أحكام المعارضين في كتب الفقه الإسلامي ودلالتها القيمية والأخلاقية

خالد بن سعيد المشرفي

في دولة المدينة امتزج الديني والسياسي امتزاجا صعَّب فيما بعد الفصل بين قضاياهما والفرز بين ما هو ممارسة نبوية مصدرها السماء -وبتعبير الفقهاء من حيث هو بلاغ للرسالة- وما هو ممارسة سياسية وتدبيرية، وهو ما أسماه الفقهاء بالسياسة الشرعية. ورغم هذا الفرز بين المجالين في الوعي الفقهي فإن كثيرا من الممارسات التاريخية تعمدت فرض أو استغلال ذلك الامتزاج.

فتوسع الدولة بفعل الحركة الطبيعية لها في حالات القوة والاندفاع حملت بمضامين الجهاد ونشر الإسلام، وتيسير وصول الدعوة، وتم استغلال مفهوم الخوارج أسوأ استغلال في رمي أي معارضة سياسية والتخلص منها باسم الدين وبمباركته.

ولم يكن مصطلح (البغي) بمنأى عن استغلال السياسي وتطويعه في خدمة مآربه وتوجهاته، وليس أدل على ذلك من المرويات الكثيرة في التحذير من الخروج أو الفتنة أو مفارقة الجماعة إلى غير ذلك من المصطلحات التي ترد كثيرا في تلك الروايات.

وتتباين المدارس الفقهية في توجهاتها وبلورة مفاهيمها حول أحكام البغي ليس بحكم الاختلاف حول مرجعية النصوص ثبوتا أو تأويلا؛ ولكن بتأثير الواقع السياسي والأوضاع الاجتماعية السائدة التي تؤثر لا محالة في الناتج الفقهي.

البغي كاصطلاح فقهي:

البغي في اللغة يأتي على معان، منها: الطلب كما في قول الله تعالى: ﴿ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ﴾(1)، أو بمعنى الظلم كما في قوله: ﴿خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ﴾(2)، ومن معانيها أيضا الفساد كما في قول العرب: بغى الجرح إذا فسد ونتن، والبغي هو قصد الفساد.

وقد تباينت تعريفات الفقهاء للبغي وإن كان الخلاف فيها يعود إلى اختلاف في بعض المسائل الفرعية؛ فقد عرف ابن عابدين البغي بأنه: الخروج عن طاعة إمام الحق بغير الحق(3). ويعرف ابن جزي (ت741هـ/1340م) البغاة بأنهم: الذين يقاتلون على التأويل(4). وعند البهوتي (ت1051هـ/1641م)هم: قوم من أهل الحق باينوا الإمام، وراموا خلعه أو مخالفته بتأويل سائغ أو خطأ، ولهم منعة وشوكة بحيث يحتاج في كفهم إلى جمع جيش(5).

وتتفق هذه التعريفات وبشكل عام على أهم الأركان الأساسية لجريمة البغي، وهي القصد إلى الخروج (قصد جنائي)، ومغالبة الدولة (الثورة والعصيان المسلح)، والتأويل (باعث سياسي)، وهذا المفهوم للبغي في الشريعة يقابله الجريمة السياسية أو الجرائم الماسة بأمن الدولة كما تنص القوانين الوضعية.

ومع ذلك فهناك مسائل أخرى ظلت مثار جدال بين الفقهاء وشرائط أخرى حتى تكتمل عناصر (جريمة البغي) وتستحق عقوبتها المقررة. 

آية الحجرات وشغب الروايات

كل الكتابات الفقهية في موضوع البغاة تحيل إلى آية الحجرات باعتبارها الأصل الذي تستند إليه تلك الأحكام من كتاب الله وهي قوله تعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾(6).

وفي أسباب نزول هذه الآيات يروي ابن كثير (ت774هـ/1372م) روايات ثلاثاً الأولى: في أصحاب النبي وأصحاب عبد الله بن أبيّ انتهى الخلاف باشتباك بالأيدي وضرب بالجريد والنعال.

