مسؤولية النخب الدينية والثقافية في الحفاظ على سلم المجتمعات وتضامنها

محمد بن الطيب

تمهيد:

تشهد المجتمعات العربية والإسلامية على وجه العموم وعلى نحو متفاوت تحوّلات سياسية واجتماعية واقتصادية متسارعة، وقد رافقت تلك التحولات ضروب من العنف تفاوتت من بلد إلى آخر، وهو ما هدّد السلم الاجتماعي في بعضها وقضى عليه في أخرى، وأثار شقاقاً بين الناس، وزرع فِتَناً بات يُخشى تأثيرُها المدمّر لنسيجها الاجتماعي، وامتدادُ عدواها إلى البلاد المجاورة، وتهديدُ وحدتها الوطنية، وخطرُها على تضامن فئاتها وأفرادها. 

ولئن كانت الأسباب التي أدّت إلى ذلك كثيرة، والبواعث التي أفضت إليها متعدّدة، والعوامل التي ساعدت عليها معقّدة؛ فإنّ من الظواهر الغريبة التي تلفت نظر الملاحظ أنّ من أبرز من أسهم في إذكاء نار الفتن وتأجيج أُوارها، وسعى في تفتيت المجتمعات وانقسامها نخباً كان يُفترض أن تكون عنوان اتّحادها وصمام أمانها.

فقد رأيناها -فيما كان يكتب أعلامُها، ويخطب خطباؤها ويصرح به زعماؤها في وسائل الإعلام، وفيما يبدو من جدالها وسجالها في منابر الحوار المختلفة- لا تسعى إلى توحيد الصفوف، ولمّ الشمل، والدعوة إلى السلم، والحثّ على التحابُب والتضامن، والحضّ على التناصر والتساعد؛ وإنّما تنزع في الأغلب الأعم إلى الدفاع عن مصالحها الفئوية، وانتماءاتها المذهبية الضيقة، وألوانها الحزبية المحدودة، غير عابئة بمصلحة بلدانها ووحدة أوطانها وأمن شعوبها. والأمثلة على ذلك كثيرة؛ إذ يكفي أن نقرأ الجرائد أو نشاهد البرامج الحوارية الصاخبة حتى نكتشف ما فيها من خطابات مشحونة بالعنف والتعصب والتناكر والتدابر، مملوءة بالكره والتباغض، موسومة بشيْطنة الآخر المختلف وعدم الاستعداد للاعتراف بحق المخالف، كأنّ التعايش بين المختلفين ضرب من المستحيل، أو لكأنّ بُقعة الإمكان الوحيدة هي التنافي والتدابر، فليس إلاّ الفراق والشقاق. فهل من مجال بعدئذ للحديث عن وحدة المجتمعات وسلمها وتضامنها أمام هذه الأخطار التي تهدّدها من داخلها بسبب عقوق أبنائها.

ولعل ذلك ما يستدعي البحث في الدور شبه الغائب للنخب، وهو الحفاظ على سلم المجتمعات وتضامنها، سواء أكانت نخبا دينية أم ثقافية. وللاستدلال على حيوية هذا الدور وضرورته، وعلى أنّ تلك النخب قد تخلّت عنه في الأغلب الأعمّ، ولم تتحمّل مسؤوليّتها فيه، بل نهضت بنقيض ما هو مطلوب منها، يتعيّن علينا أن نضبط مفهوم النخب الدينية والنخب الثقافية أولا، ثم نُلْمع إلى ما كانت تنهض به قديماً من دور في توحيد المجتمعات وإشاعة السلام فيها والحثّ على تضامنها وتعاضدها وتساعدها، ثمّ نعْرِض لهذا الدور في العصر الحديث.

ولمّا كان الموضوع بعيد الغور متّسع المدى، فإنّنا سنقْصِر الحديث فيه على المجال التداولي العربي الإسلامي فهو الذي يعنينا أوّلاً، وسنسلك سبيل التمثيل والتقريب؛ إذ لا سبيل إلى الإحاطة والاستقصاء.

I - في مفهوم النخب الدينية والثقافية:

1- مفهوم النخبة:

شاع استعمال مفهوم النخبة للدلالة على الصفوة من الناس في المجتمع، يتميّز أفرادها بالتفوق على عامّة الناس في العلم والمعرفة، وباتّساع الباع في الثقافة وحدّة الذكاء وقوّة الفطنة، وهو ما يؤهّلها لدور القيادة ويبوّئها مقام الريادة، فهي طليعة المجتمع التي تقوده إلى التمدّن، وتؤهله إلى التقدم، وتُسهم في ارتقاء وعيه، وتوجّهه إلى تحقيق ما يصبو إليه في جميع الميادين. غير أنّ مجال اهتمامنا في هذا المقال هو الحديث عن النخبة الدينية والنخبة الثقافية بالخصوص.

فالأُولى -كما يدلّ عليها نعتها "الدينية"- تشمل صفوة المشتغلين بالدين تعليما وتدريسا ووعظا وإرشادا وممارسة وتطبيقا، فيندرج ضمنها الدعاة والفقهاء والأئمة والخطباء والزهّاد والمتصوّفة وسائر المشتغلين بالعلوم الدينية شرطَ أن يكون لهم في مجتمعهم حضور بارز ومقام مؤثّر ونفوذ معنوي واسع. وأمّا النخبة الثقافية فتشمل المثقفين على وجه العموم من الكتاب والأدباء والمفكّرين والفنانين والصحفيين وسائر المشتغلين بإنتاج الأفكار ونقدها وتأويلها.

وبما أنّ كِلا الفريقين يستخدم سلطة الكلام أو الكتابة ويعمل في حقل الإنتاج الرمزي؛ أي ينتج أو يستخدم السلع الرمزية المتمثّلة في العقائد أو النصوص والخطابات أو سواها من المُنتَجات الثقافية، ويتصرّف باعتباره صاحب حُظْوة وامتياز، فهو إذن يعدّ نفسه في طليعة المجتمع وينتمي إلى نخبته الممتازة وصفوته المختارة(1).

2- في مفهوم المثقّف:

إنّ كلمة "مثقّف" حديثة في اللغة العربية وافدة في ثقافتها، وربما لم يتجاوز تاريخ استخدامها مطلع القرن العشرين(2) ويجد الناظر في كتابات الباحثين والمفكرين العرب تعريفاتٍ للمثقّف متعدّدةً كثرةً، متفاوتةً سعةً وضيقًا، متفاضلة عمقا وإحكاما. وليس المجال مناسبا لاستعراضها إذ يمكن العودة إليها في مظانّها(3)؛ ولكنّنا سنستصفي منها ما نراه أنسب بمقامنا وأليق بسياقنا. 

إنّ أصل كلمة "مثقّف" في اللغات الأوروبية يعني الفطنة والذكاء والتعقّل، أو القدرة على الإدراك والفهم والاستنتاج، ومن ثمّ تعني الصفة منها العاقل المتفهم الذكيّ الفَطِن وتُطلق على الرجل الذي يُحسِن التفكير. وتطلق كلمة "المثقّفين" على أهل الفكر، وهم نخبة من المجتمع صفاتها البارزة المميزة هي ذكاؤها وفطنتها وقوّتها العقلية وطاقتها الفكرية، هذا هو معنى المصطلح لغويّا. ومن ثمّ فإنّ كلّ إنسان ذكيّ يَبْرُز ذكاؤه وفكره وفهمه على سائر مواهبه الأخرى في حياته ومجتمعه فيكون عمله عقليّا، هو مثقّف(4).

إنّ المثقّف هو الذي يفكّر بوضوح وسِعَة أفُق، وينأى عن التقليد والجمود، سِمَتُه البارزة معرفتُه مجتمعَه معرفة حقيقية ومباشرة، والتفاهمُ مع قومه(5)، والانغماسُ في هموم شعبه ومشكلات مجتمعه، والقدرةُ على تحليلها وإفهامها الآخرين وتقديم الحلول لها. وعلى العكس من ذلك فإن الذي تُبسط أمامه مشكلات يعانيها مجتمعه ومعضلات يقاسيها شعبه؛ ولكنّه لا يستوعبها، ولا يدري أنّها تتعلق بحياته، فيرى أنّها ليست من شأنه -في حين أنّها يُفترض أن تكون في طليعة اهتماماته- لا يعدّ مثقّفا أصلا. 

ومن هنا فليس المثقّف وحده هو الذي يزاول عملا فكريّا، فمن الممكن أن يزاول أحد أفراد المجتمع عملا بدنيّا أو يدويّا وهو يحسن الفهم والتفكير، ويتميّز فكره بسعة الأفق، ويمكن على العكس من ذلك أن يزاول غيره عملا عقليّا ذا أساس فكري، وينتمي بمقتضى ذلك إلى أهل الفكر ولا يُعدّ مثقفا. ألَسْنا نرى أُناسا نعرفهم ونلتقي بهم كلَّ يوم تعلّموا تعليما عاليا ويقومون بأعمال عقلية؛ ولكنّهم مع ذلك لا يفهمون مجتمعهم، ولا يُلْقُون بالاً إلى قضاياه، ولا يحفلون بشؤونه. فهؤلاء لا يُعدّون مثقّفين؛ لأنّهم لا يتميّزون بوضوح الرؤية وعقلانية القرار وقوّة الانتماء الاجتماعي، ولكنّ مزاولتَهم أعمالا عقلية تجعل الناس يظنّون أنّهم من المثقّفين، وليسوا كذلك؛ لأنّهم ليسوا مستنيرين(6) فالمثقّف هو "ذلك الشخص القادر على فهم حركة المجتمع من حوله أو الذي يحاول فهم هذه الحركة، ومن ثمّ اتّخاذ موقف فكري منها قد يكون أساسا لبناء مشروع حول طبيعة هذه الحركة ومستقبلها"(7).

3- دور المثقّف في المجتمع:

يتحدّد وضع المثقّف إذن لا بنوع علاقته بالفكر والثقافة، ولا لكونه يكسب عيشه بالعمل بفكره لا بيده؛ بل يتحدّد وضعه بالدور الذي يقوم به في المجتمع مشرّعا ومعترضا ومبشّرا بمشروع، أو على الأقلّ صاحب رأي وقضية، إنّه ضمير المجتمع(8) فلا تكتمل صورة المثقّف، بل ولا يكون أهلاً لحمل هذه الصفة ما لم يستكمل وظيفته المعرفية بوظيفته الاجتماعية التي" تخرجه من فرديته إلى كينونة اجتماعية أعلى يدرك فيها صلات المعرفة بالاجتماع المدني والسياسي، بهذه الوظيفة المضافة يولد معنى المثقف ولادة جديدة تخرج به من لحظة "أنا أفكر" إلى لحظة "أنا أمارس"(9).

فالمثقف هو "الشخص الملتزم والواعي اجتماعيا بحيث يكون بمقدوره رؤية المجتمع والوقوف على مشاكله وخصائصه وملامحه، وما يتبع ذلك من دور اجتماعي فاعل من المفروض أن يقوم به لتصحيح مسارات اجتماعية خاطئة"(10). ومن ثمّ فإنّ ما يميّز المثقف صفتان أساسيتان: الوعي الاجتماعي الذي يمكنه من رؤية المجتمع وقضاياه من زاوية شاملة ومن تحليل هذه القضايا في مستوى نظري متماسك، والدور الاجتماعي الذي ينهض به(11).

إنّ المثقفين هم الذين ينهضون بدور القيادة والتوجيه في المجتمع؛ ذلك أنّهم يحملون صفات ثقافية وعقلانية مميزة تؤهّلهم للنفاذ إلى المجتمع والتأثير فيه بفضل المنجزات القيمية الكبرى(12). "وتقوم وظيفتهم على إنتاج الخطابات الضامنة لهُويّة الجماعة والقيم المركزية السائدة فيها وبثّها في الزمان والمكان"(13). و"يمكن اعتبارهم حمَلة سلطة رمزية ثقافية وفكرية"(14). ولذلك لاحظنا أنّ المثقفين الكبار في كلّ العصور يسْتمْسِكون بالمعايير الخالدة للحقّ والعدل(15)، فنجدهم يتحدّون السلطة الغاشمة، ويفضحون الفساد ويدافعون عن الضعفاء، يقول جوليان بندا (Julian Benda): "تراني بحاجة إلى تذكير القارئ بمعارضة فينيلون وماسيون لبعض حروب لويس الرابع عشر؟ أو كيف أدان فولتير تدمير الحكومة القائمة في مقاطعة الراين البلاطينية؟ أو كيف أدان رينان ما لجأ إليه نابليون من أعمال العنف؟ وكيف استنكر المؤرخ البريطاني (السير توماس هنري) "باكل" ما أبدته إنجلترا من مظاهر الضيق والتعصب في معارضتها للثورة الفرنسية؟ أو ما أبداه نيتشه في زماننا هذا من شجب للأعمال الوحشية التي ارتكبتها ألمانيا ضد فرنسا"(16).

ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى الدور الذي نهض به تشومسكي (Chomsky) في معارضته الحرب الأمريكية في فيتنام، وسارتر في معارضته الوجود الفرنسي في الجزائر "كلاهما عارض راديكاليّة حرب إمبريالية تحت شعار قيم مغشوشة (الدفاع عن الغرب، الصراع ضد "الهجمة الشيوعية")(17).

وعلى النقيض من هؤلاء المثقّفين الذين حملوا لواء الدفاع عن السلم، ورفعوا شعار التضامن بين الأمم، يحدّثنا إدوارد سعيد عن خيبة الأمل في مثقّفي أمريكا فيقول: "إنّ "المناقشات التي جرت في سياق فترة ما بعد الحرب الباردة التي أنشأتها هيمنة الولايات المتّحدة على التحالف الغربي، وظهر فيها اتفاق الآراء حول ما يسمى النزعة الإسلامية الأصولية باعتبارها الخطر الجديد الذي حلّ محلّ خطر الشيوعية. وهنا لم يؤدّ التفكير الجماعي إلى اتّخاذ المثقفين مواقف التفكير النقدي الذي يتّسم بالتساؤل والتشكّك في داخل ذهن الفرد لدى أفراد يمثّلون اتّفاق الآراء المذكور، بل يتشكّكون في أسسه العقلانية والسياسية ناهيك بأسسه المنهجية، بل لقد تحوّل المثقّفون إلى جوقة تردّد صدى النظرة السياسية السائدة، فزادوا بذلك من سرعة اندفاعها وانضمامها إلى الفكر الجماعي، وتدريجيّا إلى القول بما يزداد طابعه اللاعقلاني باطراد القول بوجود الآخر الذي يمثله الضمير "هم" الذي يتهدّدنا "نحن" ويمثّل خطراً علينا. والنتيجة هي التعصب والخوف، لا المعرفة والتواصل أو المشاركة."(18) وهكذا عوض أن يكونوا دعاة سلام وتعارف وتآلف كانوا مساعير تباغض وتناكر، وبدل أن يكونوا في طليعة المبشّرين بالسلام بين الأمم والتآخي بين الشعوب في عالم أضحى قرية صغيرة بفضل أدوات التواصل العالمية؛ كانوا في مقدّمة المحرّضين على الكراهية والتعصّب والصراع والتقاتل، فلا يمكن أن يعدّ هؤلاء مثقّفين على الحقيقة.

إنّما المثقّفون أفراد يحملون رسالة فكرية حضارية، وكثيرا ما يتطلّع إليهم مواطنوهم في أوقات الشدّة للدفاع عنهم، "فالمثقفون البارزون تربطهم علاقات رمزيّة بزمانهم، فهم يمثّلون في وعي الجماهير العريضة معاني الإنجاز والشهرة وذيوع الصيت، وهي قيم تستطيع الجماهير تعبئتها لصالح الكفاح الدائر، أو لصالح مجتمع تحاصره الصعاب والتحديات"(19).

من هنا نتبيّن جسامة المسؤوليّة المُلقاة على عاتق النخَب المثقّفة، إنّ دورهم في العالم اليوم يشبه الدور الذي كان ينهض به قادة التغيير والتبديل؛ أي الأنبياء والمرسلين في المجتمعات القديمة، فقد كانوا يؤسّسون مبادئ جديدة، ورؤى مستحدثة، وحركة دائبة، وطاقة متجدّدة في أعماق وجدان مجتمعاتهم وعصرهم، تلك الحركة العظيمة التي تجتثّ جذورا وتغرس جذورا، وتغيّر أوضاعا وتبدّل ظروفا كانت سببا في تبديل مصير مجتمع ساكن راكد عن طريق الرسالة النبوية(20).

إنّ أعظم مسؤوليّات المثقّف وأسمى أهدافه أن يمنح المعرفة والوعي للجماهير الضعيفة؛ لأنّ الوعي هو الخلاّق للعبقريات العظيمة، وإنّ مسؤوليّة المثقّف في زمانه هي القيام بدور النبوّة في مجتمعه حين لا يكون نبيٌّ، ونقل الرسالة للناس ومواصلة نداء الوعي والخلاص في مسامع الجماهير.

وإنّ أعظم دور للمثقّف في مجتمعه هو أن يقف على السبب الحقيقي لانحطاط المجتمع، ويكشف عن علّة تخلّفه وركوده، ثمّ يقوم بعد ذلك بتنبيه مجتمعه الغافل الغائب عن الوعي إلى ذلك، ويهديه إلى الحلول المثلى للخروج من ذلك الوضع المأسوي مراعيا في ذلك إمكاناته وحاجاته(21).

وما من شكّ في أنّ من أسمى أهدافه أن يسهم بما لديه من مواهب إبداعيّة وقدرات إقناعيّة وتوجيهيّة فائقة في نشر الوعي لدى مواطنيه بضرورة الوحدة ونبذ الفرقة وإشاعة السلام والوئام والإعراض عن العنف والصدام، وأن يتعايشوا جميعاً مهما اختلفت مذاهبهم وأعراقهم واتّجاهاتهم متضامنين متآزرين متعاونين؛لأنّ ذلك هو شرط نهوضهم وتقدمهم ورقيّهم وتمدّنهم.

والحقّ أنّ هذه المعاني لم تكن على وجه العموم غائبة عن أذهان نخبنا الدينية قديما؛ ولكنّنا نراها أجلى ما تكون عند المتصوّفة بالخصوص، فما هي تجلّيات شعورهم بالمسؤولية عن سِلْم مجتمعاتهم وتضامن أمّتهم؟

II- المسؤوليّة الاجتماعية للنُّخَب الدينيّة قديما: المتصوّفة أنموذجا

1- نشأتها:

لا شكّ في أنّ التصوّف في أصله وجوهره تجربة ذاتيّة، ولذلك شاع عند النّاس أنّه انكفاء على الذّات، وهروب من الواقع، وفرار من النّاس، واستبطان للنّفس، فإذا كان ذلك كذلك فمن المفارقة أن نتّخذ من المتصوّفة أنموذجا للحديث عن المسؤوليّة الاجتماعيّة، والحال أنّ همّ المتصوّف مُنْجَمِع في ذاته ومسؤوليّته موقوفة عليها، وهمّته متّجهة إلى خالقه.

فمن المعلوم أنّ التصوّف نشأ من داخل الحركة الزهديّة التي كان من أبرز مميّزاتها الإعراض التامّ عن زخرف الدنيا وبهجتها، والإقبال بكُنْه الهمّة على الله، فلذلك تميّز أوائل الزهّاد بالتفرّغ للعبادة، وتقضية الحياة في التوبة والذكر والاستغفار، فتميّزت علاقتهم بالمجتمع بعدم التواصل. 

لقد راعهم ما شاهدوه من تعاظم تباعد المجتمع عن المَثَل الأعلى الإسلامي، وضعف الوازع الديني، وما عاينوه من فتن داخليّة اصطراعا على السلطان بالشوكة والغلَبة، وما لاحظوه من نزعات التعصّب والتطاحن بين الأحزاب السياسيّة والتشاحن بين الفرق الدينيّة، ومن تهافت على مباهج الدّنيا ونعيمها واستهانة بالضوابط الشرعيّة والقواعد الأخلاقيّة، فاختاروا الإعراض عن هذا المجتمع المتوغّل في متع الدّنيا المنغمس في شهواتها، وكأنّهم يئسوا من إصلاحه، أو خافوا على أنفسهم من أن يجْرِفَهم تيارُه، فإذا بهم ينعزلون عنه ويقبلون على خاصّة أنفسهم، نادمين على ما اقترفوه من المعاصي وما اجترحوه من الآثام، مخلصين في التوبة، مجتهدين في الاستغفار، متحسّرين على الذنوب ولو كانت يسيرة.

وبذلك أقبلوا على شأنهم الذّاتي منصرفين إلى محاسبة النّفس وتزكيتها غير آبهين بتغيير المجتمع وإصلاحه. ولذلك كان الزّهد في البدء سلوكا فرديّا انقبض فيه الزهّاد - وهم أفراد متفرّقون غير منتظمين في جماعة- عن مجتمعهم، واختاروا العزلة عن سابق وعي وتصميم، فلم يخالطوا الناس إلاّ للضرورة القصوى، فكان همّهم الانشغال بأنفسهم والإقبال على عبادتهم، فلم يكن بينهم وبين فئات المجتمع وطبقاته تواصل تتجلّى من خلاله علاقاتهم الاجتماعيّة، إذ تكاد تكون منعدمة أو عابرة، فضعُف تأثيرهم في مجتمعهم أو انعدَم لانشغالهم عنه بأنفسهم، ولم يتأثّروا به إلاّ التأثّر المعكوس؛ أي انقطاع صلتهم به وتفريغ الهمّ لخُوَيصَّةِ النفس. 

ولكنّ هذا الموقف -الذي يبدو في الظاهر استقالة تامّة، وهروبا من تحمّل المسؤوليّة الاجتماعيّة- يتكشّف لنا عند تدبّره أنّه موقف احتجاجيّ في باطنه؛ ذلك أنّ ممّا شجّع على ظهور الزهد وانتشاره ما عاناه المسلمون من عسْف الحكّام واضطهاد المستبدّين الذين يُمْلُونَ إرادتهم وآراءهم الدينيّة على غيرهم(22). فكان الميل إلى الزهد مرتبطا بالثورة على السلطة؛ ولكنّها ثورة في غاية المسالمة، لم تخرج على الحاكم، ولم تُشْهِر سلاحا، ولم تمارس عنفا على الإطلاق، وإنّما قصارى ما لجأ إليه أصحابها -احتجاجا على ما ينكرون من حكومة ونظام- أنّهم أقبلوا على حياة الزّهد والاعتكاف، وكان الشعار الذي رفعوه هو "الفرار من الدنيا"؛ ذلك أنّه إذا نزلت بالناس قارِعَةٌ ارتدّوا بآمالهم في الغالب إلى ما كانت تتعلّق به قديما من صور أسمى من هذه الأرض وما عليها، ولذلك كان من أشهر تعريفات التصوّف أنّه "الأخذ بالحقائق واليأس من الخلائق"(23)، ومن ثمّ تغلغلت حركة الزهد في نفوس صفوة من المسلمين نظروا إلى الحياة ومتاعها نظرة استخفاف واحتقار، ففرّوا ممّا يتعلّق به عامّة النّاس من المال والجاه والمنصب والسلطة، ولجؤوا إلى الكهوف والمغارات والمقابر، أو هاموا على وجوههم في الصحارى والجبال وسواحل البحار.

ومن ثمّ يمكن القول: إنّ الحركة الزهديّة التي كانت مقدّمة ضروريّة لبروز التصوّف هي أشبه ما تكون بصيحة نقد سلميّة للفئة الحاكمة التي تنامى فسادها وإفسادها، إنّها إن كانت حركة ترتدّ إلى الذات تبتغي إصلاحها وتقويمها؛ فإنّها من جهة أخرى تروم بطريق غير مباشر إصلاح الواقع المتردّي والعودة بالمجتمع إلى قيمه النبيلة ومُثُله العليا(24)، فهي تعبّر عن ضرب من الشعور بالمسؤوليّة تجاه المجتمع، ولكنّها مسؤوليّة سلبيّة غير فاعلة، ستتطوّر إلى مسؤوليّة إيجابيّة في الأطوار اللاّحقة عندما بدأ الصوفيّة يخرجون من عزلتهم، ويحاولون التأثير في مجتمعهم عبر السلوك الرشيد والقدوة الحسنة والكلمة الطيّبة والوعظ المؤثّر، وبدأ يظهر فيهم المشاهير وتُرْوَى عنهم الأخبار التي ترسم لهم سيرة أنموذجيّة تُنتقى أخبارها بعناية، وربّما تُصنَعُ وتُختَلَقُ وتُنْسَجُ لتكون موافقة للصورة الأنموذجيّة التي استقرّت معالمها في المُتَخَيَّل الجمعي. ومع التقدّم في الزمان تمتلئ كتب الطّبقات والمناقب بالأخبار التي تمجّدهم، والتي ربّما عبّرت عن تمثّل المتأخّرين لِسِيَرِ الأوّلين أكثر من تعبيرها عن حقيقة سيرتهم في واقع الحال. 

فكان سلوكهم الاجتماعي نزّاعا إلى المثاليّة، غيرَ مألوفٍ صدوره عن المسلمين العاديّين، يستبطن إلى حدّ بعيد شعورا بالمسؤوليّة، لا عن المسلمين فحسب؛ بل عن الخلق أجمعين، ويستلهم الأنموذج المثالي للكمال البشري مجسّدا في شخصيّة الرسول الكريم، وكثيرا ما يتمّ التماثل والتماهي معه.

فلم تكن وظيفة النموذج النبوي مقصورة على إسباغ مشروعيّة للتصوّف يتقوّى بها ضدّ خصومه من الفقهاء فحسب؛ وإنّما كان يجسّم المثال والمعيار، فهو المقياس الذي به تُقاس الأقوال والأفعال وأنماط السلوك والمرجع الفيصل الذي يُحتذى، وذلك في الوعي الجماعي الإسلامي عموما، وفي الضمير الجمعي الصوفي خصوصا.

ومن الأقوال المؤكّدة لمكانة النموذج المحمّدي ما جاء منسوبا إلى الجنيد (تـ 298هـ/910م) من قوله: "الطرق كلّها مسدودة على الخلق إلاّ من اقتفى أثر الرسول وتبعه ولزم طريقته، فإنّ طرق الخيرات كلّها مفتوحة عليه"(25). ولذلك تبدّت لنا شخصيّة الصوفي في كتب الطبقات شديدة الحرص على مراقبة سلوكها مراقبة صارمة، لا خوفا من انفلاته من الضوابط الشرعيّة فحسب، وإنّما من أجل أن يكون على الدوام المثال الحريّ بالاقتداء، المجسّم للقيم الأخلاقيّة الإسلاميّة العليا، الناظر إلى القدوة النبويّة الحسنة، المحاول التماهي معها. 

ومن ثمّ ألْفَيْنا كتب الطبقات تنهض بصنع النماذج السلوكيّة الحسنة وإشهارها وإظهارها بمظهر القدوة الأخلاقيّة والقيميّة والسلوكيّة المشدودة إلى المُثُل العليا من جهة، المجسّمة في أرض الواقع من جهة أخرى.

وربّما فسّرنا نزعة كتب الطبقات إلى التعالي بنماذجها الصوفيّة إلى أعلى مقام وأسمى درجة، وتصوير سلوكهم الاجتماعي على نحو مثالي بسنّة التقليد التي رسخت في الذهنيّة الإسلاميّة في المستوى النظري، فعامّة المسلمين من المقلّدة في شؤون دينهم لأئمّة المذاهب، وفي المستوى العملي كانت العامّة في حاجة إلى أن تستهدي بسيرة هؤلاء الأعلام الرموز داخل المجال الثقافي الإسلامي، فنهض كتّاب الطبقات بوظيفة تحرير الفضائل المميّزة لهؤلاء الأعلام وتدوين شمائلهم، وتقييد محاسن أخبارهم تشكيلا للنموذج الأسمى. فما كان للأنموذج القيمي والسلوكي الأمثل أن يتمحّض للوجود إلاّ من خلالهم باعتبارهم أهل الصلاح والفضل ومحلّ الأسوة الحسنة.

وفي ذلك تعبير عن شعورهم بالمسؤوليّة عن إصلاح مجتمعهم، وذلك بعَطْفِ القلوب على القِيَم، وتجسيم نماذج الكمال في الرجال، فذلك مظهر من مظاهر المسؤوليّة الاجتماعيّة الأخلاقيّة والقيميّة، ابتغاء الرقيّ به إلى مستوى أخلاقيّ رفيع.

2- تجلياتها فرديّا:

إنّ النماذج الصوفيّة التي رسمتها لنا كتب الطبقات غير منعزلة عن مجتمعها؛ إذ يكاد يكون تدخّلها في سائر ميادين الحياة الاجتماعيّة شاملا، ولها فيه تأثير ينزع دوما إلى تجسيم ذلك المثل الأعلى الإسلامي؛ ففي علاقة المتصوّف بإخوانه من المتصوّفة يتميّز سلوكه بحسن المعاشرة وترك الخصومة وملازمة الإيثار والمعاونة في أمر الدين والدنيا. وما الإيثار إلاّ مظهر مجسّم لتناهي الشعور بالمسؤوليّة الغيريّة؛ إذ هو تفضيل الآخر على الذات لا لمصلحة مرغوبة، وإنّما طلبا للأجر والمثوبة. 

وفي علاقة المتصوّف بالناس يبدو رحيما بهم، ليّن العريكة في التعامل معهم، مُشْفقا عليهم، متسامحا معهم، متحلّيّا بخصلة نكران الذات. وما أكثر الأخبار التي ترْسُم له صورا تضامنيّة رائعة، فتروي عنه مساعدته الفقراءَ، ونصرته الضعفاءَ، فالخلق هم غاية سعي الصوفي، وفناؤه في الله يوازيه فناؤه في الخلق. 

ومن أَوْعَبِ التقسيمات لعلاقات الصوفي ما ذكره ذو النون المصري (تـ245هـ/859م)، فهو "عون للغريب، أب لليتيم، بَعْلٌ للأرملة، حَفِيٌّ بأهل المسكنة، مَرْجُوٌّ لكلّ كربة"، وهو في معاملته اليوميّة مع الناس هشّاش بشّاش. فقوله: "بعل للأرملة" يعني أنّه يُغْنيها عن فقدان زوجها بمساعدتها حتى لا تحتاج إلى مُعيل، أمّا الهشاشة والبشاشة فهما عنوان شخصيّته السمْحة الخالية من الكِبْر والعُجْب والتعالي، وهي صفات ذميمة معهودة عند ذوي الجاه والسلطان والمال في تعاملهم مع العامّة. 

إنّ من القيم الأخلاقيّة المطلوبة في الصوفيّ أن يتلطّف بالنّاس ولا يبغي عليهم، رُوي عن الجنيد قوله: "لا يكون العارف عارفا حتى يكون كالأرض يطؤها البَرّ والفاجر، وكالسحاب يُظلّ كلّ شيء، وكالمطر يسقي ما ينبت وما لا ينبت"، بمعنى أنّه يتعامل في منتهى اللطافة والسماحة مع الصالح وغير الصالح من عامّة الناس، إنّه يعمّ بخدمته الجميع بغضّ النظر عن أديانهم ومعتقداتهم، ويشمل بمعروفه من يستحقّه ومن لا يستحقّه، وفي هذا ما يدلّ على أنّ المسؤوليّة الاجتماعيّة خَصيصة صوفيّة، وأنّ السلوك الصوفي أبعد ما يكون عن العنف في سائر تجلّياته وشتّى مظاهره. فهل ترانا نُبْعِدُ إن زعمنا أنّ المتصوفة هم بناة ثقافة السلم والتضامن في حضارتنا العربية الإسلامية.

ومن مقتضيات المسؤوليّة التي يستشعرها الصوفي في مجتمعه أن يعالج الصوفيّ أيّ خلل يراه في الناس دونما تشهير بهم أو تشنيع عليهم أو فضح لعيوبهم؛ بل إنّه يروم إصلاحهم بإسبال السّتْر على نقائصهم وإخفائها عن الناس، وفي هذا المعنى قال حمدون القصّار (تـ271هـ/ 884م): "إذا رأيت سكران فَتَمَايَلْ لئلاّ تبغيَ عليه، فَتُبتَلَى بمثل ذلك"، ومقتضى هذا التوجيه أن تُظهِرَ من نفسك العيب الذي تراه في غيرك، حتى لا تعتقد أنّك أفضل منه، وحتى تكون له عونا على مواجهة تعيير الناس له أو سخريّتهم منه، والمتصوّفة يصدرون عن حساسيّة حرجة تجاه هذه الأمور؛ لحرصهم على عدم إلحاق الأذى بالناس بسبب ما قد يَبْدُرُ منهم من أخطاء أو هفوات(26). إنّه منتهى الحرص على تحرّي الرفق والتجافي عن العنف ولو كان بكلمة جارحة.

ولقد كانت صلة المتصوّفة بالفقراء في الحياة اليوميّة على غاية من الوَثاقة، فكانوا يختلطون بهم للاطّلاع على أحوالهم وتقديم العون إليهم، فقد رُوي عن عبد الكريم الجيلي (تـ832هـ/1428م) أنّه كان يساعدهم على تنظيف ملابسهم من القمّل، ورُوي عن سفيان الثوري (تـ161هـ/777م) أنّ الفقراء كانوا في مجلسه كالسلاطين، وإذا بلغهم عن أحد الأغنياء أنّه متعبّد سَخِروا منه؛ ذلك أنّ عبادة الغنيّ عندهم توزيع ما زاد عن حاجته من الأموال على الناس، فجوهر عبادة الغنيّ - في تصوّرهم- تضامنُه مع الفقير، أمّا الصلاة والصّوم فلا يجديانه شيئا ما لم يؤدّ زكاة ماله.

وقد ذكر عبد الوهاب الشعراني (تـ973هـ/1565م) أنّ من أخلاق الصوفيّة تقديم إنفاق الدراهم والدنانير في طعام الجائع وكسوة العريان وقضاء الديون التي لا يقدر أصحابها على الوفاء بها على بناء الزوايا والمساجد. ونُقل عن عبد الله بن المبارك (تـ 181هـ/797م): "لقمة في بطن جائع أرجح في ميزاني من عمارة مسجد"(27). وهذا يدلّ مرّة أخرى على أنّ القوم يُحِلّون التضامن في المجتمع المحلَّ الأسمى ويُبوِّئونه المكانة العليا، وأنّ العبادة التعامليّة عندهم مقدّمة على العبادة الشعائريّة.

إنّ لهذا المنحى الاجتماعي حضورا بارزا حتى عند أقطاب الصوفيّة ممّن انصبّ اهتمامهم على الجانب العرفاني من التصوّف، فالبسطامي (تـ261هـ/864م) لم يخرج عن مقتضيات التصوّف الاجتماعي وإن لم ينخرط في النضال من أجله؛ ولكنّه رجع في شطحاته إلى حقوق الخلق، فعبّر عن همّه بهم في الدنيا وفي الآخرة. وعن حقوقهم في الدنيا تأتي هذه الحكاية التي تتضمّن حُكْما بإيفاء حقوق الفقراء بدلا من إنفاق المال في الحجّ، قال: "خرجت إلى الحج فاستقبلني رجل في بعض المتاهات فقال: أبا يزيد إلى أين؟ فقلت: إلى الحجّ، فقال: كم معك من الدراهم؟ قلت: معي مائتا درهم، فقال: فَطُفْ حولي سبع مرّات، ونَاوِلْنِي المائتي درهم، فإنّ لي عيالا، فطفت حوله وناولته المائتي درهم"(28).

ولعلّ هذه الحكاية من صنعه هو لتثبيت مبدأ تفضيل الإنفاق على الفقراء بدلا من الحجّ، وقد ساقها بمنطق الصوفيّة ولغتهم، فجعل الرجل الفقير بمثابة الكعبة، وطاف حوله ثمّ سلّمه المال وعاد إلى بلده معتبرا أنّ ذلك هو حَجُّهُ.

وممّا يروى عنه من الأخبار التي يعبّر فيها عن خوفه على الناس وإشفاقه عليهم من عواقب يوم القيامة قوله: "مُنْيَةُ العارف في الدنيا بقاءُ الإيمان، وفي الآخرة العفْوُ عن الخلق". وقوله: اللّهمّ "إن كان في سابق علمك أنّك تعذّب أحدا من خلقك بالنار فعظّم خَلْقي (=جسمي) حتى لا تسَعَ معي غيري"(29).

وقد ردّ عليه ابن الجوزي (تـ597هـ/1200م) بأنّها خطأ من ثلاثة أوجه، يهمّنا منها الوجه الثاني: قوله "فعظّم خلقي، فلو قال: لأدفع عن المؤمنين، ولكنّه قال: حتى لا تسَع غيري، فأشفق على الكفّار أيضا، وهذا تَعَاطٍ على رحمة الله عزّ وجلّ"، و"تعاط" بمعنى مزايدة على الله في الرحمة. وابن الجوزي يوافق على افتداء أبي يزيد الناس بنفسه من العذاب بشرط أن يختصّ الفداء بالمسلمين؛ لكنّ أبا يزيد يريد أن يكون فداءً لجميع النّاس. وهذا هو الفرق بين ذهنيّة الفقيه المحدودة وآفاق الصوفي الرحبة(30). 

إنّ لدى أقطاب التصوّف شعورا مرهفا بالمسؤوليّة عن البشر جميعا، فهم متّفقون على العمل من أجل إنقاذ البشر من الفقر والذلّ في الدنيا ومن العذاب في الآخرة. ولعلّ أبرز نموذج ممثّل لذلك الحلاّج (تـ309هـ/922م) باعتباره متصوّفا على الجهتين: جهة التصوّف الاجتماعي وجهة التصوّف العرفاني، وربّما كان هذا الصوفيّ الكبير مركز الصدارة من اهتمامات ماسنيون (Massignon) والقطب من بحوثه؛ لأنّه رأى فيه شبها بالمسيح المصلوب، باعتباره رمزاً تحمّل مسؤوليّة خطايا الناس أجمعين. 

وفي سيرة الحلاّج من الأخبار ما ينطق بهذه المسؤوليّة العامّة، فقد اتّسم سلوكه بالتسامح المطلق والاستعداد للفداء، فكان يزور المرضى والبؤساء لا من المسلمين فحسب؛ بل من النصارى واليهود والوثنيّين أيضا. لقد عبّر أمام الجمهور سنة 296هـ/908م عن رغبته الغريبة في الموت منبوذا من أجل نجاة الآخرين، وهو ما يدلّ على رغبة جامحة في أن يجود بنفسه لله قربانا يفتدي جميع الخلائق(31).

ولا يقتصر مثل هذا السلوك الاجتماعي الإنساني على متصوّفة المشرق؛ بل إنّنا نجد له أشباها ونظائر وشواهد كثيرة عند متصوّفة المغرب الإسلامي تدلّ على أنّ الصوفيّ غيريُّ المنْزع، لا تعنيه ذاته الفرديّة ومصلحتها ونفعها، وإنّما همّه مساعدة غيره، ولاسيما الفقراء والمستضعفون وذوو الحاجة، فقد روى أبو العرب القيرواني (تـ333هـ/945م) أنّ رباح بن يزيد كان إذا سمع خادمة جيرانه بالليل تطحن، تسَوَّرَ الجدران ليكفيها مؤونة الطحْن(32)، وأنّ أبا خالد عبد الخالق -وهو من زهّاد القيروان- رأى رجلا من أهل البادية وقد بدا عليه أثر البؤس، فهو "يقضم الشعير كما تقضم الدواب"، فإذا به يُؤْثِره بما حمله إلى زوجته المريضة من لحم وخبز، بعد أن أفلح في إقناعها بأنّ الله يضاعف لها الأجر في الآخرة(33). 

والبُهلول بن راشد يعْمَد إلى بيع طعامه عندما غلا السعر، ثمّ يشتري منه، وعندما سئل عن هذا السلوك المستغرب في مألوف العادة قال: "نفرح إذا فرح الناس ونحزن إذا حزنوا"(34). وفي هذا القول تعبير عن صميم الشعور بالتضامن الاجتماعي، وذلك بنكران الذات والتغلّب على شهواتها الذاتيّة، ومصالحها الآنية، من أجل إسعاد الجماعة.

وإنّ الناظر في كتب التراجم والطبقات الصوفيّة ليظفر بإشارات هامّة تُذكر عَرَضًا في سياق أخبارهم تتعلّق بمظاهر من الحياة الاجتماعيّة، تُبرز على وجه الخصوص الظروف القاسية التي كانوا يعيشونها، والأوضاع السياسيّة القامعة التي كانوا يعانونها، وما أكثر ما يتواتر في تلك الأخبار مظاهر العَوَز والفقر والبؤس والجوع، ولذلك كانت الكرامات المرويّة عنهم "كرامات اجتماعيّة" في معظمها، بمعنى أنّها كانت متّصلة بشؤون الحياة الماديّة متعلّقة بالمعاش، مثل تكثير المال وإطعام الفقراء وجلب الغيث. وهنا تكون الكرامات ذات وظيفة اجتماعيّة تستجيب لأماني المجموعة.

ويعبّر سلوك الشخصيّة الصوفيّة في مجتمعها من خلال الأحداث المتّصلة بها والوقائع التي تنقلها كتب الطبقات باعتبارها ومضات لافتة في سيرتها عمّا يعتمل في دخائل المجموعة التي تنتمي إليها من آلام ومعاناة، وما تستبْطِنُه من مخاوف وهواجس وما تصبو إليه من آمال وطموحات.

تلك بعض تجلّيّات المسؤوليّة الاجتماعيّة عند بعض أعلام الصوفيّة، في مستواها الفردي عند الآحاد منهم. فكيف تجلّت تلك المسؤوليّة من خلال الجماعة الصوفية ومؤسّستها؟

3- تجلّياتها جماعيّا:

سبق أن ذكرنا أنّ التصوّف في البدء كان تجربة شخصيّة تمحّضت فيها المسؤوليّة للذّات، لم يقبل عليها سوى صفوة من النّاس انكفؤوا على أنفسهم واستبطنوا ذواتهم وسعوا إلى القرب من مولاهم، فكان تصوّفهم أشبه بحركة نخبويّة، ثمّ صار منذ القرن 5هـ/11م "ظاهرة اجتماعيّة"(35). ثمّ لم يلْبَثْ بداية من القرن 6هـ/12م إلى القرن 11هـ/17م أن اتّسع نطاقه وفشا في الأوساط الحضرية على وجه العموم إلى أن صار منذ القرن 11هـ/17م تصوّفا طُرُقيّا تحوّل إلى "ظاهرة شعبيّة"(36).

ويمكن القول: إنّ أوّل طريقة صوفيّة ذات تنظيم محدّد وشكل واضح منظّم لم تظهر إلاّ في القرن 6هـ/12م(37). فقبل ذلك كان أهل التُّقى والورع يجتمعون بشيوخهم الروحيّين ويتحلّقون حولهم منذ العقود الأولى للعصر الإسلامي، لِمَا أنِسُوا فيهم من أهليّة التعليم، ولِمَا قدّروه فيهم من قُدْوة في الخُلُقِ ومثال في السّلوك(38). فأرادوا الحفاظَ على آثارهم واستبقاءَها من أجل استدامة تأثيرها على نطاق واسع. فتأسّست حلقات الصوفيّة وجماعاتهم وانتشرت في الآفاق. وتميّزت بثلاثة عناصر بنيويّة هي: 

• الشيخ المؤسِّس باعتباره مرْجعا للأتْباع وقُدوة في الطريق ورئيسا للجماعة ومنظّما للرابطة.

• الطريقة الروحيّة والسّلوكيّة التي سنّها.

• نوع الروابط التي تصل بين أفراد الجماعة، وهي علائق تتوثّق حينا وتضعف حينا آخر.

هذه العناصر الثلاثة هي التي تحقّق لكلّ جماعة صوفيّة أصالتها ووحدتها وقوّتها، وتمدّ أعضاءها بمشاعر الاطمئنان إلى الانتماء إلى تنظيم قارّ مكين(39).

وممّا ساعد على ظهور هذه الجماعات الصوفيّة ما شهدته مناطقها في عصرها من غزوات عمّتها، وحروب مزّقتها، ونزاعات على الحكم فكّكتها، وخلافات دينيّة ومذهبيّة قسّمتها، وصراعات حضاريّة وثقافيّة أرهقتها. ولا شكّ في أنّ ذلك كلّه ولّد مناخا باعثا على القلق؛ فكان الانتماء إلى جماعة تَبْني علاقاتها على الانسجام الروحي والتضامن المذهبي هو الذي كان يُطْمَعُ معه في التخفيف من وطأة ذلك المناخ الكئيب(40).

ولا شكّ في أنّ بعض العوامل التاريخيّة تفسّر ظهور هذه الجماعات وتَسَارُعَ تكوّنها. فمن ذلك المدّ الصليبي في الغرب، وتناقص الأراضي التي يسيطر عليها المسلمون في الأندلس بفعل سطوة الكاثوليك، والاجتياح المغولي في الشرق، وقد زعزع الشعور بالأمان في محيط سنّي قويّ ومتناغم نسبيّا، وتفكّك الخلافة العباسيّة الذي أسلم إلى تهاوي البنى الدينيّة التقليديّة، إذ استقْوَتْ سلطة شيوخ المتصوفة فنافست سلطة الأمراء وسلطة العلماء. وفي هذا السياق غذّت الطريقة الصوفيّة روح التكافل والتضامن وعزّزت الشّعور بالطمأنينة، واستطاعت بخانقاواتها ورباطاتها وزواياها أن تجمع النّاس حولها، وأن تمكّن الحياة الصوفيّة من عماد مادّي استفادت منه الطّرق الناشئة(41).

وإذا رمنا مثلا على عظيم الدور الذي نهضت به الشبكات الصوفيّة في تلك الحقبة من تاريخ الإسلام تكفينا الإشارة إلى أنّها هي التي استطاعت أن تحافظ على نوع من الوحدة بين المسلمين في المناطق الشرقيّة من العالم الإسلامي بعد سقوط الخلافة. فالعالم الفارسي إنّما حافظ على بقائه بعد المذبحة المغوليّة بفضل الثقافة الروحيّة التي كانت تُسَاكِنُه، حتّى إنّ كثيرا من أمراء المغول الذين حكموا آسيا الوسطى والشرق الأوسط اعتنقوا الإسلام تأثّرا بشيوخ التصوّف(42).

لقد كان ظهور الطرق الصوفيّة استجابة لحاجة البناء الروحي والاجتماعي في آن. هذه الحاجة لم يكن العلماء مؤهّلين لسدّها، فالفقهاء انغلقوا في دور حفَظَة الشريعة وضعُف تأثيرهم في المؤمنين، أمّا المتكلّمون فلا أثر لخطابهم في علاج أدواء النفس. ومن هنا برز شيوخ المتصوّفة ليحدثوا هذا التحوّل العميق الذي شهده التصوّف، نعني تطويره إلى مؤسسة تستجيب لحاجات جديدة للمجتمعات الإسلاميّة، فجعلوا نصب أعينهم تمكين النّاس من بناء علاقة شخصيّة حميمة مع الله ورسوله، واستطاعوا أن يوسّعوا دائرة المنتمين إلى جماعاتهم، فصار التصوّف منذ ذلك الحين قُطْبًا للإدماج الاجتماعي لا نظير له، حتّى لقد جاء زمن لا تَجِدُ فيه شخصا في أَيٍّ من البلاد الإسلاميّة لا ينتمي إلى طريقة من الطرق الصوفيّة أو يخضع لسلطانها بشكل أو بآخر(43). 

لقد نهضت الطرق الصوفيّة منذ ظهورها إلى اليوم بأدوار على غاية من الأهميّة، وكان لها عظيم الأثر في شتّى المجالات، وهو ما يدلّ على خطورة المهام التي مارستها، وعلى شديد التصاقها بالمجتمع وشواغله. 

إنّ للطّرق الصوفيّة وظيفة اجتماعيّة تُفهم انطلاقا من تصوّر رسخ في التصوّف الطرُقي، فحواه أنّ الشيخ الصوفي يأخذ على عاتقه مسؤوليّة تلبية حاجات الجماعة، فذلك من مقتضيات الولاية قبل كلّ شيء. ولا يُتاح له ذلك إلاّ إذا تميّز بمجموعة من الصفات أهمها حماية النّاس، وتحمّل أعبائهم، وحلّ مشاكلهم، ورعاية مصالحهم. وإنّما أُنيطت به هذه المهامّ لاعتقادهم بقربه من الله، فالولاية بهذا الاعتبار تقتضي الرعاية والعناية والحماية(44).

ويلاحظ دارس الطرق الصوفية أنّ بعضها -كالتيجانية وفروعها- استطاعت أن تبني في محيطها المحلّي الذي مارست فيه نشاطها وحدات اجتماعيّة واسعة تجاوزت الحدود القبليّة والإثنيّة، وتمكّنت من تكوين جماعات واسعة جدّا تحتوي القبائل والإثنيّات والأنواع الاجتماعيّة المنفصل بعضها عن بعض في العادة، بل المتعارضة أحيانا(45). ففي إفريقيا السوداء مثلا استمر الإسلام الطرقيّ في النهوض بدور أساسي في التوفيق بين العادات المحلية والإسلام العربي(46). وقد قامت الطرق الصوفيّة بتقوية الروابط الاجتماعية بين المريدين الذين ينتمون إلى القبيلة الواحدة، فانضافت إلى روابط الانتماء القبلي روابط الانتماء الطرقي، فتعاضدت القرابة والطريقة لتزيد الروابط الاجتماعيّة الْـتحاما ومتانة(47).

ومن تجليّات المسؤولية الاجتماعية للمؤسسة الصوفية دور مهمّ نهض به شيوخ الطرق المشهورون عموما هو دور الحَكَم الوسيط والمصلح بين الناس والموفّق بين المتخاصمين والفيصل في نزاعاتهم(48).

هكذا يستبين لنا أنّ التصوّف سواء أكان ممارسة فرديّة أم مؤسّسة جماعيّة لم يكن بمعزل عن المجتمع، وأنّ الصوفي لم يكن منقبضا عن الناس منفصلا عنهم؛ بل كان يحْيَا بين ظهرانيهم مسكونا بهمومهم مشغولا بمشكلاتهم، يسعى جهده إلى التخفيف من معاناتهم ومساعدتهم على سدّ حوائجهم، مُسْدِيًا النصح لهم، منتصرا لفئة الفقراء والمستضعفين على وجه الخصوص. وهل المسؤوليّة الاجتماعيّة إلاّ انغماسٌ في الناس وحمل لأعبائهم ونهوض بما يتقاصرون عنه ومقاسمتُهم آلامَهم والاستجابة لآمالهم.

فإذا كان القدماء على مثل هذا الوعي الحادّ والشعور المرهف بمسؤوليّتهم عن إخوانهم الذين يقاسمونهم الأوطان، وكانوا بهذا السلوك الغيريّ الذي بلغ الغاية في الإيثار والنهاية في نكران الذات، فهل كانت النخب العربية المثقّفة على هذا القدر من استشعار ثِقَل مسؤوليّتها الاجتماعية وعظيم دورها في الحفاظ على سلم مجتمعاتها وتضامن شعوبها وفْق ما يُمليه عليها واجب الوقت ومقتضيات المرحلة التاريخية الحرجة التي تعيش فيها؟ أم إنّها لم تكن في الأغلب الأعمّ في مستوى الآمال المعقودة عليها والنتائج المرجوّة منها؟ 

III- المسؤولية الاجتماعية للنُّخَب الثقافية حديثا:

1- من وجوه تخلّي المثقّف العربي عن مسؤوليته الاجتماعية

ما من شكّ في أنّ مجتمعاتنا العربية في هذه الأيام تمرُّ بمرحلة حرِجة في تاريخها السياسي والاجتماعي، وممّا يُؤسف له أن نرى في مثقّفي البلاد العربية مرآة لحالة التجزئة والانقسام والتشرذم والاحتقان الطائفي الموجود في مجتمعاتهم، تنْطق بها كتاباتهم وأفكارهم من خلال الإذاعات والفضائيات والصحف والمواقع الإلكترونية، حيث تشيع عبارات مثل "ثقافة العنف، والعنف الجنائي، والعنف الطائفي، والعنف الفردي، والعنف الجماعي، والعنف العَرَضيّ، والعنف المنظّم، والعنف السياسي، والعنف المادّي، والعنف الخطابي اللفظي..."(49) وما ذاك إلاّ لأنهم يتزيّوْن بزيّ المثقفين وما هم بمثقّفين، وأنّى لمثلهم أن يقوموا بتنوير الناس وهم الذين أصبحوا يحتاجون إلى التنوير(50) وإلى "التحرّر الذاتي: التحرّر من جملة القيود والعوائق الذاتية"(51) التي تحول بينهم وبين أداء دورهم المعرفي الموضوعي والاجتماعي الإيجابي الفعّال، وهي - كما شخصها عبد الإله بلقزيز- "النرجسية والسّاديّة والمازوشيّة والفوبيا المرَضيّة التي تُحْدث حالة من الاضطراب في سلوكهم الفكري ويضيع بها - وتحت وطأتها- خطّ السّواء المطلوب في فعاليّتهم النظرية(52) ولذلك لم يُدرِكوا عظيم مسؤوليّتهم الفكريّة ومهمّتهم الأخلاقية والإنسانية تجاه مجتمعهم، فلم يُسْهموا في إنتاج المعرفة وهي مهمّتهم الأصلية، ولم يعملوا على الارتقاء بوعي الجماهير؛ وإنّما أصبحوا في جوقة القارعين لطبول الحرب، المحرّضين على العنف، الداعين إلى التصارع والتقاتل، غير آبهين لخطورة الدور الذي صاروا ينهضون به. لقد نسوا التزامهم الفكري والإنساني والأخلاقي والوطني إزاء هموم شعوبهم وقضايا أمّتهم.

وكان من الأجدر بهم أن يشحذوا عواطف الناس إلى نقيض ما كانوا يدعون إليه. فما كان أحراهم أن يمسكوا أقلامهم ليهدموا بها حواجز العزلة وعوائق التفرقة بين أبناء أوطانهم. عوض أن يوسّعوا الهوة بين أبناء مجتمعاتهم، وينحروا أجساد أوطانهم بأفكار مسمومة. فلم يبتكروا طريقة لتخفيف الاحتقان الطائفي والاحتراب الداخلي، ولم يسْعوا إلى إنقاذ أمّتهم من براثن الجهل الذي استشرى في صفوفها بسبب غياب العقل والتسامح والاعتدال.

إنّ الثقافة الحقّ نبْذٌ لكل أشكال العنف والتسلّط والهيمنة، ودعوة إلى قيم العدل والحرية والسلام. وهي التي تُعدّ "الضمير المحتجب للمجتمع والمعبّر عن تطلعاته الإنسانية والسبيل نحو التقدم والتطور الاجتماعي"(53) فمن لم يلتزم بقِيَمها الإنسانية الرفيعة، ولم يعمل بهدْيٍ من مُثُلِها العليا، كيف يسوغ له الانتساب إليها والاتّصاف بها؟ 

2- مسؤولية المثقف في تعزيز قيم التضامن

إنّ مهمّة المثقّفين عظيمة عسيرة؛ لأنّهم نخبة المجتمع وصفوة الأمّة وقادة الرأي فيها. وهم مستهدَفون من قبل الحكام مرْموقون من قبل الشعوب. وبما أنّهم يملكون الوعي بالواقع ويسعون إلى نشر ذلك الوعي في مجتمعاتهم ويستطيعون تحريك السواكن، وبثّ الحماسة للتغيير في نفوس الجماهير؛ لأنّهم يرون ما لا يراه غيرهم - فإنّهم مُلزَمون بنبْذ كلّ مظاهر التشرذم والتفرقة التي تودي بالمجتمع إلى الهاوية وتمزّق نسيجه الاجتماعي والثقافي والديني.

إنّ التشويه الفكري الذي يصيب العقول البسيطة من عامّة الناس يترك فيها آثارا سلبية في غاية الخطورة. وإنّ التحدي الأكبر الذي يواجه المثقّف العربي في الوقت الراهن هو إصلاح العطب الفكري الذي حاق بالكثير من فئات المجتمع، وإنّ الأمّة اليوم تحتاج إلى فكر يبني وينتج، ولا يهدم ولا يعطّل. وإنّ ثقافة العنف والصراع لا تحقّق إلاّ الفوضى والدمار.

فكان لزاما على النّخَب الدينية والثقافية أن تحثّ الناس على تغليب الانتماء الوطني على غيره من الانتماءات الطائفية أو المذهبية أو الحزبية، وهذا ممّا يؤتي أُكْله ثمرا طيبا ينعم به المجتمع كلّه، إنه التضامن باعتباره التزام المجموعة بأن يؤدّي بعضهم عن بعض أو أن يؤدّوا مجتمعين عن غيرهم ما يقصرون عن أدائه أو لا يستطيعون القيام به. فيقوم من كان قادرا على بذل المعروف والخير بمعونة من لم يكن قادرا على ذلك، فيلتزم القويّ بنُصرة الضعيف ويتعهّد الغني بمساعدة الفقير(54). ومن تضامن الأفراد والجماعات نُصْرةُ المظلوم وردّ الظالم عن ظلمه والشفاعة الحسنة وتفريج الكرب عن المكروب وإغاثة الملهوف والتيسير على المُعْسِر وعيادة المريض، وهذه كما نرى من القيم الإسلامية التي حثّ عليها الدين الحنيف.

وفي هذا المجال فإننا لا نعْدِمُ لدى رُوّاد النهضة العربية الحديثة اهتماما بالتضامن الاجتماعي ودعوة إليه وترغيبا فيه وحثّا عليه، فهو من الظواهر التي لفتت انتباه الشيخ أحمد بن أبي الضياف (تـ1874م) خلال زيارته فرنسا بصحبة باي تونس سنة 1846م، فقد عبّر في كتابه إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان عن إعجابه بما شاهده عِيانا من مظاهر التكافل الاجتماعي بين الفرنسيّين، وقد تجلّى في الخدمات الصحيّة والجمعيات الخيرية التي تُغيث الملهوف وتساعد الضعيف، لا من باب المبادرة الفردية؛ وإنّما من طريق المؤسسات الاجتماعية والجمعيات التضامنية، فكان جهدها الجماعي أعمق أثرا وأعظم نفعا، فقد زار صحبة الباي "مأوى العواجز وسواقط الحرب بباريس، فسجّل إعجابه بما شاهد من نظام الرعاية الاجتماعية، ممّا يدلّ على مدى تكريم الذات البشرية واحترام الكرامة الإنسانية"(55). وفي ذلك يقول: "ووجد من لا قدرة له على القيام كلّ واحد في سريره موكول به امرأة تناوله ما يشتهيه، وتزيل عنه كل ما يلزم زواله، وهي حانية عليه حُنوّ الوالدة على الفطيم. وبه مارستان كبير لمن طعن في السنّ وعجز عن الخدمة، تجري على الجميع جرايات واسعة ونفقات لها بال من أحسن ما يتمنّى الإنسان"(56).

ولا يكتفي صاحب الإتحاف بمجرد ملاحظة الظاهرة التضامنيّة في الأمّة الفرنسية وتسجيلها، بل يتجاوز نطاق الرصد والتقرير إلى التفسير والتعليل، عن فهم دقيق للظاهرة ووعي لمقاصدها وعلم بفوائدها، مع حرص على تأصيل السلوك التكافليّ المشاهد في المجتمع الفرنسي في الشريعة الإسلامية، وذلك في قوله: "وهذا المحلّ ممّا يقوّي قلوب عساكرهم حين يرون مآل العاجز منهم، وأنّه لا يُترَك نِسيا منْسيّا. وهذا الشأن هو شريعة الإسلام، ولمثل هؤلاء حقّ شرعي في بيت مال المسلمين"(57) فكان أهل أوروبا في مثل هذه الخدمات الإنسانية وهذه الروح التضامنية وهذه النزعة التكافلية عاملين بحكم الشريعة الإسلامية وإن لم يكونوا من أهلها. 

وإنّنا لنجد في حديثه عن الخدمات الإنسانية الجليلة التي قدّمها الوافدون الأوروبّيون إلى مرضى الكوليرا في تونس سنة 1867، وتنويهه بما بذلوه من جهود، وما أنفقوه من أموال، إشادةً بما أظهروه من رحمة، وإعجابَه بهذا المنزع الإنساني النبيل الذي سما على الاختلافات العرقية والدينية، وبذل المساعدة لمن هو في حاجة إليها، دون اعتبار لجنسه أو لونه أو دينه أو وطنه. فقال: "في هذه الشدّة ظهر من تجّار الإفرنج وأتْباعهم من اليهود حنان ورحمة بالمرضى من بني آدم، فجعلوا جمعيّة رحمة، ودفع كلّ واحد من ماله على قدر كسْبه وحنانه، وجعلوا محلاّ داخل باب البحرية، به أطبّاء ونحو العشرين خادما لمعالجة مرضى المسلمين وغيرهم، وما يلزمهم من الأدوات والأقوات، كلّ ذلك من هذا المال المتجمّع، وربما بعثوا الطبيب والدواء لبعض المرضى العاجزين عن الوصول إلى هذا المحلّ. تقبّل الله صنيعهم، والراحمون يرحمهم الله"(58).

فلاحظ كيف جعله هذا الشعور الإنساني النبيل في غاية التأثر بهذه العاطفة الحانية الغامرة، فأنساه الحكم الشرعي الذي يقول به نُظَراؤه من الفقهاء، وهو أنّ قبول أعمال البرّ عند الله مشروط بالانتماء إلى الإسلام، فمن لم يكن مسلما لم يَقْبَل الله منه صرْفا ولا عدْلا؛ بينما نرى صاحب الإتحاف يدعو الله أن يتقبّل صنيع هؤلاء النصارى واليهود؛ لأنّهم رحموا الناس، "والراحمون يرحمهم الله".

وحريّ بالدعاة والوعاظ والأئمة والخطباء أن يجعلوا من القيم التضامنية والأعمال التكافلية من أركان خطابهم الديني حتى يتفهّمها الناس ويتشبّعوا بها، فتنعكس على سلوكهم الشخصي والاجتماعي، فيرسخ الشعور بالتضامن والإخاء بين أبناء الوطن، ويعمّ السلام والوئام. 

إنّ تضامن المجتمعات وتعاونها لا يقتصران على الجوانب المادية فحسب؛ بل يشملان التعاون على نشر الأمن والطمأنينة وتحقيق الاستقرار والسكينة وإقامة العدل ورفع الظلم، وبذلك تتوطّد أركان"السلم"، وفي ظلّه تقوم الوحدة وفي مناخه تتمكّن الجماعات والأفراد من التعارف والتآلف والتآزر والتعاطف. فإذا تحقّق ذلك تآخى الناس وتآنسوا وتضامنوا وعاشوا آمنين مطمئنين. 

3- مسؤولية المثقّف في بناء ثقافة السلم:

إن من واجب النّخَب المثقّفة العربية ألا تغرق في وهم الطائفية التي تنخر المجتمع وتشتّت وحدته. وعلى المثقّف أن يذيب العصبيات الطائفية والمذهبية المتوارثة من الأزمنة الغابرة ويصهرها في بوتقة المجتمع، وألا يضلّ عن مهمته الأصلية في اتجاه التغيير، فتتحوّل مهمته المعرفية التنويرية إلى نزعة تحريضية تعصّبية، فيخسر دوره الأخلاقي التثقيفي التنويري التوحيدي الذي نهضت به طلائع مثقّفينا منذ فجر النهضة العربية الحديثة. 

ونحن لا نعْدِم في تاريخنا الحديث نماذج من نُخَبنا المثقّفة التي استطاعت أن تتعالى على انتماءاتها الدينية والطائفية والمذهبية لتكون وحدة الأمّة هدفها، والسلم غايتها، والتضامن بين فئاتها رائدها. فقد كان الكواكبي (تـ1320هـ/ 1902م) على سبيل المثال أنموذجا للمثقّف الديني الملتزم بقضايا أمته المضحّي من أجلها. فقد رجّح الوفاق الوطني والقومي على الانتماء الديني والمذهبي حين دعا إلى المساواة والإخاء والوطنية مع غير المسلمين، وأثنى على الأمم التي نجحت في تحقيق وحدتها الوطنية وتجاوزت الانتماءات العرقية والمذهبية الضيقة. وتلك لعَمْري نزعة تروم الحفاظ على السلم الاجتماعي، فلا صراع بين الطوائف ولا إِحَن بين المذاهب، وإنّما هي رابطة وطنية متينة، هي الكفيلة بتحقيق السلم والنماء. يقول الكواكبي: "يا قوم - وأعني بكم الناطقين بالضاد من غير المسلمين- أدعوكم إلى تناسي الإساءات والأحقاد، وما جناه الآباء والأجداد، فقد كفى ما فعل ذلك على أيدي المثيرين، وأُجِلُّكم من ألا تهتدوا لوسائل الاتّحاد وأنتم المتنوّرون السابقون، فهذه أُمَم أوستريا(59) وأمريكا قد هداها العلم لطرائق وأصول راسخة للاتحاد الوطني دون الديني، والوفاق الجنسي(60) دون المذهبي، والارتباط السياسي دون الإداري. فما بالنا نحن لا نفتكر في أن نتّبع إحدى تلك الطرائق أو شبهها. فيقول عقلاؤنا لمثيري الشحْناء من الأعجام(61) والأجانب(62): دعونا يا هؤلاء ندبّرْ شأننا، نتفاهم بالفصحاء، ونتراحم بالإخاء، ونتواسى في الضرّاء، ونتساوى في السرّاء، دعونا نُدبِّرْ حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الأخرى فقط، دعونا نجتمعْ على كلمات سواء ألا وهي: فلْتَحْيَ الأمّة، فلْيَحْيَ الوطن، فلْنَحْيَ طلقاء أعزاء"(63).

وتلك دعوة إلى الوحدة والإخاء والعزة والحرية ما أحْوَج مثقّفينا اليوم إلى استعادتها والاقتداء بها، لكأنّه يخاطبنا بهذه الكلمات الخالدات التي قالها منذ ما يزيد على قرن من الزمان وهو يعيش بين ظهرانينا. ولم تكن سيرته في حياته بعيدة عن هذه القيم والمبادئ فقد فتح مكتبه لنصرة المظلومين ومساعدة المحتاجين حتى لقب بـ"أبي الضعفاء"(64)، ولم يكن مع تمسكه بالإسلام متعصّبا، فكان "يأنس بمجلسه المسلم والمسيحي واليهودي على السواء؛ لأنه كان يرى رابطة الوطن فوق كل رابطة"(65).

وهذا خالص الجلبي الطبيب الجرّاح والمفكّر السوري (ولد سنة 1945) يرى أنّ العالم العربي يحتاج إلى الأفكار السلميّة اليوم أكثر من حاجة المصاب بالنزيف إلى نقل الدم لإنقاذ حياته، فوضْع العالم العربي لم يعد يحتمل الانتظار أمام كوارث العنف اليومية التي تتفجّر مثل القنابل الموقوتة في كلّ مكان... ولذلك دعا الجلبي إلى "إعلان (ميثاق الأمن والأمان الاجتماعي) لكلّ الأطراف من عرقية وإثْنية ودينية وجنسية، للمرأة والرجل، لكل من يعيش في هذا المجتمع مهما كان موقعه، للحكم والمعارضة للدولة والفرد؛ ذلك أنّ آلية الإعدام والإفناء المتبادل تفعل فعلها المدمّر بين كل الأطراف الاجتماعية اليوم، وربما ما نحتاج إليه أكثر من الصلح مع إسرائيل هو صلح الإنسان العربي مع الإنسان العربي والدولة العربية مع جارتها العربية"(66). 

إنّنا - في نظر الجلبي- "نسبح في مستنقع العنف وندفع فواتيره اليومية، وكلّه ينبع من ثقافة إلغاء الآخر وتهميشه وعدم الاعتراف به، فعندما تُدخل إلى روع الآخر أنّك لن تسمح له بالوجود مع أنّ الله منحه الوجود بالأصل ومنحه كرامة أن خلقه بشرا سويا؛ فإنّه لن يسمح لك بالوجود أيضا، والوصول إلى كسر حلقة العنف والعنف المضاد هو بِرَمْيِ السلاح كلّيةً ومرّة واحدة إلى الأبد كما فعل ابن آدم الأول"(67) ومن ثمّ فإنّ توليد عالم جديد ليس فيه مكان للحقد هو السبيل الأكيد للسلام العالمي الشامل والدائم الذي كان يحلم به الفيلسوف الألماني كانط(68).

وقد تقدّم في عام 1965 مفكّر إسلامي هو جودت سعيد بطرْح فكريّ لساحة العمل الإسلامي أثار ضجّة وما يزال في تغيير البنى الأساسية للفكر والممارسة في كتاب عنوانه: مذهب ابن آدم الأول(69) يرى فيه أنّ العمل الإسلامي يجب أن يتبنّى الطريقة السلميّة في تغيير المجتمع والسلطة، وأن نتخلّى عن العنف وسيلةً للإقناع والتغيير، وعن كلّ ما يمتّ إلى شجرة العنف الخبيثة من قول وتصرّف وتصوّر، ويرى ثالثا -وهو الأهم- أنّ هذا الأسلوب في تغيير الفرد والمجتمع هو وسيلة الأنبياء المثلى، يتدرّب الفرد فيها على عدم الدفاع عن نفسه أمام السلطة من أجل أفكاره، ويتحمّل الأذى في طريق تغيير اللاّشرعية بالشرعية، في حين أنّ العنف يغيّر اللاّشرعية باللاشرعية في إعادة مجنونة لحلقة العنف والعنف المضاد دون توقّف. 

الخاتمة:

هكذا نكون في هذه المقالة قد نزّلنا موضوعها في سياقه العربي الإسلامي المعاصر حيث شاعت ثقافة العنف واستشْرت حتّى هدّدت سلم المجتمعات وتضامنها، وآذنت بالفرقة والشقاق والتنابذ والصدام، وعرّفنا بالنخب الدينية والثقافيّة فَأَبَنَّا عن أهمّ ميزاتها وأخصّ خصائصها، وكشفنا عن عظيم دورها في مجتمعاتها، وأكّدْنا ثِقَل مسؤوليّتها في الحفاظ على السلم في شعوبها والتضامن بين أفرادها وفئاتها. ونبّهنا على خطورة التخلّي عن هذه المسؤولية الجسيمة وما ينجرّ عنه من الرزايا والبلايا والآفات، واستدعينا نماذج من تراثنا القديم اتّخذناها مثالا للاستدلال على ما نهض به المتصوّفة أفرادا وجماعات من دور عظيم في توْثِقَة أواصر التضامن في مجتمعاتهم وإشاعة السلام والطمأنينة في بيئاتهم، وانتقينا نماذج من تراث روّاد النهضة العربية الحديثة مشْرِقًا ومغْرِبًا كانت شاهدة على أنّ قيم السلم والتضامن والتآخي والتآزر كانت في صميم مشاغلهم وفي طليعة اهتماماتهم، لنخْتِم بالإشارة إلى بعض المفكّرين العرب المعاصرين ممّن اتّخذوا من ثقافة السلم محور تفكيرهم وقطب اهتمامهم. ولئن بَدَتْ دعواتُهم مثالية متعالية عن الواقع -وربما لم تَجِدْ لها مُصْغيا- فإنّنا اليوم أحوج ما نكون إلى إشاعة أفكار السلم والاعتراف بالمختلف، والتسامح مع المُخالف، والتعايش مع المُغاير.

ولْتَكن البداية بالتخلّص من ثقافة العنف بجميع أشكالها المادّية واللفظية والرمزية، ومنها تمجيد العنف وتبريره وإضفاء الشرعية عليه، تمهيدا لصنع "ثقافة السلْم"؛ لأنّ صنع هذه الثقافة شرط لقيام العيش المشترك بسلام، وهذه الثقافة التي ينبغي أن نصنعها هي التي ستبدّل الذهنيّة الجماعية التقليدية التي تنظر إلى العنف على أنّه بطولة بدلا من النظر إليه على أنّه جريمة، وما لم نحقّق هذه النقلة الثقافية والقطيعة المعرفيّة فلن نكون قد صنعنا شيئا مذكورا. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) علي حرب، أوهام النخبة أو نقد المثقف، ط.3، بيروت- الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2004، ص37.

2) حسين العودات، المثقف العربي والحاكم، ط1، بيروت، دار الساقي، 2012، ص46.

3) انظر مثلا: المرجع نفسه، ص46-79.

4) علي شريعتي، مسؤولية المثقف، تعريب: إبراهيم الدسوقي شتا، مراجعة: حسن علي شتا، بيروت، 2007، ص50.

5) علي شريعتي، العودة إلى الذات، تعريب: إبراهيم الدسوقي شتا، بيروت – القاهرة، دار الكتاب المصري اللبناني، 2011، ص281.

6) المرجع نفسه ص52-53.

7) تركي الحمد، الثقافة العربية في عصر العولمة، ط1، بيروت، دار الساقي، 1999، ص163.

8) محمد عابد الجابري، المثقّفون في الحضارة العربية، محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، ط2، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2000، ص24.

9) عبد الإله بلقزيز، نهاية الداعية: الممكن والممتنع في أدوار المثقفين، ط2، بيروت الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2010، ص10.

10) إدوارد سعيد، خيانة المثقفين، تعريب: أسعد الحسين، دمشق، دار نينوى، 2011، ص36-37.

11) هشام شرابي، مقدمات لدراسة المجتمع العربي، بيروت، الدار المتّحدة للنشر، 1984، ص129.

12) إدوارد سعيد، المثقّف والسلطة، تعريب: محمد عناني، القاهرة، رؤية للنشر والتوزيع، 2006، ص36.

13) جيرار ليكلرك، سوسيولوجيا المثقّفين، تعريب: جورج كتورة، ط1، بيروت، دار الكتاب الجديد، 2008، ص17.

14) المرجع نفسه، ص90.

15) إدوارد سعيد، المثقّف والسلطة، ص35.

16) Julian Benda, The Treason of the Intellectuals, trans. Richard Aldington (1928, New York, Norton,1969), p43. (نقلا عن: المرجع نفسه، ص36). 

17) جيرار ليكلرك، سوسيولوجيا المثقّفين، ص125.

18) المرجع نفسه، ص71.

19) المرجع نفسه، ص87.

20) علي شريعتي مسؤولية المثقف، ص125.

21) المرجع نفسه، 129- 130.

22) نيكولسون، في التصوّف الإسلامي وتاريخه، تعريب: أبو العلا عفيفي، القاهرة، 1956، ص46.

23) عبد الكريم القشيري، الرسالة القشيرية، تحقيق معروف زريق وعبد الحميد بلطه جي، بيروت، دار الجيل، 1990، ص280.

24) محمد بن الطيّب، إسلام المتصوّفة، بيروت، دار الطليعة، 2007، ص18.

25) عبد الكريم القشيري، الرسالة القشيريّة، 1990، ص430.

26) هادي العلوي، مدارات صوفيّة، ط1، دمشق، دار المدى، 1997، ص185.

27) نقلنا هذه الأخبار عن المرجع السابق، ص187 وص222.

28) السهلجي، النور من كلمات أبي طيفور، تحقيق: عبد الرحمان بدوي، الكويت، وكالة المطبوعات، 1978، ص164.

29) المصدر نفسه، ص168.

30) هادي العلوي، مدارات صوفيّة، ص60-61.

31) Massignon, La passion de Hallāj, Paris, 1978, Tome III, pp. 224-225. 

32) أبو العرب القيرواني، طبقات علماء إفريقية وتونس، تحقيق: علي الشابي، تونس، الدار التونسيّة للنشر، 1968، ص123-124.

33) المصدر نفسه، ص142.

34) المصدر نفسه، ص134.

35) - D. Mortazavi, « Le soufisme », in: Islam: civilisation et société, Monaco, 1991, p.86.

36) - J.C. Garcin, « Assises matérielles et rôle économique des ordres soufis, l’époque prémoderne », in: Les voies d’Allah: les ordres mystiques dans l’Islam d’origines à aujourd’hui, sous la direction de: A. Popovic et G. Veinstein, Paris, 1996, p.214. 

37) - J. Chevalier, Le Soufisme ou l’ivresse de Dieu dans la tradition de l’Islam, Paris, 1974, p.203. 

38) - F. Meir, « La voie mystique », in: L’Islam d’hier et aujourd’hui, sous la direction de: B. Lewis, Paris-Bruxelles, 1981, p.145. 

39) محمد بن الطيب، إسلام المتصوفة، بيروت، دار الطليعة، 2007، ص96.

40) جان شوفليي Jean Chevalier، التصوّف والمتصوّفة، تعريب: عبد القادر قنيني، بيروت – الدار البيضاء، 1999، ص71-72.

41) - EI2, Art. Tarīka, Tome X, p.263 [E.Jeoffroy].

42) - L. Lewishon, The legacy of medieval persian sufism, London-New York, 1992, p.31. 

43) -C. Bonaud, Le Soufisme et la spiritualité islamique, Paris, 1991, p.79. 

44) R. Chih, Le soufisme au quotidien, p. 339. 

45) C. Hamès, « Confréries, sociétés et sociabilité », in: Les voies d’Allah, p. 235. 

46) T. Zarcone, « Le Brame du saint de la Prouesse du chamane au miracle du sufi », in: Miracle et Karama: Hagigraphies médiévales comparées, Paris, 2000, p. 416.

47) C. Hamès, « Confréries, sociétés et sociabilité », in: Les voies d’Allah, p. 235. 

48) انظر شواهد لهذا الدور التحكيمي للأولياء في البلاد التونسية مثلا: 

J. Dakhlia, « De la sainteté universelle », p. 188-189. 

49) نبيل عبد الفتاح، النخبة والثورة: الدولة والإسلام السياسي والقومية والليبرالية، ط1، القاهرة، 2013، ص230.

50) علي حرب، أوهام النخبة أو نقد المثقف، ط.3، ص13.

51) عبد الإله بلقزيز، نهاية الداعية: الممكن والممتنع في أدوار المثقفين، ص67.

52) المرجع نفسه والصفحة نفسها. وللتوسع في التحليل ينظر في الصفحات التي تليها.

53) صاحب الربيعي، الصراع والمواجهة بين المثقف والسياسي، دمشق، صفحات للدراسات والنشر، 2010، ص48.

54) أحمد عمر هاشم، التضامن في مواجهة التحدّيات، ط1، القاهرة، بيروت، دار الشروق، 2001، ص9.

55) عبد الجليل الميساوي، قيم الإصلاح والتحديث في فكر ابن أبي الضياف من خلال كتابه الإتحاف، تونس، دار الإتحاف، 1999، ص261.

56) أحمد بن أبي الضياف، إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، ج4، تحقيق: أحمد الطويلي، تونس، الدار التونسية للنشر، 1989، ص117.

57) المصدر نفسه، ص117-118.

58) المصدر نفسه، ج6، تحقيق: رياض المرزوقي، ص105- 106.

59) النمسا.

60) - القومي.

61) الأتراك.

62) الفرنسيون والإنجليز.

63) عبد الرحمان الكواكبي، طبائع الاستبداد، ضمن: الأعمال الكاملة للكواكبي، ط2، تحقيق: محمد جمال طحان، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ص515.

64) المصدر نفسه، ص40.

65) المصدر نفسه، ص22.

66) خالص الجلبي، بناء ثقافة السلم، ط1، دمشق، المنبر، 1999، ص9.

67) المرجع نفسه، ص12.

68) كانط، من أجل سلم أبدية: محاولة فلسفية، تعريب: عبد العزيز زمزم وعلالة البوعزيزي، تونس، 1996.

69) جودت سعيد، مذهب ابن آدم الأول: مشكلة العنف في العمل الإسلامي، ط. 5، بيروت، دار الفكر المعاصر، 1993 (صدرت طبعته الأولى سنة 1966).

امصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/12/247

الأكثر مشاركة في الفيس بوك