حوليَّاتٌ عربيةٌ من زنجبار

إدوارد ساخاو

عندما بـدأت العلاقات بين ألمانيا وشرق إفريقيا، اكتفـت دوائـر الاستشراق المتـخصصـة باستطـلاع انتشـار الإسـلام فـي تلك الجهـات من ناحيـة التاريخ، والخصائص المتفردة، ومن ناحية الأمراء العرب الذين يسودون في تلك النواحي، وقد تركز الاهتمام على وجه الخصوص على تحليل مضامين الكتاب الذي نشرته جمعية هاكليوز اللندنية وهو يتعلق بتاريخ الأئمة والسادة العُمانيين فيما بين 661م و 1856م من تأليف سليل بن رُزيق. وهو العمل الذي ترجمه ودرسه G.P. Badger والدارس هذا هو في الأصل كاهنٌ مُلحقٌ بالجيش البريطاني. وكان Badger قد نشر من قبل عملاً علمياً مكتوباً بالسريانية عن الكنيسة النسطورية في سورية القديمة، وقد دفعته الظروف السياسية للذهاب إلى مسقط وعُمان، وكان السيد سعيد حاكم عُمان وزنجبار والأصقاع التي صارت اليوم ألمانيةً وبريطانية بشرق إفريقيا قد توفي عام 1856 بعد فترة حكمٍ طويلةٍ وناجحة، وقد ورث المملكة في جانبها العُماني ابنُه ثُويني، في حين سيطر على القسم الإفريقي ابنُه الأصغر ماجد. وقد حال البريطاني Canning نائب الملك بالهند دون نشوب الحرب بين الأخوين، وأرسل بعثةً لبحث قضايا النزاع إلى مسقط. وكان السيد Badger عضواً في تلك البعثة، وخلال وجوده بمسقط أرسل إليه الأمير ثويني عام 1860م مخطوطةً عربيةً تتناول تاريخ الأُسرة وتاريخ البيت المالك والوطن العُماني، وهو العملُ الذي ظهر مترجماً إلى الإنجليزية بعد أحـد عشـر عاماً. أمـا المخطـوط العربي الأصلي -والذي بقي غير معروف- فقد ذهب - بحسب علمي- مع مخطوطاتٍ أُخرى من تركةBadger إلى كمبردج. 

أمّا مؤلّف الكتاب الذي انتهى من تأليفه عام 1857م فهو سليل بن محمد بن رُزيق(1)، وهو من مسقط، وبسبب قرب الأُسرة من البيت المالك؛ فإنّ أباه وجدَّه حصلا على وظيفةٍ في مصلحة الجمارك، وقد اعتمد سليل على تقاريرهما وأخبارهما فـي الكتاب الذي وضعـه. ولأنه كتب ما كتبه بتكليـفٍ من أحـد أُمراء البوسعيديين؛ فقد كان همُّهُ كتابة تاريخ الأُسرة. أمّا تاريخ البلاد، وأخبار الرحلات البحرية الغريبة واستعمار النواحي الإفريقية فإنه يوردُها عَرَضاً في تقديمه للعمل. وقد قسّم ابن رزيق عمله إلى ثلاثة أقسام، فذكر في القسم الأول فترة حكم الوالي الأُموي القوي الحجّاج (بن يوسف) المتوفّى عام 713م، في زمن الخليفة الأُموي عبد الملك بن مروان، ويمتد به الحديث الوجيز إلى عام 1741م. وأمّا القسم الثاني من العمل فيذكر فيه تأسيس حكم الأُسرة البوسعيدية أيام أحمد بن سعيد 1741-1775م وأعقابه وخلفائه. في حين ينصبُّ القسم الثالث على فترة المجد والازدهار لحكم تلك الأُسرة أيام سعيد بن سلطان 1804-1856. في الفترة القديمة التي يعالجها القسم الأول كانت عُمان محكومةً من الولاة الذين عينهم الأمويون والعباسيون؛ لكن في السنوات الأُولى لخلافة بني العبّاس نشبت ثورةٌ بعُمان كانت لها أبعادٌ دينيةٌ وسياسية. وهكذا ظهر المذهب الإباضي والذي أنشأ الدولة وسوَّدَ المذهب الإباضي الذي ما يزال سائداً بتلك البلاد إلى اليوم. ومع ظهور المذهب والدولة تخلخلت سيطرة العباسيين الغُرباء، وحكمت البلاد أُسَرٌ عربيةٌ متواليةٌ من أهلها: من بنى الجُلندى (الذين حكموا في عُمان منذ ما قبل الإسلام)، ومن بني هُناءة(2)، ومـن بني خَروص، ونبهان، ويعرُب، وقبائـل أُخرى. وهي تنتمي جميعاً إلى قبيلة الأزد العربية الجنوبية الكبيرة. أما بنو يعرب(=اليعاربة) الذين حكموا قبل آل بو سعيد فإنّ تاريخهم ما يزال غارقاً في الغموض. وفي سياق القَصص عن حكم تلك الأُسَر والدول عبر العصور، يجري الحديث عن الصراع مع الفُرْس الذين سيطروا على أجزاء واسعة من سواحل البلاد، وهناك حديثٌ أيضاً عن الصراع مع البرتغاليين. وسيظلُّ صعباً -من خلال أخبار الحوليات العربية- بناءُ صورة متماسكة عن تطورات ذاك التاريخ الحافل وحروبه ونزاعاته.

وبخاصةٍ أنّ تاريخ البلاد وأقاليمها الداخلية فيما وراء السواحل ما يزال مجهولاً إلى حدٍ بعيد، ويصدق هذا الأمر أيضاً على وسط الجزيرة وجنوبها.

في الجزء الأقدم من تاريخ سليل بن رزيق -قبل وصول البوسعيديين للسلطة عام 1741- يذكر المؤلّف مصدراً واحداً رجع إليه اسمه: كشف الغُمّة (ص 36، 39، 52)، وهو غير معروفٍ في أوروبا؛ وذلك لأنّ أدبيات الإباضية غير معروفةٍ عند العرب، كما أنها نادرةٌ في أوروبا. لقد كُتبت الرسائل و المؤلَّفات الإباضية بعيداً عن المراكز الثقافية الإسلامية الكبرى في بغداد ودمشق ومكة والقاهرة والمدن الأُخرى، وفي نواحٍ نائية. والأماكن التي كُتبت فيها ما كانت لها ارتباطاتٌ سياسيةٌ بالمراكز الكبرى، أمّا التواصل التجاري فقد كان ضئيلاً، وهذا فضلاً عن تجاهُل الأرثوذكسيات الإسلامية للأعمال الإباضية. وما كانت لدى النُسّاخ والوراقين -من عقائد مخالفة- دوافعُ قويةٌ لنسْخ تلك الكتابات وتداوُلها خوفاً من الاتهام بالابتداع أو خشية التأثُّر بها. إنما في الفترة القريبة الماضية طُبعت بعض الأعمال الإباضية بالقاهرة، ولصالح أو من جانب إباضية الجزائر؛ لكنّ تلك المطبوعات بقيت ضئيلة الانشار(3). وقد طٌبعت كتبٌ إباضيةٌ بزنجبار أيضاً، وبطـلبٍ من السلطـان برغش الذي عدها وقفاً على أتباع المـذهب حتى لا يتحـولوا عنـه إلـى المسيحية أو المذاهب السُنية. والدوافع هذه توافرت أيضاً لدى أهل السنة الذين نشروا صحيح البخاري مثلاً، واعتبروه قصْراً عليهم وما حرصوا على أن يتعرف عليه غيرهم، أو يتعرف المستشرقون الأوروبيون عليه.

إننا مدينون للدكتور فالتر روسلرRössler -الذي كان طالباً بالمعهد الشرقي، وصار موظفاً ومترجماً بالقنصلية القيصرية بزنجبار- بمعرفة وانتساخ مخطوطةٍ تاريخيـةٍ إباضية، أهـداها إلى مكتبة المعهد الشرقي. وقد وصـلت تلك النسخة من المخطوطة إلى المعهد عام 1895م، وتاريخ كتابتها هو رجب 1312هـ/أغسطس 1895م، والكاتب أو الناسخ هو خلفان بن هوشك بن خلفان بن سالم الهيطالي، وتشير بعض البياضات والأخطاء في النسخة إلى أنّ الأصل المنسوخ عنه ما كان بحالةٍ جيدة؛ في حين يبدو أنّ هناك أخطاءً وقع فيها الناسخ نفسه. وعلى أي حال؛ فمن المستحسَن السعي للعثور على مخطوطةٍ أُخرى من النص للمقارنة والتصحيح، أو مقارنة مضمونه بمصادر أُخرى تتعامل مع الموضوع ذاته. وهذه الحوليات من زنجبار هي التي رجع إليها سليل بن رزيق، وعنوانها: كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة. وعلى كشف الغمة هذا اعتمد ابن رزيق في تأريخه للحقبة الأولى من التاريخ الإسلامي. وكتاب كشف الغمة ضخمٌ وغني المضامين، وهو لا يقتصر على التاريخ العُماني ويمضي إلى ما هو أبعد من ذلك، مُعالجاً تاريخ المذهب الإباضي في الشرق والغرب وفي الوسط، ومزداناً بالفقه والعقائد والتراجم إلى حدود عام 1728م. وليس هناك في المخطوط ما يشير إلى تاريخٍ أحدث. ولأنّ الكتاب يُعطي الانطباع بأنه كاملٌ نصاً وليس فيه تواريخ أحدَث، فالراجح أنه جرى البدء بكتابته في عام 1728م في عُمان. واسم المؤلِّف غير مذكور على غلاف المخطوط، ولا في كتب التراجم. وما استطعت العثور على آثارٍ من شخصيته وأخباره في الكتاب. ولا بد أنه توافرت له مصادر غنيةٌ في مختلف المجالات(***)؛ بيد أنّ هذا الغنى في الأدبيات والمراجع لا يظهر في جانب التراجم التي يوردُها والتي لا تتضمن معلوماتٍ بارزةً أو تفصيلية بخلاف الموضوعات الأُخرى. ويبدو أنه ما كان من عادة هذا المؤلّف ذكْر مصادره، وإن يكن يورد أحياناً هذا الاسم أو ذاك العنوان من الأدبيات التي رجع إليها.

يحتوي كتاب "كشف الغمة" على أربعين باباً. وبخلاف الموضوعات الواردة في كلّ المؤلَّفات الإسلامية عن أنبياء وعهود ما قبل الإسلام، وعن سيرة النبي والخلفاء؛ يتميز الكتاب بأربع مسائل أو موضوعات: 

1. الجانب الأُسطوري: أقاصيص عن التاريخ القديم لعرب الأزد.

2. الجانب التاريخي: أصول المذهب الإباضي، سواء في عُمان أو في شمال إفريقيا.

3. الجانب الديني/ التاريخي: عرض المذهب الإباضي في عقائده الرئيسة والدفاع عنه.

4. جانب التراجم والطبقات: ذكر العلماء والرجالات المشهورين عند الإباضية.

أ‌. في تاريخ عُمان: يقع تاريخ عُمان في كشف الغمة بين الفصول 33 و39، وعلى الصفحات 378ب-466أ. وبالمقارنة بين ترجمة بادجر الإنجليزية والنص الذي بين أيدينا نجد أنّ نصّ سليل ذاك مأخوذٌ بحذافيره عن كشف الغمة. وإذا مضينا إلى التفاصيل نجد ما يلي: 

الفصل 33: تاريخ عُمان منذ ظهور الإسلام وإلى الفتنة الكبرى(4) بين ورقة 378ب وورقة 396أ، والاقتباس عند بادجر بين ص1 وص 29. وبينما يبدأُ سليل بالخليفة عبد الملك والحجاج، يبدأ مؤلّف كشف الغمة بظهور الإسلام في عُمان والزمن التالي حتى أيام الحجاج. أما المسلم العُماني الأول فاسمه مازن بن غضوبة بن سبيعة بن شماسة بن حيّان بن مُرّ بن حيّان بن مُرّ بن أبي بشر بن حطامة بن سعـد بن نبهـان بـن عمرو بـن الـغوث بـن طيء. وهـو مـن ناحيـة سمائل، وكان يتعبد من قبل للصنم المسمَّى بناجر، ومن خلال أحد معارفه سمع بدعوة محمدٍ فذهب إلى المدينة واعتنق الإسلام، وله ولدٌ اسمه حيان بن مازن، وقد أرسل النبي داعيةً للإسلام بشخص عمرو بن العاص، حيث كان يحكم أهل ريف(؟) عُمان كلٌّ من عبد وجيفر ابني الجُلندى. أما المدينة التي قصدها عمرو بن العاص فكانت ماستجرد(5) في صُحار، التي كان الفرس قد بنوها. ومن هناك أرسل رسوله إلى ابني الجُلندى، واللذَين تشاورا مع كعب بن برشة العَودي ثم اعتنقا الإسلام. ومن هناك انتشر الإسلام في مهرة والشِحْر ودبا وسائر عُمان. وما بقي خارج الدين الجديد غير الفرس الموجودين بالبلاد، والذين أبَوا اعتناق الدين الجديد. وقد أغار الأزديون على الفرس وانتصروا عليهم وقتلوا قائدهم واسمه مسكنان أو مسكان وكثيرًا من أقاربه. أمّا الباقون من الفرس فقد تحصّنوا بماستجرد، وبعد حصارٍ طويل جرى الاتفاق على أن يغادروا دون ممتلكاتهم ففارقوا البلدة والبلاد. وظلّ عمرو بالبلاد حتى وفاة النبي فغادر إلى المدينة المنوَّرة ومعه عبد ابن الجُلَندى وجعفر بن جُشَم العتكي وأبو صُفرة سارق بن ظالم. أمّا عمرو (بن العاص) فقاد بأمر أبي بكرٍ حملةً ضد آل جفنة بالشام، وأمّا ابنا الجُلَنْدى فقد عادا إلى عُمان وحكما فيها حتى وفاتهما. وخَلَفهما في السلطة عباّد بن عبد بن الجُلَندى، وبعده ولداه سليمان وسعيد إلى زمن الحجّاج. والمعالم الرئيسة لهذه القصة في كشف الغمة -كما في التفاصيل- موجوده في النصّ الذي ترجمه بادجر، مع إضافاتٍ تتعلق بأمجاد الإسلام الأُولى في عُمان.

