الرؤية الإسماعيلية للتسامح وحقوق المواطنة

الرؤية الإسماعيلية للتسامح وحقوق المواطنة
علي المستنير

كثرت الدعوات هذه الأيام إلى الحوار والتسامح الديني والمذهبي وقامت معظم الدول العربية والإسلامية تتبارى في مضمار المساواة وحقوق المواطنة بغض النظر عن الفكر او الدين او المذهب وكأنه وليد هذا العصر الذي نعيشه ، ولو رجعت هذه الدول إلى التاريخ الإسلامي لما احتاجت أن تسن القوانين والأنظمة التي تحث على ذلك التسامح الديني والمذهبي وحقوق المواطنة ، فالشواهد التاريخية موجودة والدولة الفاطمية العربية الإسلامية التي قامت في بداية القرن الرابع الهجري خير مثال يحتذي به ، وتعالوا لنقرأ ملامح من التاريخ المشرق لهذه الدولة الإسلامية التي نشرت العلم والمعرفة وثقافة التسامح الديني والمذهبي. يذكر المؤرخون المنصفون إن أئمة الدولة الفاطمية كانوا بطبيعتهم ميالون إلى جيد القول وصدق الكلام يرونه ويجلونه في نفوسهم ويبذلون كل شيئ في سبيل تشجيعه وقد قربوا العلماء وخلعوا على الأدباء وأجازوا الشعراء وكانوا موضع فخرهم واعتزازهم.
والمؤرخون المحايدون يذكرون أن الدولة الفاطمية الإسلامية أثناء نشرها العلم والمعرفة والتسامح الديني والمذهبي أقامت المكتبات الكثيرة التي كانت تجمع خزائن الكتب والتي لا تختص بفقه المذهب الإسماعيلي الفاطمي فحسب ، بل بجميع المذاهب والعلوم الإنسانية المختلفة ، وقد بلغت ثقافة البحث والتأليف في عصر الإمام المعز لدين الله أعلى مبلغها، ونبغ في عهده علماء أفذاذ وشعراء وأدباء وشارك المعز لدين الله الفاطمي في هذه النهضة العلمية ، كما كان أبوه المنصور من قبله مشهور بسعة الإطلاع ولم تشغله مهام الدولة عن البحث والتأليف ، وقد كانت مكتبة الإمام المعز لدين الله بالمنصورية بالقاهرة تعد من أكبر الخزائن للكتب في العالم الإسلامي وقد وصفها المقريزي بأنها كانت من عجائب الدنيا وأنه لم يكن في جميع بلاد الإسلام دار كتب أعظم منها، حيث اشتملت على مليون وستمائة ألف كتاب في مختلف العلوم والمعارف ، وعلى الرغم أن مذهب الدولة كان هو المذهب الإسماعيلي في ذلك الوقت ، إلا أن التاريخ لم يذكر أن أئمة الدولة الفاطمية قد فرضوا اعتناقه بالقوة، مع أنهم يستطيعون ذلك، بل كان الخيار متروك لمن شاء، وقد تمتع أهل الكتاب من اليهود والنصارى بممارسة شعائرهم الدينية بكل حرية، وتم مساواتهم من حيث المواطنة مع المسلمين، كما عرف عن أئمة الدولة الفاطمية
تسامحهم مع العلماء الذين لم يدخلوا في مذهبهم أو يستجيبوا لهم ، وكان هناك أعداد كثيرة من الوزراء ورؤساء الدواوين والقضاة من المنتمين للمذاهب الإسلامية المختلفة من السنة والشيعة على حد سواء ، كما تم الاستعانة بذوي الاختصاص من أهل الكتاب من النصارى واليهود في إدارة المصالح التي ليس لها علاقة بالدين أو الشريعة ، مثل الشؤون المالية والمحاسبية والتي تعتمد على التخصص والخبرة. وسوف نورد بعض الأسماء من رؤساء الدواوين والقضاة الذين لم يكونوا من أتباع المذهب الإسماعيلي. ففي عهد الإمام المستنصر بالله معد أبو تميم ، الذي يعتبر عهده أطول العهود في تاريخ الدولة الفاطمية حيث تجاوزت المدة التي قضاها في الخلافة ستين عاماً بلغ عدد الوزراء الذين عينهم أكثر من خمسين وزير، منهم 13 وزيراً من السنة نورد بعضاَ منهم، على سبيل المثال لا الحصر.
1- صاعد بن مسعود الملقب بزين الكفاه رئيس ديوان الشام.
2- الحسن بن علي اليازوري الملقب بغياث المسلمين أشهر وزراء القلم في المجال
الداخلي والخارجي .
3- محمد بن جعفر المغربي رئيس ديوان الإنشاء.