والثانية: خلاف بين الأوس والخزرج انتهى إلى قتال بالسعف والنعال.

والثالثة: خلاف بين قوم بسبب امرأة منعها زوجها من زيارة أهلها انتهى إلى تدافع واجتلاد بالنعال(7).

وبالنظر إلى هذه الروايات المذكورة سببا لنزول الآيات يجد الباحث أن هذه الروايات لا تكاد تفي بالحد الأدنى لتأصيلات الفقهاء؛ ففي حين يتحدث الفقهاء عن اقتتال بسبب خلافات سياسية ذات بُعد أيديولوجي تأويلي نجد أن الروايات تتحدث عن حدث عارض واشتباك بالأيدي بسبب خلافات عارضة، ورغم أن الفقهاء لا يأخذون بخصوص السبب بقدر ما يعولون على عموم اللفظ فإن أسباب النزول لها أهمية في توضيح السياقات وإزالة الغموض، وقد أخذ الفقهاء أغلب تلك الأحكام من الممارسة العملية لكبار صحابة النبي لا سيما في الأحداث في خلافة الإمام علي.

المعارضة وسيادة الدولة:

من أهم وظائف الدولة الحفاظ على السيادة، وحفظ السلم والأمن الاجتماعي، وأي انخرام في تلك الوظائف يهدد بذهاب الدول وزوالها، والبغي من الجرائم التي تهدد السيادة؛ بل تسعى إلى انتزاعها أو اخترامها وتنغيص السلم الأهلي وإزعاجه، وهذا ما تعارف عليه كل البشر وتواضعوا عليه تؤكد عليه دساتير الدول وتنص عليه تشريعاتها، ويعدُّون أي تهديد لسيادة الدولة خطاً أحمر لا يسمح بالاقتراب منه.

فأبو بكر الصديق أعلن حربا شعواء على مانعي الزكاة في عهده؛ لأنه عدّ رفض دفع الزكاة انتقاصا من سيادة الدولة، وقال قولته المشهورة: والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم حتى يؤدوه.

والتعريفات التي ذكرناها آنفا مانعة لدخول غيرهم في أحكامهم حيث ارتكبوا جريمة (الخروج عن طاعة إمام الحق) وهم (الذين يقاتلون) وقد (باينوا الإمام...ويحتاج في كفهم إلى جمع جيش).

شرائط المعارضة:

تناولت كتب الفقه الإسلامي الشروط الواجب توافرها في الخارجين عن النظام حتى تشملهم أحكام البغاة؛ حيث يفرق الفقهاء بين قتال المشركين وقتال أهل القبلة وقتال المحاربين وقطاع الطرق بناء على نصوص وممارسات تمثل مرجعية فقهية. وعند الحديث في أي مسألة من هذه المسائل ف(التأول) هو أول شرائط البغي وأكثرها أهمية في وعي الفقيه؛ يقول الشربيني (ت977هـ/1569م): وبشرط تأويل يعتقدون به جواز الخروج عليه أو منع الحق المتوجه عليهم؛ لأن من خالف من غير تأويل كان معاندا للحق(8).

يمثل التأويل المبرر أو الباعث السياسي للقيام بالخروج أو الثورة، فتغلّب اللصوص على مدينة ما والقتل وأخذ المال دون تأويل لا يعدّ بغيا بحسب الموصلي؛ لأن المنعة لو وجدت فالتأويل لم يوجد(9).

ويمثل بعض الفقهاء للتأول كتأويل الخارجين من أهل الجمل أو خروج معاوية بن أبي سفيان صفين على علي رضي الله عنه بأنه يعرف قتلة عثمان رضي الله عنه، ويقدر عليهم، ولا يقتص منهم لمواطأته إياهم، وتأويل بعض مانعي الزكاة في عهد أبي بكر رضي الله عنه بأنهم لا يدفعون الزكاة إلا لمن صلاته سكن لهم وهو النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-(10) ولا يشترطون في التأويل أن يكون صوابا بل يكفي أن يمثل رؤية تستحق النظر فيها، وبتعبير الشربيني: يشترط في التأويل أن يكون فاسداً لا يقطع بفساده(11).

ومجدي عز الدين حسن يؤكد على مفصلية المطالب السياسية يقول: ففي عهد يزيد خرج الحسين بن علي ومن ورائه أهل العراق فأرسل إليهم يزيد جيشاً فقاتلهم وقتل الحسين بن علي سنة (61هـ/680م) ونقض أهل المدينة بيعته وخرجوا عليه وخرج عليه أهل مكة وعلى رأسهم عبد الله بن الزبير فقاتلهم جيش يزيد وما نريد التنبيه عليه هنا أن صحابة رسول الله كانوا على رأس الخارجين على يزيد وقد كان مطلبهم الأساسي هو أن يعود هذا الأمر شورى بين المسلمين أن الذين خرجوا دفاعاً عن مبدأ الشورى كانوا فقهاء الصحابة وأفضلهم في ذاك الزمان ورعاً وعلماً وتقوى وحاربوا من أجل ذلك وقتلوا(12).

وبالنظر إلى المبرر والباعث يقسم ابن حزم (تـ 456هـ/1064م) البغاة إلى قسمين: قسم خرجوا على التأويل في الدين فأخطأوا فيه كالخوارج وما جرى مجراهم من سائر الأهواء المخالفة للحق. وقسم أرادوا لأنفسهم دنيا فخرجوا على إمام حق أو على من هو في السيرة مثلهم، فإن تعدت هذه الطائفة إلى إخافة الطريق أو إلى أخذ مال من لقوا أو سفك الدماء انتقل حكمهم، إلى حكم المحاربين، وهم ما لم يفعلوا ذلك في حكم البغاة(13).

ويؤكد ذلك أيضا عليش (تـ1299هـ/1881م) الذي يرى أن أهل العصبية وأهل الخلاف بلا تأويل الحكم فيهم القصاص ورد المال قائماً أو فائتا(14).

ويفرق به بين أهل العصبية والمتأولين، فالخوارج كما يقول إذا خرجوا فأصابوا الدماء والأموال، ثم تابوا ورجعوا وضعت الدماء عنهم ويؤخذ منهم ما وجد بأيديهم من مال بعينه وما استهلكوه فلا يتبعون به وإن كانوا أولياء؛ لأنهم متأولون بخلاف المحاربين فلا يوضع عنهم من حقوق الناس شيء(15). 

وعلى الرغم من وضوح التفرقة تلك إلا أن أغلب ثورات العصور الأولى كانت بقيادة فقهاء كبار وهم وقودها كما يقول محمد ولد الجودة وكانت أول هذه الثورات ثورة عبدلله بن حنظلة الغسيل وكان شريفا فاضلا سيدا عابدا فلما قدم علي يزيد ورأي حاله رجع إلي المدينة وخلعه وبايعه أهل المدينة وكان عبد لله من صغار الصحابة وقتل يوم الحرة وقتل معه من الصحابة عبد لله بن زيد بن عاصم الأنصاري وعبد لله بن السائب المكي القارئ ومعقل بن سنان الأشجعي ويدل علي وجود العلماء والفقهاء في شهداء الحرة ما قاله مالك رحمه لله تعالى: قتل يوم الحرة من حملة القرآن سبع مائة (16).

وهو ما أسهم وعيا أصيلا لدى الفقهاء باعتبار الباعث السياسي أو المطالب المشروعة ضمن تصورهم لموضوع البغي.

والفرق بين الباغي والمحارب أن المحارب يخرج فسقا وعصيانا على غير تأويل، والباغي الذي يحارب على تأويل، وهذه التفرقة ضرورية وهامة فيما يرى الفقهاء باعتبار المقاصد وباعتبار احتمال الصواب، فهم أصحاب رأي ووجهة نظر ومطالب قد تكون مشروعة.

وبسبب ارتباط أحكام البغاة بالممارسة العملية للإمام علي وكون الخارجين عليه أصحاب تأويل سياسي فإن الفقهاء لا يذكرون مسألة الاحتراب بين دولتين مسلمتين أو جماعتين، وهل يتعاملان فيما بينهما وفق أحكام البغاة باعتبار أن الإسلام هو دين الجميع؟ وهو ما يدعو إلى التساؤل حول مناط خصوصية أحكام البغاة هل هو التأول كما تشير إلى ذلك تفريعات الفقهاء أم هو الإسلام، كما يؤيد الباحث، إن التلازم في الوعي الفقهي بين البغاة وخصوصية الخارجين على الإمام علي كونهم متأولين هو الذي ورث تلك المقاربة، وهي أن البغاة يجب أن يكونوا متأولين بل إن الإمام طبق أحكام على في حربه على معاوية ولو قدر له أن يحارب دولة إسلامية أخرى على تنازع في مصالح الدولتين أيا كانت فهل كان سيطبق عليهم أحكام المشركين مثلا!

نقول ذلك ونعود إلى آية الحجرات التي تتحدث عن عموم احتراب يقع بين طائفتين من (المؤمنين) يوجب على المجتمع المسلم حكومات وأفرادا السعي بالصلح دون أي تفرقة بين متأول أو غير متأول.

هنا يحق لنا التساؤل ما الذي يدعو الفقيه إلى اعتبار التأول شرطا لتطبيق أحكام البغي؟ هل وقوعه دون وعي تحت تأثير النص بملابساته، وجعل خصوص الملابسات مناطا للحكم وإهمال الرؤية القرآنية العامة والشاملة؟ أم أنه -وبعض الظن إثم- وقع تحت تأثير السياسي الذي يرغب في تصفية معارضيه السياسيين بأبشع الصور، وإيجاد مبرر لتصرفاته تحت ذريعة أنهم غير متأولين؟

ما يفتح المجال واسعا للنظر في هذا الموضوع أن السالمي ذكر صورتين من صور البغاة، فبعد أن تحدث عن المعنى اللغوي للبغي قال:

هذا كلامه في معنى البغي، ومنه يشتق اسم الباغي المتصف بالبغي، ويثبت عليه البغي شرعا بأمور: منها أن يخرج عن طاعة الإمام العادل بعد وجوب طاعته عليه... ومنها أن يعطل الإمام الحدود ويتسلط على الرعية ويفعل فيهم بهوى نفسه ما شاء فيستتيبونه فيصر على ذلك فيصير بعد الإمامة جبارا عنيدا..(17).

هذه الصور تفتح مجالا واسعا لافتراض صور أخرى يجمع بينها أنها احتراب بين فئتين مسلمتين.

وثاني شرائط البغي: الشوكة والمنعة ويفسرها النووي (ت 676هـ/1277م): بحيث يحتاج الإمام في ردهم إلى الطاعة إلى كلفة ببذل مال أو إعداد رجال ونصب قتال فإن كانوا أفراداً يسهل ضبطهم فليسوا بغاة(18).

وبرأي الشافعي (ت204هـ/819م) فإنها جماعة تكثر، ويمتنع مثلها بموضعها الذي هي به بعض الامتناع حتى يعرف أن مثلها لا ينال حتى تكثر نكايتة(19).

واشتراط الفقهاء للشوكة- باعتبار أن صاحب الشوكة يهدد النظام العام، ويمثل خطورة على السلم الاجتماعي- يلاحظ فيه عدم استناد الفقهاء إلى نص مباشر في الموضوع، الأمر الذي يحيل إلى التقدير الشخصي للفقيه، ومن ثم فإمكانية التغيير والتبديل بحكم عامل الزمان والمكان يظل هو سيد القضية لا سيما أن متغيرات العالم اليوم أصبحت أكثر تسارعا واختلافا.

يؤكد الشافعي أيضا أن إظهار المعارضة السياسية ليس مبررا لأي عمل مسلح من قبل السلطة يقول: ولو أن قوما أظهروا رأي الخوارج وتجنبوا جماعات الناس وكفروهم لم يَحلُل بذلك قتالهم؛ لأنهم على حرمة الإيمان لم يصيروا إلى الحال التي أمر الله عز وجل بقتالهم(20). وهو ما يعني عدم جواز استخدام العنف من قبل السلطة -حتى لو كانت شرعية- ضد المعارضة ما دامت ملتزمة بمبدأ السلمية تجاه النظام والمجتمع، ولم تشكل أي تهديد للأمن العام.

الدعوة إلى الحوار

قبل أن تعلن السلطة الحرب لا بد أن تستنفد كل إمكانات التوصل إلى حل عبر الحوار والمفاوضات، تلك هي فكرة (الدعوة) أي دعوة البغاة للجلوس للحوار، ومعرفة أسباب خروجهم، وهو ما عناه الشافعي بقوله: فينبغي إذا فعلوا هذا أن نسألهم: ما نقموا؟ فإذا ذكروا مظلمة بينة، قيل لهم: عودا لما فارقتم من طاعة الإمام العادل، وأن تكون كلمتكم وكلمة أهل دين الله على المشركين واحدة(21).

وتعدّ النظرية الفقهية تلك (الدعوة) حقاً واجباً على السلطة السياسية لا يجوز دونه المباغة بقتال، يقول الشافعي: فحق على كل أحد دعا المؤمنين إذا اقترفوا وأرادوا القتال ألا يقاتلوا حتى يدعوا إلى الصلح، وبذلك قلت: لا يُبيت أهل البغي قبل دعائهم؛ لأن على الإمام الدعاء -كما أمر الله عز وجل- قبل القتال(22).

ويستشهد صاحب كشاف القناع (تـ1051هـ/1641م) بمراسلة الإمام علي لأهل البصرة قبل وقعة الجمل، ولما اعتزلت الحرورية بعث إليهم ابن عباس(23). وهو ينصح متخذ القرار بعدم الاستعجال بالمعالجة العسكرية، وإن طلب البغاة أن يُنظرهم مدة رجاء رجوعهم فيها أنظرهم؛ لأن الإنظار أولى من معالجتهم بالقتال المؤدي إلى الهرج والمرج(24).

ولا يسقط واجب الدعوة إلا إذا بدأ البغاة بالمحاربة، فتجوز حينئذ محاربتهم من غير دعوة كما يقول الشقصي (ق11هـ/ق17م)(25).

في أحكام القتال:

تفصل كثيراً مدوناتُ التراث الفقهي في مسائل قتال البغاة، فتذكر أنه إذا فشلت مراحل التفاوض والحوار، ولم تجد السلطة دون الأسنة مركباً، فقد نظر الفقهاء لما يمكن أن نسميه أخلاقيات حرب البغاة، ومنها عدم قتل الأسرى؛ لأن قصدهم في محاربة البغاة -كما يقول الشقصي- دفع ظلمهم، وإراحة المسلمين من شرهم، فإذا صار هذا الباغي أسيراً في أيدي المسلمين موثوقاً عن البغي على الناس أمن المسلمون من شره، وما كفي المسلمون بغير قتله لم يعرض لقتله(26).

أما الكاساني (تـ587هـ/1191م) فيقول: إن كانت لأهل البغي فئة ينحازون إليها فالأسير إن شاء الأمام قتله استئصالاً لشأفتهم، وإن شاء حبسه لاندفاع شره بالأسر والحبس(27).

وكما تباينت الآراء عند الفقهاء في قتل الأسير لم يحصل أيضاً اتفاق حول الإجهاز على الجريح، فالشقصي مثلا يذكر أن المسلمين يمتنعون عن الإجهاز على الجريح من وجه التكرم(28). فيما يذهب الكاساني إلى جواز الإجهاز على الجريح لئلا يتحيز إلى فئة(29).

كما يذكر الفقهاء عدم اتباع المدبر من البغاة على اعتبار أن قوتهم انكسرت ولحقت بهم الهزيمة، وهذا يجري إذا كانوا -كما يقول الشقصي- منهزمين متفرقين إلى غير فئة ينحازون إليها ويرجعون إلى حرب المسلمين عند ذلك، وأمن المسلمون من معاودتهم. وإذا كانوا منهزمين إلى فئة يرجعون بها إلى حرب المسلمين ويعودون إلى بغيهم وظلمهم اتبعهم المسلمون وأخذوهم وأسروهم وحبسوهم إلى أن يأمنوا منهم، فإن كان للمسلمين إمام أُوصِلوا إلى الإمام حتى يشاور فيهم أهل العلم(30).

ويؤكد الفقهاء على عدم جواز قتل الأطفال والنساء والشيوخ والعميان من أهل الحرب ومن أهل البغي بحسب الكاساني؛ لأن قتلهم لدفع شر قتالهم فيختص بأهل القتال وهؤلاء ليسوا من أهل القتال(31).

أما إذا شارك هؤلاء في الحرب فحكمهم حكم المحاربين يقول القرافي(ت684هـ/1285م): وإن قاتل النساء مع البغاة بالسلاح فلنا قتلهن في القتال، وإن لم يقاتلن إلا بالتحريض ورمي الحجارة فلا يقتلن إلا أن يقتلن أحداً بذلك، وإن أسرن وقد كن يقاتلن قتال الرجال لم يقتلن(32).

ويتحدث الفقهاء في هذا الباب عن حكم الاستعانة على البغاة بالكفار وعلى حد قول البهوتي: يحرم أن يستعين أهل العدل في حربهم -أي قتالهم للبغاة- بكافر؛ لأنه لا يستعان في قتال الكفار فلئلا يستعان في قتال مسلم بطريق أولى، ولأن القصد كفهم لا قتلهم، وهو لا يقصد إلا قتلهم(33).

أغلب هذه الأحكام تستند إلى مرجعية نصية لا سيما المروي عن الإمام علي؛ لكنها تتفق مع مجمل المبادئ والقيم الإنسانية، ولا تختلف مع روح ونصوص المواثيق والمعاهدات الدولية الحديثة التي تهدف إلى حماية المدنيين وتجنيبهم ويلات الحرب، فيما عدا ما ورد لبعض الفقهاء من جواز الإجهاز على الجريح إذا كان هناك فئة يمكن أن ينحاز إليها، فالمثخن بالجراح هو إلى العلاج أحوج منه إلى الإجهاز عليه أما عودته إلى فئته أو عدم عودته فهذه مسألة يمكن أن تحل لاحقاً.

في أموال المعارضين:

يولي الفقهاء عناية بالغة بالأحكام الخاصة بأموال البغاة ويبدون تحرزا في المساس بأموالهم أو مصادرتها، فالشقصي يذكر أن بغاة أهل القبلة لا سبيل للمسلمين في أموالهم... ما لم تكن آلة يتقوون بها على حربهم ومعونة لهم على بغيهم على المسلمين، وإن كان مما يتقوون به على المسلمين جاز للمسلمين حبسه عنهم(34)، ويُرجع الموصلي سبب حرمة أموالهم إلى حديث علي رضي الله عنه، ولأنهم مسلمون والإسلام عاصم؛ وإنما يحبسها عنهم تقليلا عليهم وفيه مصلحة المسلمين فإذا تابوا ردت عليهم لزوال الموجب للحبس(35).

ولغة التحرز والتحوط تبدو أكثر وضوحا فيما ذكره الشقصي: إن كل محارب ممتنع ببغيه على المسلمين بظلمه وعدوانه مبارز لله ولأوليائه بالعداوة مجاهر بالفساد في الأرض بغير الحق فجائز للمسلمين أن يحتالوا فيه بكل ما يرجون به الظفر عليه من جميع الوجوه التي يرى المسلمون فيها نكايته وإهلاك نفسه وإتلافها، وأما غير النفس فلا يعجبني أن يقصد إلى تلفه لغير معنى من المعاني التي يجوز فيها إتلافها من مال أو دواب أو غير ذلك، إلا ما قال به المسلمون في حبس المواد وقطعها عنهم وأما التعمد فلا يعجبني بالنار ولا بغيرها(36).

وواضح أن أصل التحرز في أموال البغاة يرجع إلى اعتبارات نصية بحتة عطلت إمكانيات العمل العقلي والتفكير المقاصدي يقول السالمي (ت1332هـ/1914م): فإن قيل ظاهر الحديث تحريم دماء من أقر بالتوحيد وتحريم أمواله وأنه لا تحل دماؤهم إلا من حيث تحل أموالهم، وقتال البغاة جائز إجماعا، فما الوجه في ذلك؟ فالجواب: أن قتال البغاة جائز لقوله تعالى: ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ فظاهر الحديث غير مراد لهذه الآية فإنه سبحانه قد أحل دماء البغاة حتى يفيئوا إلى أمر الله في هذه الآية وبقيت أموالهم على التحريم لظاهر الحديث(37).

فالتحفظ المبالغ فيه -برأي الباحث- يرجع إلى عدم النص المجيز مع عدم العمل على توسيع زاوية النظر إلى المسألة برؤية أكثر شمولية واستيعابا بدلا من انتظار النص المجيز ولا نص، فهل يعقل أن الكتابي المحارب تقطع نخيله -كما حدث مع بني النضير- للدفع بهم نحو الخروج والاستسلام، أما المسلم فلا يجوز أن يتعرض لأمواله؛ لأنها محترمة؛ لكن يجوز أن تزهق روحه لأن النص أجاز ذلك!

يصرح الفقهاء بجواز الاستعانة بسلاح البغاة وكراعهم على قتالهم إن احتيج إليه، ويرد لربه إذا زالت الحرب(38).

ولا يطالب البغاة بضمان ما أتلفوه أثناء الحرب كما يقول القرافي: ولا يضمنون ما أتلفوه في الفتنة من نفس أو مال إن كانوا خرجوا بتأويل، وأهل العصبية ومخالفة السلطان بغير تأويل يلزمهم النفس والمال(39)؛ لأن الإذن في القتال يسقط الضمان بحسب القرافي(40).

وبحسب الموصلي(ت683هـ/1284م) فإن ما أصاب كل واحد من الفريقين من الآخر فهو موضوع لا دية فيه ولا ضمان ولا قصاص وما كان قائما في يد كل واحد من الفريقين لصاحبه فهو لصاحبه(41).

فقه التعايش مع البغاة:

رغم كل أحكام القتال وتبعات الحرب التي سبق ذكرها فإن الفقهاء ذكروا مسائل كثيرة يمكن اعتبارها فقه تعايش ربما لضرورات وإلجاءات الواقع التي تفرض على المجتمع إيجاد صيغ قادرة على استيعاب أشكال التنوع والمفارقات بين المأمول وإمكانيات الواقع، لاسيما بالنظر إلى تاريخ عريض من الاحتراب بين طوائف ومذاهب العالم الإسلامي ودوله، يقول النووي (ت676هـ/1277م): إذا أقام البغاة الحدود على جناة البلد الذي استولوا عليه، وأخذوا الزكاة من أهله وخراج أرضه وجزية الذميين فيه اُعتد بما فعلوا، وإذا عاد البلد إلى أهل العدل لم يطالبوهم بشيء(42).

وهذا من باب السياسة وضبط مصالح العباد، ويفرق النووي بين القاضي المستحل لدماء أهل العدل وغيره، فالأول لا ينفذ حكمه؛ لأنه ليس بعدل، ومن شرط القاضي العدالة... ومنهم من يطلق نفوذ قضاة البغاة لمصلحة الرعية(43).

وشهادة البغاة مقبولة بناء على أنهم ليسو فسقة، ولفظ الشافعي رحمه الله: ولو شهد منهم عدل قبلت شهادته ما لم يكن يرى الشهادة لموافقته لتصديقه، فأثبت العدالة مع البغي(44).

لكن كل اعتبارات السياسة الشرعية والرغبة في الدفع بمصالح العباد إلى الأمام كل ذلك لا يمكن أن يغير من رأي ابن حزم (456هـ/1064م) في البغاة: فكل حكم حكموه مما هو إلى إمام وكل زكاة قبضوها مما قبضها إلى إمام وكل حد أقاموه مما إقامته إلى إمام- فكل ذلك منهم ظلم وعدوان ومن الباطل أن تنوب معصية الله عن طاعته(45).

ينظر ابن حزم إلى أصل المسأله؛ فالباغي لا شرعية لوجوده أصلا، فكيف تصح أحكامه، هو لا ينظر إلى الواقع ليملي عليه أحكامه بل يبحث في الجذور الأساسية (الشرعية).

وتمثل الآراء الفقهية في موضوع البغي مرحلة من مراحل التفكير البشري والتطور الإنساني، ولا يعني ذلك أن تلك الآراء تظل ثوابت لكل الأجيال بقدر ما هي محاولة بشرية لتطبيق النص والاتساق مع الواقع، يوجب علينا أن نتعاطى مع معطيات مختلفة وواقع مباين. لقد تطور التفكير السياسي وأصبحت هناك قوانين وتشريعات دولية ومحلية تنظم المعارضات السياسية والعمل السياسي بشكل عام يعد أكثر قدرة على الاستجابة للتطورات المتسارعة ومناسبة للراهن(46).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) سورة الكهف، الآية 64.

2) سورة ص، الآية 22.

3) ابن عابدين، الحاشية، ج3، ص426.

4) ابن جزي، القوانين الفقهية، ص195.

5) البهوتي، كشف القناع، ج5، ص139.

6) الحجرات، الآيات: 9-10.

7) ابن كثير، مختصر تفسير ابن كثير، ج3، ص363.

8) الشربيني، مغني المحتاج، ج16ص260.

9) الموصلي، الاختيار، ج4، ص160.

10) الشربيني، مغني المحتاج، ج16، ص260.

11) ن. م.

12) مجدي مقال بعنوان: الثورة وثقافة الديموقراطية في الفقه السياسي الإسلامي. مجلة الحوار المتمدن الإلكترونية.

13) ابن حزم، المحلي، ج11، ص97.

14) عليش، منح الجليل، ج19، ص355.

15) ن.م.

16) محمد ولد الجودة، مقال بعنوان (الفقهاء والثورة تاريخ العلاقة).

17) السالمي، الجوابات ج3، ص86.

18) النووي، روضة الطالبين، ج10، ص52.

19) الشافعي، الأم ج4، ص218.

20) الشافعي، الأم، ج4، ص217.

21) الشافعي، الأم، ج4، ص218.

22) الشافعي، الأم، ج4، ص214.

23) البهوتي، كشاف القناع، ج21، ص70.

24) ن.م.

25) الشقصي، منهج الطالبين، ج8، ص60.

26) الشقصي، منهج الطالبين، ج7، ص71.

27) الكاساني، بدايع الصنايع، ج15، ص445.

28) الشقصي، منهج الطالبين، ج7، ص72.

29) الكاساني، بدايع الصنايع، ج15، ص445.

30) الشقصي، منهج الطالبين، ج7، ص71.

31) الكاساني، بدايع الصنايع، ج10، ص446.

32) الذخيرة ج12، ص9.

33) البهوتي، كشاف القناع ج21، ص77.

34) الشقصي، منهج الطالبين، ج7، ص70.

35) الموصلي، الاختيارج4، ص162.

36) الشقصي، منهج الطالبين، ج8، ص74.

37) السالمي، شرح المسند، ج3، ص372.

38) القرافي، الذخيرة، ج12، ص11.

39) القرافي، الذخيرة، ج12، ص10.

40) القرافي، الذخيرة، ج12، ص11.

41) الموصلي، الاختيار، ج4، ص162.

42) النووي، روضة الطالبين، ج10 ص54.

43) ن م، ص53.

44) ن م.

45) ابن حزم، المحلى، ج11، ص112.

46) ملاحظة: استخدم الباحث المكتبة الشاملة الإلكترونية في الإحالة على مراجع التراث الفقهي.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/12/240

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك