قراءة في واقع الفلسفة العربية
هناك شعور ولكنه زائف، مفاده بأنّ الفلسفة في العالم العربي ليست بخير، ما نشهده اليوم هو نوع من الطفرة في الفلسفة العربية، قبل أيام كنت في السعودية، وهي بلد لا تدرَّس فيه الفلسفة، ووجدت شغفاً كبيراً وإقبالاً على الفلسفة، إذ ألقيت العديد من المحاضرات حول مواضيع فلسفية متعددة، مرة حول فلسفة الدين، ومرة حول فلسفة التنوير، ومرة حول فلسفة التأويل... وهناك مؤشر آخر، وهو جائزة الشيخ زايد للكتاب، وهي من أهم الجوائز العربية، وقد منحت مؤخراً جائزة الترجمة لثلاثة كتب؛ كتاب الذات لبول ريكور؛ كتاب الأفكار لهوسرل؛ كتاب الكينونة والزمان لهيدغر، وهذه كتب في غاية الأهمية في الحقل الفلسفي.
نشير إلى كون الفلسفة العربية نشأت من خلال ثلاثة حقول، وهي حقل الإسلاميات وحقل الإيديولوجيا، وهناك حقل اللغة، وهذه الحقول الثلاثة هي منابع الفلسفة العربية.
وأشير هنا إلى نمط الفكر الإصلاحي العربي؛ فالأفغاني ألّف كتاباً بعنوان الرد على الدهريين، ومحمد عبده ألف كتابرسالة التوحيد، وطور مصطفى عبد الرازق هذه الأطروحة بكون الفلسفة العربية الإسلامية تشكّلت خارج الفكر اليوناني؛ فهي موجودة في علم الكلام وفي أصول الفقه... وهذا توجه موجود منذ البداية، بداية الفلسفة العربية ولكنه تحول فيما بعد إلى إشكالية، وهي التي تحولت عند الفلاسفة العرب إلى إشكالية التراث مع الجابري وحسن حنفي وطيب تيزني.... وإشكالية التراث، تبدو غريبة بالنسبة إلى مَن له تكوين فلسفي تقليدي؛ فهذه العبارة صحبت مشاكل في ترجمتها... ولكن بالنسبة إلى الفلاسفة العرب، هناك غاية عملية، وقد سبق أن سألت المرحوم الجابري، لماذا هذا الاهتمام بمسألة التراث، وأنت رجل فلسفة؟ فكان جوابه نحن أصحاب رسالة تنويرية ندافع عن حقوق الناس؛ فكلما حاولنا التأكيد على هذا الأمر، وجدنا الناس متوجّهين إلى الإسلاميات وإلى الإسلاميين، وأدركت بأن المعركة تتعلق بمن يمتلك شرعية الدين. ومسألة الاهتمام بالتراث، نتج منها توسيع النظرة الفلسفية إلى خارج النمط الفلسفي التقدليدي مثلاً نحو اللغة وعلم الكلام والتصوف والبيان... وهذا نتج منه توسيع مجال الفلسفة والنتيجة السلبية لهذا المبحث هو تراجع الفلسفة بمفهومها التقليدي؛ أي تاريخ الفلسفة في الجامعة العربية لصالح الفكر العربي ولصالح جوانب معينة من الفلسفة الإسلامية.
المحور الثاني، وهو محور الإيديولوجيا، وله علاقة بإشكالية الهوية وموضوع التحديث. ومن المعلوم أن هذه القضايا قد صاحبت فكر النهضة، إلا أنه مع السبعينيات بدأت هذه المسائل تسير في اتجاه الإيديولوجيا العربية من خلال تحديد العلاقة بين الإيديولوجيا والتحديث والهوية، وهذا المبحث كان إسهام الفلاسفة فيه نوعاً ما ضعيفاً، وقد أسهم فيه بالخصوص أساتذة من حقل التاريخ، نذكر منهم عبد الله العروي، وهو أكثر الناس عطاء في هذا المجال وهشام جعيط.... المهم هناك دعوى لإعادة بناء الكثير من المفاهيم وفقاً للإيديولوجيا العربية... وقد كان لهذا الطرح تأثيره الواسع جداً في الفكر الفلسفي، وربما النتيجة السلبية لهذا الاتجاه هو التقليل من الكثافة الفلسفية للتنوير في بُعده الديني أو التنوير في أبعاده السياسية...
المحور الثالث هو اللغة، صحيح أن الكثير من الإشكالات الفلسفية قد تبلورت في الخطاب الأدبي والنقدي مع طه حسين والعقاد... ولكن هناك أيضاً في تاريخ الفلسفة المعاصرة خاصة بعد فترة الأربعينيات ما يسمى بالمنعرج اللغوي، سواء التحليل المنطقي للغة عند الفلاسفة الوضعيين أو تحليل الملفوظ الذي هو متأثر بالدرس اللساني. بالنسبة إلى التحليل المنطقي، فقد دخل الساحة العربية مبكراً عند زكي نجيب محمود، ولكنه لم يجد صداً واسعاً رغم أهمية كتابات زكي نجيب محمود، ولكن المنعرج اللساني قد شحن الفلسفة العربية ووجد لها آفاقاً جديدة، وللمدرسة التونسية دور مهم في هذا الجانب مع عبد المجيد الشرفي وزملائه... ومن خلال الفكر اللساني وإشكالية المعنى والدلالة... تمّ إعادة بناء الفكر الفلسفي في اتجاهات ما يسمى بالفلسفة التأويلية المعاصرة التي فتحت الفكر الفلسفي لغير الفلاسفة، ومن أهم ممثلي هذا الاتجاه الراحل نصر حامد أبو زيد.
من خلال هذا العرض السريع للفلسفة العربية المعاصرة، نخلص إلى كون الفلسفة العربية المعاصرة تعرف طفرة تتجلى في تجدُّد الفلسفة من خلال منابع متعددة، هذا فضلاً على ربط الفلسفة بقطاع واسع من قطاعات الثقافة العربية، ولكن هذه النتيجة لا ينبغي أن تخفي بكون الفلسفة العربية بقيت حبيسة ما هو متعلق بإشكالات التراث العربي؛ فالفلاسفة العرب لم يسهموا إلا قليلاً في الخطاب الفلسفي الكوني، على العكس من التجربة الفلسفية في القرون الوسطى، عندما كانت كتابات ابن سينا والفارابي وغيرهم. صحيح تنطلق من المرجعية الإسلامية، ولكن تكتب بنَفَس كوني. وليس من الضروري أن يتحرر الفيلسوف من محليته عندما يكتب فيما هو كوني، نورد هنا قول لفوكو، إذ قال في إحدى مقابلاته الأخيرة بأن كل ما كتبه في كتبه يتمحور حول سؤال لم يَرِدْ في أيّ من كتبه، وهو ما هي أوروبا؟ بينما نحن كل شغلنا مَن نحن ما هي هويتنا... لكن لم نبدع في اللغة الفلسفية الكونية، وهذا عجز حقيقي، مجلة نوفيل أوبسيرفاتور قبل عشر سنوات عملت محوراً حول أهم فلاسفة العصر وقعت على 25 فيلسوف من فلاسفة العصر، فكان بينهم فيلسوف إفريقي وفيلسوف هندي، ولم يكن بينهم فيلسوف عربي؛ فهناك ضعف حول بناء الحركة الفلسفية على المستوى العالمي، وهذا ناتج من خطاب الخصوصية المهيمن على الخطاب الفلسفي العربي، إذن الفلسفة بخير، ولكن كما فعل الفارابي أخرج الفلسفة من الملة إلى الإنسانية، ونحن في حاجة لإخراج الفلسفة من المحلية إلى الخطاب الكوني الواسع، وعندنا الكثير من الكفاءات القادرة على هذا الأمر.
المصدر: http://mominoun.com/articles/%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A9-%D9%81%D9%8A...