4- المشرف بن أسعد بن عقيل ( أبو المكارم ) رئيس ديوان الذخيرة. وفي عهد الإمام العزيز بالله نزار الإمام الخامس قاهر القرامطة والذي اشتهر بالعفو وتفضيله السلام على الحرب ، وكان مولع بالبناء والتشييد ، فقد بلغ التسامح الديني والمذهبي في عهده الذروة في التعامل مع غير المسلمين من أهل الكتاب ومساواتهم مع بقية المواطنين من حيث حقوق المواطنة ، حيث تم تعيين بعضاً منهم رؤساء لدواوين التخصصية التي ليس لها علاقة بأمور الدين والشرع نظراً لخبراتهم في ذلك المجال ، فقد عين يعقوب بن كلس رئيس ديوان المال ( أي وزير المالية والاقتصاد ) ، ومنحه الصلاحيات للنهوض باقتصاد البلاد نظراً لخبرته السابقة في ذلك لدى كافور الأخشيدي، وبعد وفاته عين الوزير عيسى بن نسطورس النصراني حيث ضبط الأمور المالية وجمع الأموال ووفر كثيراً من الخراج وأدار دفة
البلاد الاقتصادية بمهارة حتى تجاوزت الأزمات الاقتصادية التي تعرضت لها بالرغم من المجاعات في ذلك العصر.
أما في عهد الإمام الحاكم بأمر الله الخليفة والمصلح الاجتماعي الكبير فيكفي
قوله المأثور (إن كل واحد في دولتنا حر في اختبار مذهبه ، وإظهار ما في ضميره، ولا إكراه في الدين) وقد ذكر في أكثر من مصدر تاريخي أنه سمح لأتباع مذهب مالك بأن يدرسوا أصول مذهبهم في دار الحكمة ، واعتبر ذلك من مآثر الإمام الحاكم وبعد نظره ، وهذه المصادر تؤيد ما تم ذكره وكان متسامحاً مع الفرق الدينية الأخرى الإسلامية وغير الإسلامية ، وقد عين في رئاسة القضاء بمصر قاضياً سنياً هو (ابن العوام) وعندما قال بعض خاصته أنه ليس على مذهبك ولا على مذهب من سلف من آباءك ، أجاب: " يكفي أنه ثقة ومأمون ، ومصري ، وعارف بالقضاء وبأهل البلد". كما عرف عن الإمام الحاكم بأمر الله أنه أصدر تحريماً يمنع سب السلف في أي مكان جرياً على سنة آبائه الحميدة، وله مرسوماً بذلك ينص على الآتي:
بسم الله الرحمن الرحيم
" من عبد الله ووليه ( أب علي ) الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين إلى كل حاضرٍ
وبادٍ .. أما بعد :
فإن أمير المؤمنين يتلو عليكم آية من كتاب الله المبين ﴿لا إكراه في الدين﴾ مضى أمس بما فيه وجاء اليوم بما يقتضيه الصلاح ، والإصلاح بين الناس أصلح ، والفساد والإفساد بينهم مستقبح إلا من شهد الشهادتين ، أحق ألا تنفك له عروة ، ولا توهي له قوة ، يحيى على خير العمل ، يؤذن المؤذنون- ولا يؤذنون، ويخمس المخمسون، ويربع المربعون في الصلاة على الجنائز ، ولا يعترض أهل الرؤية فيما هم عليه صائمون ، ولا يشتم السلف ، ولا يبغي الخالف على من قبله خلف ، تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم . ولا تسألون عما كانوا يعملون.
معشر المؤمنين :
نحن الأئمة وانتم الأمة عليكم أنفسكم لا يغركم من قبل إذا اهتديتم إلى الله
مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون ، والحمد لله رب العالمين وصلواته على رسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وآله الأكرمين.
ومما سبق يتضح لنا أن الدولة الفاطمية سارت على قواعد ومنهاج متطور يسوده التسامح الديني والمذهبي في فكر راقي يدعو لضم الأقطار الإسلامية في دولة واحدة وإعادة مجد العرب والمسلمين إلى ما كان عليه في آخر عهد صاحب الرسالة المحمدية، ولكن العوائق برزت قاسية والعواصف هبت عاتية فأثارت النفوس وأيقظت الحروب مما جعل المنهاج يتوقف ، وتلك إرادة الله . وقد انتهت تلك الدولة سنة 576 بعد أن خلفت إرثاً حضارياً إسلامياً باقياً حتى الآن ينطق بالعظمة والمجد والخلود.
والسؤال المطروح الآن :
هل استطاعت الدول التي جاءت بعد الدولة الفاطمية وحتى الان أن تقدم للإنسانية وللحضارة الإسلامية من التسامح الديني والمذهبي مثل ما قدمته الدولة الفاطمية ؟
سؤال مشروع لا يزال ينتظر الإجابة..

المصدر: http://www.fatmia.com/roia.htm

الأكثر مشاركة في الفيس بوك