ثقافة التسامح الديني
ثقافة التسامح الديني
حسن بحر العلوم
إن مبدأ (التسامح الديني) كان في المقدمة من المبادئ التي قام عليها الايمان في الإسلام، منطلقاً من أن هذا الدين إنما هو دين العدل والسماحة والإخاء، وشرعة التعايش الإنساني، وأصول الوفاق والسلام.
أكد هذا المبدأ القرآن الكريم بما احتواه من آيات بينات، تدعو صراحة إلى التسامح الديني، بما يعنيه هذا المفهوم من حرية المعتقد الديني، وما يكفل لغير المسلمين من حق ممارسة طرائق عبادتهم ومزاولة أصولها وطقوسها بحرية وأمان، ومعاملتهم على نحو إنساني متفتح لا استعلاء معه، ولا تمييز ولا إكراه، وما قد يعبر عنه بصيانة الحقوق والحريات الدينية والدنيوية...
ومن تلك الآيات البينات قوله تعالى: ((لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم)) ( ). وبهذا ينتفي الإكراه الديني في الإسلام وتتكرس حرية الأديان الأخرى، ويحل الإيمان والإقناع محل الإكراه والعسف.
وقوله تعالى: ((لكم دينكم ولي دين)) ( )، حيث يتم الاقرار بالأديان الاخرى.
وقوله تعالى: ((فذكّر إنما أنت مذكّر * لست عليهم بمسيطر)) ( )، حيث ينفي استخدام وسائل الإكراه والسيطرة لإقناع الناس بالإسلام.
وقوله تعالى: ((فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً، إن عليك إلا البلاغ وإنا إذا أذقنا الإنسان منّا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور)) ( ).
وأكد هذا المبدأ الرسول الكريم (ص) بما أوصى به عند كل مناسبة، ومن ذلك قوله (ص): (من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسه، فأنا حجيجه يوم القيامة) ( ). وقال (ص): (من قذف ذمياً حُدَّ له يوم القيامة بسياط من نار) ( ). وقال (ص): (من آذى ذمياً فقد آذاني) ( ).
وفي ذلك دلالة واضحة ومؤكدة على تحريم انتهاك حقوق مؤمني الأديان الاخرى الذين تعاهدوا مع الإسلام للعيش في مجتمع واحد.
ولعل في الرجوع إلى ما فاضت به مؤلفات المسلمين، عمّا أحيط به الذميون وأهل العهد ـ وبخاصة المسيحيين ـ خلال معظم المراحل التاريخية الإسلامية من رعاية إنسانية مثلى، ما يعبر عن أروع نماذج التسامح الديني في مجالي التعايش العقيدي والتعايش الإجتماعي، وربما لا يمكن تفسيرها بغير خصوبة الفكر السياسي الإسلامي عقيدة ونهجاً وسلوكاً. ومن هنا، فلنتابع منعطفات أبرز بعدين من أبعاد هذا التسامح، وبشيء من التفصيل. رغم أن هذا الاقرار بالرعاية لا ينفى اجراءات تعسفية صدرت عن هذا الحاكم أو ذاك، أو عن هذا الوالي أو ذاك طبقاً لاجتهادات شخصية قد تتنتاقض مع النص على حرمة الأديان الاخرى من الإنتهاك.
التعايش العقيدي
دعى الإسلام إلى الإيمان برسالات الأنبياء السابقين، دون تفريق بينها. قال تعالى: ((قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرّق بن أحد منهم ونحن له مسلمون)) ( ).
وبذلك فقد أرسى الإسلام ركائز الإيمان برسالات السماء فضرب مثلاً رائعاً من أمثال الإنفتاح الفكري واللاأنانية، وكان السبّاق بين غيره من الأديان في هذا المجال.
ومن خلال هذه النظرة، اعترف الإسلام بجملة عقائد هذه الأديان ولم يميّز بين كتابي وكتابي، ولا بين ذمي وذمي، فمكّنهم جميعاً من أن يشعروا ويتحسسوا بوجودهم العقائدي تمكيناً واضحاً، فسمح لهم بإقامة شعائرهم حسب ما تمليه عليه أصول عبادتهم وطقوسهم.
كما وجعل لهم الحرية في التخلف عن دعوة القضاء إذا صادفت هذه الدعوة يوماً من أيام أعيادهم. وأكثر من هذا، فقد قيل: بأن بعض الخلفاء كانوا يحضرون مواكب النصارى وأعيادهم ويأمرون بصيانتها، إنهم كانوا في حالة انحباس المطر يدعون إلى تنظيم مواكب يسير فيها النصارى وعلى رأسهم الأساقفة واليهود ومعهم النافخون بالأبواق.
ولقد لفتت صور هذا التسامح الديني وملامحه المشرقة انتباه المستشرق السير توماس آرنولد فدوّن في مؤلف له هو (الدعوة إلى الإسلام) الكثير من الحقائق التاريخية بهذا الصدد، ومنها قوله (حقاً إن الكنيسة المسيحية قد قويت وتقدمت في رعاية المسلمين وحكمهم، فلم يمنعهم الحكم الإسلامي من التقدم والرقي، بل إن النسطوريين من السريانيين لم تظهر فيهم الحماسة والغيرة الدينية إلا بعد أن كانوا في حكم المسلمين).
وقوله (كان المسيحيون بمذاهبهم المختلفة يتمتعون بحسن الرعاية والتسامح من الحكام المسلمين، بل كان هؤلاء الحكام هم الذين يمنعون اضطهاد بعض المسيحيين لبعضهم ويكفلون لهم جميعاً الحرية الدينية).
على أن التعايش لم يقتصر امتداده نحو التعامل مع المسيحيين واليهود فحسب، وإنما كثيراً ما كان الخلفاء في القرن الرابع الهجري يأمرون بصيانة حريات الصابئة والتخلية بينهم وبين مواريثهم وترك مداخلتهم ومشاركتهم فيها.
بل قد اعترفوا للمجوس أيضاً بأنهم أهل ذمة شأنهم في ذلك شأن النصارى واليهود، فكان لهم كما كان للمسيحيين واليهود رئيس يمثلهم في قصر الخلافة وبعض الدواوين الحكومية.
التعايش الإجتماعي
انطلاقاً من مبدأ التسامح الديني في الإسلام، فقد قررت تعاليم هذا الدين وجوب المساواة بين المسلمين وغير المسلمين، والتكافؤ بينهما في الحقوق والواجبات ضمن نطاق لا يغير سيادة الدولة الإسلامية، أو يفقدها مقومات نموها وازدهارها، ومتطلبات أمنها واستقرارها.
وسعياً لتطمين هذه الغايات، فقد ألزمت الدولة الإسلامية نفسها بمهمات الدفاع عن الذميين القاطنين في أقاليمها، والذود عن حقوقهم المدنية وحرياتهم الشخصية، والقتال من أجلهم، شأنها في ذلك شأن ما تفعله إزاء المعتدين على رعاياها من المسلمين لقاء طاعتهم لأنظمة الدولة وقوانينها، ودفع ما يترتب عليهم من جزية عادلة كانت تقوم مقام الضريبة المالية التي تسقط عنهم واجب حمل السلاح وحماية إقليم الدولة من الاعتداء الخارجي.
وبذلك فقد قدم الإسلام نموذجاً مشرفاً من الحرص على أمن الذميين وإرساء ركائز هم بحاجة إليه من طمأنينة عملاً بقوله تعالى: ((إن الذين أمنوا والذين هادوا والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون)) ( ).
وبهذا الصدد يذهب آرنولد إلى القول (تحت نظام من الأمن يضمن الحرية في الحياة والملكية والعقيدة الدينية قد تمتع المسيحيون ـ وبخاصة في المدن ـ بثروات كبيرة ونجاح عظيم في العصور الأولى للإسلام، فكان منهم ذوو النفوذ الكبير في قصور الخلفاء).
أما من حيث مشاركة الذميين للمسلمين في تقلد مناصب الدولة ووظائفها العامة، فإنه بالرغم من أن منطق العهود السابقة، ذاك الذي يفرض على المسلمين الإستئثار بوظائف الدولة والإنفراد بإدارة مهامها آنذاك، إلا أنه كثيراً ما أشرك خلفاء الدولة الإسلامية في عهدي الأمويين والعباسيين بعض المسيحيين واليهود في إدارة مؤسساتها وتولي بعض مناصبها الهامة وتكليف النابهين من النصارى بالإشراف على تربية وتعليم أبنائهم.
وإلى جانب هذا النمط من الإنفتاح على أهل الذمة والكتاب، فثمة جانب آخر ينبئ عن منازع الإسلام الخيّرة من خلال الاستعانة بالنصارى في نقل العلوم والثقافات اليونانية والفارسية والهندية في عهد الدولة العباسية، وما أفضت إليه هذه الحركة العلمية من توسيع منافذ الإنسجام الروحي بين معتنقي الديانتين الإسلامية والمسيحية، وما كان لهذا الإنسجام من الأثر الكبير على مستقبل العلائق الإنسانية بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات ولا سيما المسيحيين منهم.
ذلكم غيض من فيض مما تمثلت به أبعاد التسامح الديني في الإسلام.
أما ما قيل، حول تفشي نزعة التعصب الديني الذميم بين المسلمين لغيرهم من معتنقي الديانات الأخرى وسوء معاملتهم لهم... فإنه بالرغم من غلو ما قيل وما روّجه بعض الباحثين الغربيين من خلال تصويرهم لبعض الوقائع تصويراً مشوهاً ومجافياً للحقائق الموضوعية والتاريخية فإن مبادئ الدين الإسلامي وتعاليمه النيرة السمحاء المبرأة من كل عيب، ما كانت لترتضي ذلك التعصب أو تغفره.
وبدون أن نبرر بعض الإنتهاكات التي تنافت مع مبادئ الإسلام فإن المسيحية على سبيل المثال شهدت حروباً دامية بين مذاهبها، فكانت الحروب الدينية قد طبعت مرحلة مهمة من مراحل التاريخ الأوروبي، وقد اضطهدت بعض الدول المسيحية اليهود وجعلتهم ينزوون عن الحياة وينعزلون عن المشاركة العامة وينتبذون مكاناً قصياً ومنعزلاً لسكناهم بحيث ظهر مصطلح (الجيتو) للدلالة على العزلة اليهودية في المجتمعات المسيحية. وأكثر من ذلك ظهرت ثقافات تستهزئ باليهود وتسخر من عاداتهم وتقاليدهم وطقوسهم وعباداتهم وتصفهم بمختلف الصفات السلبية، الأمر الذي لم يحصل في المجتمعات الإسلامية التي عاشوا فيها بأمان واحترام دون أن تكون لمثل تلك الثقافة مكان لا في العقيدة الإسلامية ولا في الإجراءات الرسمية ولا في المواقف الاجتماعية.
ومهما يكن من أمر فإن مبدأ التسامح الديني في الإسلام كان وما زال في طليعة المبادئ الدينية الإسلامية الواجبة الإلتزام والإحترام في النظرية والتطبيق.
المصدر: http://server/2011/warehousing.php?do=item_addnew