مستقبل الدولة الدينية في العالم العربي

رضوان السيد

انطرح موضوع الدولة الدينية بقوةٍ من جديد في المشرق العربي في العامين الأخيرين في ظلّ الثورات العربية. وقد حصل أمران متناقضان؛ إذ كانت شعاراتُ الثورات ودعواتُها للدولة المدنية الدستورية الديمقراطية؛ إنما الذين سادوا الأجواء بعد الثورات، وشكّلوا حكوماتها الأُولى المنتَخَبة كانوا من الأحزاب السياسية الإسلامية الذين يرفعون شعاري الإسلام هو الحلّ، واستعادة الشرعية من طريق تطبيق الشريعة مبادئَ وأحكاماً. وقد دار وما يزال يدورُ جدلٌ هائلٌ بشأن سائر هذه المفاهيم في النظر والممارسة مثل الدولة الإسلامية، والدولة المدنية، ومرجعية الشريعة، والعلائق بين الشريعة والدولة، وبين الدين والدولة. ومما يدلُّ على التباس المفاهيم، وغَلَبة مقتضيات الصراع السياسي على ما عداها أنه حتَّى انتخاب الدكتور محمد مرسي عضو جماعة الإخوان المسلمين رئيساً لمصر؛ فإنّ الإخوان المصريين على الخصوص ما كانوا يقبلون رفع شعار الدولة المدنية لالتباسه في نظرهم بالدولة العلمانية؛ لكنهم يقولون الآن بالدولة المدنية، دون أن يتناقضَ ذلك في نظرهم مع مرجعية الشريعة في الدستور والقانون ومسألة المواطنة التي تقتضي مُساواةً في الحقوق والواجبات بين المواطنين، بما في ذلك المشاركة الكاملة في السلطات والتساوي أمام القانون من كلِّ وجه!

فما هي الدولة الدينية في التاريخ والممارسة الحديثة؟ وكيف تطور النقاش حولها في البيئات العربية والإسلامية في القرن العشرين؟ وما هو مستقبلُها في الفكرة والممارسة في السياقات الجديدة التي اصطنعتها الثورات أو حركات التغيير العربية؟

I

لقد كان هناك دائماً تداخُلٌ وتشابُكٌ بين الدين والدولة، دون أن يُسقِطَ ذلك التمايُزَ بينهما وفي تجارب سائر الأمم والأديان؛ لكنّ نظرية أو نظريات الدولة الحديثة لا تملكُ نموذجاً واضحَ المعالم للدولة الدينية غير النموذج الكاثوليكي فيما بين القرنين العاشر والسابع عشر للميلاد. وفيه أنّ البابا هو في الوقتِ نفسِه رأس الكنيسة، ورأس الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة، أو هو رأس الإمبراطورية، وهو الذي يُتوِّجُ الملوك؛ لأنه رأسُ الكنيسة. وبالطبع ظلّت هناك مؤسستان: دينية وسياسية، لكنّ الكنيسة تستقلُّ بالشأن الديني، وتُشارك من موقع المرجعية العليا في إسباغ الشرعية أو نزعها في المجال السياسي. وقد ظلّت مسألةُ القانون مختلطة؛ فالكنيسةُ نفسها -ومنذ توما الأكويني على الأقلّ- كانت تقولُ بالقانون الطبيعي، وقد تطور لديها قانونٌ كَنَسي؛ لكنه ما كان يُطبَّقُ إلاّ في الشؤون الكَنَسية والدينية (تشكيل الجهاز الديني من فوق إلى تحت في سائر الديار المسيحية، وحقُّ التحقُّق من صحة واستقامة إيمان الأفراد والجماعات وممارستهم، وقضايا الأحوال الشخصية، وقضايا التربية الدينية والعامة). وقد سبق الإصلاحُ الديني الإصلاحَ السياسي؛ إذ ما استطاع الملوك والأُمراء الإقطاعيون النجاح في التمرد على السلطة السياسية للكنيسة إلاّ بعد تقدم حركة الإصلاح البروتستانتي التي رفعت وصاية الكنيسة عن إيمان الأفراد وعقائدهم. فالعلمانية- إذا صحَّ التعبير- حدثت في المجال الديني قبل المجال السياسي والعامّ؛ فالحرياتُ الفرديةُ أو فكرتُها على الأقلّ حدثت أوَّلاً في الجانب الديني. وفي القرن السابع عشر وما بعده تطورت العلمانية بالمعنى الفكري ثم بالمعنى السياسي، وقد حدث ذلك على أربع مراحل: الأولى: تحرر الملوك من سلطة الكنيسة. والثانية: ظهور فكرة الإرادة العامة والعقد الاجتماعي. والثالثة: ظهور فكرة "سلطة الشعب" والتي أنْهتْ تماماً مرجعية الكنيسة، والحقّ الإلهي للملوك. والرابعة: الدولة الوطنية والقومية ذات السلطة المطلقة، والتي مرت بمرحلتين: فصل السلطات، والاقتراع العامّ.

II

تعود الفكرة القائلة: إنّ الإسلام لا يقول أو لا يدعو إلى الدولة الدينية إلى نقاش المفكر اللبناني الأصل فرح أنطون مع الشيخ محمد عبده مفتي مصر في مطلع القرن العشرين، وكان فرح أنطون يتابع النقاشات الهائلة التي دارت في فرنسا بعد قضية دريفوس، وعادت خلالها الدعوات المتحمسة إلى العلمانية الفاصلة بقوةٍ بين الدين والدولة، وضرورات إخراج الدين من المجال السياسي والعام، ومن التربية. وقد رأى أنطون أنّ العلمانية يمكن أن تكونَ حلاًّ أيضاً في المجتمعات الشرقية كما قال، بسبب النزعات الطائفية التي تتدخل في الشأن السياسي والعام، وفي حريات التعبير والإبداع العلمي في التاريخ والحاضر، واستشهد أنطون على ذلك بالاضطهاد الذي تعرض له ابن رشد في الدولة الإسلامية، وكيف نشرت آراؤه التحرر عندما تُرجمت أعمالُهُ الفلسفية إلى اللاتينية. وردَّ محمد عبده على فرح أنطون بأنّ التاريخ الإسلامي أو التجربة الإسلامية الوسيطة لم تعرف نزاعاً بين الدين والدولة؛ لأنّ الإسلام لا يملك كهنوتاً أراد السيطرة على الدولة، كما أنّ الإسلام ما اضطهد علماءَ الطبيعة أو الفلك؛ بل إنّ القرآن دعا للعلم بقوة، والأحداث القليلة لهذه الناحية إنما كانت لأهدافٍ سياسية؛ ولذا فإنّ الدعوة للفصل بين الدين والدولة في المجتمعات الإسلامية هي دعوةٌ في غير محلِّها. ومنذ ذلك الحين سادت في التفكير الإسلامي الفكرة القائلة: إنّ الحكومة في الإسلام مدنية؛ لأنه ليس فيه كهنوتٌ ومؤسسةٌ دينيةٌ تفرض تصوراتها وأحكامَها في المجال العامّ، شأن ما حصل في أوروبا في الأزمنة الوسيطة والحديثة. وجاء كتاب علي عبد الرازق عام 1925 -"الإسلام وأُصول الحكم"- ليؤكد الفكرةَ نفسَها ويمضي لأبعد من ذلك بالقول: إنّ النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- جاء بالدعوة الدينية وما كان زعيماً سياسياً؛ لكنّ ردودَ الفعل العنيفة على كتابه -من جانب معاصريه وحتى اليوم تقريباً- أشارت إلى ظهور سياقاتٍ جديدةٍ في أوساط ذوي التفكير الديني، على أثر إلغاء مصطفى كمال بتركيا للخلافة عام 1924. ولكي يكونَ واضحاً ما نقصِدُهُ بالسياقات الجديدة نُلاحظ أنّ الخلافة التي جرى الاحتجاجُ على إلغائها كانت قد فقدت جوانبها السياسية منذ أجيالٍ وأجيال، وأنّ البلدين اللذين تصاعد فيهما الاحتجاج على إلغائها إلى حدود الفجيعة كانتا مصر والهند، وما كانا خاضعَين في نظامهما السياسي لدولة الخلافة العثمانية أو الإسلامية منذ احتلال بريطانيا لهما، وهكذا فإنّ الموضوع ما عاد سياسياً بل صار عقائدياً، أو أنه فكر الهوية الذي استعلى وما يزال منذ الثلث الأول من القرن العشرين المنقضي.

لقد اقترن الاحتجاج على إلغاء الخلافة بظهور جماعات الهوية الإسلامية في صورة أحزابٍ وحركاتٍ تدعو لصَون هوية الأمة وشخصيتها في مصر والهند. في مصر: حركة الإخوان المسلمين (1928)، وفي الهند بعد حركة إحياء الخلافة: الجماعة الإسلامية (1941). ولدى هاتين الحركتين تطورت فكرة الدولة الإسلامية، وقد ساد في فكرهما وبرامجهما موضوعان رئيسان: إحلال الشريعة محلَّ الأمة أساساً للشرعية، والإيكال إلى الدولة وظيفةً جديدةً وأساسية هي: تطبيق الشريعة. وفي حين اعترف أبو الأعلى المودودي (1979) -زعيم الجماعة الإسلامية- بأنّ النظام السياسي الإسلامي فيه ازدواجية بمعنى أنه ثيوقراطي/ ديمقراطي، ظلَّ الإخوان المسلمون المصريون يقولون: إنّ نظام الحكم في الإسلام مدني، إنما الحاكمية فيه لله -عزَّ وجلَّ-، والمرجعيةُ فيه للشريعة التي يكونُ على الدولة أن تطبقها لتعدّ دولةً إسلامية! 

وفيما بين الستينات والتسعينات من القرن العشرين المنقضي جرت التطورات التالية:

أوَّلاً: تبلورت مقولة "النظام الإسلامي الكامل" لدى الحركات الإسلامية المتحولة إلى أحزابٍ عقائديةٍ صارمة في كلٍّ من مصر وباكستان، تقول بحتمية "الحلّ الإسلامي" وتُوافقُها عليه حركاتٌ وأحزابٌ أُخرى تتباينُ قوةً وضَعْفاً في سائر الدول العربية والإسلامية. وقد حصل ذلك في سياقين: سياق الدولة الوطنية التي يبنيها العسكريون -بحسب أنور عبد الملك- والتي اصطدم بها الإسلاميون اصطداماتٍ مُدَوّية. وسياق الحرب الباردة التي ما انتشرت اصطفافاتُها على مستوى الدول في ظهور العسكرين وحسْب؛ بل داخَلَ هذا التعسْكُرُ الاصطفافات بالداخل في أكثر بلدان آسيا وإفريقيا.

ثانياً: انشقّت عن الأحزاب الإسلامية الكبيرة جماعاتٌ جهاديةٌ خاضت الصراع المسلَّح من أجل الحلّ الإسلامي بدواخل البلدان ومع الخارج العالمي، في حين ظلّت الأحزاب الكبيرة تحت سقف الأنظمة، وجرَّبت المشاركة في مؤسسات النظام بالقدر المسموح به، ونجحت في عدة أمور: التحول إلى أبرز أحزاب المعارضة الداخلية، والإصرار على شعاري الإسلام هو الحلّ، وتطبيق الشريعة، مع الانتشار الواسع في المجتمعات. وإرغام الأنظمة على شيء من أسلمة الدساتير، والاحتفاظ بالبنية المتماسكة رغم التعرض لضغوطٍ شديدةٍ ومستمرة.

ثالثاً: قامت الثورة الإسلامية في إيران على مقولات إسلاميي مصر وباكستان نفسها؛ لكنها عندما انتصرت؛ فإنّ المؤسسة الدينية الإيرانية -ممثَّلةً بالإمام الخُميني- فرضت نظام "ولاية الفقيه" الذي يشبه مزدوجةَ المودودي، أي ثيوقراطي/ ديمقراطي، يختلطُ فيه لاهوتُ الإمامة القديم، مع رئيسٍ للجمهورية وبرلمان يتكونان بالاقتراع العام. بينما بقيت الحزبيات الإسلامية السنية نوموقراطية- إذا صحَّ التعبير- أي أنّ الأَولوية في النظام أو المرجعية للشريعة وليس للمرشد أو الإمام.

رابعاً: أدَّت الممارسة الطويلة للأحزاب الإسلامية إلى نوعٍ من التلاؤم مع الأنظمة وترتيباتها، ومع المعارضات الأُخرى، وقد أدَّى ذلك إلى صدور عدة إعلانات تقول بالديمقراطية والتعددية والسلمية؛ لكنّ مقولة: "الشعب مصدر السلطات" ما وجدت مكاناً، كما أنّ العلاقات بالطوائف والأديان الأُخرى ظلّت مضطربةً بسبب عدم الاستناد إلى مبدأ المواطنة.

III

في شتاء عام 2011 اتّجه شيخُ الأزهر بمصر إلى إصدار وثيقة عن" مستقبل نظام الحكم في مصر"، وشارك فيها شيوخٌ من الأزهر وليبراليون مسلمون ومسيحيون، وأعضاء في جماعة الإخوان المسلمين والسلفيون. وقد جاء في الوثيقة أنّ نظام الحكم في مصر دستوري ديمقراطي تعددي، ودين الدولة هو الإسلام، والشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع، كما جاء في دستور عام 1971. وما اعتبرت الوثيقة نظام الحكم مدنياً؛ لأنّ الإخوان اعترضوا على ذلك لاشتباه المدني بالعلماني؛ لكنهم ومنذ انتخاب د. محمد مرسي رئيساً للجمهورية يسمُّون نظامَ الحكم -كما سبق القول- نظاماً مدنياً، والدولة المصرية دولةً مدنيةً قائمةً على المُواطنة التي تُسوِّي بين المواطنين في الحقوق والواجبات؛ بيد أنّ القَلَقَ ما يزالُ يُساوِرُ الليبراليين المصريين، ويُساوِرُ الأقباط على الخصوص. فعلى مشارف الاستفتاء على الدستور الجديد، وانتخابات مجلس الشعب الذي حلّتْهُ المحكمة الدستورية، يعودُ الإخوان والسلفيون إلى ترديد شعارات الإسلام هو الحلّ، وتطبيق الشريعة. وتبدو الأمور في تونس أوضَح وأَسهل، فهناك شبهُ اتفاقٍ على إبقاء المادة في الدستور الجديد والتي تقول: الإسلامُ دينُ الدولة، واللغة العربية هي اللغة الرسمية. وقد أصدر الإخوان المسلمون السوريون بياناً قال بالدولة المدنية؛ فهم أقرب إلى وجهة نظر حركة النهضة التونسية؛ لكنّ الإخوان المسلمين الأردنيين أدنى إلى وجهة نظر الإخوان المصريين. فهناك وجهتا نظر رئيسيتان إذن: وجهة النظر التي تقتصر على اعتبار الإسلام دين الدولة، ووجهة النظر التي تُضيفُ لذلك اعتبار الشريعة مصدراً رئيساً للتشريع كما في مصر، أو مصدراً وحيداً كما في اليمن. وفي حين يُصرُّ العلمانيون المتشدّدون -كما في تونس وسورية- على رفض تحديد دين الدولة؛ فإنّ هناك كثرةً كاثرةً من الليبراليين بمصر وغيرها تميلُ إلى التسليم بتحديد دين الدولة بأنه الإسلام؛ لكنْ عندها مشكلةٌ في مسألة النصّ على الشريعة باعتبارها مصدراً للتشريع. وهناك تفصيلٌ آخر في إشكالية الشريعة؛ فالسلفيون يريدون النصَّ في الدستور على أنّ أحكام الشريعة هي مصدر التشريع؛ في حين يُصرُّ الآخرون على الاكتفاء بذكر الشريعة أو مبادئها، كما جاء في وثيقة الأزهر.

وهكذا -وبعكس الانطباعات الأولية بعد قيام الثورات- ليس هناك أملٌ حاضرٌ في قيام الدولة المدنية الصافية، أو الدولة التي لا دينَ لها، كما في الليبراليات الغربية المُعاصرة.

وفي ظلّ هذه المعطيات، ما هو مستقبلُ الدولة الدينية، أو مستقبلُ علاقة الدولة بالدين في منطقتنا وليس في العالم؟ لدينا اليومَ في المنطقة ثلاثةُ نماذج غير تقليدية لعلائق الدين بالدولة: الدولة اليهودية على أرض فلسطين، ودولة ولاية الفقيه في إيران، والدولة العلمانية في تركيا والتي يتولى إدارة النظام السياسي فيها حزبٌ إسلامي هو حزب العدالة والتنمية. أما الدولةُ اليهوديةُ فيتجاوزُ الأمرُ فيها مسألة الهوية؛ لأنّ الحاخامية العُليا هي التي تحدد من هو اليهودي، وبالتالي مَنْ هو الذي يستطيع الحصولَ على الجنسية أو المُواطنة. ولدى الجماعات الدينية المتشددة في إسرائيل وضْعٌ خاصٌّ وامتيازات حتَّى أولئك الذين من بينهم لا يعترفون بحقوق الآخرين بالكيان، كما أنهم لا يقولون بالخدمة في الدولة. وأمّا في إيران فإنّ الدستور لا يحدّد هوية الدولة بأنها الإسلام وحسْب، بل يعتبر أيضاً المذهب الجعفريَّ مذهباً سائداً. والوضع الخاصّ والصلاحيات الكبيرة للمرشد الأعلى سببُها أنه وكيلٌ للإمام الغائب، ويتمتع بصلاحياته كلِّها تقريباً كما لو كان حاضراً(= الولاية العامة). وهكذا ورغم حضور الاستفتاءات والانتخابات على عدة مستويات؛ فإنّ القوانين تُميّز بين المواطنين، وهذا التمييز ليس بين الشيعة وغيرهم فقط؛ بل وبداخل الجماعة الشيعية، فيمن له حقُّ الترشُّح للانتخابات، أو المناصب. فإذا كان التمييز في الكيان الإسرائيلي بين اليهود وغيرهم؛ فإنه مزدوجٌ في النظام الإسلامي الإيراني: بين الشيعة وغيرهم من جهة، وبداخل الشيعة على أساس الولاء والثقة. وتبدو المعايير لمدنية الدولة أكثر انطباقاً على الوضع التركي؛ فالدولةُ بحسب الدستور ضامنةٌ للحقوق الأساسية للمواطنين، وفي البلاد فصلٌ بين السُلُطات، والقضاءُ سلطةٌ مستقلةٌ يمكن الاحتكامُ إليها في مسائل الحقوق، وحتى وصول حزب إسلامي للسلطة أتى شاهداً على مدنية الدولة وديمقراطيتها. 

وبالنظر لهذا كُلِّه ينطرحُ السؤالُ ثانيةً عن مستقبل الدولة الدينية في العالمين العربي والإسلامي؟

فلنعُدْ إلى الوضع المصري فماذا نجد؟ هناك جمهورٌ هائلٌ لأحزاب الإسلام السياسي وإن لم يشكّل الغالبية؛ لكنّ قوتها آتيةٌ من جهةٍ أُخرى من توزُّع خصومها السياسيين وتناثُرهم وعدم وجود أحزاب شعبية كبيرة ذات أيديولوجيا غير إسلامية؛ ولذا فإنّ إسلامية الدستور تبدو محسومةً لهذه الجهة، وإن كان الراجح الإبقاء على الشريعة ومبادئها وليس أحكامها. إنما هناك من جهةٍ أُخرى تقاليد الدولة في مصر، وبيروقراطيتها التي تقاوم الاستيلاء بدرجةٍ أو أُخرى، وهناك علاقاتُها الخارجية بالمحيط العربي وبالعالم. وهذه عواملُ أثّرت وستؤثّر على طبيعة تطور النظام السياسي، وقد أظهر الإخوان حتَّى الآن نزوعاً براغماتياً قوياً في المسائل السياسية والاقتصادية، وفي إشراك القوى السياسية والثقافية من اتجاهاتٍ مختلفة. وبالنظر للعَلَنية والنقاش الحرّ ووسائل الإعلام؛ فإنّ أوليفييه روا Olivier Roy يرى أنه لا مستقبل للدولة الدينية لا في مصر ولا في العالم العربي، فحركات التغيير العربية دفعت باتجاهاتٍ أُخرى لا تستطيع أحزابُ الإسلام السياسي التنكُّر لها؛ ولذا فهو يُرجِّحُ مساراً متعرجاً بتونس ثم بمصر ينتهي إلى ما انتهى عليه الأمر في تركيا أو إندونيسيا. واستناداً إلى هذا التقدير اعتبر Roy وآخرون أنّ حركات الإسلام السياسي هذه قد تكون فرصةً لاختراقٍ باتجاه الحداثة والعصرنة التي يدخلها الجمهور بسبب وجود أحزابه في السلطة. وأنا لا أجادل في حتمية المسار المدني، ولا في براغماتية الإخوان؛ لكنه أمرٌ كبيرٌ وفيه مجازفةٌ القولُ: إنّ أحزاب الإسلام السياسي تشكّل فرصة؛ لأنّ الفرصة تعني وجود استعدادات عقائدية وفكرية وثقافية لاجتراح آفاق تنويرية وتطويرية باسم الإسلام، ولستُ أرى نزوعاً نهضوياً في الفكر ولا في الحركية الثقافية العامة لتيارات الإسلام السياسي بعامة، والإخوان بشكلٍ خاصّ. ولذا فالأحرى القول: إنّ وصول الإسلام السياسي للسلطة بمصر على وجه الخصوص يشكّل تحدياً لقياداته وكوادره بشكلٍ خاصّ، وللمفكرين والمثقفين العرب بشكلٍ عام. نعم، لا مستقبل للدولة الدينية في دول الربيع العربي على وجه الخصوص، لكنّ المسار المتعرج الذي تحدث عنه Roy فيه عقباتٌ كثيرةٌ ليست اقتصاديةً أو سياسية، بقدر ما هي فكرية وثقافية. هناك استعمالٌ كثيفٌ للإسلام في الحياة العامة باتجاهين: اتجاه الذهاب إلى أنه نظامٌ كاملٌ قادرٌ على حلّ كل المشاكل. واتجاه الاستخدام في الصراع على السلطة ليس بين الإسلاميين وغيرهم، بل وبين الإسلاميين أنفُسهم. وفي هذين الاستعمالين أو الاستغلالين -أي إدخال الدين في بطن الدولة- أخطارُ عرقلةٍ في تطور النظام السياسي، وأخطار شرذمة واضطراب على المستوى الديني. وهذا الالتباس في المفاهيم والممارسات يتطلب نهوضاً وحركةً نقديةً وتنويرية، لا تبدو متوافرة، وهكذا يظلُّ الأمر متروكاً للحياة السياسية الحُرة ونقاشاتها، والتي يتعرف عليها أهل الجمهوريات الخالدة بعد أن غابت لخمسة عقود.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/9/194

الأكثر مشاركة في الفيس بوك