أمّا الفصل 34 فإنه غير مستعملٍ من جانب سَليل وعنوانه: في ذكر اختلاف أهل الدعوة في ولاية أهل الحدث الواقع بعُمان في زمن الصلت بن مالك. والمعنيُّ باختلاف أهل الدعوة: الانقسام بين الإباضية بشـأن الموقف من الذيـن شـاركوا في الصـراعات السياسيـة التـي دارت لسنـواتٍ خلال ولايـة الإمام الصلت بن مالك، والتي دفعت بعض المتصارعين إلى طلب المساعدة من الخارج، مـن والي العباسـيين على البحـرين، بحيـث أدّى ذلك إلـى خضـوع عُمان للسلطة العباسية أيام الخليفة المعتضد، والتي يبدو أنّ الإباضيين المنقسمين أو بعضهم لعب دوراً سيئاً (بادجر: ص19-25) فيها. يُدخلُنا المؤلّف في قلب النزاع السياسي بشأن التداوُل في الإمامة أو الرئاسة في الدولة الثيوقراطية الإباضية. ويذكر بالتفصيل آراء ومواقف الأحزاب التي نشأت نتيجة الأزمة، ومن ضمن ذلك آراء عدد من الشخصيات البارزة من المتكلمين والفقهاء والطامحين للسلطة، وهم جيل الإباضية الأول لهذه الناحية بعُمان. أما الفريق الأول فيعدّ المتنازعين الثلاثة على الإمامة جميعاً على حقّ، وهم الصلت بن مالك، وموسى بن موسى، وراشد بن النظِر، أمّا الأمور الأخرى فتتباعد آراء رجالاته بشأْنها. وأما الفريق الثاني فيقول: إنّ الصلت بن مالك هو الإمام الشرعي، وما يفعله موسى وراشد هو بغيٌّ وعُدْوان على الإمامة الشرعية القائمة. ويذهب الفريق الثالث إلى أنّ موسى وراشداً ليسا خارجَين أو باغيين، لكنّ الصلت هو الإمام الشرعي...الخ. وبالإضافة إلى ما ذكر من مواقف، هناك حديثٌ عن ثلاثةٍ من ذوي السلطة والسلطان هم عزّان بن تميم والحُوَّارى بن عبد الله، والفضل بن الحُوّارى، وآراء العلماء بشأنهم(المخطوطة 399ب- 402أ). والموقف بحسب العقائد الرسمية المتعلقة بالدولة يجعل من الخارجين أو البُغاة إمّا حقيقين بالبراءة أو التكفير، أو الولاية والتولّي، وهي مناقضةٌ للبراءة؛ أي المُوالاة والنُصرة، وأنه منتمٍ إلى الفِرقة وملتزمٌ بعقائدها، أو الموقف الوسط وهو الوقوفُ عن فلان؛ أي لا براءةَ ولا تولٍّ، وهذا يعني موقفاً محايداً من هذا المرشح أو ذاك للإمامة. وقارن بالمخطوطة 405ب، س9(وكذلك 406ب، س 5-6): "ولاية أو براءة أو وقوف؛ لأن منهم من يبرأ ممن يقف، ومنهم من كان يتولّى ثم رجع إلى الوقوف وتولّى من تولّى، وكلُّهم أهل فضلٍ وعلمٍ وورعٍ وصدقٍ فيما ظهر من أمرهم". والبارز في موقف المؤلّف أنه يذكر مراراً وتكراراً أن اختلاف هؤلاء بشأن المستحق للإمامة لا يُخِلُّ بدينهم وورعهم وديانتهم واستمرار انتمائهم إلى الإباضية؛ فعلى سبيل المثال يقول في ص406أ، س3: "وإن اختلف قولهم في هذه الأحداث في الولاية والبراءة والوقوف فأصْلُ دينهم ومذهبهم على الاتّفاق في التديُّن فيهم، ومن وجبت ولايتُهُ منهم علينا فهو وليُّنا، ولا نفرّق بينهم وبين أحدٍ منهم لافتراق أقوالهم في الولاية والبراءة والوقوف عند ظهور السلامة في أصول الدين من أحكام أُصول البِدَع..".

يُسمّي المؤلّف فترة النزاع على السلطة: الأحداث(6)، ويبدو أنّ تلك "الأحداث" تركت آثاراً عميقةً وباقيةً في العقليات والنفسيات، بدليل الاهتمام بمتابعة الكتابة عنها والتأريخ لها بعد مُضيّ أجيالٍ على حدوثها. فالمؤلف أو كاتب التقرير كان بين البارزين من العلماء الذين لهم موقفٌ ورأي فيما جرى، وليس بين المُعاصرين لتلك الفتنة فقط؛ بل للجيل الثاني والثالث بعد ذلك (=الخَلَف)، وهو يقول: إنّ ذاك الانقسام والتحزب بين الأطراف استمر "إلى يومنا هذا". ويبدو لي أنّ العبارة السالفة الذكر لا تعود إلى أيام مؤلف كشف الغمة؛ بل إلى التقرير أو المصدر الذي ينقل عنه في كل الفصل أو الباب رقم 34 (396أ، س17 و402أ، س 14). واسم الرجل أبو زيد، ولا أعلم لأي عصرٍ ينتمي؛ لكنْ ربما كان من أبناء الجيل الثاني أو الثالث بعد الأحداث؛ لأنه يقول أحياناً: إنّ الأخبار التي يوردها استمدها من تقارير شهود عيانٍ لتلك الوقائع: "ومنه ما عرفناه مشافهةً ممن أخذنا عنه ذلك"(401أ، س8). أما المعاصرون لتلك الأحداث -والذين يذكر صاحب كشف الغمة أسماءهم (402أ وما بعد)- فهم: أبو محمد الفضل بن الحوارى، وأبو جابر محمد بن جعفر، وأبو عبد الله نبهان بن عثمان، وأبو المؤثر، وأبو المنذر بن محمد بن محبوب، وأبو محمد بشير بن محمد بن محبوب، وعبد الله بن محمد بن محبوب، وأبو علي الأزهر بن محمد بن جعفر، وأبو الحوارى محمد بن الحوارى الأعمى، وآخرون (404، س 14 وما بعد). وفي آخر الباب (406ب) يورد المؤلّف قائمةً بأسماء السَلَف الكبار الذين ينسَب الإباضية أنفسَهم إليهم أصولاً وانتماءً؛ إثباتاً لصحة اعتقاده، وهم: النبي محمد، وأبو بكر وعمر، وعمّار بن ياسر ورفاقه في "يوم الدار ويوم الجمل وأيام صفين ويوم النهروان". أمّا من جيل التابعين فيذكر جابر بن زيد وأبا عبيدة مسلم بن أبي كريمة. ومن الخوارج: المرداس بن حُدير، وعبد الله بن إباض، وعبد الله بن يحيى. ومن العلماء: محبوب بن الرحيل، وعزّان بن الصقر، وراشد بن الوليد، وسعيد بن عبد الله. ولا شكّ أنّ لهذا الفصل أو الباب أهمية من حيث إنه يُضيءُ على أحداثٍ وقعت في حياة تلك الفرقة الهامشية لا نعرف عنها الكثير؛ فإنّ أهميته تزداد بالتفاصيل التي يذكرها عن آراء ومواقف الشخصيات، وعن أصولها وخلفياتها الفقهية والعقائدية.

أما الفصل رقم 35(7) (المخطوطة 407أ- 420ب) فإنه يتوافق في ورقاته الأُولى مع فصل بادجر، ص29-34. أما بعد ذلك فيتوافق مع بادجر، ص35-40، 48-52. أمّا في سلسلة الأئمة (بادجر، ص36)، فهناك بين ابن أبي جابر ومالك إمامان آخران لم يذكرهما سليل، وهما جيش وحبيش أو خنبش أو حنبش، وابنهما محمد بن حنبش، واللذان حكما بين 510و557. أما الأول ولنسمِّه محمد بن خنبش(8)، فاستناداً إلى كتاب عثمان بن موسى بن محمد بن عثمان قد توفي بنزوى بتاريخ 10 جمادى الأولى عام 510هـ. وفي اليوم نفسِه بويع ابنه بدعوةٍ ودعمٍ من القاضي نجاد بن موسى، والفقيه أبي النظر أحمد بن محمد. وتأتي بعد ذلك مُلاحظة عن قبر خنبش، وكان خنبش وابنه من الورِعين، كما كانت وفاتهما خسارة كبيرة لعُمان. و قارن بالمخطوطة 413أ، س7: 

"ومن كتاب الفقيه عثمان بن موسى بن محمد بن عثمان الساكن محلة الجرمة من عقر نزوى كتبه بيده وكتبتُ هذا من خطِّة قال: فلمّا كان يوم السبت لعشرٍ من جُمادى الأُولى توفّي الإمام حبيس(9) بن محمد بن هشام، فجرى على الناس لموته مصيبة عظيمة. وكان رجل من أهل الصلاح ينشد عند قبره شعراً فقال: 

وليس من الرزية فقد تيسٍ... ولا شاةٌ تموتُ ولا بعيرُ

ولكنّ الرزية موتُ نفسٍ... يموتُ لموتها خلْقٌ كثيرُ

وعقد ولايته ذلك اليوم، يوم مات، عقد ولاية محمد بن حبيس، عقده نجاد بن موسى، وكان نجاد قاضيه، وخطب أبو بكر أحمد بن محمد المعلم، وكان ذلك سنة عشر وخمسمائة. وقُبر عند مقبرة القاضي أبي بكر أحمد بن عمر وولده أبو(!) جابر، وهنالك أيضاً القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى، وكان رجلاً معروفاً بالفسق وشرّاب المسكر أَوصى أن يُقبر عندهم (413ب) فقُبر هنالك. وكان ذلك اليوم يوماً شديداً على المسلمين، فقيل لبعض الصالحين: 

إنّ فلاناً أوصى أن يُقبر عند مقابر الصالحين لينفعه ذلك وقد كان كذا وكذا. قيل له: إنه ينبغي أن يتقرب من الصالحين في الحياة وبعد الممات لتنزل الرحمة، فقُبر الرجل هناك واشتدّ ذلك على الناس. وهذا الموضع الذي فيه هذه المقبرة مقبرة الإمام خنبش وهؤلاء المذكورين هو موضع يكون على الطريق الجائز الذي ينفذ من فلج الغنتق من عند مساجد العباد عند الجبل الأسود الصغير يقال جبل (والجيود إذ كان له حروفٌ بائنة من الصخور من أعراضه لا من أعاليه، ثمّ من بعده محمد بن حنبش مات سنة سبعٍ وخمسين وخمسمائة، وقُبر عند فلج الغنتق عند جبل ذو الجيود، وأُصيب أهلُ عُمان بموته ما لم يُصابوا بأحدٍ من قبله).

