إعلام الضلال والأنعام الذين هم أضل سبيلاً!!
أحمد التلاوي
من بين أهم الآيات القرآنية الكريمة التي تظهر معجزة القرآن الكريم، وأنه كتاب الله عز وجل الصالح لكل زمان ومكان، آية في سُورة “الأعراف”، التي يقول فيها رب العزة سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)}.
فهذه الآية تلخص أوضاع الكثيرين ممن هم بين ظهرانينا في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، في كيفية تعاطيهم مع الأوضاع الراهنة في ظل الارتكاسات الحاصلة على ثورات الربيع العربي التي تحولت إلى كوابيس سوداء في عقول وقلوب نسبة عريضة من الجماهير؛ ليس لما رافقها من عنف من جانب الأنظمة القديمة ومن تعاون معها في الداخل والخارج؛ ولكن -أيضًا- بفعل الدعاية المضادة والإعلام السلبي الذي طبق كل ما جاء في كتب السحر الأسود القديمة لكي يقلب المنضدة على رؤوس أصحاب الشرعية ودعاة الإصلاح.
والآية، بحسب الكثير من المفسرين، نزلت في السياق العام للسورة، والذي يتناول -ككل السُّوَر المكِّيَّة- تقرر أصول الدين، وعلى رأسها قضية التوحيد، وأركان الإيمان الأخرى، مثل البعث واليوم الآخر، والجزاء، والوحي، وما ارتبط بذلك.
ولتبيان مدى ارتباط الآية بوضعنا الراهن؛ حيث حرب التضليل والتشويش التي تطال كل ما هو إسلامي وكل ما هو يدعو إلى الإصلاح، نعود إلى الآيات السابقة عليها، والمرتبطة بها موضوعيًّا بحسب مفسري القرآن الكريم.. يقول الله تبارك وتعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ (177) مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)}.
وبالرغم من تنوع التفسيرات التي قيلت حول هذه الآيات وأسباب نزولها، إلا أننا نقف أمام أحد من هذه التفسيرات، يحمل الرسالة المراد إيصالها من هذه الكلمات، وإسقاطاتها على الواقع القائم.
التفسير يقول إن الآيات نزلت في رجل من بني كنعان، كان يسكن فلسطين، قبل دخول موسى “عليه السَّلامُ” وبني إسرائيل إليها، وكان يُدعى يقال له بلعم بن باعورا، وقيل إنه كان يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دُعِيَ به سبحانه وتعالى؛ أجاب.
مات موسى “عليه السَّلامُ” ولم يدخل فلسطين، ولكن لما نزل بهم قبل موته، أتى قوم ابن باعورا، وقالوا له: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا؛ يهلكنا، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه.
كان الرجل مؤمنًا، فأجاب قومه: “إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه؛ ذهبت دنياي وآخرتي”، ولكن قومه لم يزالوا به حتى استجاب لهم، فدعا على موسى “عليه السَّلامُ”، ومن معه، فكان من الغاوين.
“إعلام الفساد والتضليل، ما زال واقفاً خلف أذن وعقل وقلب كل مواطن، حتى يبدل موقفه من دعوات التغيير والإصلاح، ويتحول إلى عدوٍ لأصحاب دعوة الحق والإصلاح”
هذا هو ذاته بالضبط الدور الذي يلعبه إعلام الفساد والتضليل، إنه لا يزال واقفًا خلف أذن وعقل وقلب كل مواطن، حتى يبدل موقفه من دعوات التغيير والإصلاح، ويتحول إلى عدوٍ لأصحاب دعوة الحق والإصلاح.
وتعكس هذه القصة حقائق مؤلمة تتكرر في حالتنا المعاصِرة؛ فتأثير “القوم” أولى وأكبر من تأثير الإيمان والعقيدة على صاحبها، كما أن التناقض القائم ما بين دعوة الرجل لله عز وجل على موسى “عليه السَّلامُ” ومن معه من المؤمنين، وبين فحوى الدعوة، باعتبار أنه للقوم الكافرين، أمر مثير للدهشة، ويطرح بالفعل أسئلة مهمة يجب على علماء الاجتماع والنفس دراستها، حول تأثير تكرار خطاب الضلال على القلوب والعقول.
ننتقل بعد ذلك للتشبيه القرآني لمثل هؤلاء القوم، فهو يضعهم في مرتبة أقل من الأنعام؛ حيث إن العقل الإنساني السليم؛ لابد وأن يقود صاحبه إلى الحقيقة، مهما كان السواد الموضوع فوقها، ولكن الجاهلين وخفاف العقل؛ يتراجعون إلى مرتبة أقل من الأنعام والدواب.
فالأنعام والدواب من الأصل، ليست مكلفة، وذلك لأن الله تعالى لم ينعم عليها بنعمة العقل، ولذلك فمبرر لها أن تكون مُسيَّرة لا مخيَّرة، ويكون مقبولاً منها أي شيء من الأفعال غير الرشيدة، وهو أمر غير مقبول من الإنسان الذي ميَّزه الله تعالى بالعقل والفهم والمعرفة.
كما أن الأنعام -بالمقاييس النسبية- أكثر رشادة من البشر الجاهلين؛ فهي تستخدم فطرتها وغريزتها بالشكل السليم الذي يحقق لها الهدف من خلق اللهِ عز وجل لهذه الفطرة، وهذه الغريزة لها، وهي الحفاظ على بقاء الدابة وتحقيق مصالحها -لو صحَّ التغير- في الحصول على طعامها وشرابها، ويضمن لها استمرار النوع من خلال التناسل، بينما بعض البشر لا يستخدمون عقولهم وتمييزهم في الأغراض التي وضعها الله عز وجل من خلقه لهذه العقول ومنح البشر القدرة على التمييز، مثل الوصول إلى الحقيقة ومعرفة الصواب من الخطأ وتمييز صالح الأعمال من خبيثها.
“إن تأثير إعلام الضلال يشبه تأثير السحر على قلوب وعقول الجماهير التي هي من الأصل تُعاني من تفاقمات عقود من التجهيل والتضليل والتعليم الضحل الهش الذي يخرِّج أجيالاً أقرب إلى الأمية منها إلى التعليم”
وينزل الخطاب القرآني بمثل هؤلاء إلى دركٍ أدنى من درك الحيوانات، فيشير إلى أنهم حتى حواسهم المادية؛ لا يعملونها بالقدر الكافي من “الإنسانية”، فيما خُلِقَت لأجله، فلا هم يستفيدون بما يسمعون بآذانهم، ولا هم يقتنعون بما تنقله إليهم قلوبهم من شغف الحقيقة التي تمس قلب العاقل الواعي، أو ما تشير إليه الفطرة السليمة من الحجة والبيِّنَة، لذلك، فهم أضل من الأنعام، التي تعرف الخطر بغريزتها، فتبتعد عنه، وتعرف من أين تحصل على طعامها، وما يصلح وما لا يصلح لها.
إن تأثير إعلام الضلال لخطير، ويشبه تأثير السحر على قلوب وعقول الجماهير التي هي من الأصل تُعاني من تفاقمات عقود من التجهيل والتضليل والتعليم الضحل الهش الذي يخرِّج أجيالاً أقرب إلى الأمية منها إلى التعليم، وهو ما يتطلب جهدًا مضاعفًا من جانب الدعاة والعاملين في حقل الإعلام الإسلامي.
ولكن ذلك لن يتأتى من دون استراتيجية واسعة النطاق، طويلة الأمد، تتناسب مع طول الأمد الذي ظل فيه الجمهور ضحية حملة هي الأسوأ والأكثر سوادًا ربما عبر تاريخ الأمة!
المصدر: http://www.basaer-online.com/%D8%A5%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84...