غرور الإنسان ومهالك الشيطان
أحمد التلاوي
يقول الله تعالى في محكم التنزيل: {أَوَلَمْ يَرَ الإنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77].. هذه الآية تلخص الكثير عن الإنسان وطبيعته الحقة التي جُبِل عليها؛ حيث هو أكثر مخلوقات الرحمن غرورًا وتكبُّرًا بما جعله يقف أمام خالقه، خصيمًا مبينًا، بالرغم من أنه في النهاية من نطفة وضيعة؛ لا تُذكر فيما يضمه ملكوت الخالق القادر عز وجل.
وتشير هذه الآية الكريمة أيضًا إلى حقيقة سلوكية شديدة الأهمية يجب على الإنسان العاقل الرشيد أن يحتاط لها، وهي أن الغرور البشري، وتصور الإنسان في كثير من الأحيان أنه قد وصل إلى قمة معينة من العلم أو الجاه أو المال؛ قد يقود الإنسان إلى مهالك عديدة، أخطرها الكفر والعياذ بالله؛ حيث يقف الإنسان بغروره وكِبْرِه، خصيمًا مبينًا أمام الله عز وجل، في قمة الجحود والنكران الذي يمكن أن يصل إليه العبد الضعيف.
والغرور هو إيهام يحمل الإنسان على فعلِ ما يضره ويوافق هواه ويميل إليه طبعه، ويعرفه البعض على أنه حب الإنسان لنفسه حبًّا زائدة، وهو نقيض التواضُع.
والغرور في اللغة، هو “كل ما غرَّ الإنسان من مال، أو جاه أو شهوة أو إنسان أو شيطان”، أما في الاصطلاح، فيقول الجرجاني إنه يعني “سكون النفس إلى ما يوافق الهوى، ويميل إليه الطبع”.
ويتضمن القرآن الكريم العديد من الآيات، وتحديدًا في 21 آية، في اشتقاقات مختلفة، سواء في صيغة مصدرية، “الغرور”، أو فعلية، “غرَّ”، و”يغرُّ”، بإجمالي 27 مرة في هذه الآيات الـ21، وتتمحور المعاني التي تضمنتها هذه الآيات حول معاني التعالي، والانسياق وراء أوهام وسراب الدنيا، وصولاً إلى الوقوع في مهالك الشيطان الرجيم، من كُفرٍ وظلم.
فيقول الله تعالى في سُورة “المُلك”: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20)}، وفي سُورة “فاطر”، يقول عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلاَّ غُرُورًا (40)}.
كما أن الغرور في القرآن الكريم، مذكور بمعنى الاستهتار الذي يقود الإنسان إلى الضلال، فيقول رب العزة سبحانه، في سورة “الانفطار”: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)}.
والدنيا- في القرآن الكريم- هي أهم بواعث الغرور لدى الإنسان، والدنيا هنا بمعناها الواسع، الذي يشمل كل مغرياتها التي هي في النهاية زائلة، ولكنها تخدع الإنسان وتغرُّه؛ فينقاد إليها، ويركن؛ مما يعرضه للخسران المبين في الدنيا والآخرة.
فيقول الله تعالى في سُورة “الحديد”: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)}.
والغرور هو صورة من صور الكِبْر، وهما صنوان، والكِبْر يُدخل الإنسان النار، ويجعله عرضه لغضب خالقه عز وجل؛ حيث يفتئت العبد المتكبر على الله تعالى في صفاته العليَّة.
وفي ذلك، يقول الرسول الكريم “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”، في الحديث القُدُسي الذي رواه أبو هريرة “رَضِيَ اللهُ عَنْه”، وأخرجه “مسلم” وآخرون: “قال الله عز وجل: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما قذفته في النار”، أو “عذبته” أو “وقصمته”، أو “ألقيته في جهنم”، أو “أدخلته جهنم”، أو “ألقيته في النار”.
والمحير في الأمر أن الإنسان يغتر ويتكبر على الله سبحانه وتعالى، بنعم الله عز وجل عليه؛ فهو يتكبر ويغتر بماله آتاه الله تعالى إياه، أو سعة في البَدَن، أو جاهٍ، أو ذرية وسلطان، وكلها من أنعم الله تعالى على الناس، وليس لهم حيلة في كسبه، ولو أدرك الإنسان ذلك؛ لتحول إلى مخلوق شاكر عابد حامد لربه على ما أنعم به عليه.
” من بين صور الغرور؛ التشبث بالرأي؛ حيث يصور الغرور والكِبْر للإنسان المنحرف الفطرة، أنه على حق، ومن ثَمَّ فلا يوجد لديه قدرة على رؤية رأي غير رأيه، حتى ولو كان على خطأ”
ومن بين صور الغرور؛ التشبث بالرأي؛ حيث يصور الغرور والكِبْر للإنسان المنحرف الفطرة، أنه على حق، ومن ثَمَّ فلا يوجد لديه قدرة على رؤية رأي غير رأيه، حتى ولو كان على خطأ.
وهو ليس انحرافًا سلوكيًّا فحسب؛ بل هو انحراف عن الفطرة السليمة، وعن العقيدة على النحو الذي تبرزه الآيات والأحاديث السابقة، وفوق ذلك؛ فهو خطأ يحرم الإنسان من الكثير من الفوائد التي يمكن أن يجنيها من وراء الاستماع لآراء وكلمات الآخرين، والانخراط في نقاشات معهم؛ حيث يمكن أن ينتفع بفكرة أو معلومة جديدة، قد تقوده إلى تحقيق منجزٍ ما في حياته، أو تعديل رؤيته حول أمر لا يحمل الخير له.
حتى ولو كان رأي الإنسان صوابًا، أو رؤيته في أمر ما أو إزاء قضية ما، صحيحة؛ فإنه يجب على الإنسان ترك المجال أمام نفسه للتفكير.. للتدبر.. للتأمُّل، بدلاً من الجدال الذي يكون عقيمًا، ولا نتيجة تُرجى منه.
والهدي النبوي في ذلك واضح، وذو منطق بسيط وسهل، فالرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، يقول: “أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المِراء ولو كان محقًّا” [رواه البخاري].
ولكن ذلك للأسف، نجده قد أصبح مرضًا ابتُلِيَتْ به أمتنا، وظهر فيها جليًّا كأحد النتائج أو العوارض الجانبية لثورات الربيع العربي، وما أتاحته من مساحات أوسع للتعبير عن الرأي؛ حيث ظهر ما يمكن أن نطلق عليه مصطح “الاعتداد بالرأي”، وقد يكون ذلك من دون أي سندٍ للصحة؛ فقط يكفي قناعة المرء بالرأي أو الموقف؛ لكي يعتقد في صوابه، وبالتالي يبذل كل ما بوسعه للدفاع عنه، حتى ولو قاده ذلك إلى مهالك أخرى، كالقتل المعنوي، مثل تشويه الخصوم، وحتى القتل المادي، على النحو الذي نراه في سوريا وليبيا وغيرها.
والنتيجة الحتمية لذلك هي الفتنة والدخول في المزيد من أتون الصراعات الداخلية؛ حيث لا يرى الإنسان سوى نفسه ورأيه، بينما الباقون على خطأ، وقد يكون ما يطرحه أمر من صميم العقيدة؛ فيعمد إلى الفتنة الأكبر، وهي تكفير مخالفيه في الرأي، وبالتالي تأجيج نار الخلافات التي تصل إلى مرحلة الاقتتال بين المسلمين، بشكل لا يستفيد منه إلا أعداء الأمة.
إن هناك واجبًا آنيًّا ومهمًّا أمام دعاتنا وتربويينا للتعامل مع هذه المسألة؛ حيث يجب توضيح حقيقة الإنسان أمام الإنسان، وأن الأصل أن يكون رأيه خطأ يحتمل الصواب، وليس العكس، كما أكد الإمام الشافعي “رحمه الله”.
فالرجل بكل ما آتاه الله تعالى من علم، يقول إنه أبدًا ما ظن نفسه على صواب مطلق، بينما أنصاف المتعلمين والجاهلون في زمننا الحاضر؛ يفتئتون على العلماء والمصلحين، تحقيقًا لنبوءة الرسول الكريم “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”، عن علامات الساعة، والتي من بينها أن يوسد الأمر لغير أهله، وينطق الرويبضة عبر وسائل الإعلام، في عظيم أمور المسلمين، من دون أي علم، ومن دون وجه حق!..
المصدر: http://www.basaer-online.com/%D8%BA%D8%B1%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A5...