وفي ملاحظةٍ على ورقة 414ب من المخطوطة (وعند بادجر، ص40) يُشارُ مرةً أُخرى إلى محمد بن حنبس(10). ويتلو ذلك (414ب أيضاً) قصة عن أبي الحسن بن خميس بن عامر (=بادجر، ص48).

وفي خاتمة تقريره عن الأئمة محمد بن إسماعيل وبركات وعبد الله الهُنائي (416ب، ص12) يحمل مؤلِّف كشف الغمة على محمد بن إسماعيل وابنه بركات(418أ، س 15) وبعض أعوانهم(418ب، س 5)، ويبرأُ منهم. وهو يستند في ذلك إلى سيرة الشيخ أحمد بن مدّاد(11) (420ب، س 12)؛ حيث أُعلنت إمامتهم بوصفها غير شرعية. استناداً إلى سيرة ابن مدَّاد إذن يرفع صاحب كشف الغمة ضد محمد بن إسماعيل وابنه بركات الاتهامات التالية: أنهم كانوا يأخذون الزكاة من المسلمين بطرائق غير شرعية، وبما يتجاوز المصارف الشرعية، وبالعنف والإرغام، ومن الأرامل والأيتام الذين لا تجب عليهم الزكاة. بل وكانوا يستوفون الزكاة أحياناً ممن لا تجب عليهم؛ لأنّ ما يملكونه أقلّ من النصاب. وما كانوا يعتـرفون بالقمح والتمر في استيناء الزكاة؛ وإنما يطلبون المقابل بالذهب والفضة. ثم إنهم ما كانوا يقومون بواجبهم في (حماية) رعاياهم والحرص على مصالحهم. هناك إذنّ ستُّ مظالم (قارن 419ب، 420أ) يُوردُها صاحب كشف الغمة (اقتباساً من ابن مدّاد) ضد محمد بن إسماعيل وابنه بركات. إنما الطريف واللافت أنه يعترف أنّ الأموال المجموعة قسْراً من الرعية كان الهدفُ منها رشوة "الجبابرة" حتى لا يُغيروا على النواحي الواقعة تحت سيطرة الإمامة. وابن مدَّاد لا يعدّ ذلك القصد مسوِّغاً شرعياً، ويبرأُ من السلطات وما قامت به. لكنْ ليس من الواضح مَنْ هم أولئك الجبابرة المقصودون: هل هم الوُلاة العباسيون، أم متسلطون آخرون من غير الإباضية (417ب، 420أ). فالمذهب الإباضي مذهب متشدّدٌ ولا يقبل أيَّ حِراكٍ أو اختراق، ومن يتجاوزه أو يتجاهله في مسألة صغُرت أو كبُرت يصبح فاسقاً أو كافراً. وفي لعنات الإدانة والبراءة هذه يجري الاستناد إلى آراء فقهاء بارزين من أسلاف الإباضية المحترمين مثل محمد بن محبوب(416ب)، والشيخ أبي الحسن محمد بن علي البسْيوي(***) (417أ). وإلى المصدر نفسِه تنتمي الملاحظة عند بادجر، ص52 بشأن إمامٍ غير معروفٍ من المصادر الأُخرى هو عمر بن قاسم الفضيلي. يقول النصُّ في المخطوطة(420أ): 

"فإنّ حُكْمَ كتاب الله وسُنّة رسوله ودين المسلمين بالحقّ والهدى لنا، وبإجازة الإمامة للإمام العدل الوليّ عمر بن قاسم الفضيلي أيده الله ونصره، وبإبطال بركات بن محمد بن إسماعيل المشهور في السيـرة؛ فأعينـونا عليـه واشهدوا بالحـقّ والصـدق ولو على أنفسكم، وإنْ يحكُمْ كـتابُ الله وسُنّـة رسـوله وإجماعُ المسلمين بإجازة بِدَعِ محمد بن إسماعيل وبِدَع ولده بركات، وإثبات إمامة بركات بن محمد بن إسماعيل، وبإبطال إمامة العدل الوليّ عمر بن قاسم الفضيلي فنحن راضون بحكم الله وسُنّة رسوله ودين المسلمين، ورغماً لأُنوفنا إن لم نرض بحكم الله، واتّبعوا في الحكم بيننا وبين بركات كتاب الله وسنّة رسوله ودين المسلمين، ولا تقلّدونا

ولا تقلّدوا بركات بن محمد بن إسماعيل ولا أحداً من المسلمين من العلماء الأولين والآخرين في (....) لأنّ التقليد في الإحرام لا يجوز في دين الله ودين المسلمين. فهذا ما اختصرتُهُ من سيرة الشيخ أحمد بن مدّاد يدلُّ على أنّ إمامةَ عمر بن قاسم الفضيلي وقعت على إمامة بركات بن محمد بن إسماعيل والله أعلم وأحكم، وبه التوفيق.

إنّ الذي يُفهم من هذا النصّ كلّه أنّ عمر بن قاسم الفضيلي كان ثائراً على الإمام القائم بركات، وأنّ كاتب السيرة أحمد بن مدَّاد كان منحازاً للإمام المُعارض أو الثائر".

أمّا الفصل رقم 36 (المخطوطة، 420ب- 428أ) فيوجد مقتبساً في ترجمة بادجر لابن رُزيق(41-48) إنما بشكلٍ مختصرٍ أو مجتزأ؛ فالنصف الأول من تاريخ أمراء بني نبهان ليس موجوداً لدى سليل(بن رُزيق)، وهذا يعني أنّ هذا القسم كان ناقصاً في مخطوطة كشف الغمة التي نقل عنها سليل.

عندما توفّي الأمير سلطان بن محسن في ربيع الثاني عام 973 ترك ثلاثة أولاد: مظفَّر بن سلطان، وسلطان بن سلطان، وطهميا بن سلطان، وقد تولّى السلطة من بينهم مظفَّر بن سلطان إلى أن توفّي في المحرَّم عام 996، وقد ترك مظفَّر طفلاً صغيراً اسمه سليمان ما كان قادراً على تولّي السلطة، ولذلك وَلي السلطة أحد أقاربه (في المخطوطة خطأَ: ابنه!) واسمه فلاح بن محسن، وقد أقام في قلعة مقنيات (؟)، وحكم بإنصافٍ وعدلٍ إلى أن توفّي بعد سبع سنوات (1003). ثم تولّى السلطة سليمان بن مظفر وكان قد بلغ الثانية عشرة من عمره حتى عام 1019. وهناك تقريرٌ طويلٌ عن حروب سليمان مع الفرس، وعن الانقسام في هناءة وأخبار متفرقة أُخرى (في المخطوطة 421أ-424أ). وهذا القسم من التاريخ العُماني غير معروفٍ جيداً ولذا ينبغي الاهتمام به ودراسته بطريقةٍ أكثر تركيزاً، وهو يستحق النشر قبل غيره. وقد ترك سليمان طفلاً صغيراً أيضاً، ولذا فقد خَلَفَهُ قريبه عرار بن فلاح. وفي عهده زحف رجلٌ اسمه سيف بن محمد نحو نزوى، وجمع من حوله رجالاً كثيرين أمدَّه بهم الأمير عُمر(؟) وأقام مع حشده بالقرية سبعة أيام، ثم اقتحم أحد محلاّت أو أحياء مدينة بهلا عاصمة النبهانيين، والحيُّ المقتحم اسمه حارة أبو معن، وهناك حاصر عرار بن فلاح لعدة أيام؛ لكنه ما لبث أن غادر مع كل زانته(؟) وقد حدث ذلك في السادس من صَفَر عام 1024. وبعد عرار بن فلاح ساد مظفَّر بن سليمان، إنما لمدة شهرين فقط. أما بقية الفصل(424أ-428أ) فهي موجودةٌ على الصفحات 41-48 عند بادجر؛ لكنْ يبدو أيضاً هنا أنّ النسخة التي استخدمها سليل من المخطوطة ما كانت كاملة، فقد أنهى صاحب كشف الغمة هذا الفصل على النحو التالي: "استقر سيف بن محمد في بهلا (بادجر)، والعُمير في سمائل، ومالك بن أبي العرب في الرُستاق، والجبور(؟) في الظاهرة. إلى أن ظهر الإمام ناصر بن مُرشد ففتح عُمان كلَّها، وأَنْهى التمرد والانشقاق، وطهَّر البلاد من الفِسْق والشِرْك..الخ". إنّ الذي يبدو من هذا الكلام أنّ النباهنة ما كانوا من الإباضية؛ ولو كانوا إباضيةً لذُكرت الإمامةُ في سياق الحديث عن السلطة، وما حصل ذلك.

ويجري الحديث في البابين 37 و38(12) (428أ-440أ)(13) (440أ-455أ) عن تاريخ أُمراء عُمان من آل يعرُب أو اليعاربة، وهم أسلاف البيت المالك حالياً، وهم مثلهم من الإباضية. وقد حكموا ما بين 1624 و 1728، وهم عند بادجر على الصفـحات (53-130). والذي يبدو أنّ المؤلّف غير المعروف لكشف الغمة ألقى ريشته قبل انتهاء مُلك اليعاربة، الذين عاش في أيامهم؛ لكنه توفّي قبل نهاية دولتهم، وظهور أُسرة جديدة سادت في عُمان وشرق إفريقية ابتداءً من عام 1741م. ولهذه الفترة، كانت في متناول سليل أحياناً مصادر أُخرى غير كشف الغمة، ومن تلك المصادر على سبيل المثال استمدّ أخباره عن الانتصار على البرتغاليين وطردهم من البلاد (بادجر، ص78-88)، كما استمدّ الحكاية الواردة في حياة سلطان بن سيف الثاني (بادجر، ص94-99)، والحكاية عن الأمير سيف بن سلطان (بادجر، ص93).

ب) من تاريخ الإباضية في شمال إفريقية: كما كانت للإباضية دولةٌ في عُمان وشرق إفريقية؛ كانت لهم أيضاً دولةٌ في شمال إفريقية، وفي حين بقيت الدولة في عُمان وشرق إفريقية حتى اليوم؛ فإنّ الدولة الإباضية بالمغارب انتهت منذ مدةٍ بعيدة. لكنّ الإباضية بقيت في تلك الأصقاع في صورة جماعاتٍ صغيرة وأُخرى متوسطة الحجم بالجزائر وتونس وليبيا: خصَّص صاحب كشف الغمة الباب رقم 32(14) للتأريخ للإمامة الإباضية بشمال إفريقية فيما بين القـرنين الثانـي والرابع للهجرة (331ب-378ب). يقسـم المؤلّف البـاب في ثمانية فصـولٍ يقـصُّ فيها أصول الدولة وحكم الإمام أبي الخطّاب (المتوفى عام 145هـ) ثم الإمام أبي حاتم (المتوفَّى عام 149). وعـلى الورقة 338أ يتـحدث عن إمامة عبد الرحمن بن رستم وإمامة عبد الوهّاب، ومحمد بـن أفلح، ويوسف بن محمد(ورقة 430). وعلى الورقة 359ب يتحدث عن انهيار الدولة الرستمية في عهد الخليفة العباسي المتوكّل (232-247هـ). وعلى الورقة 366 أ هناك ذكرٌ لظهور الدولة الفاطمية، وأول خلفائها عبيد الله المهدي (296-322هـ)، ثم الذين جاءوا بعده إلى المعز لدين الله (341-365هـ). ويقص صاحب الكشف أحداث الصراع بين الفاطميين وبقايا الإباضية إلى أن هربوا إلى وارجلان (على الورقة 366أ). ويستطرد صاحب الكشف فيذكر النقاط السبع التي اختلف عليها أبذ(؟)مع ابنه القنطراري(؟) وصولاً إلى ورقة 369أ-378ب. وهناك أخيراً ذكرٌ لبعض علماء الإباضية ومشاهيرهم في المغارب.

إنّ هذا القسم من كشف الغمة شديد الشبه -فيما يبدو لي- بالكتاب الذي نشره بالجزائر Emile Masqueray عام 1879م بعنوان: سيرة أبي زكريا؛ مترجماً إلى الفرنسية. وهكذا نجد أمامنا مصدراً تاريخياً قديماً تستعمله الإباضية بالمشرق والمغرب. أما عن المؤلِّف فإنّ صاحب كشف الغمة لا يذكر شيئاً. ويبدأ الباب المذكور على النحو التالي: 

قيل: إنَّ أولَ من مضى بالمذهب الإباضي من البصرة سلمة بن سعيد، قدم إلى قيروان إفريقية هو وعكرمة مولى ابن عباس وهما راكبان على جمل، وسلمة يدعو إلى الإباضية، وعكرمة يدعو إلى الصفرية. وقيل: إنّ سلمة قال: وددتُ أن يظهر هذا المذهب بأرض المغرب يوماً واحداً من غدوةٍ إلى زوال، وما أُبالي(****) لو ضُربت عُنُقي.

وإذا كان تخمين ماسكوراي صحيحاً بأنّ الكاتب هو الإمام عبد الوهّاب؛ فإنَّ ذلك يكونُ خاصاً بالقسم الأول من هذا النص التاريخي.

وفي نهاية الباب وبعد الكلام عن أبي عبد الله محمد بن بكر، هناك خبرٌ قصير عن أبي الربيع سليمان بن يخلف المزاتي(؟) تلميذ محمد بن بكر (378ب). ويبدو لي أنّ الأصل الذي نُسِخَ عنه كتاب كشف الغمة كانت بعض أوراقه مضطربة؛ بدليل أنّ الناسخ يورد خبر اختيار الخطّاب للإمامة وأخبار الفترة الأولى من حكمه ضمن أخبار خليفته الثالث عبد الوهّاب، ولذا فينبغي تقديم ذلك إلى الورقة رقم 334ب، السطر 8 بين" سَرَباً" و" فخرج". وهذا الفصل عند ماسكوراي(ص 9، 24، 31). وأريد أن اكتفي بهذا القدر من التنبيه إلى الصِلات التي تربط نصَّ كشف الغمة بنصَّي ماسكوراي وبادجر المترجمين. ويبقى من نصيب دراسات أُخرى أكثر تفصيلاً العناية بتبيان علائق هذه المصادر بعضها ببعض، وتقدير كَمْ أفادتنا المعرفة بهذا المصدر أو ذاك في عمليات البحث في تاريخ المنطقة. وهناك أمرٌ آخر يستحق العناية؛ فهناك خلافاتٌ كثيرةٌ بين كشف الغمة والمصادر الأخرى، خصوصاً فيما يتعلق بتواريخ بعض الأحداث، وقد تحتاج كشف الغمة إلى مراجعةٍ دقيقة من أجل كشف الاختراقات، وإعادة النقاش إلى أُفق المراجعة والتعديل.

ج. أقسام العمل الخاصة بالتراجم: تبدو أقسام كشف الغمة التي تتضمن تراجمَ ومعلوماتٍ بيوغرافية أقلّ غنىً ومُعْطيات من الأقسام التاريخية فيه، وهكذا فالذي يبدو أنها مأخوذةٌ بإيجاز عن مصادر أو كتب طبقات أكثر سَعَةً وغِنىً. فالتراجم فـي كشـف الغمة تقتـصر أحيـاناً على كشوف وقوائم بأسمـاء الرجال، وتضيف أحياناً تواريخ الولادة والوفاة؛ فالباب التاسع والثلاثون(15) (455أ-466أ) على سبيل المثال مقسمٌ إلى ثلاثة فصول: في الفصل الأول ترد أسماءُ بعض الصحابة مثل عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقّاص وآخرين، وتُضاف إليها أحياناً تواريخ الوفاة والولادة، وقد تُذكرُ المواطن التي تُوفّوا ودُفنوا فيها (وأكثر هؤلاء الصحابة دُفنوا في مقبرة المدينة بالبقيع)، وفي آخِر هذا الفصل تردُ أسماءُ شخصياتٍ دون ترتيب زماني أو مكاني مثل أبي حنيفة ومالك بن أَنَس وبعض النحْويين (سيبويه والخليل)، والشعراء (المتنبي والبُحتُري)، وآخِر المذكورين أحمد حنبل.

أمّا الفصل الثاني من هذا الباب (458أ) فيتضمن تراجم للشخصيات الإباضية الكبيرة من العصر الأول من خارج عُمان ومن داخلها(16)، ومن بين الأوائل من خارج عُمان يذكر صاحب كشف الغُمّة عبد الله بن عبّاس، وجابر بن زيد(مات عام 103هـ)، وعبد الرحمن بن رُستَم -إمام إباضية شمال إفريقية- وأبـا بـلال مرداس بـن جَدير (؟)(17) وآخـرين، ومن بينهـم أبـو الحُـرّ علي بـن حَصين (؟) الذي ذهب بوصفه مبعوثاً من الجماعة الإباضية إلى بلاط الخليفة عمر بن عبد العزيز بدمشق (458ب-459أ). وقد رافقه في الزيارة والمحاورة مـع الخليفة الأُمـوي "جعفر بن السمّان والحتات بـن كـاتب(؟) ويُكنّى بأبـي عبد الله بن كاتب، قيل: إنه من توام من عُمان، وقيل: إنه كان ينزل سمد الكندي من نزوى، وهو من بني هُميم، وأبو سفيان قنبر، وأبو مودود حبيب بن حفص بن حاجب؛ فهؤلاء الوفد من العلماء". أما الرجال الذي حملوا الدعوة الإباضية من البصرة إلي عُمان، فهم: أبو المنذر بشير (مات عام 178هـ)، ومنيـر بـن النيِّر الجعلاني (مات عام 180هـ)، وموسى بن أبي جابر الأزكوي (مات عام 181هـ)، ومحمـد بـن المعلّى الفجحي(؟)(تاريخ وفاتـه غيـر معروف). وقـارن ورقـة بالورقة 459ب، س 14: 

"من فقهاء عُمان أولهم الذين حملوا العلم من البصرة والعراق إلى عُمان عن الربيع بن حبيب بن عمرو الفراهيدي من البصرة، ثم سكن عضفان من عُمان وهم أربعة أبو المنذر بشير بن المنذر من بني نافع من عقر نزوى، ويُسمَّى الشيخ الأكبر وكثيرًا ما يوجد عن بشير الشيخ، وهو جدّ بني زياد من بني سامة(460أ) بن لؤي بن غالب مات سنة ثمان وسبعين ومائة في ولاية وارث بن كعب الخَروصي ومنير بن العجلاني، وهو من بني ريام قتل بدَما قريباً من المسجد الجامع، وحُمل إلى جعلان، ودُفن بها وذلك يوم الأربعاء لستٍ وعشرين خلت من ربيع الآخِر سنة ثمانين ومائتي سنة بعد قتل عزان بن تميم بشهر زمان والله أعلم، وموسى بن أبي جابر الأزكوي وهو من بني ضَبّة من بني سامة بن لؤي بن غالب مات ليلة أحد عشر من المحرَّم سنة إحدى وثمانين ومائة، وكان موته في ولاية الوارث بن كعب الخروصي بعد ما مضت من ولايته أربع سنين، ومحمد بن المعلَّى الفجحي من كندة لم أجد تاريخ موته".

وعلى الورقة 460أ وما بعد تَردُ قائمةٌ طويلةٌ بأسماء العلماء الذين وُلدوا بعُمان، وبين هؤلاء أُناسٌ ذكرهم سليل في تاريخه عن عُمان، وقلةٌ من هؤلاء تُذكَرُ لهم مؤلَّفات، من بينهم أبو المنذر سَلَمة مصنِّف كتاب الضياء(461أ)، 

ومحمد بن وصّاف، الذي كتب شرحاً على دعائم ابن النِظر(461أ)(18)، والشاعر محمد بن إبراهيم الكندي مصنِّف بيان الشرع(مات 508هـ)، وأحمد بن عبد الله بن موسى الكندي مؤلِّف المصنَّف (مات 557هـ)، ومحمد بن موسى الكندي مصنِّف الكفاية، ومحمد بن سعيد الأزدي القلهاتي مصنِّف كتاب الكشف والبيان، والذي أشار Rieu في كتابه: الذيل على فهرس المخطوطات الموجودة بالمتحف البريطاني(*****) إلى وجود مخطوطةٍ منه تحت الرقم 202 بالمتحف(462ب، س 6-11). وترِدُ إشاراتٌ هنا إلى معاصرة بعض هؤلاء لعددٍ من الأئمة والأُمراء بعُمان(19)، والتي ينبغي أَخْذُها بالاعتبار في سياق تقدم الدراسات عن عُمان وعلمائها وسُلُطاتها.

أما الفصل الثالث في الباب التاسع والثلاثين(466أ) فتُذكَرُ فيه أسماء علماء عُمانيين مشهورين وولادتهم ووفياتهم بالشهر والسنة بدءًا ببشير بن المنذر من نزوى المتوفَّى عام 178هـ، واختتاماً بسليمان بن أحمد من بهلا المتوفَّى عام 809هـ. وآخر التواريخ الواردة في هذا الفصل هو عام 917هـ، تاريخ وفاة محمد بن عبد الله بن مدَّاد من نزوى(465ب).

أمَّا قسـم التراجم الخـاصّ بعلماء الإبـاضية في شمال إفريقية(369-378) مـن هذا الفصل فهو موجودٌ بصيغةٍ أكثر تفصيلاً مما ورد عند ماسكوراي (ص266-284)، (288-323). ومن هؤلاء العلماء الذين يذكرهم صاحب كشف الغمة: أبو القاسم يزيد بن مخلد، وأبو الربيع سليمان بن زرقون النفوسي، وأبو مسور يسجا بن يوحين البهراسني، وأبو نوح سعيد بن نفيل، وأبو خرز يعلى، وأبو عبد الله محمد بن بكر، وأبو زكريا فضيل بن أبي مسور، وأبو الربيع فضيل بن أبي مسور المزاني(؟).

ومن الواضح أنه في كيانٍ يتولى الأمر فيه الأكثر ديناً وعلماً بالاختيار والانتخاب؛ ويكون عليه أن يغادر السلطة عندما يفقد بعض الشروط الدينية؛ فإنّ حملة العلم وحراس الشريعة من الفقهاء والمتكلمين يلعبون دوراً كبيراً. وبالفعل فإنّ عدداً من هؤلاء كان لهم تأثيرٌ كبيرٌ في الأحداث؛ ولذا يكون علينا أن نتوقع تطوراً كبيراً في أدب التراجم، ونعْني بذلك تراجم العلماء؛ وإن لم نجد حتّى الآن غير عددٍ قليلٍ جداً من كتب الطبقات عند الإباضية.

د. أسطورة أصول أنساب عرب الأزد بعُمان: تَرِدُ الروايةُ عن بدايات مجيء الأزد إلى عُمان ومكافحة الوجود الفارسي عن ابن الكلبي في الباب الرابع من كشف الغمة(ورقة 20-29). وعمل ابن الكلبي وابنه هشام منه مخطوطةٌ في المتحف البريطاني(376، 22. Add)؛ لكنه ما نُشِرَ بعد ولذا فليس مُتاحاً للقراءة المتفحِّصة. وإذا أخذنا ذلك بالاعتبار، وأضفنا لذلك أنّ روايات هذه الأسطورة أو الحكاية تتشابك وتتكرر في دوائر متعددة، مما يجعلها مهمةً للباحثين في أساطير الأوَّليات؛ فإننا نلخِّص هنا مقتبسات الباب الرابع من كشف الغمة عن هذا الأمر.

