تيارات السلم والمصالحة والتضامن في الزمن المعاصر: أنموذج: جودت سعيد

محمد أبو رمان

لم يحظ جودت سعيد -المفكر الإسلامي السوري- باهتمام بحثي وأكاديمي مماثل لغيره من المفكرين الإسلاميين، وتكاد أغلب الكتابات التي أرّخت للفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، أو تناولت بعض قضاياه، تتجاهل الرجل!

تتمثّل المفارقة هنا في أنّ عشرات الدراسات العربية والغربية تناولت مفكرين، وتخصصت بدراسة كتابات فكرية إسلامية، لا تضيف أي إسهام في الفكر الإسلامي، كما أُجريت دراسات عليا في الجامعات العربية والعالمية على شخصيات إسلامية، لا تملك إنتاجاً فكرياً سوى كتابات تقليدية، متخمة بالتكرار والاجترار للتراث الإسلامي، إلاّ أنّها تعدّ مهمة؛ لما تملكه من تأثير على أتباع الحركات التي تنتمي إليها هذه الكتابات.

ربما ذلك -بحد ذاته- يضعنا أمام مناقشة الأسباب الكامنة وراء تجاهل مفكر إسلامي بقيمة جودت سعيد، ويأتي في مقدمتها أنّه لم يمتلك التأثير النافذ والكبير في الأوساط الإسلامية، وحتى المجتمعية، بقدر ما بقي تداول أفكاره محدوداً في نخبٍ قليلة من الشباب الإسلامي والمهتمين.

ذلك بدوره يقودنا إلى سؤال آخر: لماذا افتقد سعيد إلى القدرة على التأثير والحضور في الأوساط الإسلامية، فضلاً عن الثقافية والسياسية العربية، بالرغم من إسهاماته البارزة في الفكر الإسلامي؟

الإمساك بطرف الجواب على هذا السؤال يبدأ عند اللحظة التاريخية التي جاءت خلالها كتابات سعيد وإسهاماته؛ إذ أطلّ الرجل للمرّة الأولى على العالم العربي والإسلامي بأفكاره في منتصف الستينيات، من خلال كتابه "مذهب ابن آدم الأول"، الذي يحرّم فيه ويجرّم استخدام السلاح في عملية التغيير وإدارة الصراع الداخلي؛ بينما الصراع بين التيارات الإسلامية والعلمانية على أشده، والصدام الأيديولوجي بلغ مدىً كبيراً؛ أي أنّ أفكار سعيد كانت عكس التيار الإسلامي، ولا تجد قبولاً لدى التيارات الإسلامية، حتى تلك التي لم تنخرط في الصراع؛ لكنّها مستغرقة في جلبة الصراع السياسي والأيديولوجي مع الخصوم.

لا يقيم ذلك السبب وحده الجدار بين فكر سعيد وعملية الانتشار، على الأقل في الأوساط الإسلامية الواسعة؛ إذ إنّ الإخوان المسلمين أعلنوا عن سلمية الدعوة ورفض اللجوء إلى العنف، بعد أن ذاقت المجتمعات والإسلاميون أنفسهم ويلات الفكر الذي أُسس لاستخدام السلاح وتبريره؛ لكن ذلك لم يسجّل لسعيد، الذي كان أول من تجرأ في العالم العربي على اتخاذ مواقف فكرية صارمة وحاسمة من استخدام السلاح والعمل السري. أي أنّ هنالك سبباً آخر يجعل ما يقدّمه سعيد في هذه اللحظة التاريخية غريباً وبعيداً عن المزاج الإسلامي العام؛ وهو سبب أكثر أهميّة من الأول؛ ذلك أنّ سعيداً هو ابن المدرسة الإصلاحية الإسلامية، التي دشّن خطابها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وهي مدرسة - بخلاف الحركات الإسلامية التي ظهرت لاحقاً وانتشرت وتوسعت منذ ثلاثينيات القرن العشرين- ركّزت على جانب القصور والنقد الذاتي الحضاري، وأعطت الأولوية للإصلاح الديني وتطوير المجتمعات وتأهيلها معرفياً وحضارياً وثقافياً؛ بينما الحركات الإسلامية دارت حول ثِيمة الهوية، وقفزت من فكرة نقد المجتمعات وتطوير الفكر الإسلامي إلى الانخراط في المواجهة مع التيارات العلمانية والتغريبية.

تمثّل هاجس المدرسة الإصلاحية بالتخلف العلمي والجمود الديني والفجوة الحضارية، والأمراض الاجتماعية، في المقابل بدا هاجس الحركات الإسلامية في الخوف على هوية المجتمعات الإسلامية ووجودها، ومواجهة التيار العلماني، والتأكيد على شمولية الإسلام وصلاحيته لكل مكان وزمان.

بدأ سعيد بتكوين أفكاره وتطويرها وإنضاجها، بعد أن سافر من القنيطرة في سوريا إلى القاهرة في منتصف الأربعينيات، في سنٍّ مبكّرة، وبقي هناك إلى الخمسينيات، فدرس اللغة العربية في الأزهر، وشهد بنفسه الفصول الأولى من الصراع بين الإخوان والعسكر في مصر؛ إذ كان مهتماً بالقراءة والتفكير والدراسة، والاطلاع على الأفكار الإسلامية المختلفة والمتنوعة، فوقف عند كتاب مالك ابن نبي، المفكر الإسلامي الجزائري، "شروط النهضة"، وتابع إنتاجه باهتمام شديد، قبل أن يلتقي به، ويشارك لاحقاً في البناء على ما قدمه بن نبي من أفكار في مجال النهضة والإصلاح والتغيير(1).

تعزّزت أفكار سعيد مع عودته إلى سورية، واستشعاره المبكّر بأنّ الحركة الإسلامية هناك تسير في اتجاه الصدام مع السلطة، والوقوع فيما وقع فيه إخوان مصر، فقرّر أن يؤلف كتابه الأول، في محاولة لاستباق الأحداث لـ"تجنيب سورية من مثل ما حدث في مصر من النزاعات الدموية المؤلمة"، لكن ذلك لم ينجح "وما حدث عندنا بعد ذلك كان أسوأ"(2)!

لم يكن المزاج الإسلامي العام -في العقود التالية منذ السبعينيات إلى الآن- مستعداً لأن يقرأ لسعيد أو يستمع له، فأغلب النشاط الإسلامي تعبوي وحركي، يقوم على التعبئة والتجنيد في سبيل المشروع المطلوب، ويخاطب الجانب العاطفي والوجداني لدى المجتمعات؛ بينما يطرح سعيد مشروعاً مختلفاً يركّز على الجانب الثقافي والتعليمي، والنهضوي والتنموي؛ إذ كان -بانتمائه للمدرسة الإصلاحية- خارج السياق وبعيداً عن السرب(3)!

ليس ذلك فحسب، فحتى أصحاب المقاربة الإصلاحية وإن تراجع بريقها -مقارنةً مع بدايات القرن العشرين- قد نالوا حظّاً كبيراً من الاهتمام البحثي والعلمي، ووجدوا لهم موقعاً محجوزاً في الأدبيات التي تناولت الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، حتى أستاذه مالك بن نبي - بالرغم من أنّه جاء مثله بعد صعود المدرسة الإحيائية الحركية- وتراجع المدرسة الإصلاحية(4)، وبالرغم من أنّ ابن نبي بقي خارج التأثير في الحالة الإسلامية العامة، التي هيمنت عليها الحركات والجماعات الإسلامية، بألوانها الأيديولوجية المختلفة- قد وجد اهتماماً بحثياً، ومريدين داخل الجزائر وخارجها، وتقديراً من الحكومة الجزائرية بعد الاستقلال(5).

إذاً -علاوةً على الآخرين- بقي هنالك سبب آخر في تفسير "غربة" سعيد في الأوساط الفكرية والأكاديمية، وحتى الإسلامية، يتمثّل ذلك في الظروف المحيطة بشخصية سعيد نفسه، فهو من أصول شركسية، ابن الجولان المحتل، بدأ ينشر كتبه في أعقاب المواجهة بين الإخوان والسلطة في سورية، ما جعله بعيداً عن تلك الأوساط، وبالرغم من أنّ النظام السوري حاول توظيف أفكاره حول رفض العنف الإسلامي في مرحلة الثمانينيات، بما يخدم دعاية النظام في المواجهة المسلحة؛ إلاّ أنّ المنطق الذي يستند إليه الرجل، والفلسفة الكامنة وراء نبذ العنف، وموقفه الواضح من الاستبداد -لم يكن كل ذلك يخدم النظام، فصاحبنا لم يكن مستعداً- كغيره من مفكرين وعلماء سوريين آخرين، ليبيع هذه الأفكار للدولة(6).

على النقيض من ذلك نراه زاهداً إلى أبعد مدى في التقرب من السلطة أو في الحصول على مكاسب مادية شخصية؛ إذ عاد إلى قريته -بئر عجم- بعد العام 1973، ليعمل مع إخوته في الزراعة وتربية النحل، متفرغاً للتأليف والكتابة، والتعليم في مسجد القرية، ومطبقاً ما ينادي به من تعزيز قيم الإنتاج والفعالية -التي تشكّل جزءاً مهماً من اهتمامه وأفكاره- على نفسه!

يعيش سعيد إلى الآن بعيداً عن الأوساط السياسية والفكرية والعواصم العربية الصاخبة، وعن مرآة الإعلام واهتمامه، مقيماً في قرية نائية من المناطق المحررة في الجولان، وهي حيثيات كفيلة بحد ذاتها أن تحجّم وتحدد انتشاره عبر الإعلام والمنتديات والمريدين(7).

إذا كانت هذه هي الأسباب التي تقف وراء تجاهل "إسهامات" سعيد الفكرية في الأوساط الفكرية والإسلامية، فما أهمية الحديث عنه اليوم في حقبة الثورات الشعبية العربية، وهل ثمة ما يفيد فيما يقدمه من أفكار وتصورات الآن، بعد أن أسقطت الشعوب العربية الأنظمة الجائرة؛ لكنها ما تزال تعاني في بناء النظام الديمقراطي؟

وربما هذا أيضاً يطرح سؤالاً آخر نتركه للخلاصات، فيما إذا كان ما قدّمه سعيد من أفكار تتحدث عن التأكيد على سلمية التغيير السياسي لم يعد له داعٍ بعد اليوم؛ إذ كان الشعار الرئيس للشعوب العربية هو "السلمية"!

أحسب أنّ الأكثر نفعاً وجدوى أن نؤجل الإجابة على هذه التساؤلات إلى خلاصات هذه المقالة، بعد أن نكون قد وقفنا على أبعاد إسهاماته الفكرية، التي جاء أغلبها خلال العقود الماضية؛ أي قبل الربيع العربي، وهي بالإجمال:

أولاً؛ أنّه بنى رؤيته على الأسس التي حكمت المقاربة الإصلاحية في الفكر الإسلامي، وتتمثل في جعل إعادة تأهيل الفرد المسلم والمجتمعات حجر الرحى في تغيير واقع المجتمعات العربية والمسلمة، عبر عملية إصلاح ديني، تحرر العقل المسلم من الأوهام والأساطير والخرافات، وتطلقه من القيود، وببناء المسؤولية الأخلاقية والمجتمعية للفرد المسلم، ويبدو تأثير محمد عبده واضحاً عليه هنا، لكن التأثير الأكبر لمالك بن نبي وأفكاره، التي تمثّل لبنة أساسية في مشروع سعيد الفكري(8).

ثانياً؛ يرتبط بما سبق تأكيده على ربط التغيير والنهوض بالسنن الكونية والمجتمعية، وهو ما كرس له العنوان الرئيس لمشروعه "سنن التغيير في النفس والمجتمع"، وتقوم فكرة "السننية" لدى المدرسة الإصلاحية على أنّ حركة الكون والطبيعة -كما هي حال المجتمعات والدول- تخضع لقوانين عامة، تفسر تقدم الأمم وتخلفها، ولا بد من استكشاف هذه القوانين ومراعاتها والعمل وفقا لها؛ كي تتمكن المجتمعات العربية والمسلمة من النهوض، وتجاوز حالة الضعف والوهن والتخلف(9).

ثالثاً؛ الاهتمام بالمعرفة والفكر والتعليم بوصفها مفاتيح اكتشاف السنن الكونية والاجتماعية والسير في طرق التقدم والنهضة(10).

رابعاً؛ الدعوة إلى السلمية ونبذ العنف، وتحريم استخدام السلاح في العمل الإسلامي، والتأكيد على العلنية في الأفكار، ورفض التنظيمات السرية، وهي الركيزة التي أخذت حيزاً كبيراً من اهتمامه ومشروعه الفكري، بل أصبحت علامة مسجّلة له في الأوساط الإسلامية العربية، بالرغم أنّه ليس أول من نادى بذلك من المفكرين الإسلاميين(11)؛ لكنّ دوره بيِّنٌ في التأكيد على هذه الفكرة والتنظير لها، و"توطينها" في العالم العربي(12).

من الضروري أن نعبر الآن من هذه "العناوين" الرئيسة إلى عمق ما كتبه الرجل ونظّر له خلال خمسة عقود من إسهاماته الفكرية، نحلل كيف بنى رؤيته؟ وما هي الحجج التي اعتمد عليها ووظفها لإثبات ذلك والبرهنة عليه؟ وما الوظيفة الأيديولوجية لهذه الكتابات والأفكار، أو بعبارةٍ أخرى "الرسالة الإصلاحية"، التي كان يحملها سعيد ويتبنّاها، ويجعل مما يكتب وسيلة لتوضيحها وإثباتها والبرهنة عليها؟

-1-

في استكشاف سنن تغيير النفس والمجتمع

ينطلق سعيد من أنّ أية عملية تغيير وإصلاح جادة لا بد أن تنطلق من تغيير الإنسان ذاته، ونقله من حالة "الكلالة" إلى "الفعالية"، وهو ما يؤدي إلى تغيير الواقع الاجتماعي وصولاً إلى الواقع السياسي(13). 

وإذا كان مالك بن نبي قد وضع "مشكلات الحضارة" عنواناً لجميع كتاباته؛ فإنّ سعيداً وضع "سنن تغيير النفس والمجتمع" عنواناً لكتاباته ومشروعه الفكري، محاولاً التفكير والبحث في كيفية الانتقال من حالة "التخلف" الحضاري إلى "النهضة" عن طريق إدراك وفهم قوانين وسنن تغيير ما بالأنفس والمجتمع من ناحية، وإدراك "سنن الآفاق" من ناحية أخرى، وصولاً إلى إفادة الإنسان بالصورة المثلى من "القدرة التسخيرية" المودعة في جنبات الأرض الواسعة.

يؤسس سعيد مشروعه على القواعد التي وضعها بن نبي من الانتباه إلى الأمراض والأزمات الداخلية، التي تشكل العائق الأول والأساس أمام مشروع النهضة والإصلاح، ومنح الجانب الحضاري الأهمية الكاملة، باعتبار أنّ كلاًّ من التخلف والتقدم منظومتان كاملتان من المفاهيم والقيم والمشاعر والأنظمة. كما يسير سعيد في السياق نفسه الذي يدفع للحديث عن الواجبات لا الحقوق واعتبار شروط النهضة كامنة في تفاعل الإنسان مع الوقت والتراب(14).

ويتخذ سعيد - كذلك- موقفاً سلبياً من الانشغال بالعمل السياسي بدلاً من الانشغال بالإصلاح الثقافي والحضاري، معتبراً أنّ "ما في الواقع هو انعكاس لما في النفوس"(15)، ومؤكداً أن المطلوب هو الأمة الراشدة وليس الحاكم الراشد، "الأمة الراشدة أهم من الخلافة الراشدة؛ لأنّ الأمة الراشدة هي التي تصنع الخليفة الراشد وليس العكس، والأمة غير الراشدة تقتل الخليفة الراشد، كما قُتل علي بن أبي طالب. ولذلك علينا أن نعيد الأمة الراشدة، وبعد ذلك ينتج عنها تلقائياً الخليفة الراشد"(16).

في سياق هذا الاهتمام بالنهضة والتنمية، يكرس سعيد كتابه "العمل قدرة وإرادة" لتوليد العمل والفعالية لدى الفرد المسلم وفي المجتمعات المسلمة، لتحقيق هدفه بـ"تغيير ما في الأنفس" وصولاً إلى تغيير الواقع العام والواقع السياسي كذلك.

ويقسم عناصر العمل إلى قسمين رئيسين: هما الإرادة والقدرة. ويرى أنّ الإرادة تتشكل من توافر عنصرين هما العقل والمثل الأعلى (أي وجود قيمة وفكرة عليا يؤمن بها الإنسان ويسعى إلى تحقيقها)، ومن الواضح أنّ "المثل الأعلى"(لديه) يماثل "الفكرة الدينية" عند مالك بن نبي، وهي شرط تفاعل الإنسان مع الوقت والتراب، أمّا القدرة فتنتج عن تفاعل عقل الإنسان مع "القدرة التسخيرية" المودعة بالكون(17).

ثم يقرر أنّ ما يفتقده العالم الإسلامي اليوم ليس الإرادات إنما القدرات، وتحديداً "القدرة الفهمية" في إدراك سنن النفس والمجتمع والطريق إلى التخلص من الأمراض والعجز، وصولاً إلى استثمار القدرات التسخيرية في الكون وتحقيق الفعالية المنشودة. ولعلّ هذه الفكرة هي التي تلخص أهداف مشروع سعيد بإدراك "سنن الأنفس والآفاق"، فالتغيير يتحقق عندما يدرك الإنسان قدراته وإمكانياته فيسعى إلى تغيير المجتمع باستثمار ما أودعه الله في الكون من أسرار وقدرات. وهذا الإدراك الذي لا يتأتى إلا بالمعرفة والفكرة والاطلاع على علوم الإنسانية والطبيعية، وهو ما يفسر تأكيد سعيد على أهمية الأفكار والمعرفة والثقافة في عملية التغيير والإصلاح(18).

في المقابل؛ فإنّ أحد أسباب الخلل والخطأ في المقاربات الفكرية السائدة عند المثقفين أنهم جعلوا المشكلة في الإرادات لا في القدرات، ففسروا مشكلة العالم الإسلامي بنقص الإرادة والإيمان، وهو تفسير - وفقاً لسعيد- غير صحيح. فالمشكلة لا تكمن بنقص الإيمان وهو متوفر لدى أعداد كبيرة من المسلمين، وإنما في نقص القدرة الفهمية في إدراك جوانب الخلل والقصور والأمراض والقدرة العملية بتحقيق ذلك على أرض الواقع(19).

ويدلل سعيد على آثار غياب الشعور بأهمية "القدرة الفهمية" لدى المسلمين بأنّ " المسلم يشعر بالقصور ويدين نفسه حين لا يعد القوة، بينما لا يشعر بأدنى وخز في الضمير حين يقصر عن السير في الأرض والنظر في عاقبة الذين خلوا من قبل(20) ". 

الكثير من المسلمين يريدون بصدق تحقق الإسلام في واقع الحياة؛ لكن هذه الأمنيات أو الإرادات لا تبعثهم على التفكر والعمل؛ لأنهم ينتظرون "أن يتحقق هذا الدين - ما دام منزلاً من عند الله- بطريقة سحرية غامضة الأسباب"(21). 

-2-

سلمية التغيير ومذهب "اللاعنف"

انطلاقاً من تلك الأسس في إدراك مشروع الإصلاح السياسي يتخذ سعيد موقفاً حاسماً ومعلناً لا تردد فيه ضد استخدام السلاح للوصول إلى الحكم أو تغيير الواقع الاجتماعي والسياسي بالقوة المادية، لا بقوة الفكرة والبلاغ والخطاب.

ويرجع الاهتمام الكبير لدى سعيد وإصراره على مذهب "اللاعنف" إلى معايشته حقبة الصراع السياسي بين السلطة والإسلاميين واتخاذ بعض الاتجاهات الإسلامية العمل المسلح والسري في مواجهة "عنف السلطة". ولعلّ التجربة المصرية خلال الخمسينات والستينات- حيث كان سعيد يدرس في القاهرة- ثم بوادر تكرار التجربة في سورية في منتصف الستينات؛ مثّلا الدافع الرئيس له للمسارعة في إصدار أول كتبه بعنوان "مذهب ابن آدم الأول"(1966)، محذِّراً الإسلاميين من العمل المسلح، مهما كان جبروت الطرف الآخر.

يوضح سعيد طابع تلك المرحلة والأسباب التي دفعته إلى تبني هذا المذهب بالقول: "كنت هناك (يقصد بمصر) حين أُعدِم عبد القادر عودة وأصحابه، ثم غادرت القاهرة.. وأنا أحمل في نفسي هم مشكلة العالم الإسلامي، وفي سورية كنت في الأحداث التي حدثت عام 1965، وبعدها مباشرة أحسست بدافع لا يمكن مقاومته بضرورة أن أكتب (مذهب ابن آدم الأول) أو مشكلة العنف في العمل الإسلامي، وطُبع الكتاب لأول مرة في دمشق عام 1966، كتبته بعجلة خشية أن أضيع في الأحداث من غير أن أكون قد بيّنتُ موقفي من أسلوب العمل الإسلامي، وخاصة بعد أن شهدت الأحداث التي حدثت في مصر وتمنيت أن أسهم في تجنيب سورية من مثل ما حدث في مصر من النزاعات الدموية المؤلمة، وما حدث عندنا بعد ذلك كان أسوأ"(22).

لكن مشروع "التغيير السلمي" لا يتجمّد عند ما سطّره سعيد في كتابه (ذلك)، بل يستمر معه ليطبع إسهامه الأبرز في الخطاب الإسلامي المعاصر، ويشكل مرتكزاً أساسياً له ولمدرسته والمتأثرين به، وفي مقدمتهم شقيقته (ليلى) وزوجها خالص جلبي، الذي يطلق على سعيد لقب "غاندي العرب"(23). ويكتب جلبي عن مذهب اللاعنف " ومن خلال النقاش الطويل في مشكلة العنف واللاعنف وصلت أخيراً إلى القناعة التي بدأت أجمع أطرافها وأحبك خيوطها أنّ عالم السلام والكفاح السلمي قارة مميزة"(24). 

وعلى هذا الأساس الفكري والمعرفي والتأثر بمدرسة مالك بن نبي وجودت سعيد ألّف خالص جلبي كتابه "في النقد الذاتي: ضرورة النقد الذاتي للحركة الإسلامية"؛ إذ ينقد الحركات الإسلامية ويقوّمها من منظور المدرسة "الثقافية" بتغليب جانب "النقد الذاتي" والإصلاح الداخلي على الاهتمام بالعمل السياسي والوصول إلى السلطة والقوة(25).

بالعودة إلى سعيد ومشروعه؛ فإنّ إدراك السبب الرئيس لاهتمامه بنبذ العنف هو أنّ العمل الإسلامي بوجهته الواقعة (الاهتمام بالسياسة والمواجهة مع السلطة) كان يسير باتجاه مغاير تماماً لمقاربة سعيد الإصلاحية، التي تقوم على الاهتمام بالمعرفة والتغيير الثقافي والابتعاد عن الاشتباك المباشر مع السياسة، والتركيز على الواجبات بدلاً من الحقوق السياسية(26). 

ذلك أنّ سعيداً يرى أنّ طريق العنف في العمل الإسلامي هي محصلة المداخل الخاطئة للإصلاح والتغيير: "إنّ الدعوات والطرق التي تتبنى التغيير تأتي البيوت من ظهورها، لذلك لا بد من تغيير أساسي في أساليب العمل الإسلامي ليتوافق مع سنن التغيير، ومن أمثلة ذلك العمل على أساس الواجبات لا الحقوق، وإصلاح المجتمع قبل السياسة، وسلوك سبيل الإقناع والتربية لا سبيل العنف والإكراه"(27).

-3-

(أنسنة) الثقافة لعلاج "مرض العنف"

القراءة الأكثر عمقاً لمقاربة سعيد تذهب إلى أبعد من حرص الرجل على تجنيب المجتمعات عواقب صراع دموي بين الإسلاميين والسلطة، أو مجرد الحرص على العمل الإسلامي من الانزلاق إلى الطريق الخاطئة في الإصلاح وحمل السلاح بدلاً من القوة أو العمل بالسياسة بدلاً من النفس والمجتمع، أو تصور أنّ السلطة السياسية هي الأقوى؛ بينما يرى هو أنّ السلطة الأقوى والأعتى هي سلطة المعرفة والفكرة والثقافة.

إذ إنّ هنالك فلسفةً ثاوية -في مقاربة سعيد- مضمونها الرئيس (أنسنة) الحياة الاجتماعية والسياسية العربية، وتقديس قيمة الإنسان وحقه في الحياة والوجود والتفكير واختيار حكومته، وتعزيز قيمة الأفكار وسلطتها بدلاً من سلطة القوة والحكم، والاعتداد بالإنسان الفرد ودوره، وتحريم استخدام القوة لحل الخلافات بين البشر؛ لما في ذلك من إزهاق للروح البشرية واعتداء عليها(28).

يوضح سعيد أصول فلسفته الإنسانية بالقول: "إنّ الإنسان اليوم لا يزال يعيش أزمة الثقة بالإنسان وأزمة تحقير الإنسان مع ما أراده الله له من تثيبت الثقة بقدرته، وذلك بما وضعه فيه وهيأه له، وهذا النظر الذي يعرض به القرآن وضع الإنسان يوحي بالثقة بمستقبل الإنسان، وأنه سيحقق ما عَلِمه الله وجهلته الملائكة"(29).

على الطرف المقابل؛ فإنّ البديل عن الثقافة السلمية- التي تقدس الإنسان وحياته وكرامته- هو سيادة شريعة الغاب ومنطق القوة في الوصول إلى السلطة وفي العلاقة بين البشر، والغلبة للأقوى، عندئذٍ لا معنى للحديث عن حرمة النفس البشرية وقداستها. 

المشكلة في العالم الإسلامي -استناداً لمقاربة سعيد- ليست بمن يمسك بمقاليد السلطة إذا كان "إسلامياً" أو ديمقراطياً أو غير ذلك؛ بل المشكلة أبعد من ذلك؛ إنّها ثقافية وتربوية وأخلاقية، وهي ليست وليدة اليوم؛ إنّما متجذرة في التاريخ الإسلامي: "بعد الخلفاء الراشدين ضاعت سنة الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- بين المسلمين، وفزعوا عندما أخذ معاوية الحكم بالقوة، وشعروا أنهم فقدوا شيئاً كبيراً؛ لذلك أباحوا الغدر للتخلص من البغي، فوقعوا في دوّامة لا نهاية لها، أباحوا أن يستردوا الحكم بالقوة"(30).

ويرى سعيد أنّ ثقافة العنف والسلاح والقوة أصبحت مرضاً خطراً يحكم حياة الناس الاجتماعية والسياسية، ووّلدت حالة من الفصام لدى المسلم فهو خائف مستنكف عن العمل الإصلاحي "يسكت لعجزه عن مواجهة الغير، ثم ينتظر الفرصة السانحة لممارسة العنف ضده"(31).

ومرض "العنف" -الذي يعتبره سعيد "آفة العصر"- في مقابل غياب ثقافة الإصلاح والتغيير السلمي، هو ما يفسر عجز العالم الإسلامي عن الدخول في زمن الحداثة والأفكار. فالمنطق السائد هو منطق أبي تمام الذي قال منذ زمن بعيد: (السيف أصدق إنباءً من الكتب). يقول سعيد: "إنّ فكرنا ما زال يسيطر عليه ما توحي به كلمة (عنترة) حين تذكر في الأدب الشعبي"(32).

هذا المرض (العنف) هو الذي يفسّر لماذا يتقاتل العلماء والمشايخ في أفغانستان ويتعاملون فيما بينهم بالصواريخ والطائرات، فهو "جرثومة مخبأة في أعماقهم وأعماقنا، وهو موجود عند اليساريين والقوميين أيضاً، وجميع من تربّى ضمن هذه الثقافة"(33).

وإذا كان "مرض العنف" يجد جذوره في التاريخ والموروث الثقافي؛ فإنّ التربية الأُسرية والمدرسية والعلاقات الاجتماعية والحياة السياسية العربية تعزز هذا المفهوم وتمنحه "المشروعية الواقعية"؛ لأنّها لا تقوم على تعزيز ثقافة الإنسان وكرامته وحريته وحقوقه؛ بل تقوم على التقليل من شأنه وعلى التلقين والوصاية، وتربي فيه خصالاً تتناقض مع مشروع بناء إنسان سوي مستقل قادر على الإبداع والعطاء والإنتاج(34).

يؤكد على هذا المعنى أحد أبناء "المقاربة الثقافية" -جمال جمال الدين- بالقول: "إنّ هدف التغيير الذي نادى به كلا المفكِرَين المحترمين (يقصد مالك بن نبي وجودت سعيد) هو تحويل الإنسان المسلم إلى إنسان راشد فعّال متوازن في المنزل والعمل والمدرسة والمكتبة... إلى إنسان يرفض الدجل والشعوذة والتقليد والانقياد من غير دليل... إنسان يعرف قيمة هذا المخلوق الاستثنائي الغالية عند خالقه، ويثق بكرامته وكرامة كل إنسان، فيرفض الظلم والاضطهاد، كما يرفض الذل والخنوع والاستسلام، فلا يرضى بالعبودية ولا يقبل الاستعباد"(35).

ولعلّ ما يشير إليه جمال جمال الدين بمثابة إحدى الأفكار البنيوية لدى جودت سعيد، والتي يمكن تلمّسها في ثنايا كتاباته وأفكاره، إن لم يعبِّر عنها مباشرةً، ألا وهي تحرير الإنسان من خلال تحرير أفكاره. وما دعوته للتغيير السلمي والابتعاد عن العنف إلاّ للتأكيد على ثقافة تُكرِّس قيمة الإنسان بوصفه فرداً حرّاً يؤمن بإنسانيته وعقله، ويسعى إلى أن يتحرر من الاستعمار والاستبداد وفي الوقت نفسه ينعتق من سلطة الأشياء والمفاهيم الخاطئة التي تعيق ترسيخ مبدأ "إنسانية" الإنسان في العالم العربي والإسلامي(36).

-4-

تجذير الثقافة السلمية في التأسيس للديمقراطية

إذن؛ المشكلة ليست مشكلة "سلطة سياسية"؛ بل هي مشكلة ثقافية بامتياز. ولا تعدو السلطة الحالية أن تكون انعكاساً للواقع النفسي والاجتماعي، ومن ثمّ فإنّ الإصلاح السياسي لا يتأتى من تغيير الحاكم بطريق السلاح أو الانقلاب أو الثورة المسلّحة، وإنّما من خلال تغيير الإنسان والمجتمع من المدخل الثقافي/الفكري، بحيث تتأصل وتتجذّر ثقافة سلمية إنسانية تنساب - بالضرورة- إلى تغيير الواقع السياسي نفسه(37).

بيت القصيد هنا أنّ الديمقراطية تتأسس على ثقافة سلمية تمنع استخدام القوة والسلاح في اللعبة الداخلية. " الديمقراطية معناها أنّ الناس اتفقوا على تحريم الوصول إلى الحكم بالقوة والعنف، فهم لا يجيزون لأحد أن يقوم بانقلاب للوصول إلى الحكم"(38).

تأسيساً على هذه الفلسفة الإنسانية، وانطلاقاً من مدخله الثقافي في الإصلاح والتغيير، تقوم مقاربة سعيد (مذهب ابن آدم) والتي خصص لها كتابه "مذهب ابن آدم: مشكلة العنف في العمل الإسلامي"، ووسّعه في كتابه "كن كابن آدم"(39).

أمّا كتابه "مذهب ابن آدم" الذي يعالج فيه مشكلة العنف في العمل الإسلامي تحديداً -باعتباره في صلب موضوعنا؛ أي مقاربات الإصلاح السياسي في الخطاب الإسلامي- فإنّه يقوم على توضيح رؤيته لأسباب نبذ العنف والعمل المسلّح، والتأكيد على أهمية العمل السلمي بأبعاده المختلفة. كما يحاجج التيار الذي يتبنى العمل المسلّح، ويفنّد حججه وآراءه.

الأصل -وفقاً لسعيد- ألا يُترك أمر التغيير بالقوة واستخدام السلاح لتقدير الأفراد والجماعات، وأن يكون الأمر قضائياً ومؤسسياً " إذا اجتمع بعض الأفراد سرّاً، وأصدروا حكم الإعدام، أو قرروا القيام بحركة انقلابية، وأعطوا لأنفسهم سلطة تنفيذ مثل هذه الأحكام، لا يكونون قد خدموا الإسلام وأيّدوه؛ لأنّ الإسلام لا يعطي أمر إصدار مثل هذا الحكم وتنفيذه- حتى في القصاص من القاتل المعتدي- لأي فرد عادي في المجتمع الإسلامي، ولا لبعض الأفراد الذين لم يسلم لهم المجتمع بذلك. فكيف يخول المسلم لنفسه تنفيذ هذا الأمر الخطير، واستباحة الدماء في أوضاع فيها كثير من الالتباس والغموض"(40).

واستناداً لهذه الرؤية يعرّف سعيد الفرق بين الخروج والجهاد المشروع: "الخروج هو استخدام القوة والعنف للوصول إلى الحكم، والجهاد هو استخدام القوة بعد الوصول إلى الحكم برضا الناس؛ لمنع الإكراه في الدين"(41).

ويشترط سعيد للجهاد المشروع شرطين رئيسين؛ الأول متعلق بالمجاهد، وهو أن يكون قد وصل إلى الحكم برضا الناس واقتناعهم. والثاني للمجاهد ضده وهو أن يكون قد أكره الناس على دين معين أو منعهم حقهم في اختيار دينهم. ومن الواضح أنّ هذه الشروط متعلقة بـ"جهاد الطلب" وليس بجهاد الدفع وهو منع اعتداء الغير على أراضي المسلمين وأعراضهم وأموالهم؛ أي حق المسلمين في "الدفاع عن النفس"(42).

ويدحض سعيد الحجج والذرائع التي يستند عليها تيار العمل المسلح، وفي مقدمتها تكفير الحكام، فاستباحة الخروج عليهم، وفقاً للنص النبوي "إلاّ أن تروا منهم كفراً بواحا"، ومع تأكيد سعيد عدم رغبته في الدخول في إشكالية تعريف الواقع فيما إذا كان ينطبق عليه مفهوم الجاهلية والكفر أم الإسلام؛ إلاّ أنه يرى أن الحكام وفق مفهوم المسلمين لم يصلوا بعد إلى إعلان إنكارهم وجحودهم السافر بالإسلام، وهو ما يمنع الخروج عليهم(43).

يستقرئ سعيد سير الأنبياء بالإصلاح والتغيير ليصل إلى نتيجة رئيسة وهي أنهم لم يستخدموا طريق العنف والعمل المسلح؛ بل اعتمدوا جميعهم طريق البلاغ المبين في مواجهة ظلم السلطة وتعسفها تجاههم. وهي الطريق التي سار عليها الرسول (-صلَّى الله عليه وسلَّم-) إذ "لم يصل إلى الحكم بالقوة المسلحة؛ وإنما بقوة الفكرة"(44).

لكن، ماذا لو رفض الحكام منطق "البلاغ المبين" في الإصلاح السياسي واستخدموا أساليب الإكراه والضغط والتعذيب والسجن بحق دعاة الإصلاح، فما الخيار في مواجهة ذلك؟

يصر سعيد على أنّ البلاغ المبين هو الخيار الوحيد، ويرفض الرد على العنف بالعنف: "لا مانع أن يبتلى المؤمن وأن يسجن في سبيل إخراج الإسلام من سجن الكتمان والتحريف"(45).

ويرى سعيد أنّ التأكيد على واجب الدعوة للإصلاح والتغيير والصبر على أذى الحكام حتى لو أدى ذلك إلى القتل هو الخيار الوحيد: "نقول الحق، ولا نخرج على الحاكم ولا نقتله ولا نغتاله، ولا نفرح باغتياله، إنه مخطئ ومع ذلك لا أخرج عليه وإن ضرب ظهري وإن أخذ مالي وأواجهه بكلمة الحق ولا أكف عنها"(46).

بل يذهب سعيد إلى عدم القبول بمنطق القوة في الوصول إلى الحكم، حتى لو توفرت لـ"الإسلاميين" كافة أسباب الوصول إلى الحكم بهذه الطريق؛ لأنهم بذلك "يستنون سنة سيئة"(47). فضلاً أنّ المضار المترتبة على طريق العنف وخيمة على صورة الدعاة وعلى أخلاقهم؛ إذ تجعلهم يمارسون التقية والكذب والسرية، ويبتعدون عن الوضوح الشديد والصدق والنقاء، وهي الشروط الأساسية لنجاح الدعوة الإسلامية(48).

في المقابل، فإنّ الابتعاد عن "العمل المسلح" يمنح الإصلاح الإسلامي إيجابيات عديدة أبرزها: الجو الصحي ومنح الفرد القدرة على القيام وحده بواجب الدعوة والبلاغ والإصلاح، وإزالة الرهبة من السجن والابتلاء، واستخلاص النماذج الفاضلة، وإيقاظ روح الاجتهاد والاستيقاظ الفكري، طالما أن الإصلاح يعتمد على الحجة الفكرية وليس القوة المسلّحة(49).

بعد ذلك؛ ليس غريباً أن يؤيد جودت سعيد مذهب غاندي بالتغيير السلمي، وأن يمتدح الثورة الإيرانية (1979) باعتبارها كانت سلمية ولم تكن مسلحة، وأن ينتقد الأعمال المسلحة التي تقوم بها الجماعات الإسلامية في العديد من الدول ضد الحكومات(50).

-5-

اعتراضات ودعاوى: "النخبوية" واللاواقعية الفكرية

تُوجّه لمقاربة سعيد الانتقادات ذاتها التي تُوجّهُ لمقاربة مالك بن نبي، وتحديداً ما يتعلّق بالقفز عن الشروط السياسية، التي تحد من قدرة الإصلاحيين على العمل والإنتاج في المجال الثقافي الذي يركز عليه الرجلان. 

فإذا كان سعيد يطالب بإعادة الفعالية للإنسان وإخراجه من حالة الجمود والركون (الكلالة) إلى الفعالية؛ فإنّ الاستبداد السياسي بمعاوله في المجتمع والنفس البشرية يجعل من الصعوبة بمكان إنجاح هذه المهمة؛ لأنه يضع العوائق في وجه أي محاولات إصلاحية، من خلال أدوات ومجالات عديدة أبرزها المناهج التعليمية والإعلام والسياسات وأغلبها قد يسير بالاتجاه المعاكس لمسار الإصلاح.

الرد على استثناء العمل السياسي المباشر من مشروع الإصلاح هو المقولة التي يرددها دعاة المقاربة السياسية، سواء أكانت ثورية أم إصلاحية، وهي أنّ "الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". فالحاكم (أو السلطة السياسية) إما أن يكون عامل تسريع لمشروع الإصلاح وإما أن يكون عامل تثبيط وعرقلة له، بما يمتلك من قدرات وأدوات حضور ونفوذ داخل المجتمع. 

وإذا كان سعيد يهتدي في بناء مقاربته للإصلاح السياسي بسِيَر الأنبياء والمرسلين فإنّ دلالة هذه القصص تشير من الوجه الآخر إلى أنّ أغلب الأنبياء لقي مصيراً قاسياً على يد أعداء الإصلاح، ولم يتمكن إلا القليل منهم الوصول إلى مرتبة القيادة والسلطة، لكن ذلك لم يكن بالتوسل بالأسباب التي دعا إليها سعيد (المدخل الثقافي)؛ وإنما لأسباب أخرى، إما مرتبطة بالإرادة الإلهية أو الظروف السياسية التي وصلوا من خلالها، كما هي حال كلٍّ من سليمان ويوسف عليهما السلام. 

أمّا دولة الرسول محمد (-صلَّى الله عليه وسلَّم-)؛ فإنّ العديد من المقاربات الإصلاحية الإسلامية ترى أنها قامت بعدما استجاب له أهل القوة والنفوذ، أصحاب "الشوكة السياسية والعسكرية" في المدينة المنورة فبايعوه في بيعة العقبة الأولى والثانية. بمعنى أنّ المشروع الإسلامي تحقق على أرض الواقع عندما تحول إلى سلطة ودولة، وحمله أهل النفوذ والقوة، بينما كان الرسول والصحابة الكرام يعانون من التعذيب والاضطهاد، والخلل في ميزان القوى عندما كانوا في مكة وكانت السلطة والنفوذ بيد زعماء قريش. فالمشروع الإسلامي لا يتحقق إلاّ بعد امتلاك الدولة والسلطة والقوة، وهو ما عبّر عنه الإمام الغزالي بوضوح قاطع عندما قال: "الدين أسّ والسلطان حارسه، فما لا أس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع".

على وجاهة هذه الانتقادات وامتلاكها حججاً قوية؛ إلاّ أنّ دفاع سعيد عن "سلمية الإصلاح" هو دفاع معزز أيضاً بحجج وأدلة متينة، كما رأينا سابقاً، أبرزها ضرورة تكريس ثقافة تحرِّم استخدام السلاح في المعادلات السياسية الداخلية، حفاظاً على قدسية النفس البشرية وكرامتها، بخاصة أنّ هنالك دولاً عربية وإسلامية ابتليت بالحروب الأهلية والصراعات الدموية، ولم يشفع تبدل وتغير السلطات بالانقلابات بالتخلص من هذه الآفة، التي عززت في الموروث الثقافي والثقافة الشعبية أن القوة وحدها هي عنوان التغيير، فافترق الناس بين يائس محبط، وبين ثائر خارج على الحكومة، والضحية الأولى في كل ذلك ثقافة التغيير السلمي المدني.

إذن؛ ما يحاول سعيد القيام به هو شق طريق ثالثة -إن جاز لي التعبير- تخرج بالمجتمعات العربية والمسلمة من الخيارين السابقين، وتقوم على إمكانية التغيير من خلال مستويات أخرى غير المستوى السياسي، بمعنى التغيير الثقافي والإسهام في بناء المجتمعات والأمة الراشدة التي تفكر في دورها ومسؤوليتها، بدلاً أن ترمي الحمل بأسره عن ظهرها، وتتذرع بالسلطة لتبرير تخليها عن واجبها التنموي والإصلاحي.

ومع ذلك كله فإنّ سعيداً لم يُلغِ العديد من الأدوات التي يمكن من خلالها معارضة السلطة أو القيام بالمشروع الإصلاحي، كالاحتجاج السلمي والعصيان المدني وقول الحق ومواجهة الفساد وغير ذلك؛ لكنه طالب أن يكون هنالك إعلان واضح وصريح من قبل الإسلاميين بتحريم العمل المسلح والسري داخل المجتمعات العربية والمسلمة للتأكيد على مسألتين مهمتين؛ الأولى: بناء ثقافة إنسانية راسخة في المجتمعات العربية والمسلمة، والثانية منع التذرع بتهم الإرهاب والعمل المسلح للقضاء أو التنكيل بالحركات الإسلامية، وهو ما حصل في تجارب عربية معاصرة.

الميزة الأخرى لمقاربة سعيد (وقبله مالك بن نبي) أنّها تحقق نتائج واقعية- إذا أُخذ بها- دون الحاجة إلى انتظار الوصول إلى السلطة أو تغييرها؛ ذلك أنّ هذه المقاربة تركز على القيم الأخلاقية في التعامل اليومي، حيث تشمل الثقافة المعنى المعرفي والسلوكي، وبالتالي هي ذات شق تنويري يسعى إلى تطوير المجتمعات وإحداث اختراق فكري وثقافي واجتماعي، وعدم التوقف على الجانب السياسي.

يوضح الفكرة السابقة جمال جمال الدين في تعقيبه على مشروع سعيد فيقول: "إنّ على الذين يستخفون بالتغييرات الصغيرة في النفس والمواقف والسلوك، ويتمسكون دونها بالأفعال البطولية في مكافحة الاستبداد والاستعمار والقوى الكبرى أن يعلموا أننا لن نستحق شرف الخلاص من الاستبداد والقهر والسيطرة الاستعمارية، ولن نستحق احترام شعوب العالم ولن يحسبوا لنا حساباً إلا بعد أن تصبح شوارعنا نظيفة... ونحترم قوانين السير... ولا نؤذي جيراننا... وأننا لن نستحق شرف الخلاص من العبودية ما لم نخلص نفوسنا من الاستعباد، ولن نتخلص من الذل ما لم نبن الكرامة في نفوسنا... وكل هذا لن يحصل ما لم يتغير الإنسان... وهو لن يتغير ما لم يغير أفكاره ومعتقداته ومفاهيمه ونظرته إلى نفسه والعالم من حوله"(51).

الخلاصة: 

أين يقف سعيد في "حقبة" الثورات العربية؟

عودة إلى التساؤلات التي رحّلناها إلى هذه الخلاصة؛ ما أهمية ما يطرحه جودت سعيد في حقبة الثورات العربية؟ وفيما إذا كان ما قدمه خلال العقود الماضية ما يزال حيّاً مفيداً مهماً أم أنّه يتناسب مع شروط التغيير في مواجهة الأنظمة الاستبدادية فقط؟ وهل جاءت هذه الثورات بما يؤكد ويخدم مشروعه الفكري أم بما يتناقض معه؟

من حسن الحظ أنّنا نتحدث عن مفكّر ما يزال حيّاً، شاهداً على هذه المرحلة وما فيها من نيل لحرية الشعوب، وما واجهته أيضاً من إخفاقات وانتكاسات لاحقاً، وولوج إلى صراعات أيديولوجية وطائفية وسلطوية.

ليس ذلك فحسب؛ بل أيّد سعيد الثورة السلمية في سورية، ووقف إلى جانب مطالب الحرية والتحرر الشعبية(52)، وقد غادر سورية إلى أوروبا لإلقاء محاضرات، وعاد إلى إسطنبول في الآونة الأخيرة، وبالرغم من موقفه الواضح في نبذ العنف ورفض حمل السلاح بديلاً عن التغيير السلمي؛ فإنه تجنب توجيه النقد العلني لـ"عسكرة الثورة السورية"، وعلى الأغلب خشيةً من توظيف النظام السوري لهذا الموقف(53)، في الوقت الذي لا يزال تلاميذه ومريدوه يشاركون في الاحتجاجات السلمية في سوريا، وقد قتل شقيقه (محمد) في قصف للجيش السوري على قريتهم بئر عجم، في نوفمبر 2012، بينما نجا جودت سعيد (81 عاماً) من القتل(54).

وكان سعيد قد اتجه أكثر إلى التفاعل مع الشأن السياسي؛ فأسهم قبل ذلك في حركة المعارضة السلمية، ووقّع على إعلان دمشق (2005)، مع أطياف المعارضة هناك، بما تضمنه من مطالب بالديمقراطية والحرية وإنهاء حالة الطوارئ والأحكام العرفية.

في السياق نفسه يرصد لنا الباحث السوري عبد الرحمن الحاج ما يسميه "هجرة سعيد إلى السياسة" في السنوات الأخيرة، ومشاركته بصورة واضحة في نشاطات المعارضة السورية، وغلبة النشاط السياسي على حضوره، وربما هذا - كما يشير عبد الرحمن نفسه- يبدو ظاهرياً مغايراً لاهتمامات الرجل الأساسية في مشروع التغيير الثقافي الذي كرّس أغلب كتاباته له(55)!

ذلك يضعنا أمام إشكالية قد تثار حول مشروع سعيد، في حقبة الثورات العربية، فيما إذا كان هنالك تناقض أو تباين - على أقل تقدير- بين هذه الثورات الشعبية من جهة والمسألة الثقافية، التي جعلها سعيد شرطاً للتغيير والنهوض من جهة أخرى(56)؟

لتوضيح ذلك، من الضروري أن نميّز آراء سعيد في الديمقراطية والتغيير السلمي عن موقفه من العمل المسلّح والتنظيمات السريّة وتأكيده على أهمية مبدأ العمل السلمي ونبذ العنف في التغيير وإدارة الصراع الداخلي؛ إذ الجانبان متكاملان، ولا يتناقضان.

أنجزت الثورات الشعبية العربية السلمية شطراً مهماً من مشروع التغيير لدى سعيد، ويتمثّل في هدم ثقافة الاستبداد والخوف التي هيمنت على الشعوب العربية خلال العقود، وربما القرون الماضية، عندما خرج المواطنون إلى الشارع سلمياً يطالبون بحريتهم وبالديمقراطية، وبحقهم في حياة كريمة، فتحرير الإنسان وحريته هاجس رئيس في التغيير والتقدم، فيما يطرحه الرجل، بل رأى في الثورة الإيرانية السلمية مثالاً وتأكيداً لما يدعو إليه من العمل السلمي المدني المناهض للاستبداد.

إنّما كان نقد سعيد ورفضه هو -تحديداً- استخدام السلاح في التغيير، والدخول إلى دهاليز التنظيمات السرية، أو الوصول إلى الحكم عبر القوة والسلاح، فهذا ما رفضه بشدة، وفنّده في كتاباته، ولم يكن أبداً ضد التغيير السلمي، بل ما حدث من ثورات سلمية في تونس ومصر هو تأكيد على جدوى هذا الخيار بديلاً للعنف والسلاح.

من جهة أخرى، فإنّ الثورات العربية لا تسقط مقولات المدرسة الإصلاحية والثقافية التي ينتمي إليها صاحبنا؛ بل ما حدث بعد ذلك من تخبط وتجاذبات وإخفاقات وصراعات وصلت حدّاً دموياً- في عملية الانتقال إلى بناء الأنظمة الديمقراطية- تأكيد آخر على أنّ الجانب الثقافي والمعرفي، الذي ينجم عنه وعي مجتمعي بأهمية المعرفة والفكر، وبوعي موازٍ لأهمية إدارة الصراعات الداخلية سلمياً، وتجريم العنف والسلاح!

ثمّ إن المقاربة الإصلاحية بما حملته من نقد للمجتمعات والتخلف، والدفع نحو التقدم والتنمية والإصلاح، وما ينجم عن ذلك من تطور معرفي وصناعي واقتصادي بمثابة إشارات مبكرة من لدن الفكر الإسلامي بأنّ تمكين النظام الديمقراطي يتطلب روافع ثقافية مجتمعية وازدهار اقتصادي يخدم المرحلة الجديدة ويعزّزها.

أخيراً، تبرز قيم نبذ العنف ورفض استخدام القوة في إدارة الصراع الداخلي، والتأكيد على قيمة الإنسان وقدسية السلم المجتمعي، التي كرّس سعيد جزءاً كبيراً من مشروعه الفكري لها في اللحظة التاريخية الراهنة من حياة الشعوب، مع صعود النزعات الطائفية والعرقية والاحتراب الأيديولوجي، والاستهتار بالدماء وحرمتها والمخاطر التي تضرب السلم المجتمعي والأهلي في دول الثورات الديمقراطية العربية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) انظر: غطفان القادري، جودت سعيد، نبذة عن سيرته وفكره وأعماله، من كتاب "جودت سعيد: بحوث ومقالات مهداة إليه"، دار الفكر، دمشق، ط1، 2006، ص17-20.

2) انظر: خالص جلبي، رحلتي الفكرية مع جودت سعيد، في: مجموعة مؤلفين، جودت سعيد، مرجع سابق، ص111، وذلك النص كتبه جودت سعيد حول سيرته الفكرية بطلب من خالص جلبي.

3) محمد أبو رمان، الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي: المقاربات، القوى، الأولويات، الاستراتيجيات، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط1، 2010، ص28-30.

4) حول شواغل كل من المرحلتين الإصلاحية والإحيائية- الحركية، انظر: رضوان السيد "المسألة الثقافية في العالم الإسلامي"، في كتاب "المسألة الثقافية في العالم الإسلامي: حوارات لقرن جديد"، دار الفكر، دمشق، ط3، 2001، ص85-93.

5) انظر حول موقع مالك بن نبي في الفكر الإسلامي الحديث: محمد شاويش، مالك بن نبي والوضع الراهن، دار الفكر، دمشق، ط1، 2007، ص70-83. وكذلك حول تراجع أهمية المراقبة الإصلاحية والثقافية في الفكر الإسلامي خلال العقود الماضية: محمد أبو رمان، الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي، مرجع سابق، ص60-64. وكذلك رضوان السيد حول عودة الاهتمام بالمقاربة الثقافيةخلال السنوات الأخيرة، في: رضوان السيد، مشاهد التغيير ومناهجه في الفكر العربي الحديث والمعاصر، مجلة التسامح، ع11، صيف 2005، ص21-24.

6) انظر: جودت سعيد، رحلتي الفكرية مع جودت سعيد، مرجع سابق، ص107-110.

7) عبد الرحمن الحاج، الدولة والجماعة: التطلعات السياسية للجماعات الدينية في سورية (2000-2010)، مركز التواصل والأبحاث الاستراتيجية، لندن، 2010، ص21-23.

8) انظر حول أسس المقاربة الثقافية- الإصلاحية: محمد أبو رمان، الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي، مرجع سابق، ص28-30. وحول مصادر الفكر وروافده، التي تأثر بها سعيد، انظر جواب سعيد نفسه على سؤال أحد القراء، على موقعه الرسمي على شبكة الإنترنت، عن أهم المحطات في مساره الفكري، على الرابط التالي: http://jawdatsaid.net/index.php?title=

9) حول فكرة السننية والسببية في رؤية المدرسة الإصلاحية؛ محمد أبو رمان، بين حاكمية الله وسلطة الأمة: الفكر السياسي للشيخ محمد رشيد رضا، وزارة الثقافة في الأردن، عمان، 2010، ص191-217.

10) ماهر الشريف، من غروب الإصلاح الديني إلى تجديد الفكر الإسلامي، في: مجموعة باحثين، تيار الإصلاح الدين ومصائره في المجتمعات العربية، دمشق، 2003، ص247-255. 

11) أول من نادى به العلامة أبو الكلام آزاد (توفي عام 1958)، وكان رفيقًا للمهاتما غاندي، وطيب الله، وخان عبد الغفار خان (توفي عام 1988م)، والمفكر المعاصر وحيد الدين خان. وقد تبنَّى هؤلاء المفكرون في القارة الهندية تعبير "اللاعنف" ليحمل فكرة ومفهوم تقنيَّة فاعلة في الصِّراع كفيلةٍ بإنجاز تحوُّلٍ اجتماعيٍّ سلميٍّ. ومن أبرز دعاته في العالم العربي: جودت سعيد، وخالص جلبي. انظر: كريم دوجلاس كرو: «تأصيل السَّلام في الخطاب الإسلاميّ» مجلة «إسلامية المعرفة» السنة 7، عدد: 25، 2001، ص157.

12) تجدر الإشارة في السياق ذاته إلى مقاربات فكرية إسلامية أخرى أكّدت على رؤية سعيد بتحريم ومنع استخدام السلاح في المعادلات أو الصراعات السياسية الداخلية، ومن هذه المقاربات كتاب عبد الحميد أبو سليمان "العنف وإدارة الصراع الداخلي بين المبدأ والخيار (رؤية إسلامية)"، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فيرجينيا، ط1، 2000، إذ يحدد لنا الكاتب منذ البداية أنّ التعامل مع هذه القضية لابد أن يكون من خلال المنهج الشمولي التحليلي، الذي يستند إلى دراسة تحليلية لمصادر التنظير الإسلامية وإلى سيرة الرسول (-صلَّى الله عليه وسلَّم-)، ودراسة محاولات التغيير على مر التاريخ الإسلامي. ويبين أن دراسته وتأمله في هذه القضية قاده إلى النتيجة التالية: "لا شك أنّ ما كان سياسيا في داخل أي مجتمع لا يحل بشكل إيجابي بناء، إلاّ سياسيا، وأنّه لا يصح إعطاء المشروعية لأي حل من الحلول، يقوم على أساس وسائل القهر والإكراه، من قبل أي فئة من فئات المجتمع حاكمة أو محكومة، في كل ما يتعلق بقضايا المجتمع ذات الطابع السياسي العام"(ص 8). ويشير المؤلف إلى قضية منهاجيه أساسية كان لغيابها دور كبير في الغبش والتذبذب في فهم موضوع العنف، حيث لابد من التمييز بين مستويات ثلاث في تناول قضايا الصراع، فهناك الصراع السياسي داخل الأمة أو داخل المجتمع السياسي وقضايا الصراع السياسي بين الأمم والمجتمعات المتقابلة وقضايا المدافعات الناجمة عن واجبات السعي بالدعوة نحو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحض على مكارم الأخلاق والدعوة لإحقاق الحقوق. ومن مقاربات رفض العنف والعمل المسلح ما قدمه المفكر الباكستاني أبو الأعلى المودودي الذي سبق سعيد في تحريم العمل المسلح والسري، حتى لو كان مضمون العواقب والنتائج، انظر: أبو الأعلى المودودي، بين يدي الشباب، مكتبة الرشيد، الرياض، ط2، 1983، ص68-70. وكذلك أبو الأعلى المودودي، واجب الشباب المسلم اليوم، الدار السعودية للنشر، جدة، ط1، 1988، ص28، حيث يؤكد على أنّ السبيل الوحيد للوصول إلى الحكم هو صندوق الاقتراع والمسار الديمقراطي، ويرفض بصلابة أي حلول تأتي بالإسلاميين إلى السلطة عن طريق العمل السري والمسلّح، ويوجه نصيحة للشباب المسلم " أود أن أوجه لكم في الختام نصيحة وهي: ألا تقوموا بعمل جمعيات سرية لتحقيق الأهداف فذلك لا يجدي بشيء.

13) انظر حول مفهوم الكلالة والفعالية: جودت سعيد، الإنسان كلاًّ وعدلاً، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1 1993، أغلب فقرات الكتاب، وهو بالمناسبة من تأليف أخت سعيد، ليلى، لكن سعيداً تبنى الكتاب ووضع اسمه عليه باعتباره يمثل أفكاره.

14) قارن ذلك بـ: جمال جمال الدين، مراجعة لتقويم مشروع التغيير، في: مجموعة مؤلفين، جودت سعيد: بحوث ومقالات مهداة إليه، دار الفكر، ط1، 2006، ص272. وهذا الكتاب يضم بين دفتيه مجموعة من المقالات والأبحاث حول فكر جودت سعيد تكريماً له ولمشروعه الفكري.

15) انظر: جودت سعيد، مذهب ابن آدم الأول: مشكلة العنف في العمل الإسلامي، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط5 1993، ص198-199. 

16) جودت سعيد، مفهوم التغيير، دار الفكر، دمشق، ط1 1995، ص134، 135، وقارن ذلك بـالمرجع نفسه ص183.

17) انظر: جودت سعيد، العمل قدرة وإرادة، مرجع سابق 237-238.

18) قارن ذلك بـ: محمد العمار، جودت سعيد كما أفهمه، وكيف عرفته، مجموعة المؤلفين، جودت سعيدـ مرجع سابق، ص50-60.

19) جودت سعيد، العمل قدرة وإرادة، مرجع سابق، ص230-260.

20) انظر: المرجع السابق، ص255.

21) المرجع السابق، ص245.

22) انظر: خالص جلبي، رحلتي الفكرية مع جودت سعيد، في: مجموعة مؤلفين، جودت سعيد، مرجع سابق، ص111، وذلك النص كتبه جودت سعيد حول سيرته الفكرية بطلب من خالص جلبي.

23) المرجع السابق، ص95.

24) انظر: المرجع السابق، ص107.

25) خالص جلبي، في النقد الذاتي: ضرورة النقد الذاتي للحركة الإسلامية، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1 1984. 

26) انظر: جودت سعيد، العمل قدرة وإرادة، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط2 1993، ص15.

27) المرجع السابق، ص271.

28) قارن ذلك بـ: جودت سعيد، مفهوم التغيير، مرجع سابق، ص62-70.

29) انظر: جودت سعيد، العمل قدرة وإرادة، مرجع سابق، ص78.

30) جودت سعيد، مفهوم التغيير، مرجع سابق، ص114، 115.

31) المرجع السابق، ص115.

32) جودت سعيد، العمل قدرة وإرادة، مرجع سابق، ص121.

33) جودت سعيد، مفهوم التغيير، مرجع سابق، ص115. ويقصد سعيد بقتال العلماء الأفغان الحرب الأفغانية الداخلية التي اندلعت بعد خروج الاتحاد السوفيتي في أواخر ثمانينات القرن المنصرم، وقبل ظهور إمارة طالبان الأولى في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي. 

34) انظر: جودت سعيد، مذهب ابن ادم الأول، مرجع سابق، ص70-72.

35) جمال جمال الدين، مراجعة لتقويم مشروع التغيير، في مجموعة مؤلفين، مرجع سابق، ص276-277.

36) قارن ذلك بـ: جودت سعيد، مفهوم التغيير، مرجع سابق، ص52-60.

37) المرجع السابق، ص233.

38) المرجع نفسه ص239.

39) انظر: جودت سعيد، كن كابن آدم، دار الفكر، دمشق، ط1 1997. الكتاب يضم بين دفتيه أغلب الأفكار الواردة في كتابه مذهب ابن آدم" مع أفكاره حول المعرفة والقراءة والتغيير، ومؤشرات من تجربة الوحدة الأوروبية.

40) المرجع السابق، ص97.

41) انظر: المرجع السابق 46.

42) انظر: المرجع السابق، 41-48، وقارن ذلك بـ: جودت سعيد، مفهوم التغيير، مرجع سابق، ص140-145.

43) انظر: جودت سعيد، مذهب ابن ادم، مرجع سابق، ص145-148.

44) المرجع السابق، ص103-131.

45) المرجع السابق ص92.

46) انظر: جودت سعيد، مفهوم التغيير، مرجع سابق، ص236.

47) المرجع نفسه ص233.

48) المرجع نفسه ص158- 161.

49) انظر: جودت سعيد، مذهب ابن آدم الأول، مرجع سابق، ص185-194.

50) انظر: جودت سعيد، مفهوم التغيير، مرجع سابق، ص239، 240.

51) جمال جمال الدين، مراجعة لتقويم مشروع التغيير، مرجع سابق، ص180.

52) انظر على سبيل المثال خطبته في مدينة جاسم في درعا تأييداً للثورة السلمية، لمشاهدة الخطبة، الرابط التالي على موقع ايوتيوب: http://www.youtube.com/watch?v=urTzcRC8njs

53) مقابلة خاصة مع عبد الرحمن الحاج، الباحث السوري وعضو المجلس الوطني السوري، عبر الفيس بوك، 9-11-2013. وكذلك: "الشيخ جودت سعيد يشدد على أهمية الحفاظ على سلمية الثورة"، 24-9-2011، موقع التغيير السوري، الرابط التالي: https://syrianchange.wordpress.com/2011/09/2 /

54) انظر: "مقتل شقيق المفكر جودت سعيد في قصف على الجولان"، صحيفة الدستور المصرية، 7-11-2012.

55) عبد الرحمن الحاج، الدولة والجماعة: التطلعات السياسية للجماعات الدينية في سورية (2000-2010)، مرجع سابق، ص47-48.

56) يطرح هاشم صالح في كتابه "الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ؟" (دار الساقي، بيروت، ط1، 2013) سؤالا متعانقاً مع هذه الإشكالية، وهو: هل الثورات العربية: حدث تاريخي أم زوبعة في فنجان؟ في تساؤله عن أهمية التنوير في قدح شرارة التغيير والتقدم، ليصل إلى نتيجة تتمثل في أنّ الثورات أنهت حقبة الاستبداد والتتكلس والجمود السياسي، وهي في طريقها إلى إنهاء الأصولية "السلفية- الإخوانية"، وفتح الطريق أمام مشروع التنوير (ص13-24).

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/12/246

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك