الحضارات بين الصدام والحوار
الحضارات بين الصدام والحوار
عبد الواحد علواني
طرح غارودي عنوان حوار الحضارات في الربع الأخير من القرن الماضي، كعنوان لأحد كتبه التي تجول وتصول بين الحضارات من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومع أنه لم يطرح رؤية بخصوص حوار الحضارات بشكل واضح، إلا أنه أقام حوراً ممتعاً بن بعضها بعضاً من خلال سياق سياحي تاريخي مشوق مبيناً الوحدة الحضارية للبشرية، ومؤكداً على أن الحضارة المعاصرة هي نتاج البشر في الحضارات السابقة مجتمعة، وإن كان الغرب قد احتكرها في راهننا، واستباح بالاستناد إليها الهيمنة المطلقة على الشعوب دون رسالة يحملها، أو دعوة تشمل الإنسانية عامة بخيرها مع تقدمها وانتشارها، ثم قام بتحليل مفهوم الغرب بما يشبه الإدانة.
وقد سبق أن طرحت الكثير من الآراء الداعية إلى أهمية قيام الممارسة الحضارية على أساس وحدة البشرية من خلال أعمال فكرية وإبداعية مختلفة، منها ما يحلم بعالم خال من النوازغ الشريرة، ومنها ما حذر من الصورة القاتمة التي ستفرزها الهيمنة في تصاعدها. وكذلك طرحت مفاهيم أخرى تدعو للمشاركة في حوارات إقليمية تمهد للتعاون والتكتل فيما بعد على أساس تعميم الفائدة وتقديم المعونة لمن يحتاجها على غرار الشراكة المتوسطية، المشروع الذي لا يزال يراوح مكانه منذ زمن طويل لسببين رئيسيين كما يبدو لي، أولهما يتعلق بالمركزية الأوربية التي تحاول إقامة هذه الشراكة وفق مصالحها وأهوائها بالدرجة الأولى، وهو ما لا يلقى القبول التام من الشعوب النامية الواقعة على ضفاف المتوسط، وثانيهما يتعلق بالقطب المهيمن على العالم (الولايات المتحدة الأميركية) التي لا تفسح المجال أمام هذا المشروع ليأخذ دوره بشكل واضح وذلك انتصاراً لمشروعها (الشرق الأوسط) الذي قلبه دولة العصابات الصهيونية إسرائيل.
ولأن فكرة الحوار بين الحضارات تمهد أساساً لقيام تنظيم عالمي يربط بين الحضارات وينسق العلاقة بينها، لا بد من دراسة واقع بعض التكتلات الحاضرة في راهننا، سواء أكانت تكتلات قوية وقادرة على صياغة ملامح العصر ككتلة الدول الصناعية الكبيرة، أو كانت تكتلات لا تزال تفتقر إلى إمكانية التأثير على ما يدعى بالنظام العالمي الجديد كمنظمة العالم الإسلامي، أو منظمة الدول الإفريقية. ومنها ما هو متبق من الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة، مثل مجموعة دول الكومنولث، أو مجموعة الدول الفرنكفونية، وهي لا تتجاوز هدفاً أساسياً في إبقاء تبعية الدول المنضوية فيها لبريطانية أو فرنسة. إن هذه التكتلات والتنظيمات الدولية التي ترفع أساساً شعارات شعبية تدعي الحوار والتبادل والتواصل والتعاون وما إلى ذلك من الشعارات اللامعة والبراقة لا تتجاوز حدود الادعاء، وهي في حقيقة الأمر تفتقر إلى حوار حقيقي على أساس التكافؤ والمساواة والنوايا الحسنة والمصالح العامة، فبعضها يهتم بالتنسيق بين الأرقام الصعبة في معادلات راهننا، وبعضها الآخر يهتم بتنسيق حالة التبعية، وربما التخفيف من بعض جوانبها في أحسن الأحوال.
ولعلنا لو دققنا في طبيعة الأفكار التي يطرحها كل طرف لوجدنا أن الدول الكبرى تتفاوت بين الشراكة والسيطرة، فأوربة عامة تطرح مفاهيم الشراكة بأشكال مختلفة، مع أن هذا المفهوم ضيق ومؤول، بينما الولايات المتحدة الأميركية تدعو لنظام عالمي تقوم أميركا على رعايته، وهو يتبدى من خلال السيطرة الأميركية على الدول الكبرى التي تتحاشى الصدام مع أميركا، وكذلك ما تفرضه أميركا بوقاحة على المستضعفين، حتى إذا كانوا في مناطق نفوذ شركائها التقليديين في مواجهة الدول الاشتراكية سابقاً. وأهم سمة بادية للعيان وبشكل فج هي إعادة النظر بجغرافية العالم التي كانت تتناسب مع مصالح الغرب عامة، لتتناسب مع المصالح الأميركية في المقام الأول، ففي حين تتم عمليات تفتيت كيانات قائمة منذ زمن طويل وأصبح لها تاريخ مشترك يوثق الصلة بينها، تجري عمليات أقلمة لمناطق أخرى تحت مسميات مختلفة وبرعاية أميركية ومباركة بريطانية غالباً، وحتى ما يطرح في إطار تكوين نظرة جديدة للعلاقة بين الثقافات والحضارات العديدة في عالمنا، أو ما يمكن أن يفرزه المستقبل من حضارات، يطرح تحت تسميات تعني الصدام وتثير المواجهة وتتوقع الصراع، ولا تختلف أوربة كثيراً مع هذه الأطاريح وهي تستمد رؤيتها بالاستناد إلى التاريخ الطويل من الجراح المتبادلة بين الغرب والشرق، وحرصاً على تماسك داخلي في وجه الاحتمالات التي تصر على تسويق حالة خوف مما قد ينتج عن نهوض أي حضارة من كبوتها التاريخية المديدة والتي بذلت أوربة من أجل تكريسها وتجذيرها قروناً من الزمن.
بينما يختلف الطرح بالنسبة إلى العالم النامي أو العالم الذي يجد نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما في نظر الغرب، وهما تصعيد حالة التبعية وتناسبها الطردي مع الرضى الغربي عامة، والأميركي خاصة، أو تحمل الاتهامات بالمروق والخروج على ( الإرادة الدولية) وتتحمل بالتالي عناء التعرض لحصار اقتصادي أو عزل دولي يفرض بشكل دولي وتتحكم به القوة العظمى الوحيدة في راهننا. فهذا العالم ومن ضمنه العالم العربي، والعالم الإسلامي، وربما بشكل محوري يسعى نحو أطاريح تدعو لمشاركة حقيقية وحوار جاد، وتعاون من أجل رسم عالم أفضل وأكثر عدالة، ولابد من الاعتراف بداية أن هذا الطرح يأتي في سياق طبيعي بالنسبة للضعفاء لأنهم لن يخسروا أكثر مما خسروه، وكضمانة لوقف الهزائم والخسارات والضائقات التي يتعرضون لها، وثمة من يطرح هذا وهو يعتبره تكتيكاً مرحلياً ريثما تقوى شوكة العرب والمسلمين، ليتم الانتقال بعدها إلى مرحلة المواجهة والصدام، وثمة من يطرحه التزاماً به كشكل متطور في العلاقات الدولية والعلاقات بين الشعوب عند إحلال الأمن والسلام في بقاع المعمورة، وليس كمجرد استراتيجية مؤقتة، وبغض النظر عن الدوافع الأساسية والاختلافات بين وجهات النظر داخلياً، فإن الأطاريح النابعة من العالم الإسلامي والعربي تتجمل بالبعد الإنساني وتمجد العدالة والتوازن الدولي والتكافؤ والمشاورة والمشاركة وما إلى ذلك. ولا تدعو إلى الصراع والصدام كما هو الحال بالنسبة للغرب، أي تدعو إلى الحوار سبيلاً للتفاهم والتواصل.
ويبدو لي أن ثمة عاملاً أساسيا يضاف إلى العامل الذي يكمن في التفوق الذي يسجله الغرب علينا، وهو يسهم في تبني حالة الحوار، وهو عامل أيديولوجي إنساني، فالشرق عامة والعالم الإسلامي خاصة يميل إلى الأخلاق الإنسانية، والرسالة التي يتم التبشير والدعوة إليها لإقامة مجتمعات الفضيلة، بينما الغرب الذي فقد الأخلاق واستعاض عنها بالبراغماتية الضيقة المستندة إلى مركزيته، وقوته وسيطرته، لا يجد نفسه لا في حرج حضاري واضح وهو يتسنم ذروة الحضارة المعاصرة إحكاماً وهيمنة، ولا يجد نفسه مدفوعاً نحو رسالة عالمية ترمي تحقيق واقع بشري عام أكثر عدالة وإنصافا، مما قد يحرمه استثمار تفوقه في استنـزاف الآخرين، لذلك يحرص على تأكيد حالة الصراع كنمط لا بديل له في العلاقة بين الحضارات والثقافات.
وخير دليل على الرؤيتين المتقابلتين، أطروحة صدام الحضارات التي طرحها المفكر الأميركي صامويل هنتنغتون، ودعوة حوار الحضارات التي أطلقها الرئيس الإيراني محمد خاتمي وتمكن من تكريسها كشعار تبنته المنظمة الدولية، مع إنها دعوة تنطلق من دولة مصنفة وفق التقويم الأميركي كدولة مارقة تدعم الإرهاب! وهذا الأمر في نظري نجاح كبير لخاتمي الذي استطاع بسياسته أن يدفع أساطين القوة إلى النظر إلى آرائه وسياساته بمزيد من الجدية والاحترام.
وقد نالت أطروحة هنتنغتون اهتماماً كبيراً في السنوات الماضية، وأشبعت قراءة ودراسة وتحليلاً، وكان ثمة إجماع على أنها تمثل نوعاً من التمهيد لسياسة مرتقبة من قبل أميركا، التي تمارس سياسة بالغة في الخبث والتعقيد استعداءً حيناً واحتواءً حيناً آخر، ومواجهة عنيفة في أحيان أخرى، فهذه الأطروحة تركز على الصدام، وتدعو للنظر إلى المستقبل على هذا الأساس، وتكشف السياسات الأميركية الراهنة الآفاق التي وجهت إليها هذه الأطروحة بشكل مباشر وغير مباشر، والمناقشات التي تلت الدوي الكبير الذي أحدثته وضحت كثيراً ما نذهب إليه فالنقاشات التي دارت حولها في الدائرة المنتجة لها ركزت غالباً على شكل الصراع واحتمالاته المتنوعة والمرتقبة، بينما الردود التي أنتجتها الدوائر الحضارية الأخرى حاولت التخفيف من حالة الصراع المزعومة في المستقبل!
بينما أطروحة خاتمي التي جاءت تتويجاً للردود، وكدعوة للامتناع عن تخطيط مستند إلى الصراع المفترض، وكرد على حالة الخواف التي تسوق في السياسات العملية والإعلامية للغرب، هذه الأطروحة تحاول إقامة حوار دولي شامل في سبيل عدالة إنسانية شاملة يشارك في صياغتها البشر جميعهم، دون الاستناد إلى مبدأ القوة أو أية مبادئ أخرى لها طبيعة مركزية أو عنصرية، ومع أن هذه الأطروحة لم تتبلور، ولم تطبخ في مطابخ سياسية استعمارية وإمبريالية مهيمنة، فإنها تبشر بأمل ضئيل في قيام حوار حقيقي على أساس التكافؤ بين الشعوب ليكون حواراً حقيقياً، لا أن يكون بين دول غير متكافئة في رسم آفاقه، مما يحولها إلى أسلوب لتمرير الرغبات المسيطرة والإرادات المهيمنة.
وإن كانت الآلة الإعلامية في الغرب تسوق الرؤية الصدامية شعبياً وتجمع الرأي العام حولها، وتدفع بالتفكير على مستوى النخبة والشارع باتجاه دراسة الحالة الأفضل أمام الصدام المفترض في المستقبل، والنظر في مقدماته الراهنة وما يمكن أن تفرزه هذه المقدمات، والانتباه إلى مصادر الخطر الأساسية، والعمل على تكبيل العالم والتحكم به. فإننا نجد أن الحالة تختلف بالنسبة لنا كعالم إسلامي وكعالم عربي، فمع التعاون الكبير الذي نبديه تجاه المنظمة الدولية، والقانون الدولي ، وغير ذلك من المنظمات الدولية التي قامت أساسا وفق رغبات الغرب وصياغته لها، ومع ما شهدته هذه المنظمات من تحولات بعد انحسار حالة التوازن الدولي التي كانت قائمة أيام الاتحاد السوفيتي السابق، إذ أصبحت ألعوبة تفسيرية وتشريعية للهيمنة الأميركية بشكل خاص والغربية بشكل عام، مازلنا نسترضي هذه المنظمات طوعاً أو كرهاً، فإن معظم الآراء في العالم الإسلامي، وعلى مستويات مختلفة، سواء أكانت نخبة سياسية أو ثقافية أو الشارع عامة، فإن الدعوة إلى إقامة العدل الدولي والعلاقة التكافئية بين الشعوب والدول والحضارات تلقى قبولاً واسعاً. مع أنها تفتقر إلى تسويق إعلامي هائل على غرار الآلة الإعلامية في الغرب، بل ربما تعاني إلى حد كبير من مزاحمة إعلامية غربية. ولو دققنا النظر إلى الأطاريح التي تطرح في واقعنا ومن قبل الناس عامة والملتزمين بالهوية الحضارية الخاصة بنا خاصة، لوجدنا أنها تعبر بشكل أو بآخر عن الدعوة إلى قيام حوار حقيقي بين الحضارات.
وفي ظني أن الغرب سيتراجع مستقبلاً عن عنجهيته ومركزيته لصالح نظرة أكثر توفيقا بين مصالحه الآنية ومصالحه ومآلاته المستقبلية على المدى المنظور أو البعيد، وسيدرك وحدة المصير البشري، فالجوائح التي تفتك ببقعة ما من العالم تهدد كل البقاع الأخرى، والمظالم يحفظها التاريخ جيلاً بعد جيل لتنقلب على الظالمين ويلاً وثبوراً ، والإمعان في استنـزاف الآخرين واستغلالهم وإذلالهم يعني تكريس حالة حقد تاريخي لا تمحيها الأيام، ولا تضمنها تقلبات السيطرة الحضارية التي هي سمة للمجتمعات البشرية، وليست كما قال فوكوياما منتهية وبائدة بعد السيطرة الكلية لليبرالية الغربية. فأوهامه هي للتسويق الخارجي وليست للتسويق الداخلي بالنسبة للغرب. لكن هذا لا يعني أن ننام قريري الأعين مطمئني النفوس نحلم بغد أجمل، لأن هذا الغد الأفضل لن يأتي إلا بنهضة حقيقية طموحة تجعل الحلم مشروعا، والآفاق أكثر تفاؤلاً.