كان مالك بن فهم الأزدي الدوسي أول أزدي عربي ترحَّلَ إلى عُمان، ويرجع ترحُّلُه إلى أنّ أبناء أخيه عمرو بن فهم حين كانوا يقودون مواشيهم يوماً إلى الديار؛ دخلت كلبةٌ لأحد الجيران في القطيع ونبحت ففرَّقتْه، فرماها أحد الأبناء بسهمٍ فقتلها، وعندما شكى الجار إلى مالكٍ غضب للاعتداء على جيرانه من جانب أَولاد أخيه فقرر مغادرة مضارب القبيلة ومراعيها في السَراة بأعالي نجد، وقد سُمّيت تلك النواحي بعد الحادث نجد الكلبة! وبهذه المناسبة يقول مالك مخاطباً ناقته: 

ستُغنيكِ عن أرض الحجاز مشاربٌ... رحابُ النواحي واضحاتُ المسالكِ

لكنّ هذا البيت إن صحَّ فهو يعني أنّ بادية الحجاز كانت أرض قوم مالكٍ الاُولى، وليس الحجاز. وقد ضرب مالك مضاربه لفترةٍ في بَرَهوت، وهو وادٍ بحضرموت، وهناك علم أنّ الفرس من رعايا الملك دار بن دار بن بهمن بقيادة مرزُبان كانوا قد توطّنوا بأرض عُمان. وهكذا قرر مالك أن يمضي إلى عُمان وجعل على مقدمته ابنه هُناءة أو ابنه فراهيد، وعندما بلغ أرض الشِحْر تخلَّف عنه هناك بطن مهرة بن حَيدان بن الحاف بن قُضاعة بن مالك بن حمير، وعندما وصل مالك إلى عُمان استولى أولاً على قَلهات على الساحل، ونشر مضاربه في أرض الجوف، ومن هناك أرسل مالك مبعوثاً إلى الفرس ليستأذنهم في سُكنى المنطقة فرفضوا، ووقف كلٌّ منهما على سلاحه: مالك في الجوف، والفرس في صُحار، والتقى الجيشان في سَلوت على مقربةٍ من نزوى. وقد كان مالك في قلب الجيش، والمجنَّبتان بقيادة ابنيه هُناءة وفراهيد. وجاء الفرس على أفيالهم، ودامت المعركة عدة أيام، وحفلت بالكلمات الحماسية والمبارزات الفردية، وكثيرٍ من التفاصيل الحكائية، ثم استطاع مالك قتل المرزبان في مُبارزةٍ ففرَّ الفرس، وعادوا إلى صُحار والمناطق المحيطة المسمَّاة بالشطوط؛ بينما مضى مالك إلى قلهات. وجرت المفاوضات على هدنةٍ لمدة عامٍ ينسحب في نهايته الفرس إلى بلادهم. وعندما علم ملك الفرس بما حدث غضب، وأرسل عساكر جديدةً من البحرين إلى عُمان، وعندما انتهى أمد الهُدْنة رفض الفرس الانسحاب من عُمان، فقاتلهم مالك وأبناؤه الثلاثة هُناءة وفراهيد ومعن، وهزمهم ثانيةً، فسارع من بقي منهم إلى سفنهم وتركوا البلاد، فصار مالك بن فهم سيداً لعُمان. وسارع إلى إطلاق سراح أسرى الفرس وأرسلهم على السفن إلى إيران. وعلى أثر ذلك وردت بطونٌ أُخرى من الأزد إلى البلاد متبعين آثار مالك، ومن هؤلاء عمرو بن عامر ماء السماء وولده الحجر ملادس بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن الحارث بن عبد الله بن عامر، والأسود اليحمد بن عمرو بن الأزد، وهؤلاء نزلوا بهدَّاد، وحارثة الحدان وأخوها زياد وهو الندب الأصغر، وبنو غنم بن غالب بن عثمان بن حمر بن ناس من بني غامد وناس من خوالة، والصيق، والندب الأكبر ومعولة وهم من شمس، وقد استقر هؤلاء "في بلد ريفٍ واتّساع". واستمر تدفق الأزد إلى أن بلغوا البحرين وهجر. أمّا اسم عُمان فيقال: إنه اسمُ وادٍ كانت فيه عين ماءٍ وغُدْران؛ وكان الفرس يسمُّونه المَزون.

وبعد الأزد جاءت قبائل عربيةٌ أُخرى إلى عُمان، ومن هؤلاء سامة بن لؤي بن غالب، الذين نزلوا في بلدة طُعام ونواحيها؛ أي في الجوف بجوار الأزد، وقد وجدوا هناك ممن نزلوا قبلهم بطوناً من سعد وعبد القيس، وقد زوَّج سامةُ ابنته من أسد بن عمران بن عمرو. أما نواحي عبرى والسليف والسرو فقد نزلتها بطونٌ من تميم من خُزاعة بن خارم، ومن بني النبيت. أمّا ناحية ضَنْك فقد نزلها بنو الحارث بن كعب وبعض قُضاعة. أمّا النازلون الآخرون فكان منهم بنو رواحة بن قُطيعة بن عبس، ومن بطونهم أبو الهشم.

ظلَّ مالك أقوى الزعماء في البلاد، وبعد أن استولى علي قلهات ونواحيها تابع زحفه إلى النواحي الأُخرى من عُمان حيث قابل أميراً أزدياً آخر كبيراً هو مالك بن زُهير، وقد تزوج مالك بن فهم ابنةَ ابن زهير هذا بشرط ان يكون ابنُهُ منها هو المقدَّم على إخوته من بعده، وقد وُلد لمالك من هذا الزواج بالفعل سليمة بن مالك، الذي كان مقدَّراً له أن يُصبحَ قاتل أبيه! وساد مالك في عُمان سبعين عاماً، ومات عن مائةٍ وعشرين عاماً. وفي إحدى الروايات أنّ الملك المذكور في الآية القرآنية (18/78): ﴿وكان وراءهم ملكٌ يأخذ كلَّ سفينةٍ غصباً﴾ هو مالك بن فهم، أو أنه أحد أحفاده المسمَّى مندلة بن الجلندى بن كركر وهو جدّ الصفاق الجلندى بن كركر أو الجلندى المستكبر أو أنه أزديٌّ آخر اسمه المستر بن مسعود. وفي قسمٍ آخر من هذا الفصل(26أ) تُذكَرُ حكايةُ أو أُسطورة موت مالك بن فهم، والمغامرة الفارسية لابنه سليمة؛ كان سليمة أحبَّ أولاد مالكٍ إليه، وقد ربّاه على الفروسية وبرع في استعمال القوس، وقد حسده إخوته وحاولوا إزاحته من طريقهم، وقد كان على كلٍ منهم أن يسهر ليلةً للحراسة؛ لكنّ سليمة كان يفوِّت نوبة حراسته وينام، وعندما أخبر الإخوة والدهم زجرهم ولم يصدّق ذلك؛ لكنه أراد أختبار أمانة ولده، وفي إحدى ليالي حراسة سليمة نام كالعادة وهو على صهوة فرسه، وتلفَّع مالك وتخفَّى ومضى يلتمس ابنه وماذا يفعل، فلما اقترب من الفرس صهلت ونشرت أُذنيها، فاستيقظ سليمة وصوَّب سهم قوسه من بين أُذني الفرس باتجاه العدوّ المتوهَّم فأصاب والده في قلبه(20)، وخاف سليمة أن يثأر منه إخوته وبخاصةٍ معن. وعمد الابن الأكبر هُناءة إلى دفع دية الوالد للإخوة فأظهروا العفو وتركوا متابعة أخيهم سليمة. ومع أنّ معناً قَبِل المال أيضاً؛ لكنه ظلَّ حاقداً على أخيه، فلمّا أنفق المال عاد للتآمر على سليمة الذي اشتدَّ جزعُهُ وخوفُهُ فجمع عدداً من رفاقه وغادر البلاد في سفينةٍ إلى فارس. ونزل سليمة بجاسك، وتزوج بفارسيةٍ اسمها الإسفاهية، والأولاد من هذه المرأة سُمُّوا بني الإسفاهية، وتابع سليمة تجواله فمضى إلى كرمان ونزل على أحد الملوك هناك، وقد عرَّفه بنفسه فعومل باحترام، وكُتم اسمه حتى لا يُنال منه بجريرة ما فعله أبوه وأخوه جذيمة الأبرش في الفرس؛ بيد أنّ الصعوبات ظهرت عندما أرادوا تزويجه بإحدى بنات البلاد، فقد كان الملك الأكبر غاشماً، وانتزع لنفسه حقَّ الليلة الأُولى من كلّ امرأةٍ عذراء أو أيِّم يُرادُ تزويجُها، وإذا رفضت الفتاة أو أهلها ذلك فإنهم يقتلون جميعاً، وقد شكى أهل كرمان هذا الإذلال إلى سليمة فوعدهم بالإنقاذ، وهكذا وفي ليلة العُرس لبس لباس العروس وأخفى تحت ثيابه خنجراً ثم اقتيد إلى مخدع الملك، فاستلّ خنجره وقتله(21)، ولبس لباس الملك، وعندما انفلق الصباح هجم على الحراس وقتلهم. ولأنّ باب الحصن كان مقفلاً، فقد دبّـت الفوضى فـي المدينة، وهكـذا فقـد ظهـر المتآمـرون مـع سليـمة، الـذي أطـلَّ عليهم مـن أعلى الحصن وأراهم سيـفه المضمَّخ بالـدم، كما رمى إليهـم رأس الملك القتيل وملابسه، وبذلك نجحت المؤامرة وصار سليمة ملكاً على كرمان. على أنّ أهل البلاد سُرعان ما حسدوا وسخطوا على ملكهم الغريب مما اضطرَّ أخاه هُناءة إلى إرسال نجدةٍ له من عُمان، وتوفّي سليمة بكرمان وترك عشرة أبناء: عبد وحماية وسعد ورواحه ومجاش(؟) وكلاب وأسد وأزهر وأسود وعثمان.

بعد موت سليمة عاد المُلْك إلى الفرس، أما الأبناء فقد تفرقوا في أنحاء فارس وبقي عددٌ منهم فيها في صورة قبائل قوية؛ بينما عاد عددٌ آخر إلى عُمان. 

وطوال مدة مُلْك آل مالك بن فهم ما طمع الفرس في العودة إلى البلاد؛ لكن في زمن إمارة الجلندى بن المستر المعولي عاد الفرس فأخذوا السواحل العُمانية بمقتضى اتفاقيةٍ مع الجلندى، وانسحب الأزديون إلى الدواخل والجبال، وظلَّ الأمر على هذه الحال لحين مجيء الإسلام(22).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

**) ظهر هذا المقال في Mitt. d.Sem.f. Orient. Sprachen, 1898, Heft II, 1-20. [إدوارد ساخاو وكشف الغمة]: تعدّ قراءة ساخاو التفصيلية لكتاب كشف الغمة وعلاقة كتاب سليل بن رُزيق وكتب أُخرى به في المقالة المترجمة هنا شديدة الأهمية؛ لأنها مبكِّرةٌ أولاً (1898)؛ إذ لم تسبقها غير ترجمة روس لبعض فصوله. بيد أنّ هذه القراءة تُعاني – شأن الدراسات الأولى- من عيوبٍ أولُها التشكيك في نسبة الكتاب إلى سرحان الأزكوي، والذهاب إلى أنه قد يكون ناسخاً فقط. وجاءت بعد ذلك دراساتٌ ذهبت إلى أنه جامعٌ في الحقيقة وليس مؤلّفاً، في حين ذهب آخرون إلى صحة نسبة الكتاب إلى الأزكوي. وثاني تلك العيوب الأخطاء المتكاثرة في قراءة المصطلحات وأسماء الأعلام. وثالث تلك العيوب التركيز على تأثيره في الكتابات المتأخرة، دونما اهتمامٍ كبيرٍ بمصادر الكتاب. على أنّ أهمية الدراسة لا تقتصر على تبكيرها؛ بل إنها تتضمن (إلى جانب مقالات ساخاو الأُخرى عن الإباضية) عدة استبصارات من مثل التنبيه إلى أهمية الرسائل المنسوبة إلى عبد الله بن إباض، وتوقُّع تطور أدب التراجم عند الإباضية، والالتفات إلى أهمية كتاب الكشف والبيان باعتباره مصدراً مبكراً؛ وهذا فضلاً عن الكشف عن مركزية حَمَلة العلم في النظام العقدي والسياسي عند الإباضية. وما تزال دراسات ساخاو التأسيسية هذه موضع نقاشٍ في أعمال الدارسين المتخصصين. وبعد طباعة فصول متفرقة من كشف الغمة عبر القرن العشرين، قام الدكتور حسن النابودة بنشره كاملاً في طبعةٍ علمية، وحبذا لو يجد الكشف والبيان نشرةً مماثلة. وهكذا فإنّ دراسة ساخاو هذه عنه استحقت الترجمة لتوضَعَ في التأمُّل لدى الباحثين العرب، بالنظر إلى قلة عدد القراء باللغة الألمانية] (تعليق المترجم: رضوان السيد).

1) أو رُزيق؟ وإلى جانب سليل فإنّ أخاه حميداً شارك في تأليف الكتاب.

2) ابن دريد: الاشتقاق، ص292.

3) مثل: كتاب النيل، وقناطر الخيرات، والإيضاح.

***) قال ساخاو فيما بعد في مقالاتٍ أُخرى: إنه يشك في أن يكون سالم الأزكوي الموجود اسمه بخطٍّ غير واضح على إحدى النُسَخ هو المؤلف، ويظنه الناسخ أو القارئ أو المتملك لأحد مخطوطات الكتاب (المترجم).

4) الباب الثالث والثلاثون في أخبار أهل عُمان من أول إسلامهم إلى اختلاف كلمتهم.

5) نُطْقُ اسم المدينة غير مؤكَّد.

6) يتكرَّر هذا المصطلح "الأحداث" في ذكر سُعال بنزوى، والتي جرت فيها محاولةٌ للإصلاح بين المختلفين لكنها فشلت. قارن بالمخطوطة 404ب، س1، وما بعده.

7) في ذكر الإمامين سعيد بن عبد الله وراشد بن الوليد وضمن بعدهما إلى عمر بن قاسم الفضيلي.

8) قارن بكتاب الاشتقاق لابن دريد، ص325.

9) الصحيح: خنبش (المترجم).

10) الصحيح: خنبش (المترجم).

11) ربما كان المعني السيرة التي كتبها الشيخ أحمد بن مدّاد لمحمد بن إسماعيل وبركات. قارن 418ب- 9، 10.

****) يكتبها ساخاو: البَسِيوي.

12) في ظهور الإمام ناصر بن مرشد، وذكر الأئمة من بعده إلى وقوع الفتنة بين اليعاربة.

13) في ذكر وقوع الفتنة بعُمان وما آلت إليه تلك الأُمور.

14) في ذكر انتشار المذهب الإباضي في أرض المغرب وذكر أئمتهم وعلمائهم.

****) ربما كانت الكلمة غير المقروءة: بعدها.

15) في ذكر تواريخ موت بعض الصحابة وذكر علماء الإباضية من عُمان وغيرها.

16) في معرفة العلماء من أهل الدعوة من عمان وغيرها.

17) صحَّته: أبو بلال مرداس بن حُدير.

18) قارن: Rieu, Supplement to the Catalogue of the Arabic Manuscripts of the British Museum Nr. 327, 328.

*****) Supplement to the catalogue of the Arabic Manusacripts of the British Museum.

19) مثل الجلندى بن مسعود، وحازم بن خُزيمة، ووارث بن كعب.

20) ابن دريد، ص292.

21) قارن بقصةٍ مشابهةٍ في أسطورة أنطيوخوس في روزنامة الأعياد اليهودية عند البيروني في كتابه: الآثار الباقية من القرون الخالية، ترجمة أدوارد ساخاو، لندن 1879، ص271-272.

22) ذكرت المجلة الناشرة أنّ الأستاذ ساخاو بسبب اضطراره لمغادرة ألمانيا إلى بلاد ما بين النهرين (أرض بابل وأشور كما قالوا) قبل الموعد المقرر بشهرين، لم يستطع إكمال الدراسة، وقد يفعل ذلك عندما يعود.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/8/177

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك