قضايا العدالة والرحمة والسلام في المجال العالمي

عبد الرحمن السالمي

تناقش الجمعية العامة للأُمم المتحدة في دورتها الحالية مسألة ازدراء الأديان، وإمكان إصدار توصيات أو قرارات بمنع ذلك، بحيث يتحول هذا الإجراء مع الوقت إلى جزءٍ من القانون الدولي. والواقع أنّ ذلك يقلب الأمر إلى الجانب المعاكس؛ فقد مضت عقودٌ منذ صدور ميثاق الأُمَم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في الأربعينات من القرن الماضي، ولم تنجح جهود المرجعيات الدينية العالمية الكبرى في الوصول إلى عدّ أخلاقيات الأديان إسهاما رئيسا في السلام بين البشر من طريق نشر قيم الرحمة والتسامح واحترام النفس الإنسانية. وفي عام 1996 عقدت لجنة حقوق الإنسان للمرة الأولى اجتماعاً بجنيف بحضور ممثلين للديانات، وكان موضوعه يتناول إسهام الأديان في دعم حقوق الإنسان.

 

 لقد تصور واضعو ميثاق المنظمة الدولية والإعلان العالمي أنّ أخلاقيات الأديان تشكّل منافسةً لفلسفة الحق الطبيعي التي قامت عليها المواثيق والإعلانات الدولية، كما تصوروا أنّ هناك تنافُساً بين الديانات، بحيث يمكن أن يكونَ هناك نزاعٌ أو تمييزٌ بسبب تنازُع القيم، إذا أُدخل شيء من ذلك في الاعتبار في الإعلانات العالمية المُلزِمة على أيّ حال للدول التي تعترفُ بها وليس للأفراد. وكان هانس كينغ -جامعة توبنغن- قد اقترح على مؤتمر شيكاغو للأديان عام 1990 القضية التالية: لا سلام في العالم إلاّ بالسلام بين الأديان، ولا سلام بين الأديان إلاّ بالحوار، ولا حوار إلاّ بالاستناد إلى القول بقيمٍ مشتركة. وهكذا فقد كانت فترة الثمانينات من القرن الماضي حاسمةً في الاعتراف بأخلاقيات الدين وقيمه، وفي الدعوة للإفادة من تلك الأخلاقيات في قضايا العدالة والسلام التي فشل النظام العالمي في السير فيها وتحقيقها. فقد تعطل ميثاق الأُمم المتحدة تقريباً بسبب الحرب الباردة بين القطبين، وعليه سادت أخلاقيات النفعية وتبادُل المصالح، وصارت العدالة تعني "التسوية" بين القطبين، كما صار السلام يعني غَلَبة طرفٍ على طرفٍ بحيث ينتهي النزاع (مؤقتاً)؛ إنما لصالح الطرف الأقوى. وقد كان بين أهمّ ما حاول ممثّلو الأديان إدخاله في المنظومة الدولية اعتبارات العطف والرحمة والشعور الإنساني، واحترام عقائد الناس، ومقدساتهم، وليس حقهم فقط أو حريتهم في أدائها.

 

 كانت العشرون سنةً الماضية حقبةً قاتمةً بكلّ المقاييس؛ فقد تكاثفت خلالها الغيوم من حول الإسلام، وهبّت عواصف عليه وعلى المسلمين بعد ظهور فريق الجهاديين باسم الإسلام، والذين استحلُّوا استخدام العنف في كثير من البلدان العربية والإسلامية، وكذلك تجاه العالم كُلّه. وردَّ المنظِّرون والاستراتيجيّون ورجالاتُ الحرب في الغرب الأميركي والأوروبي، وفي الشرق الروسي والصيني ومن ثم الهندي بشنّ حربٍ بل حروب لمكافحة الإرهاب (الإسلامي). ومع الوقت تداخلت الإشكالات فلم يعد ممكننا القول والتساؤل ما هي الأفعال، وما هي ردود الأفعال، ومن هو البادئ، ومن هو المنتقم أو الثائر. وبخاصةٍ بعد انتشار أطروحات صدام الحضارات وصراع الثقافات والأصوليات. ومن ناحيةٍ أُخرى انتشار أُطروحات وممارسات الفسطاطيْن -فسطاط الحق وفسطاط الباطل- والجهاد العالمي، ومصارعة المستضعفين للمستكبرين. وخلال منتصف العقد الماضي، وفي ظلّ حروب الطائرات والأساطيل المنتشرة في كل مكان قيل: إنه لا بد -إلى جانب الحروب العسكرية- من شنّ "حرب أفكار" على المتشددين والأًصوليين الذين يمارسون العنف، وبذا صار من الضروري -بحسب هذه المقولة- التمييز بين الإسلام المعتدل والآخر المتطرف، وأن يستعيد المعتدلون من المسلمين الإسلام ممن اختطفوه.

 

لقد تصدينا نحن في مجلة التسامح/ التفاهم في السنوات العشر الماضية -مع آخرين بالطبع من المسلمين والمسيحيين- لذاك الجوّ المسموم لدى الأطراف المتصارعة، وقد جرى التركيز على منظومة القيم القرآنية في المساواة والرحمة والحرية والعدالة والتعارف والخير العام، وشاركت وزارة الأوقاف -التي تُصدر مجلة التفاهم- في مؤتمراتٍ عالميةٍ للديانات والثقافات، وتقدمْنا بأطروحتنا المفارِقة للأجواء المحتدمة، والتي عاثت تخريباً في ديار المسلمين، ونالت من علاقاتهم بالعالَم من حولهم، والعالم الأَوسع. وموقفنا في ذلك ليس من مواقع الدفاع أو الدونية؛ بل من مواقع التدافُع الحضاري والثقافي. ونحن نعتقد -بعد كل ما قام به العلماء والمفكرون المسلمون ونظراؤهم من أهل المودة والفهم في الأديان الأُخرى- أننا في الطريق إلى إيجاد جسور من التفاهم، ثمارها المزيد من التقارب والاحترام المتبادل.

 

إننا ما نزال نعتقد أنّ العلائق بين البشر إنما تصحُّ وتستقيم إذا أُخذ الإنسان بكليته: في الدين والثقافة والأخلاق والإنسانية. فقَبولُنا على المستوى العالمي ينبغي أن يكونَ شاملاً وكاملاً، إنه تعارفٌ واعترافٌ وتفاهُمٌ، ولا نقبل أن نُعامَلَ باستثنائيةٍ سلبيةٍ أو إيجابيةٍ كما جرى في العقدين الماضيين. ثم إنّ المنظومة الأخلاقية في اجتماعنا الإنساني قائمةٌ على ديننا، وهي حافلةٌ بالقيم المشتركة مع سائر بني البشر، وعلى الخصوص مع الديانة المسيحية ووصاياها العشر، ودعوتها للمحبة والرحمة؛ ولذا لا نجدُ أنفُسَنا بحاجةٍ للدفاع أو التبرير.

 

لكنّ الذي ينبغي الاعترافُ به -نزاهةً وإحقاقاً للحقّ- أنه يكونُ علينا أن نظلَّ أهلَ دعوةٍ ورسالةٍ ومسؤولية تجاه ديننا وأمتنا والناس أجمعين، وصاحب الدعوة والرسالة معنيٌّ دائماً بإيصال رسالته بأفضل الأساليب، وأحسن أخلاق التفكير والتعامل إلى كلّ الآخرين، الذين نعيش معهم في العالم الذي تتصاغر أجزاؤه وتتقارب، ليس في تبادل المصالح أو الاعتماد المتبادَل فقط؛ بل وفي أخلاق العمل والتعامُل أيضاً.

 

وبمقتضى منطق التدافُع الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم؛ فإنّ العالَم لا يتضمن فُرَصاً فقط؛ بل يتضمن تحدياتٍ أيضاً. والتحديات تفرض مسؤولياتٍ ونضالاً فكرياً وثقافياً لبلوغ الندّيّة، والفُرَص تقتضي كفاءةً لإمكان استحقاقها. فالحقُّ وإن كان حقاً في ذاته؛ فإنّ نَيلَهُ يتطلب الاستحقاق الذي لا غنى عنه، في الفُرَص كما في التحديات.

 

إنَّ الذي يعطِّل أو يضع العقبات في وجه أمتنا وديننا في هذا العالَم، ليس التغالبُ الذي يسودُ العصر وثقافته الحياتية القاسية فقط؛ بل القصور والخطل من جانب كثيرين منا أيضاً، وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ فإنّ ما حصل أخيراً من جانب بعض العرب والمسلمين في قضية الفيلم المُسيء ينمُّ عن تشدد غير مستساغ، وتسرُّعٍ لا مبرِّر له، فقد ذهب ضحية تلك التصرفات عشرات الشبان، كما دُمِّرت وأُتلفت ممتلكاتٌ لأبرياء وأجانب يعيشون بين ظهرانينا ولا يُعادوننا، كما أنهم لم يرتكبوا شيئاً بحقّ ديننا أو إنساننا، وكان على الثائرين أن يتذكروا قيم الإسلام، وفي مقدمتها السلام والحلم والصفح والإرادة، وحتى لا يتكرر المشهد المألوف خلال العقدين الماضيين والذي مثلت فيه صورة المسلمين لونا من ردود الأفعال التي تجاوز قيم حضارتهم العالمية، كان الواجب عليهم أن يعوا الدرس ويعطوا العالم أنموذجا مغايرا في كيفية احترام الرموز الدينية، ونحن نعلم أن النبي صلى عليه وسلم حينما دخل مكة فاتحا أمر بكسر الأصنام جميعها واستثنى منها ما رمز إليه بصورة المسيح ومريم.

 

ما تزال قضايا العدالة والرحمة والسلام على رأس المهمات التي يكون على عالَم اليوم السعْي لتحقيقها بشتّى السُبُل المفتوحة والمُتاحة، ولديننا وحضارتنا وأمتنا أدوارٌ كبرى في هذه المجالات، التي تؤهِّلُنا لها منظومتنا الأخلاقية، وأعرافنا الحضارية التي يتضمنها ديننا، فالمسلمون يسعون إلى الشراكة مع هذا العالم وفيه، ويكون علينا أن نُعِدَّ العُدَّة لنيل ما نستحقُّ ويستحقُّهُ هذا الدينُ الكريم.
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك