آفاق الدراسات الرشدية اليوم
بقلم محمد مزوز
قال تشارلس بترورث في ثمانينيات القرن الماضي: "إن ما أدعو إليه هنا هو تفسير نصوص، على أساس دراسة مدققة لنصوص يتم إعدادها وفق أسلوب البحث العلمي، وإن النقد العقلاني يقتضي ضمنًا الانتهاء من هذا التفسير أولاً. إننا لا نستطيع أن ننقد نقدًا عقلانيًا إلا بعد أن نكون قد استوعبنا تمامًا الموقف الآخر، وإلى أن نستوعبه يتعين علينا تفسيره، ويتعين علينا أن نسأل من يقدمه: ماذا يعني؟ وإذا لم تُجْدِ سلسلة من التساؤلات في توضيح الموقف، وجب التحول عنها إلى سلسلة غيرها، وحيث إن مُحاورنا يتحدث إلينا من خلال مجموعة من الكتابات لا غير، إذن يجب علينا أن نفعل كل شيء في حدود قدرتنا لنستخلص موقفه كاملاً. وعلينا أن نرجئ الحكم إلى حين نضع أيدينا على كل الوقائع، وهذا مرهون بدوره باعترافنا بحالة الجهل التي نعيشها الآن. إننا لا نستطيع أبدًا أن نعلق الحكم، طالما أننا مقتنعون بأننا نعرف الإجابة بالفعل. وعندما نرتضي التسليم بجهلنا، يصبح البحث العلمي الجاد ممكنًا" (دراسة الفلسفة العربية اليوم، مجلة المستقبل العربي، عدد 58، السنة 1983).
يقترن البحث العلمي الجاد بالاعتراف بالجهل، وليس بالادعاء، إن في السر أو في العلن، أننا وحدنا من يعرف الطريق الملكي نحو المصنفات الرشدية تحليلاً وفهمًا. وربما يكون هذا الطريق الملكي هو الذي استبدّ بنا في فترة من الفترات، بفعل الإعجاب الذي يتملك الناظر في المؤلفات الرشدية لأول مرة، إذ إن قبضة ابن رشد الآسرة التي تخطف قارئ ثلاثيته الشهيرة؛ فصل المقال، ومناهج الأدلة، وتهافت التهافت، ليس من السهل الإفلات منها، ولا سيما إذا كان هذا القارئ وافدًا جديدًا من حقل الأصول أو الآداب بصفة عامة، وتتولد من هذه القبضة الآسرة عادة ردود فعل متباينة، نجملها، اختصارًا للقول، في نوعين رئيسين:
أ- النوع الأول: وهو ما يمكن تسميته بـ"موقف التبجيل والاحتفاء"، خاصة إذا كان قارئ ابن رشد لديه ميول سياسية أو عقلانية مسبقة.
ب- النوع الثاني: وهو ما يمكن تسميته بـ"موقف التنقيص والتبخيس"، خاصة إذا كان قارئ ابن رشد لديه ميول روحانية أو صوفية مسبقة.
وبهذا يتبين أن مثل هذه المواقف وغيرها ليست متضمنة في النص الرشدي، ولا يعكسها ظاهر هذا النص، وإنما هي ناتجة عن قناعات شكلت هوية القارئ، وتحكمت في رؤاه الخاصة. إن اتخاذ المواقف تجاه النصوص القديمة يعني الانخراط في صراعات الماضي؛ أي الاصطفاف إلى جانب صاحب النص أو الاصطفاف إلى جانب خصومه. ولعل أسوأ وضعية يمكن أن يجد فيها الباحث أو القارئ نفسه لهي وضعية من يروم إحياء صراعات الماضي؛ فهو يتحول بذلك إلى داعية أو سياسي أو مناضل أو أي شخص آخر إلا أن يكون عالمًا أو باحثًا أو دارسًا. فما هو المطلوب لتجاوز هذا الوضع؟
أعتقد، وليس هذا الاعتقاد صائبًا بالضرورة، أن على الباحث في الدراسات الرشدية اليوم أن يتسلح بوعي فلسفي مستقى من الدرجة التي انتهت إليها المعرفة الإنسانية على مستوى التحليل، أعني تحليل الأفكار والأنساق والمذاهب بغض النظر عن انتمائها إلى عصر بعينه أو صقع من الأصقاع أو ملة من الملل. فنحن أبناء هذا العصر وأبناء هذا الزمان، يحق لنا أن نفكر فيما قاله غيرنا، سواء أكان هذا "الغير" هو من لا ينتمي إلى جيلنا أو من لا ينتمي إلى ثقافتنا، وإلا تحولنا إلى ذلك الغير الذي لا ينتمي إلى عصره. وإذا كان عصرنا هذا عصر التحليل والتفكيك، أي عصر التخلي عن التنفس داخل الأنساق والحلم داخل الطوبى، فهذا يعني أن زمن استدعاء الروح الرشدية قد ولى إلى غير رجعة، كما ولى زمن استدعاء الأرواح بمختلف معانيها ودلالاتها، لأن استدعاء الروح هو استدرار لعطفها، قصد إنقاذنا مما نحن فيه.
إن السقوط في مثل هذه الوضع، أقصد اتخاذ مواقف تجاه النصوص القديمة، ليس قدرًا ولا تدفع إليه أية ظروف أو إكراهات، مادام الأمر يتعلق بالفهم فقط. ويعود أصل هذا الفهم إلى تصور الباحث في الرشديات للعلاقة التي تربط النص بواقعه أو بظروف إنتاجه، ومن ثم يبني على تلك العلاقة صورة للحكيم يبدع معالمها بقليل من الخيال ومزيد من التركيبات والاستنتاجات، بل الاستيهامات. ولا يأمن العابر، أثناء العبور من التحليل إلى التركيب، حدوث كثير من الزلات وعديد من المطبات، فإغواءات الاستنتاج لا تقاوم، وإغراءات التأويل لا تنضب، وسحر الرؤية لا يخبو. وقد تجد هذه الأمور تفسيرها في كون إشكال العلاقة بين النص وواقعه من جهة، والنص ومؤلفه من جهة أخرى، يعتبر أوهى الإشكالات الفلسفية على الإطلاق، إذ ليس للنص من واقع غير كلماته، وليس للمؤلف من علاقة غير جماع منطوقه، لذا فإن المصادرة على وجود واقع يفسر النص أو نص يفسر الواقع، في الحاضر أو في الماضي، لهي مجرد افتراض ينبني على فهم ذاتي.
يفترض دارس الرشديات وجود مشروع مضمر أو جلي، يجهد نفسه في رسم خطوطه كيما تنكشف صورة ما على مرآة التواليف المتنوعة التي خلفها ابن رشد، سواء أكانت فقهية أم كلامية أم منطقية أم طبيعية أم فلسفية. بيد أن المشروع الذي يتخيله الباحث لن يكون في أحسن الأحوال سوى انعكاسًا لهواجسه الخاصة، أو تعبيرًا عن أحكامه المسبقة، لاقت صدى في نفس هذا الباحث، ولم يكن النص الرشدي سوى مناسبة رفعت تلك الهواجس والأحكام إلى مستوى الإعلان عن المشروع. وبمجرد الإعلان عن ولادة المشروع، تبدأ مخاطر الوقوع والسقوط في المزلّات، وإليكَ أنموذجًا أو أنموذجين منها:
1ـ هناك رواية نقلها عبد الواحد المراكشي عن أحد تلامذة ابن رشد تتحدث عن لقاء دار بين هذا الأخير والخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف، بحضور ابن طفيل، وكان سؤال الخليفة الذي أربك ابن رشد يدور حول رأي الفلاسفة في السماء. وطلب ابن طفيل، في مناسبة أخرى جمعته بابن رشد، من فيلسوفنا أن يرفع قلق العبارة الأرسطية، لأنه سمع الخليفة يشكو من عبارة المترجمين المستغلقة، مما كان سببًا في الإقدام على شرح كتب أرسطو. وبناءً على هذه الرواية يمكن أن يستنتج الباحث أن فلسفة ابن رشد هي استجابة لرغبة الأمير، ومن ثم فهي تنخرط في إنجاز مشروع سياسي يجد عنوانه الأسمى في طلب تقدم به رئيس الدولة.
2ـ تعرض ابن رشد في أواخر أيامه لنكبة يوردها عبد الواحد المراكشي أيضًا، وهو يرجعها إلى سببين: أحدهما جلي والآخر خفي، أما السبب الخفي فيعود إلى ما ذكره ابن رشد في شرحه لكتاب "الحيوان" عن نشأة الزرافة حين قال: "وقد رأيتها عند ملك البربر."، دون إطراء أو تفخيم "على طريقة العلماء في الإخبار عن ملوك الأمم وأسماء الأقاليم"، أما السبب الجلي فيعود إلى وشاية تقدم بها بعض مناوئيه من أهل قرطبة المتنفذين إلى الخليفة، يزعمون فيها أن أبا الوليد ذكر بالحرف الجملة التالية: "فقد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة."، ولم يشفع له أنه كان يحكي ذلك عن أحد الفلاسفة القدامى. وهناك ملاحظتان تتعلق إحداهما بالرواية، وثانيهما بالنكبة، هما:
ـ بخصوص الرواية: قبل الذهاب رأسًا إلى استنتاج وجود مشروع سياسي لدى ابن رشد، يلزم التأكد من صحة الرواية أولاً، فما مصير الاستنتاج المذكور إن ثبت أن الرواية غير صحيحة تاريخيًا؟ أما في حالة ثبوت صحة الرواية، فإن الاستنتاج المذكور سيصطدم بعائق يتمثل في مآل طلب الأمير، فهل تبنت الدولة برنامجًا تعليميًا تجسد فيه الإنجاز الرشدي، أم أن الأمر لم يعدُ كونه تعبيرًا عن نزوة أميرية أثناء جلسة نجهل تفاصيلها؟
ـ بخصوص النكبة: تعبر النكبة عن غضب السلطة على الفيلسوف، ويستنتج الباحث من هذه الواقعة أحكامًا تتجاوز قدرها، وذلك من قبيل إسقاط هموم العصر الحالي على عصر تفصلنا عنه قرون، كالقول مثلاً إن محنة الفيلسوف دليل على انعدام حرية الفكر والتعبير، أو أن هذا الأخير كان يحمل أفكارًا متنورة لم تجد صداها لدى عامة الناس ولدى الدولة. وقد يكون أول ضحايا غضب السلطة هو رجل السلطة ذاته، ونحن نعلم أن ابن رشد كان يشغل منصب قاضي القضاة، وهو ما يناظر في عصرنا منصب وزير العدل، فهل يتعلق الأمر بعملية تأديبية مارستها الدولة في حق أحد موظفيها، لأسباب نجهلها؟
قد تبدأ أولى خطوات البحث من جهلنا بالحالة الأولى وبالحالة الثانية، شريطة أن نعترف بجهلنا، كما ذهب إلى ذلك تشارلس بترورث، فالناظر في كتب القدماء يشبه السائر على رمال متحركة، إذ لا وجود لأرضية صلبة عدا صلابة النص ببنائه اللغوي وأسلوبه المنطقي أو البلاغي، ما يعني أن خروج الباحث عن النص الذي يحلله هو خروج نحو المجهول بكل ما يحتمله من مخاطر، تهدد من يقدم على المغامرة بالسقوط في هاوية الأيديولوجيا أو الوهم أو الدعوة أو غير ذلك، لأن الخروج عن حدود النص معناه الارتماء في أحضان الرواية أو الواقعة، ونحن نجهلما معًا، ليس فقط نتيجة بعدنا الزمني عن المرجعية الأصلية، بل لأن الواقعة تمر عبر التمثل، ومن ثم فهي لا تختلف عن الرواية. فلم تصلنا الوقائع وإنما وصلتنا الروايات التي تحكي الوقائع، ولذلك نجهد أنفسنا نستنبط الواقعة من الرواية. فهل هذا الاستنباط أمر ممكن؟
الواقعة هي واقعتنا نحن في الراهن من الزمان، كما كانت للقدماء أيضًا واقعتهم حينما كان ماضينا هو حاضرهم، فالواقعة إذن هي ما نقوم بتثبيته في المكان وتحديده في الزمان، وبذلك تكون من صنع أذهاننا ما دمنا نسجنها في إطارين حدسيين فارغين، كما ذهب كانط. فالواقعة بهذا المعنى هي بنت الأذهان وليست بنت الأعيان، ما دمنا نرغمها على التوقف أثناء حركتها، ونجبرها على المكوث وهي في سيلان. وهكذا يظهر أن الواقعة تتولد بعملية قيصرية من رحم الحدث، لأن الحدث، كما يذهب جيل دولوز، له ما قبله وله ما بعده. يمتد الحدث نحو المستقبل ويتغذى منه، ويضرب في الوقت نفسه بجذوره في الماضي لاستثماره في المستقبل أيضًا، لكن الحدث لا يسير وفق أية خطة مسبقة، ولا يتخذ مسارًا مفهومًا كأن يخضع للعلية مثلاً. وليس للحدث عمق ولا باطن ولا معنى، لأنه هو المعنى ذاته والسطح نفسه والشكل عينه، فالحدث سيرورة بدون قصد، أي أنه حركة لا ترتد إلى أية نقطة سابقة لها، تلك هي الواقعة بوصفها حدثًا، وواقعة النكبة هي حدث بهذا المعنى.
ويورد عبد الواحد المركشي ما وقع بعد النكبة، إذ يقول: "ثم لما رجع [أبو يعقوب يوسف] إلى مراكش، نزع عن ذلك كله، وجنح إلى تعلم الفلسفة، وأرسل يستدعي أبا الوليد من الأندلس إلى مراكش للإحسان إليه والعفو عنه. فحضر أبو الوليد، رحمه الله، إلى مراكش، فمرض بها مرضه الذي مات منه رحمه الله، وكانت وفاته بها سنه 594، وقد ناهز الثمانين رحمه الله." ويضيف المراكشي: "ثم توفي أمير المؤمنين أبو يوسف بعد هذا التاريخ بيسير، وكانت وفاته، كما ذكرنا، في غُرّة صَفر الكائن في سنة 595" (المعجب في تلخيص أخبار المغرب، دار الكتب العلمية ـ بيروت 1998، ص: 219).
فما الذي حدث بعد اللقاء وبعد النكبة؟ لقد حدثت تحولات جذرية لم تؤدِّ إلى تغليب مسار على آخر، بل حدثت صيرورة بعد اصطدام تأثر منه الجانبان، لقد توفي الفيلسوف وهو في حضن الخليفة، وتبعه الخليفة بعد سنة، وقد مال الخليفة، حسب الرواية، إلى الانكباب على تعلم الفلسفة في أواخر أيامه، فمات الرجلان على وئام، وقد تم دفن ابن رشد بقرطبة، بعد نقل جثمانه وكتبه من مراكش في الجنوب صوب مسقط رأسه في الشمال. هذه الرحلة المأتمية، سوف ترتبط بها رحلة أخرى ليست أقل مأتمية من سابقتها، أقصد مرحلة تهريب المؤلفات الرشدية نحو العالم اللاتيني تحت غطاء عبري، إنها صور مأساوية ومرعبة تثير فينا عواطف جياشة، يختلط فيها الحنين إلى الماضي مع الشعور بالغيرة على فعل التفلسف في المدينة الإسلامية، وكذا الإحساس بتفويت الفرصة التاريخية والكثير من المواعيد التي كان من الممكن أن تغير وجهة الحدث والمصير. وبإضفاء قليل من الألوان على هذه الصور تتمكن منا مفعولاتها الشعرية، لنتحول جميعنا إلى بكّائين على الفردوس المفقود، فننساق تدريجيًا، وبطريقة لاشعورية، من مجال البحث العلمي إلى الحنين، ومن الحنين إلى الأنين.
ليست الواقعة حدثًا إن لم نجبرها على الولادة القسرية، بل النص أيضًا حدث، لأن النص ليس ساكنًا كما قد نعتقد، بل متحرك بفعل تبدل القناعات أو تأثير مقروءات المؤلف المتزامنة مع إخراج مصنفاته. وبخصوص حالة ابن رشد مع النصوص الأرسطية أو نصوص الشراح أو الفلاسفة المسلمين أو غيرها من نصوص الفقهاء والمتكلمين، فالرجل لم يكن ينطلقًا من الصفر أي من عقل خام محايد تمام الحياد. لقد بين غادامير أن الإقبال على دراسة نص ما قصد فهمه أو تفسيره يتم من خلال أحكام مسبقة مهما كانت تصريحات الدارس أو المفسر أو الشارح، وهي تصريحات يزعم صاحبها في الغالب الأعم أنه يهدف إلى بلوغ الحقيقة الموضوعية، بتجرد تام وحياد كامل. ألم يصرح ابن رشد، عندما كان مقبلاً على كتابة الجوامع الطبيعية، في ديباجة جوامع السماع الطبيعي قائلاً: "قصدنا من هذا القول أن نعمد إلى كتب أرسطو فنجرد منها الأقاويل العلمية التي تقتضي مذهبه، أعني أوثقها، ونحذف ما فيها من مذاهب غيره من القدماء، إذ كانت قليلة الإقناع وغير نافعة في معرفة مذهبه. وإنما اعتمدنا نقل هذا الرأي من بين آراء القدماء، إذ كان قد ظهر للجميع أنه أشدها إقناعًا وأثبتها حجة. وكان الذي حركنا إلى هذا أن كثيرًا من الناس يتعاطون الرد على مذهب أرسطو من غير أن يقفوا على حقيقة مذهبه، فيكون ذلك لخفاء الوقوف على ما فيها من حق أو ضده".
يشكو هذا التصريح من تناقض ظاهر، فهو يقرر، من جهة، أنه "قد ظهر للجميع أنه [أي مذهب أرسطو] أشد إقناعًا"، ويقرر من جهة أخرى "أن كثيرًا من الناس يتعاطون الرد على مذهب أرسطو". فإذا كان كثير من الناس يتعاطون الرد على مذهب أرسطو، فهذا يعني أنه غير مقنع للجميع. وإذا كان أرسطو غير مقنع للجميع، فلأن المعرفة العلمية ليست حكرًا على شخص بعينه. كما أن العلم لا يؤخذ من أفواه الرجال أو من أقلامهم، وإنما هو بناء نظري يشارك في تشييده أكثر من شخص. فأين هي الموضوعية والحياد والتجرد من كل هذا؟ وهل تمكن ابن رشد من حذف ما يوجد من آراء القدماء في النص الأرسطي العلمي والميتافيزيقي على السواء؟
يذهب المتخصصون في النص الأرسطي إلى أن كتاب الميتافيزيقا ليس كتابًا متعضيًا، أي ليس كتابًا بالمعنى المتعارف عليه، يخضع لنظام دقيق وترتيب متدرج يبدأ من مقدمة وينتهي بخاتمة، كما أن الروح التي تحكمه ليست واحدة، لأن النفَس الفلسفي الذي يسري فيه متوتر جدًا، ويصل أحيانًا إلى حد التنافر. فالنص الميتافيزيقي لا يشكل نسيجًا متناغمًا، لأنه عبارة عن مجموعة من المقالات المستقلة بعضها عن بعض، مرتبة وفق الحروف الأبجدية، وهذا ما حدا بالقدماء إلى دعوة كل مقالة باسم "كتاب"، وهو ما دعا الفارابي إلى تسميته بـ"كتاب الحروف"، فنحن إذن أمام مجموعة من الكتب ولسنا أمام كتاب واحد، ناهيك عن افتقار هذا الكتاب إلى عنوان يخصه، فالعنوان الذي مُنح له ليس من وضع أرسطو بل من وضع تلامذته، فضلاً عن كون هذا العنوان لا يحيل على وضع وجودي، بل يحيل على وضع ترتيبي، أي الكتاب الذي جاء بعد كتاب الطبيعة، كما نبّه ابن رشد نفسه. وهذه المقالات مستقلة بموضوعاتها، فقد كتبت على مراحل تفصل بينها فترات زمنية طويلة، يعود تاريخ بعضها إلى مرحلة الشباب، وحينها كان أرسطو أفلاطوني النزعة يتميز بأسلوبه الذي لا يختلف عن تلامذة الأكاديمية من حيث استعماله لضمير الجمع "نحن"، ويقصد به "نحن الأفلاطونيون" كما لاحظ ذلك فيرنر ياجر. وفي فترة لاحقة انفصل التلميذ عن أستاذه، واتخذ موقفًا نقديًا من نظرية المثل، وجد ترجمته الأسلوبية في غياب ضمير الجمع "نحن"، وذلك بدءًا من مقالة الزاي التي تنعت عادة بمقالة الجوهر. فبِمَ نفسر هذا الانتقال من موقف إلى نقيضه داخل الكتاب نفسه؟ هل يُعقل أن يدافع كاتب ما عن رأي في بداية الكتاب وعن نقيضه في وسط الكتاب أو نهايته؟
يضاف إلى هذا أن كتاب ما بعد الطبيعة عرف أشكالًا متنوعة من الإخراج، اقتصر أولها على ثلاث مقالات، وبدأت شيئًا فشيئًا تنضاف بضع مقالات أخرى، وفي كل مرة يعرف الكتاب بعنوان خاص، مثل باري فيلوسوفياس أو باري بسيكي أو طا أغاطو، قبل أن يستقر العنوان على ما بعد الطبيعة، أي الميتافيزيقا، ولهذا السبب تعرض نص الميتافيزيقا للطعن، إن على مستوى مضامينه أو على مستوى أسلوبه وعناوينه، سواء لدى القدماء أو لدى المحدثين. إننا أمام نص متموّج، نص يأبى الاستقرار والثبات على الحال نفسه، ينكمش كلما استنطقنا ماضيه، ويتمدد كلما ساءلنا حاضره أو استشرفنا مستقبله. وقد يكون هذا الوضع الرخو الذي يتميز به نص الميتافيزيقا أي الانفلات المستمر من قبضة الدارس، هو الذي دفع ابن رشد إلى البحث عما يسميه بـ"النظام الأفضل" في ترتيب نص الميتافيزيقا. يكبر النص بإعادة ترتيبه، وبإعادة صياغته من خلال جمعه وتلخيصه وتفسيره، ليولد ولادة أخرى، ويتكلم بغير لغته، ثم يتخذ معنى غير معناه الأصلي.
وعندما يُقبل المتخصص في الرشديات اليوم على النظر في النص الرشدي بتعدد إخراجاته، فهو يريد أن يحكم قبضته على جسم رخو يتضمن في باطنه مادة رخوة هي النص الأرسطي الثاوي في العمق، فسواء تعلق الأمر بالنص الأول أم بالنص المؤوّل، فإننا أمام إعادة بناء جديدة، تقتضي الهدم، أي تفكيك وحدات البناء الماثل أمام ناظرينا، قصد تشكيله مرة أخرى. وهذه العملية مزدوجة، لأنها ذات اتجاهين: اتجاه يسير فيه الباحث نحو النص تحليلاً وتركيبًا، واتجاه آخر يسير فيه النص الجديد من خلال التأثير في نفسية الباحث ووجدانه، فليس بنيان النص هو وحده الذي يخضع للتغيير والتأثير، وإنما يتغير البنيان النفسي للباحث ويتأثر كذلك. ومن ثم نجد أنفسنا أمام سلسلتين أو سيرورتين تتصادمان وتتقاطعان بل تتداخلان، دون أن نعلم مسبقًا بالمسار والقصد الذي سيؤول إليه هذا التصادم. يتأثر الباحث بالنص في زخم عميلة هيرمينوطيقية إذا حاول أن يضع نفسه مكان المؤلف، وحاول فهمه أكثر مما فهم نفسه، كما ذهب إلى ذلك شلايرماخر. أوَلم يصرّح ابن رشد في أكثر من موضع بأنه إزاء فهم رأي الحكيم وفق "ما يقتضيه مذهبه"، أو أن الحكيم أرسطوطاليس، وإن لم يصرح بفكرة أو تصور ما، فإن "أقاويله تعطي ذلك"؟
نخلص مما سبق إلى أن دارس الرشديات اليوم، أي الدارس الذي ينطلق من معارف عصره وينظر من خلالها في كتب قديمة، ليس باحثًا دعويًا، وإنما هو باحث عن شيء ما "لا يعلم ما هو على التحصيل"، كما يقول ابن باجة، فمادام النص ببنيانه اللغوي حدثًا، ومادام الباحث ببنيانه النفسي حدثًا، نحن أمام حدثين لا يبغيان، أي لا يسطو أحدهما على الآخر قصد تملكه، فلا الباحث يدخل النص من باب ثقافة العصر الذي عاش فيه المؤلف فيتكلم بلسانه ويعزف على وتره، ومن ثم يسطو النص ويُخضع الباحث لسلطته، ولا الباحث يدخل أيضًا من باب هموم عصره أو مواقفه أو انتماءاته الأيديولوجية ويقرأ النص من منظوره الخاص، ومن ثم يلتف عليه ويلفه ويحتضنه ليجعل منه وليدًا بالتبني.
يتحدد قدر الباحث في الرشديات إذن، من خلال السير على طريق غير سالكة، وهي طريق لا يمكن ارتيادها من الأبواب المشرّعة: أبواب التأويل المنفتحة على الهموم الذاتية أو على هموم العصر، فإغواءات التأويل المتسرع لا تقاوم بسهولة، إنها تحتاج إلى مناعة قوية، وهذه المناعة تكتسب بالمران والمراس، بعد تقليب النظر في مختلف الاجتهادات المحملة بأكثر من وعد لإنجاز الغاية القصوى، أعني الكشف عن صورة ابن رشد الحقيقي.
المصدر: http://mominoun.com/articles/%D8%A2%D9%81%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%AF...