقتها بالعلامة وسلطتها، بالشكل نفسه الذي تحقق به ذلك قبلها في مصر الفرعونية، خاصة في مضمار النحت.
ما يمكننا استخلاصه في نصنا هذا، أنه كان الفن الإسلامي، في معظمه، خلال التاريخ عبارة عن فن تجريدي، ممثلا بالأشكال الهندسية، الزهور والأرابيسك وفنون الخط العربي. ولا يشتمل الفن الإسلامي على الكثير من الرسوم للبشر، لارتباط الفنان -قديما- بالنص الناهي عن التصوير (باستثناء رسومات الشيعة والفرس والفاطميين بمصر، الذين حللوا التصوير، بخلاف السنيين)، وأيضا اعتقاداته التوحيدية، وعدم محاولة في التشبه بعملية الخلق الإلهية. وما علينا أيضا الإشارة إليه كون أنه لم يكن يهمّ الفنان أمام المنجز، حتى إننا قلّما نجد اسم الصانع مدوّنا بجانب أحد النقوش أو حتى العمارات، وإهمال اسمه يدلّ على الاحتقار الذي كان يضمره له مستخدموه. وقد سار فنّ الرسم الإسلامي في ثلاث اتّجاهات:
1- الزخارف الهندسة المتقابلة من أقواس وخطوط تتقابل فترتاح العين إلى شكلها الهندسي.
2- الزخارف التي تعود في الأصل إلى "باعث" من رسم حيوان أو نبات يعمد الرسّام إليه فيطيل في بعض أعضائه أو يفرطحها أو يشرشرها حتى يخفي أصله، ثم يجعله يتقابل مع شكل آخر لا يخلف معه، فيحصل على شكل هندسي يمتاز من الزخارف الهندسية المحضة بما فيه من هذا "الباعث" الذي يزيد حلاوته في العين.
3- لما رأى المسلون ضيق الميدان الذي يمكنهم أن يستخدموا فيه مواهبهم الفنية اضطرّوا إلى أن يجعلوا الخط العربي فنّا، فزيّنوه وزخرفوه حتى صار له جمال خاص. (تاريخ الفنون وأشهر الصور، سلامة موسى، ص ص 34-35).
وما يمكننا الإشارة إليه في ختام نصنا المستفيض هذا، كون أن الجسد كعمل فني لم يكن غائبا عن ذهن الفنان العربي الإسلامي وهو ينجز أعماله الزخرفية أو الفنية، بل يحضر الجسد كقوام أولي للعمل ثم يقوم الراسم بتشويه بالقدر المستطاع ليجعل منه مبهما داخل تنميقات وتزويقات هندسية بديعية. وقد نلاحظ كون أن بعض أعضاء الجسد تظل بارزة في الهندسة المعمارية بشكل واضح؛ شكل القبة، مثلا، تتخذ استدارة نهود المرأة، وشكل النوافذ، مثلا، في القصور ودور العبادة تتخذ شكل الذكر عند الرجال. هذه أمثلة من عشرات. غير أن العبقرية الفنية لدى الفنان الإسلامي جعلته يطمس، بشكل إبداعي، كل معالم الجسد، ليجعل من المنجز تجريديا في أقصى تجلياته الهندسية البديعة.
المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AC%D8%B1%D9%8A%D8...