اعتراف الإسلام بالدول غير المسلمة من منظور ليبرالي
بقلم: مناف الحمد
في الوقت الذي لا يوضح فيه المعتقد الكلاسيكي حقاً مطلقاً بالاعتراف بالسياسات للدول غير المسلمة، يؤكد كتاب محدثون الوجه الدفاعي للجهاد، ويتبنون الجهاد خارج البلد الإسلامي كمسموح به عندما يعاق انتشار الإسلام السلمي أو عندما يضطهد المسلمون الذين يعيشون بين غير مؤمنين.
السؤال: هل توضح أي من عقائد هؤلاء المفكرين تشابكاً مع معايير ليبرالية حديثة لاعتراف دائم؟ وهل الأسباب المعطاة للتسامح والتقييد تلتقي مع معايير أخلاقية؟
لمعرفة إمكانية اعتراف الإسلام بدول غير مسلمة لا مناص من سبر غور مفهوم الحرب في الإسلام، وهل هي دفاعية أم هجومية.
وللنقاش داخل الفكر الإسلامي عن الحرب الدفاعية بعدان:
الأول: إن الغالبية العظمى من سور القتال تصف عقيدة الحرب الدفاعية مثل الآية “وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ” (سورة البقرة الآية 190)، وأن السور الهجومية “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ” (سورة التوبة آية73) تفهم في سياق عدوان يواجه من قبل جيل المسلمين الأول من عرب وثنيين أكثر منه موقفاً عاما تجاه غير المسلمين.
الثاني: أن واجب الجهاد الأساسي ليس إزالة أنظمة غير مسلمة، أو إبادة غير مؤمنين، لكنه واجب الدعوة لغير المسلمين إلى رسالة الإسلام الكونية.
النقاش الإسلامي الحديث للأسس القرآنية للجهاد الهجومي المشروح من قبل قطب والمودودي وآخرين يعتمد على نظرية المراحل المتتابعة للحرب، والسور الأخيرة تؤسس خطوطا نهائية للحرب وعلاقات مع غير مؤمنين في عملية النسخ للسابق من السور التي تعتبر أحكامها مؤقتة؛ فقطب مثلا يعتبر الجهاد واجبا لدفع الفتنة والأذى أولاً ولتبليغ الدعوة وإزالة العقبات من طريقها ثانياً، فصحيح أنه لا إكراه في الدين ولكن بعد تبليغ الدعوة، ولإقامة نظام الإسلام الذي يلغي عبودية غير الله.
بينما تميل المدارس الحديثة إلى اتباع منهج فحص كل السور، ومحاولة الوصول إلى تفسير مستند إلى اعتبارها جميعاً مع بعضها في سياق الوحي في ظرفه التاريخي. وتعتبر هذه المدارس أن ما يظهر من تعارض بين السور التي تحرض على الجهاد الهجومي وتلك التي تحرض على الدفاعي ليس تضارباً بين السور، ولكنه تغير في الأحكام بدالة تغير ظروف الدعوة وهو ما يؤكده – بحسب هذه المدارس- سلوك النبي وخلفائه ولأجل هذا يجب أن تقرأ السور في مجموعها وبدون فصلها عن الرسالة الكلية.
توضح هذه المدارس أن الأصل في العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين هو السلام والدعوة إلى الإسلام، وأن العنف مبرر فقط في الاستجابة لعدوان واضطهاد وخيانة مثل التي ووجه بها محمد وأصحابه من مشركي العرب والبيزنطيين والفرس.
فيما يتعلق بالسور التي تبرر الجهاد التوسعي يسارع كتاب محدثون إلى استنتاج أنها جميعاً تتعامل مع الخصومة بين المجتمع المسلم وبين العرب المشركين على أنها تقليد تفسيري كلاسيكي واضح، وخصوصاً في ظل انتهاك المشركين للعهود مع الدولة المسلمة.
ومن المحاولات المهمة محاولة شرمان جاكسون الباحث الأمريكي المسلم الذي يقول إنه يجب معاملة الآيات في سياقها؛ لأن المعالجة القرآنية للحرب عكست الوقائع الأساسية والاجتماعية والتاريخية للقرن السابع الهجري، وهي تعكس الحاجات الخاصة بمسلمي ذلك الزمان بالتوافق مع النموذج السائد آنذاك للحياة.
ويعمد جاكسون إلى اللجوء إلى مناهج أصول الفقه لدعم دعواه بضرورة تغيير العقائد الإسلامية، وهو يعتبر أن الدينامية الحركية هي افتراض طبيعي للقانون الإسلامي، ويقتبس من الفقيه المالكي شهاب الدين القرافي من فقهاء القرن الثالث عشر الاجتهاد القائل إن تبني أحكام مستنتجة على أساس تقليد حتى بعد تغير التقليد (العرف) هو انتهاك للإجماع.
حتى ضمن هذا السياق فسور عديدة تصرح أن العقود “يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود” (الآية 1 سورة المائدة) مع المشركين الذين دخل معهم المسلمون في حلف لا يجوز انتهاكها طالما أنهم لم يخونوا، ولم يساعدوا أحداً ضد المسلمين لذا فمن الواجب إنجاز الالتزامات معهم حتى النهاية لأن الله يحب البر.
وهو مثل بقية المحدثين يرى أن الآيات القرآنية جاءت في سياق حرب البقاء مع الأعداء المكيين، وفي سياق عالم وسمته حالة الحرب بشكل عام.
وهو ما يختلف معه عموم الفقه الكلاسيكي حيث عكست كتابات الفقهاء المسلمين الاستمرار في عكس المنطق السائد لحالة الحرب، وافتراض أن الجهاد ليس وسيلة فقط لضمان الأمن والحرية للمسلمين، ولكن وسيلة لتحقيقهما، وهو ما جعل عقيدة الاعتراف المتبادل بدول غير مسلمة لا أثر لها في التقليد الفقهي القر وسطي الذي ظل ما هو مركزي فيه هو الفكرة اليوتوبية عن عالم محكوم بالإسلام.
ولكن إذا استندنا إلى الرؤية الحديثة التي جئنا بمثال عنها، وإذا صحت هذه الرؤية فإن أوصاف القرآن، وتفسيرات الفقه للحرب قد استند كلاهما إلى تفاعل مع ظروف محددة مؤقتة، ومع تغيرها يصبح المطلوب أن تراجع القواعد الفقهية الكلاسيكية.
يركز جاكسون على تفسير قطب للآية 29 من سورة التوبة “قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ” والذي لا يعتمد على أمر إلهي، لكن على اعتبار أن عداوة اليهود والمسيحيين حقيقة تاريخية ومتأصلة تجاه المسلمين.
ويرى جاكسون أن فهم قطب للعقيدة القرآنية للعلاقات بين المسلمين وغير المسلمين مرتبطة بقراءته للنص قراءة داخلية غير سياقية لاستخراج معنى منه؛ لأن القرآن يؤسس بوضوح مدى متنوعاً من المواقف الممكنة والسلوكيات من جانب اليهود والمسيحيين تجاه المسلمين.
قطب يفسر تلك الآية المذكورة آنفاً بطريقة تبدو معتمدة على تجربته الخاصة مع مواقف اليهود والمسيحيين تجاه المسلمين. ووفقاً لهذا الافتراض فإن على المرء أن يعترف أنه إذا لم نستخدم طريقة القرافي الدينامية فقطب محق بكل تأكيد في استنتاجه.
ولكن إذا افترضنا ان اليهود والمسيحيين لم يعودوا أعداء للمسلمين، أو أنه توجد ميكانيزمات سياسية تمنعهم من التصرف بهذه العدائية فيمكن لقطب نفسه ولأتباعه ان يقتنعوا بالتنازل عن عدم الالتزام بشن جهاد ضد اليهود والمسيحيين، وبأن الدعوة أفضل من تغيير القوانين البشرية، وأن الأصل هو ضرورة صيانة العهود مع غير المسلمين.
والسؤال هل الدفاع عن النفس يزيد أو يقل عما هو منصوص عليه في القانون الدولي؟
وهل المفهوم الإسلامي الحديث للدفاع عن رسالة الإسلام يفتح الطريق لتبرير حروب ليست دفاعية؟
هل يوجد تمييز واضح بين مفهوم الدعوة المستخدمة من قبل الحداثيين وتلك المستخدمة من أمثال سيد قطب؟
وهل حماية حرية الدين، والدفاع عن المهمة الإسلامية تخدم كتعبير ملطف لتغيير النظم السياسية العلمانية؟
معظم الكتاب يتوقون لمقارنة عقيدة الجهاد الصحيحة بالقانون الدولي.
يبدو الزحيلي بشكل خاص قلقا في تجنب أي غموض في عقيدته الخاصة بالحرب وكيف تختلف عن العقائد الكلاسيكية.
فهو يعتبر أن الأصل في العلاقات مع الأمم غير المسلمة هو السلام ما لم تمنع نشر الدين، أو تبادر بالعدوان وهو سلام غير مرتبط بدفع مال أو بعهود معينة؛ لأنه هو الأصل وهو الأكثر انسجاماً مع رفعة الإسلام وميل رسالته الكوني.
يمكن توضيح الإشكال هنا في رؤية خالد عبد القادر:
يستخدم عبد القادر تنويعة من التعابير لوصف أفعال أو سياسات تلغي حالة عدم العدوان المتبادل بعضها غامض (الفتنة في الدين) العدوان تجاه دولة إسلامية، (الاعتداء على الدين وعلى الدعوة الإسلامية)، أو انتهاك العهود (نقض العهود) فيمكن للحرب أن تشن بشكل مشروع لأغراض مساعدة المضطهدين “مؤازرة المستضعفين” أو إزالة الطواغيت"، وإذا سدت الدولة الطريق أمام الدعاة فمن الواجب قتالها.
توجد مشكلتان يمكن أن ينطوي عليهما هذا الموقف:
الأولى: أنه يمكن ان يبدو أنه ينطوي على مواقف معينة تجاه المجتمعات غير المسلمة التي قد تكون على المدى الطويل غير متوافقة مع مواقف أخرى للتسامح والاعتراف.
الثانية: أنها يمكن أن تتمخض عن نتائج دعم دول أخرى غير مسلمة تتناقض مع أهداف دولة المواطنة التي يعيش فيها المسلمون كأقلية.
الأولى أكثر تحديدا لأن هذه العقيدة تكرس عدم مساواة بين المجتمعات المسلمة وغير المسلمة لأن الحق بتبني الدين حق كوني، ويجب بالمقابل بناء على هذا الحق السماح بضمان حرية التبشير لمبشرين غير مسلمين بممارسة تبشيرهم في دولة ذات أكثرية مسلمة.
فلا شك في أن الليبرالية تعتبر نفسها ملزمة بحرية تبني الدين كمبدأ عام، فلا يوجد ليبرالي يعتبر الفعل العسكري استجابة مناسبة مع الفشل في ضمان مثل هذه الحرية.
كما ان المواطن المسلم في الديمقراطية الليبرالية الذي يناصر بشكل صارم عقيدة الجهاد الحديثة سيجد نفسه ملزما بدعم جهاد لغرض فتح الدولة غير المسلمة لفعالية التبشير الإسلامية بغض النظر عن كيفية تأثيرها على مصالح خاصة لدولته أو مصالح عامة يضمنها القانون الدولي.
إن معالجة المنظرين الحداثيين للجهاد تظل معالجة محكومة بفكرة معالجة الخطأ والزيف في العالم وإنجاز كونية الإسلام.
وهي يمكن أن تساهم في عقيدة مواطنة، ولكنها تفتقر إلى التزام بغاية مدنية عامة وإيجابية مع مواطن غير مسلم منفصل عن محاولات تحويله إلى الإسلام.
ومن هنا فإن الاعتراف بدول غير مسلمة في الفكر الإسلامي بسبب عدم انفصاله عن مفهوم الجهاد حتى في صوره التي تحاول الارتقاء عن الصور الكلاسيكية أو القطبية وغيرها يظل قاصراً عن المفهوم الليبرالي الذي يتطلب تخلياً عن الاستعلاء الإيماني الممارس من قبل المسلم، وقدراً أكبر من التواضع فيما خص النظرة الإصلاحية للزيف الموجود في العالم.