تميّز الصف المسلم .. سنة إلهية فلا تعجب!!
أويس عثمان
كثيراً ما اشتكى العاملون في حقل الدعوة من انقلاب البعض على طريق دعوتهم، وتحالفهم مع أعدائهم في سبيل مواجهتهم ومنع نشر دعوة الخير التي يحملوها للآخرين، الأمر الذي يثير الدهشة والاستغراب، إذ كيف بمن يدّعي أن مرجعيته القرآن والسنة وفهم السلف لهما، يمكنه القبول بأن يكون عوناً للظالمين بل ويصبح ذراعاً ومساعداً له، يبرر مواقفه، وينصره بكل ما أوتي من قوة!
لكن الحقيقة أن تميّز الصف أمر طبيعي، وغربلة الذين ينتسبون للمشروع الإسلامي سنة إلهية، إذ لا يمكن أن يكون الناس كلهم على مستوى واحد دون بيان لمن يثبت على الطريق، ومن ينكص على عقبيه.
وهذه السنة الإلهية قد قررها الله تعالى في الكثير من الآيات، منها على سبيل المثال:
- {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} [آل عمران:142].
- {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون} [التوبة:16].
- {ألم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين} [العنكبوت:1-3].
- {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم} [محمد: 31].
“الابتلاء والمحن، وسائل تكشف عن حقيقة قوة الصف الإسلامي، وتزيل منه مظاهر النفاق والخديعة، فكثير من الناس يخافون من مواجهة الظالمين، والجهر بكلمة الحق أمام الظالم والعدو، خوفاً من بطشه، أو طمعاً بما عنده من منصب أو جاه”
فهذه الآيات وغيرها تؤكد على أن الصف المسلم لابد وأن يمتحن، حتى يتميز المؤمنون الحقيقيون، ويظهر أولئك المجاهدون الذين لا يكون ولاؤهم إلا لله ولرسوله وللمؤمنين.
والابتلاء والمحن، وسائل تكشف عن حقيقة قوة الصف الإسلامي، وتزيل منه مظاهر النفاق والخديعة، فكثير من الناس يخافون من مواجهة الظالمين، والجهر بكلمة الحق أمام الظالم والعدو، خوفاً من بطشه، أو طمعاً بما عنده من منصب أو جاه.
وفي سورة آل عمران، تتجلى حقيقة هذا الأمر بقوله تعالى: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجرٌ عظيم} [آل عمران:179].
وفي تفسير هذه الآية، يقول الإمام الرازي في تفسيره: “وما كان الله ليطلعكم على الغيب معناه أنه سبحانه حكم بأن يظهر هذا التمييز، ثم بيّن بهذه الآية أنه لا يجوز أن يحصل ذلك التمييز بأن يطلعكم الله على غيبه فيقول: إن فلاناً منافق وفلاناً مؤمن، وفلاناً من أهل الجنة وفلاناً من أهل النار، فإن سنة الله جارية بأنه لا يطلع عوام الناس على غيبه، بل لا سبيل لكم إلى معرفة ذلك الامتياز إلا بالامتحانات مثل ما ذكرنا من وقوع المحن والآفات، حتى يتميز عندها الموافق من المنافق”.
و قال الشهيد سيد قطب في الظلال: “ويقطع النص القرآني بأنه ليس من شأن الله- سبحانه- وليس من مقتضى ألوهيته، وليس من فعل سنته، أن يدع الصف المسلم مختلطاً غير مميّز يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان، ومظهر الإسلام، بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان، ومن روح الإسلام. فقد أخرج الله الأمة المسلمة لتؤدي دوراً كونياً كبيرا، ولتحمل منهجا إلهيا عظيما، ولتنشئ في الأرض واقعاً فريداً، ونظاماً جديداً.. وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء والتميز والتماسك، ويقتضي ألا يكون في الصف خلل، ولا في بنائه دخل.. وبتعبير مختصر يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامي عظمة الدور الذي قدره الله لها في هذه الأرض، وتسامي المكانة التي أعدها الله لها في الآخرة.. وكل هذا يقتضي أن يصهر الصف ليخرج منه الخبث، وأن يضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة، وأن تسلط عليه الأضواء لتتكشف الدخائل والضمائر.. ومن ثم كان شأن الله- سبحانه- أن يميز الخبيث من الطيب، ولم يكن شأنه أن يذر المؤمنين على ما كانوا عليه قبل هذه الرجة العظيمة!”.
أما حول الفوائد المترتبة على تمييز الصفوف وغربلتها فيشير إلى ذلك العلامة محمد رشيد رضا في تفسير المنار، إذ يقول: “الشدائد تميز بين القوي في الإيمان والضعيف فيه، فهي التي ترفع ضعيف العزيمة إلى مرتبة قويها، وتزيل الالتباس بين الصادقين والمنافقين، وفي ذلك فوائد كبيرة:
- منها أن الصادق قد يفضي ببعض أسرار الملة إلى المنافق لما يغلب عليه من حسن الظن والانخداع بأداء المنافق للواجبات الظاهرة، ومشاركته للصادقين في سائر الأعمال، فإذا عرفه اتقى ذلك.
- ومنها أن تعرف الجماعة وزن قوتها الحقيقية؛ لأنها بانكشاف حال المنافقين لها تعرف أنهم عليها لا لها، وبانكشاف حال الضعفاء الذين لم تربهم الشدة تعرف أنهم لا عليها ولا لها. هذا بعض ما تكشفه الشدة للجماعة من ضرر الالتباس.
- وأما الأفراد فإنها تكشف لهم حجب الغرور بأنفسهم؛ فإن المؤمن الصادق قد يغتر بنفسه فلا يدرك ما فيها من الضعف في الاعتقاد، والأخلاق ؛ لأن هذا مما يخفى مكانه على صاحبه حتى تظهره الشدائد”.
“لقد تعدى الوقوف مع الظالمين ومحاربة أهل الحق الاختلاف ووجهة النظر، إلى الخيانة والسقوط، عبر تأييد الظالم وتبرير أفعاله، والدفاع عنه وكأنه نبي أو إنسان معصوم لا يخطئ”
إذن هي حكمة إلهيه، تفيد الصف المسلم بالكشف عن مواطن الخلل فيه، وبيان قوته الحقيقية، وإيجاد بنية صلبة يبني الصف المسلم بناءه عليها، بحيث تكون متينة حصينة تصعب على الاختراق والخيانة. وهذا ما يجري في واقعنا حالياً، إذ تعدى الوقوف مع الظالمين ومحاربة أهل الحق الاختلاف ووجهة النظر، إلى الخيانة والسقوط، عبر تأييد الظالم وتبرير أفعاله، والدفاع عنه وكأنه نبي أو إنسان معصوم لا يخطئ.
لكن قد يتساءل البعض حول الأسباب التي تدفع البعض للتساقط بهذه الطريقة، والحقيقة أن ضعف العقيدة والإيمان بالله هو أهمها، إذ الإيمان ليس عبارة عن مسائل علمية بحتة يتم حفظها، ولا متوناً يتم شرحها، بل هو ما وقر في القلب وصدقه العمل، وليست التقوى بحفظ الكتب والمسائل، وإنما بتأثيرها على سلوك الشخص. كما قال الشاعر:
لو كان العلم دون التقى شرف فإن أشرف خلق الله إبليس
ومن الأمور الأخرى، حب الدنيا وكراهية الموت والتضحية في سبيل الله، بحيث يخشى أولئك من السجن أو القتل، فيلجؤون إلى أسهل الحلول وأهونها، وهو القبول بالأمر الواقع والرضى بمن يحكم، حتى لو خالف مبادئهم، المهم أن لا يصيبهم من الشدة واللأواء التي أصابت إخوانهم، وتكون أشد وضوحاً عند من يملك منصباً أو مكانة اجتماعية أو دينية بين الناس، فيخشى على منصبه، أو ماله ومكانته.
“إن أولئك المتساقطين سيكونون أول من يدفع ثمن تخاذلهم وتخليهم عن مبادئهم، لأنهم لن يكون لهم وزن عند أسيادهم، وسيظل ساداتهم يتهمونهم بعدم الولاء حتى ينزعوا عنهم كل ما يدعون له، وبعدها يتركونهم أو يتخلصوا منهم، وقد انكشفت سوءاتهم أمام الجميع”
ومنها الحقد والحسد على إخوانهم المسلمين، فيدفعهم تعصبهم إلى السعي للتخلص من مخالفيهم ولو بالوقوف مع الظالمين ومشاهدة قتل إخوانهم وتعذيبهم، تحت مسمى محاربة الفتنة، ودفع المفسدة الأعم بالمفسدة الأخف.
ختاماً.. إن أولئك المتساقطين سيكونون أول من يدفع ثمن تخاذلهم وتخليهم عن مبادئهم، لأنهم لن يكون لهم وزن عند أسيادهم، وسيظل ساداتهم يتهمونهم بعدم الولاء حتى ينزعوا عنهم كل ما يدعون له، وبعدها يتركونهم أو يتخلصوا منهم، وقد انكشفت سوءاتهم أمام الجميع.
أما الصف المسلم فيكفيه أنه سيظل قويا متيناً، وأن خروج أولئك سينقي الصف من الضعف والوهن، مصداقاً لقوله تعالى: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سمّاعون لهم والله عليم بالظالمين} [التوبة:47].
المصدر: http://www.basaer-online.com/%D8%AA%D9%85%D9%8A%D8%B2-%D8%A7%D9%84%D8%B5...