قوانين الإصلاح في فكر الحجوي الثعالبي

الأستاذة سعيدة سوهال

مقدمة :

إن مفهوم الإصلاح أصيل متجدر في الثقافة الإسلامية ومن صميم الدين وجوهره حتى إن مقاصد الشريعة تقوم على فكرة الإصلاح جلبا وبحثا عنه وعلى الإفساد دفعا وإبعادا له، على اعتبار أن النص الشرعي نفسه يدعو إليه يقول تعالى : (ولا تفسدوا في الارض بعد إصلاحها) [سورة الأعراف، آية: 55] ويقول أيضا على لسان نبيه هود عليه السلام: (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت) [سورة هود، آية: 88] لذلك اهتم به العلماء والمفكرين شرقا وغربا سعيا منهم لايجاد إصلاح يمكن للامة من خلاله  تحقيق الشهادة على الناس، غير أن تقويم التجارب الإصلاحية السابقة أخذت الشيء الكثير من الاهتمام العلمي لدى الباحثين المهتمين بالإصلاح ودراسة مساره في التاريخ الإسلامي، ويبقى منهج مقاربة ودراسة الفكر الإصلاحي محكا أساسيا، إذ لا يكفي استعراض التجارب والوقوف عند الانجازات الفكرية لأصحابها، بقدر ما ينبغي على الباحث الانصراف إلى قراءتها، قراءة نقدية تفاعلية تربط الأسباب بالمسببات.

إذا تتبعنا الكرنولوجية التاريخية للاصلاح في العالم الإسلامي سنلاحظ انه كان ثمة تقاطع وتشارك بين النماذج والحركات الإصلاحية، وكان ذلك التواصل والاستمداد والامداد والاستفادة رغم البعد الجغرافي نعم،  ـ يقول الأستاذ شبارـ كانت لبناته الأولى في المشرق أي هناك كانت البدايات، لكن كمالاته وثماره كانت انضج وأينع في الغرب الإسلامي.

ولهذا السبب اخترت قراءة تجربة الفقيه المصلح الحجوي الثعالبي للوقوف على نموذج من نماذج الإصلاح في الغرب، وذلك بالمنهج الاستكشافي التفاعلي، بعد وضعها في سياقها التاريخي ثم محاولة فهم المداخل الإصلاحية التي قدمها، لاكتشاف القوانين التي اعتمدها في مشروعه الإصلاحي كل هذا برؤية نقدية تفاعلية،  وما توفيقي إلا بالله.

والحجوي فريد نوعه بين المفكرين المغاربة المعاصرين فقهاء وإصلاحيين ذلك أن أبعادا ثلاثة اجتمعت في شخصيته مكونة رؤيته الإصلاحية ونظراته التجديدية:

البعد الأول: انتماؤه إلى أسرة عرفت باشتغالها في التجارة داخل المغرب وخارجه وخاصة في مدينة مانشستر البريطانية، والحجوي نفسه امتهن التجارة وتمرس فيها منذ شبابه.

البعد الثاني: كونه موظفا مخزنيا عرف آليات الحكم ومارسها متقلبا في مناصب رفيعة عدة، اخصها وزارة التربية والتعليم ثم وزارة العدل لسنوات عدة.

البعد الثالث: أنه فقيه مجتهد غزير التأليف والتي من أشهرها كتابه «الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي» الذي طبع مرات عديدة وتداولته  الأوساط العلمية المعاصرة دراسة وإحالة وتمعنا، باختصار فإن قراءة الحجوي تجعلنا أمام صورة عجيبة ومثيرة ، بل ونادرة من حيث قوة الوعي بها، تلك هي صورة الفقيه ـ التاجر التي يوجد فيها، جنبا إلى جنب، السلفي المتنور، واللبرالي المتمسك بالفكر السلفي.

وقد تتبعت في بحثي هذا ـ بعد المقدمة ـ الخطوات التالية:
المبحث الأول:  ترجمة محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي
المبحث الثاني: الاطار التاريخي لتجربة الحجوي الإصلاحية
المطلب الأول: الحالة السياسية
المطلب الثاني : الحالة الاقتصادية
المطلب الثالث : حالة التعليم والصحة
المبحث الثالث: قوانين الإصلاح عند الحجوي الثعالبي
المطلب الأول: قانون التعليل
المطلب الثاني: قانون التجديد والاجتهاد وفق روح الشريعة ومقتضيات العصر 
المطلب الثالث : قانون التيسير وعدم التضييق
المطلب الرابع :  قانون الواقعية
المطلب الخامس: قانون الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
المطلب السادس: قانون التدرج.
المطلب السابع: التعاضد المتين بين العقل والعلم والدين.
 خاتمة

المبحث الأول: ترجمة محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي

 تعتبر مصادر ترجمته رحمه الله قليلة بالنظر إلى المالكية المتقديمن ، ولكنه رحمه تنبه لهذا الامر فترجم لنفسه اقتداءا ـ على حد قوله ـ بالنبي صلى الله عليه وسلم، يقول في القسم الرابع من كتاب الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي:«هذه الترجمة المخجلة التي أقصد بها إظهار حقيقة من حياتي ربما لا يعرفها غيري كما اعرفها انا وإني لاشعر بعبء ذلك على كاهلي، ولكني لا أجد منه بدا..».

وقد بين جوانب من حياته يراها مهمة أكثر من غيرها، وسأحاول أن الخص هذه النقاط على الشكل التالي:
نسبه: هو محمد بن الحسن بن العربي بن محمد بن أبي يعزى بن عبد السلام بن الحسن الحجوي الثعالبي الجعفري الزينبي التازي.

مولده: ولد رحمه الله يوم الجمعة رابع رمضان المعظم عند النداء لصلاة الجمعة سنة 1291هـ (الموافق لـ 1874م) كما وجد بخط والده رحمه الله، ويقول رحمه الله: «ومسقط رأسي فاس وبها قرأت وتعلمت، وبأدب أهلها تأدبت وسكنت مكناسة الزيتونة سنتين ونيفا، ثم وجدة ثلاث سنين ...»، ثم سكن مراكش فالرباط وكان لجدته وأمه الاثر الكبير في تربيته وأخلاقه، وعلى هذه النقطة ركز كثيرا في ترجمته مشيرا إلى أن حياة الانسان كلها هي نتيجة هذه المرحلة.

تعليمه: درس على والده دروس العقائد السنية السلفية، والفقه والتاريخ والسير، والشمائل، وتلقى القرآن على الفقيه الزاهد البارع سيدي محمد بن عمر السودي حفيد الشيخ التاودي، ثم على الفقيه الصالح سيدي محمد بن الفقيه الورياجلي المقرىء، ثم دخل القرويين سنة 1307هـ ودرس على شيوخها وفي سنة 1316هـ حصل على إذن من شيوخه بالقاء الدروس في القرييين، وقد تولى إدارة المعارف ـ التعليم ـ ثم العدلية في عهد الحماية، وسفير المغرب بالجزائر وغيرها من المهام.

عقيدته: يقول رحمه الله: «وأما عقيدتي فسنية سلفية، اعتقد عن دليل قرآني برهاني ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الراشدون، مالكي المذهب لما قام دليل».

آثاره العلمية: تميز الحجوي بغزارة التأليف فقد ترك أزيد من عشرة ومائة مؤلف بين صغير وكبير شملت مختلف المجالات العليمة والمعرفية، فقد كتب في الفقه والحديث والسيرة والتوحيد والتصوف، وفي الادب واللغة والتاريخ والسياسة، وفي الدفاع عن الإسلامي، والرحلات والاقتصاد والطب والموسقى وغيرها. وأكثرها شهرة كتابه «الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي»، وإن كان الغالب الاعم من مؤلفات الحجوي لايزال بعد مخطوطا، بعضها لم ينظم حتى الان التنظيم الكفيل بتيسير الوصول اليه وتسهيل الافادة منه.

وتميز منهج الحجوي في التأليف «بالدقة والتمحيص في الخطأ والصحيح، وعند تناوله لموضوع معين، يبدأ بالتعريف بالمصطلح، ويقدم نبذة تاريخية عن الكلمة، ويذكر أحيانا من سبقه إلى الموضوع، ويورد مصادر أفكاره ويعلق عليها أحيانا ويبدي رأيه ويصحح بعضها».

حاول الحجوي من خلال هذه المؤلفات بلورة مشروعه الإصلاحي وإبراز آرائه في مختلف القضايا والاحداث التي عرفها المغرب في هذه الفترة.

المبحث الثاني: الاطار التاريخي لتجربة الحجوي الثعالبي الإصلاحية

يقول عبد المجيد النجار: «إن كل حركة تغيير لا تفهم حق الفهم في مقولاتها ومنهجها إلا بفهم الواقع الذي نشأت فيه وهدفت إلى تغييره، ذلك لان التغيير يبتدئ بنقد الواقع نقدا يفضي إلى الحكم عليه كليا أو جزئيا بالبطلان... ولذلك فإن الوقوف على مناهج التغيير في أي حركة، وفهمها جيد الفهم لا يتأتى إلا باستيعاب عناصر الواقع الذي هدفت إلى تغييره، والنفاذ إلى حقيقته في مختلف الصور».

وفي هذا الاطار لابد من استحضار الاوضاع التي كانت تؤطر تجربة الحجوي الإصلاحية، والواقع الذي كان مسرحا لتلك التجربة.

المطلب الأول: الحالة السياسية

يصف الحجوي الحالة  بالضعف العام «فالنظام الذي تسير به الدول الإسلامية من أقدم أعصرها كان هرم ونخرت عظامه وتشوه وجهه بالاخلاق السافلة الفاشية»، واحد النتائج المباشرة لذلك في المغرب هي ان السلطان يضطر لتولية الجاهلين فلا يحسنون: إذ لاعلم ، ولا نظام يردعهم، ولا وازع من الاخلاق يعظهم، والنظام الذي أسسته الدول العصرية، وسرى مفعوله في العالم، وسمعته حتى حيتان البحر وطيور الجو وأسد الاجام وتشوقت إليه ، لا وجود له، ولم تتوافر في المغرب أسبابه ومعداته.

فبعد وفاة الملك المولى الحسن الأول، تولى الحكم المولى عبد العزيزالذي أحاط به وزراء جهال وحكام أوصلوا البلاد لحالة من التفكك والضعف ما جعلها مطمعا ومرمى للاستعمار، نفس الاوضاع تكرست عقب عزل عبد العزيز ومبايعة أخيه عبد الحفيظ من بعده  فالامر زاد جورا واختلالا وفوضى.

لكن مظاهر التفكك لم تكن حالة الدولة وحدها ولا حال مؤسساتها فحسب، بل كان الشأن كذلك في الرعية كما وصفها الحجوي بقوله : «رعية  جاهلة بسيطة الفكر»، وصل بها الامر لما أسماه مالك بن نبي  بالقابلية للاستعمار وهاهو الحجوي يصف المشهد قائلا : «بل إن المغاربة لما رأوا الجنود الفرنسيين مقبلين نحو فاس، مدينتهم الدينية وعاصمتهم السياسية، أفرجوا لها عن الطريق» تيمنا «بعدل فرنسا وقوة نظامها فعشقت ذلك ومالت إليه بكلية جمهورها ونفضت من فكرها كل تعصب ديني أو جنسي» و«هكذا استولت فرنسا على جميع إدارات البلاد: عسكرية ومالية وعدلية وغيرها بمجرد الاحتلال، وما ثم لها عقد الحمايةحتى تم لها جميع التصرف وتعاقب الحكام الفرنسيون المباشرون أم المقيمون العامون على الحكم الاداري والعسكري والقضائي..».

المطلب الثاني : الحالة الاقتصادية

يصف حسن احمد الحجوي الحالة الاقتصادية قبيل موت السلطان مولاي الحسن قائلا: «شوهد تراجع في انتاج وتسويق أصناف السلع والمواد وظهور فتور محسوس في أنواع الحرف والصناعات التي كان يمارسها أهل المدن الكبيرة كفاس ومكناس، وذلك بسبب الظروف السياسية والامنية القاسية التي كانت تعيشها البلاد، أضف إلى ذلك أن العلاقات بين المدينة والبادية لم تكن دائما تبعث على الاطمئنان بسبب الغارات التي تشنها القبائل على الاسواق القروية التي كان يؤمها أهل المدن لنهب ما يتواجد بها من بضائع ومواد غذائية وذلك نتيجة ضعف الدولة... ناهيك عن انتشار المجاعة بسبب السنوات العجاف ... وهذا ما ساق الناس إلى الانفتاح على التجارة الأجنبية مما مهد السبل للدول الأوربية لإقامة مراكز تجارية بالشواطئ المغربية تمهيدا للتسرب داخل البلاد».

إذا فالسمة العامة التي اتسم بها اقتصاد البلاد هي الضعف العام والفوضى العارمة وهذا ماحدا بالحجوي إلى القول بأن النظام الذي هو أساس مدنية الغرب ورقيه وحداثته له اصوله في الشريعة الإسلامية، يقول بهذا الصدد: «الاسلام جاء بالنظام وأن حقيقة شريعة الاسلام هي النظام المجتمع العام»، وقد ألقى محاضرة في الموضوع تحت عنوان «النظام في الاسلام» ضمن المسامرات التي كانت تشرف عليها الحماية الفرنسية بالمعهد العلمي بالرباط من سنة 1924م، وفي هذه المحاضرة حاول الحجوي أن يثبت أن الشريعة مرادفة  للنظام وهو بذلك يرد على من يقول «بأن الاسلام لم يعرف النظام بل إن نظام الاسلام عنده مبني على أمتن الاصول وأثبتها».

المطلب الثالث: حالة التربية والتعليم والصحة

 لم يكن للمغرب نظام تعليمي بالمعنى الصحيح فقبل أن تبدأ المؤسسات الأولى للنظام المدرسي العصري في الخروج إلى الوجود، كان النظام  التعليمي والتربوي التقليدي في المغرب ما يزال مغلقا على نموذجه الموروث، معيدا انتاجه في الحواضر وفي البوادي.

أما جامعة القرويين التي كانت تحتل دورا علميا مرموقا في عصورها المتقدمة فقد آلت إلى كبوة أنحطت معها درجة العلوم والمعارف فيها في فترة اصبح للعلم والمعرفة في اوربا الدور الحاسم في التقدم الحضاري.

اما الحالة الصحية فنترك جان سيرماي في مؤلفه عن مظاهر الحياة المغربية امس الحماية الفرنسية يصف لنا اوضاعها: ...كثرة المعطوبين وذوي العاهات من المصروعين والعمي ، وأصناف المرضى المنتصبين للتسول في جنبات الطرق وأبواب المساجد والاضرحة... وانتشار الاوبئة من طاعون وكوليرا وتيفوس ... بل وحتى الجنود كانوا يفتقرون إلى مصلحة طبية ترافقهم في تنقلاتهم العسكرية...وهكذا يتابع الكاتب الفرنسي، ففي بلد كانت جامعة القرويين تستقطب إليها منذ القرن العاشر النخبة المثقفة في العالم الإسلامي حيت تخرج منها افواج الاطباء من بينهم أبن زهير وابن رشد ، أصبحت هذه الجامعة في القرن التاسع عشر عاجزة عن تكوين طبيب ذي مستوى يقارب ولو نسبيا ما وصل إليه الطب في تلك الفترة في البلدان الاوروبية.

 ومن ثمة فإن الحجوي شخص أسباب تأخر الأمة العربية والأمم الإسلامية  وأرجعها إلى الأمية التي هي عنده علة العلل في تأخر الامة العربية أو الامم الإسلامية ويرى أن أول داء نبادر بعلاجه وحسم مادته هو ذلك الداء الفعال المخطر داء الامية...يقول رحمه الله: «ولا سبيل إلى ذلك إلا بتسهيل تعليم القراءة والكتابة وبه زوال غشاوة الامية عن أبصار الامة ولن يتم القضاء على هذا العدو الالد إلا بنشر التعليم في جميع أصقاع البلاد وتحصيل العلوم العالية عربية وأوربية من طب وهندسة وطبيعيات وحقوق وميكانيكيات إلخ».

وباختصار اقول إن الحجوي قد جعل التعليم هما وشرطا ضروريا لتقدم المغرب وبلاد الإسلام، وهذا ما يفسر الأهمية التي حظي بها في مشروعه الإصلاحي ككل؛ إذ طالب بنشر التعليم وتعميمه في المدن والبوادي بين الرجال والنساء وبين الأغنياء والفقراء باعتباره حقا لكل إنسان. ودافع عن تعليم مساير للعصر دون التخلي عن أسس الشخصية المغربية الإسلامية، وركز في مشروعه التعليمي على المناهج العصرية، ودعا إلى الاهتمام بالعلوم الطبيعية والرياضيات والى الأخذ بكل جديد نافع والاستفادة من تجارب الأمم الراقية ولذلك أولى أهمية كبرى لتعلم اللغات الأجنبية؛ لأنها أداة الانفتاح وهذا لا يعني التخلي عن العلوم الدينية وإهمال اللغة العربية، بل يجب جعلها لغة حية قادرة على استيعاب التجديد والتحديث.

المبحث الثالث: قوانين الإصلاح في فكر الفقيه  الحجوي

 المطلب الأول : قانون التعليل

 إن المتتبع للفقيه محمد بن الحسن الحجوي في كتابه : «الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي» يدرك براعة هذا الفقيه الجليل وتمكنه سواء في تاريخ الفقه الإسلامي، او العلوم الشرعية بمختلف أصنافها، كما أن المتتبع له يدرك النفس المقاصدي الذي يضفيه على ما جاء في كتابه، فقد بين رحمه الله أن من بين الموارد الرئيسية للفقه الإسلامي القياس فتحدث فيه عن موقفه من تعليل الأحكام الذي هو موقف بين نفاة التعليل الذين يقولون إنه من دين ابليس، والذين يبالغون في تعليل كل شيء سواء في العبادات أو المعاملات فهو رحمه الله يرى أن اكثر أحكام الشرعية معقول المعنى، وإن كان جانب المعاملات أكثر وضوحا لان القصد من تدخل الشرع في هذا الجانب، جلب المصالح ودفع المفاسد، يقول رحمه الله : «لهذا كان أكثر أحكامها معقول المعنى وقيل كلها سواء في العبادات أو في المعاملات، وفي هذه أكثر وضوحا لان القصد من تدخل الشرع في المعاملات صيانة الحقوق وحفظ المصالح، فلابد من مراعاتها اذن في تلك الأحكام، قال تعالى: (ولا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتاكلوا فريقا من أموال الناس بالاثم وأنتم تعلمون) [سورة البقرة، آية: 187].

 ويضيف أن الشريعة روعيت فيها المصالح العامة، والخاصة وحقوق الملك والحرية الشخصية والفكرية، حتى إنها لم تكلفنا إلا باعتقاد ما سلمه العقل وقد روعيت فيها النواميس الطبيعية، كما أيدت قانون الفطرة، الذي هو السعي وراء جلب اللذات ودفع الالم لكن باعتدال.

 كما رد على من زعم أن أحكام الشرع غير معللة وأن الشرع كله تعبدي فقال: «فمن أنكر القياس وزعم أن الشرع تعبدي كله فقد عطل الحكمة ولم يفهم الشريعة حق فهمها وجعلها شرع جمود وآصال مع أنها موصوفة في القرآن بضد ذلك قال تعالى: (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم( [سورة الأعراف، آية: 157]، كما رد عليهم توهمهم بأن القول بالتعليل قول بأن الله يكون فاعلا بالعلة وأن ذلك يستلزم أيضا القول بالتحسين والتقبيح العقليين، فليس المقصود بالعلل تعليل أفعاله تعالى حتى يكون فاعلا بالعلة والاضطرار وإنما هي علل شرعية علل الشارع الحكم بها وأداره عليها وجودا وعدما ، ونصبها أمارة عليه فلا غرض ولا علة لأفعاله تعالى ومسألة التحسين والتقبيح العقلي لامساس له بالتعليل، فالعقل يمكن أن يدرك حسنها وقبح ضدها لان الشرع أرشد إليه  لا أن العقل له استقلال في ذلك.

المطلب الثاني: قانون التجديد والاجتهاد وفق روح الشريعة ومقتضيات العصر

إن المتتبع للنفس المقاصدي لدى الحجوي  رحمه الله يجده يركز بالكثير على الدعوة إلى التجديد وفق مقتضيات العصر، وإجراء جانب مهم من أحكام المعاملات وفق روح الشريعة كما أنه عند استعراضه للشخصيات الكبرى في الاسلام يحاول قراءتها قراءة يلامس فيها جوانب تطبيق علم المقاصد في اجتهادهم ، فحينما استعرض سيرة عمر بن الخطاب ومنهجه الفقهي المقاصدي، قال:  «لو أن عمر أدرك شرعة القيصر الروماني جستنيان وطبيعة ترتيبه للشورى على هيئة البرلمان لأخذ بها دون تردد قياسا على الروح العمرية التي أخذت دواوين الفرس».

 والفقيه الإسلامي عند الحجوي هو ابن وقته وفترته وعصره ومن هنا يلح على ضرورة التجديد وانبثاق المجددين ، فعندما استعرض سيرة محمد بن عبد الوهاب قال فيه:«.... وفي الفروع مذهبه حنبلي غير جامد على تقليد الإمام أحمد ولا من دونه بل إذا وجد دليلا أخذ به، وترك أقوال المذهب فهو مستقل الفكر في العقيدة والفروع معا».

كما انه رحمه الله يذم التقليد والمقلدين وأبدى فكرة تجديد الفقه الذي وصل إلى حد الهرم أو العدم ، وأرشد إلى ذلك بإصلاح التعليم ونبذ كتب المتأخرين التي هي كلها جمل غث على رأس جبل وحث على ابعادها عن التعليم، وتأليف كتب مدرسية للتعليم الابتدائي والثانوي تكون على نسق المتقدمين فقها مستقلا مستنتجا من أصول الكتاب والسنة والاجماع والقياس، فيكون بذلك تربية للناشئة على الاجتهاد والاستدلال الفكري، ثم الالتجاء في التعليم النهائي إلى كتب المتقدمين كالموطأ والمدونة والام وأمثالها، ولابد من الإشارة هنا إلى موقفه من تعليم المرآة فهو يدعو إلى تعليمها بضوابط الشرع لانها المدرسة الأولى للناشئة.

وتتمثل دعوته التجديدية كذلك في رؤيته لجانب المعاملات فهو مجال خصب للاجتهاد في ضوء قضايا العصر وعلى الفقيه أن ينظر فيه إلى الاشياء على ان أصلها الاباحة وعدم المنع، كل ذلك مع مراعاة النصوص وما تقتضيه أحكام الشريعة السمحة يقول: «إن مصلحة الامة والشريعة معا تقتضي التوسيع في ابواب المعاملات بما لا يخالف النصوص والمجمع عليه» وبين موقفه من هذا بقوله: «وإني من الذين يعتدلون في الأحكام وفي الفلسفة الفقهية ولا يغرقون فيها، ولا يرون الاسترسال في الاقيسة والتحمل في استنباط أحكام بمنع معاملات كثيرة لم يصرح نص بمنعها ولا تضيق على الأمة في سبيل رقيها لانه موجب لفقرها، واحتكار تلك المعاملات لغيرها، ولم يجعل الله شريعة من الشرائع منافية لناموس الاجتماع.... ولا سيما الشريعة العامة الأبدية».

 كما يحمل الاجتهاد عند الحجوي دعوة إلى الانفتاح على أوربا، ولاسيما على الدولة الحامية والاخذ منها بكل ما يشكل أسس قوتها: نظامها وعدلها وتعليمها واقتصادها، وفي هذا الصدد يقول الحجوي: «من مصلحتنا الاكيدة أن نجعل يدنا في يدها، وأن نصافيها، ونتحد معها، حتى ينهض المغرب من كبوته للمستوى اللائق بمجده التاريخي ومكانته بين الامم، ولكن هذا الانفتاح لا يعني الاندماح الكلي في حضارة الغرب، بل يحب المحافظة على الشخصية المغربية الإسلامية المتجدرة في اعماق التاريخ».

 المطلب الثالث: قانون التيسير وعدم التضييق

يرى الفقيه الحجوي أن التضييق مثلا في المعاملات على الأمة يجر عليها وبال الفقر في حين غيرها من الامم تزداد رقيا وتقدما يقول رحمه الله : «ولا يشك أحد أن تضييق ومنع الامة من كثير منها يوجب فقرها، وما افتقرت أمة إلا وضاع مجدها وذهب سؤددها، إذ المال عصب لكل مجتمع إنساني».

ويقول: «ولو أن الجمهور حملوا تدخل الشرع فيها ـ في المعاملات ـ على حفظ مصالح الخلق وجعلوا الأحكام فيها كلها دائرة على هذا الاصل لاتسعت أبواب المعاملات على المسلمين لكنهم أدخلوا فيها التعبد لما قام عندهم من الأدلة على قصده فضاقت المعاملة».

ولا يعني هذا العمل بالأقوال المرجوحة وترك العمل بالمشهور  بل لا يجوز العمل بالمرجوح، إلا المجتهد لانه له رجحانه فلا يبقى ضعيفا عنده ولا عند من قلده أو لضرورة دعت المقلد العمل به في نفسه يوما ما، وما لجأت إليه المحافظة على النفس والدين والنسل والمال والعرض والعقل فهو في رتبة الضروريات، ويلحق بهذا ما كان في رتبة الحاجيات، وما كان في رتبة التحسينيات فلا يعتبر مرخصا في الخروج عن المشهور.

المطلب الرابع : قانون الواقعية

من مواطن السداد في تجربة الحجوي ما اتصفت به من واقعية  في معالجة نوازل الواقع، ويرجع هذا الأمر إلى  الأبعاد الثلاثة لشخصية الحجوي ( الفقيه ، التاجر، الموظف المخزني) والتي تجسدت في منهجه التحديثي المتمثل بالأخذ يما يدعو العصر إليه ويقتضيه من الاخذ بأسباب التمدن والرقي على نحو ما تفوق به الغربيون، وما يقتضيه الاسلام متى فهم على حقيقته وأمكن الوقوع فيه على المقاصد الحق للشريعة، وأخيرا ما يقول به واقع الدولة المزدوج في المغرب والمتمثل في وجود الدولة والدولة الحامية معا».

المطلب الخامس : قانون الامر بالمعروف والنهي عن المنكر

 ويظهر هذا القانون جليا في رسائل الحجوي الى كل من المولى عبد العزيز و المولى عبد الحفيظ وذلك بتقديمه مقترحات إصلاحية  في مذكرات يتعرض فيها إلى فساد الشؤون الإدارية والعسكرية وكذا اضطراب  الأحوال السياسية في المغرب فواجبه كفقيه هو إسداء النصح إلى أولي الأمر، فكان ناصحا ومعينا للسلطان على الخير ، ولهذا نجده يبعث إلى المولى عبد الحفيظ بالرسالة الأولى ولكن السلطان لم يعرها اهتماما، ثم عاوده بالثانية مع الشيخ أبي شعيب الدكالي ، وباستقراء الرسالة واستنطاقها نجدها رسالة تنم عن وعي عميق بالسنن التاريخية ـ آخذا العبرة من التاريخ القديم ، مواكبا لأحداث العالم، ما وصلت إليه الأمم من الرقي بسبب تنظيمها لإدارتها، واحترامها الحقوق، وضبط الاموال وتدريب الجيوش ونشر العلوم، معتمدا في ذلك المنهج الوصفي القائم على وصف الحال، والمنهج المقارن إذ أنه كان يقارن في هذه الرسالة بين حال المغرب وحال الدول الاوربية  والدول الشقيقة مصر وتونس في مجال العلم والتعليم ، فهو يعلم أن التاريخ القديم والحديث عبر وذكرى ولذلك فهو يعتبر ان عدم اهتمام المسلمين بالتاريخ هو مدخل من مداخل إفساد حالهم، وانحطاط شأنهم ، يقول: «وها هو التاريخ قد تنوسي أمره عندنا حتى كاد أن لا يعد علما، ولا يوجد بالقرويين الان درس تاريخي على أهميته».

المطلب السادس : قانون التدرج

يظهر هذا القانون جليا في فتواه بخصوص تعليم البنات ، فهو واع ـ تقول بنعدادة ـ بأن الإسلام لا يمنع المرأة من التعلم ولا يوقفها عند حدود معينة، كما لا يمنعها من تعلم علوم تؤهلها لممارسة وظائف مختلفة، ولكنه يراعي الوسط الذي تعيش فيه أو كما يعبر عن ذلك: «بالذوق الحاضر» أو «بالذوق الوطني» ويقول في هذا الشأن : «إننا والله في حاجة إلى المرأة التي تعلم البنات وتهذبهن، والطبيبة والقابلة المولدة والممرضة وطبيبة الاسنان... ولكن ذلك غير موافق للذوق الحاضر وللغيرة التي طبع عليها المسلمون، إن الحجوي يومن بالتطور التدريجي ويأخذ الوعي التاريخي في المجتمع المغربي بعين الاعتبار..».

المطلب السابع : قانون التعاضد المتين بين العقل والعلم والدين

كانت السوق العلمية في عصر الحجوي سوق فتاوى ونوازل ولم تكن سوق تنظيرات وبناءات نسقية، لقد كان الفكر الإسلامي في تجليه الفقهي في المغرب في فترة الحجوي يتمز بخاصيتين:

 الأولى: أنه كان يعالج «القضايا والمسائل الوقتية» بحسبها نوازل تستدعي البت فيها من حيث إنها كذلك «فقد كان الفقيه المغربي، في مواجهة سؤال يتصل بالحياة العملية وبوجوب الاخذ بتقنية أو اختراع جديد يفضل النظر في المعضلة باعتبارها «نازلة» تستدعي الفتاوى العامة».

 الثانية:  أن الفقيه المغربي المعاصر كان قليل الاحتفال بمعرفة ما إذا كان الواقع الجديد القائم يجد من الاسلام اعتراضا أو ترددا  في القبول والموافقة...فإن ما كان يعتبر عند مفكري الاسلام في عصر النهضة من أسئلة النهضة ... كان غير وارد عند الفقيه المغربي في العقود الأولى من القرن العشرين.

ولعل كتابات الحجوي ثم بعد ذلك كتابات علال الفاسي هي التي سترفع الخطاب الإسلامي في المغرب إلى مستوى الخطاب  النظري النسقي والذي سيبلغ ذروته في «النقد الذاتي» ومن هنا جدة الحجوي في محاضرته العلمية، وهي الجدة التي تكمن في إثارة سؤال نظري قوي وتطبيق منهج قديم على واقع جديد.

فالعلاقة بين الدين والعقل والعلم هو إشكال قديم يرجع إلى بواكير ظهور الفكر الكلامي في المجتمع الإسلامي واحتد فيه الجدل الكلامي بين المعتزلة والاشاعرة، لكن جدته مع الحجوي تظهر في تتبعه منهجية فريدة في زمانه حيث عالجه متوسلا بثقافة عصره وموظفا مقاربة تجمع بين المقاربة الفقهية الاصولية والمقاربة الفلسفية،  ليعمل على استبعاد جميع صور التعارض بين العقل والدين منتصرا للجمع بينهما مؤكدا أن الاسلام يوافق العقل ولا يناقضه، وأن الشرع مستقل غير مفتقر لغيره لكن يعضده العقل، وأن كل ما جاء في الشرع لا يدفعه العقل، فليس العقل فوق الدين ولا الدين فوق العقل «لأن الفوقية معناها إنهما يتناقضان».  حقا إن العقل «عاجز عن الاستقلال بإدراك الحكم المقصود من الأحكام الدينية وإلا كان إرسال الرسل عبثا» ، لذلك كان العقل تابعا للشرع ، وما ضل المعتزلة وقالوا بالتقبيح والتحسين العقليين وأوجبوا على الله الصلاح والاصلح إلا بمتابعة العقل وجعله مستقلا وتحكيمه بإطلاق، وبهذا ينفي الحجوي أن يكون الدين فوق العقل والعلم، ولا أن يكون العقل والعلم فوق الدين، فالعلاقة بينهم ليست مبنية على التنافر والاصطدام، بل على التوافق والتكامل.

خاتمــــة:

في حقيقة الأمر «الحجوي» قدم مشاريع إصلاحية اخرج بعضها إلى حيز الوجود بفضل تقلبه في مناصب مخزنية، لكن ظلت غالب رؤاه الإصلاحية كما يقال حبر على ورق، لان المستعمر والمخزن لم يفتحوا أمامه المجال كبيرا لتطبيقها، إضافة إلى الأحداث والوقائع التي كان يعاني منها المجتمع، هذا المجتمع الأمي، الجاهل في عمومه الذي لم يستسغ فكرة الإصلاح، لقد كانت رؤاه قوية جدا تفوق زمانه يحاول إصلاح وتغيير الواقع ويستشرف المستقبل، ومن ثمة يمكن القول أنها تجربة انطلق صاحبها من مقتضيات الوحي وسنن التاريخ سواء الخاص أو العام المتمثل في معرفة مستوعبة لما وصل إليه الاخر من الرقي .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. سعيد بن سعيد العلوي، الفكر الإصلاحي في المغرب المعاصر، دار المدار الإسلامي الطبعة الأولى 2007.

2. سعيد بن سعيد العلوي، الاجتهاد والتحديث، دراسة في أصول الفكر السلفي المغربي الطبعة الثانية 2001.
3. محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي،الفكر السامي في الفقه الإسلامي، دار الثراث، المكتبة العلمية، المدينة المنورة 
4. اسية بن عدادة، الفكر الإصلاحي في عهد الحماية محمد بن الحسن الحجوي نموذجا، المركز الثقافي العربي  الطبعة الأولى سنة 2003
5. عبد المجيد النجار، تجربة الإصلاح في حركة المهدي بن تومرت ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي الطبعة التانية سنة 1995
6.  حسن أحمد الحجوي، العقل والنقل في الفكر الإصلاحي المغربي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى سنة 2003
7. إبراهيم اعراب، سؤال الإصلاح والهوية، من السياق السلفي إلى مشروع الحداثة، إفريقيا الشرق 2007
8. إبراهيم اعراب ، الفكر السلفي بالمغرب وإشكالية التحديث، مجلة بصمات العدد الخامس منشورات كلية الاداب ابن مسيك، الدار البيضاء، 1990
9. محمد عابد الجابري نقد العقل العربي 2 بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة التاسعة  أغسطس 2009
10. جمانة طه، المرأة العربية في منظور الدين والواقع، دراسة مقارنة، منشورات اتحاد كتاب العرب ، دمشق طبعة 2004
11. نصر حامد ابو زيد مجلة مواقف  قضية المرأة عدد 39، 2005
12. مدارات فلسفية، مجلة الجمعية الفلسفية المغربية عدد 11، خريف 2004.

المصدر: http://www.alquran.ma/Article.aspx?C=5664

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك