النظام المعرفي الإسلامي.. رؤية تفسيرية
تمر الثقافة العربية الإسلامية بطور من الضعف البين الواضح، مما أدى إلى تباعد الدلالات المنهجية عن الدلالات التطبيقية لواقعها المعاصر الذي تحيا فيه.
الأمر الذي أدى إلى التخلي التدريجي عن الإطار المعرفي الملائم الذي تحدده الثقافة العربية والإسلامية، كما أدى الى تبنى أطر معرفية جديدة ممتدة من ثقافات وسياسات مغايرة، تحمل في طياتها مخالفة الثوابت الأيدلوجية الراسخة في النظام المعرفي الإسلامي.
ألقى ذلك بظلاله على شتى الأفكار الإسلامية، وتأثرت بعض المفاهيم المعرفية في النظام الإسلامي، الأمر الذي نتج عنه الفصل بين المدنية والدينية في الأطر الإسلامية، التي كانت منصهرة ومتطابقة على مدار عدة قرون مضت في الفكر والعقل الإسلامي.
لقد أعلت –القرون الإسلامية السابقة- من القيم والمبادئ الإنسانية، فأحدثت قفزة نوعية في العلاقة بين الإنسان وما حوله من بني جنسه، والمكان المحيط به، والزمان الذي يعيش فيه، والذي نضح بقوانين مدنية متناسقة مع الثوابت الدينية، فأثْرَت بها الحضارة والتاريخ الإسلامي.
وكثيرا ما حاول العابثون خلخلة النظام المعرفي الذي تبناه العالم، يوم أن كان للإسلام اليد العليا على ثقافات الشعوب، ويوم أن قادهم النظام الإسلامي إلى إحلال مفاهيمه الإيجابية وبث روح الرقي الحضاري في أرجاء العالم.
وعلى مدار القرنين السابقين نجح أعداء الإسلام من إستحداث معارف مبتكرة تم نشرها واعتمادها وتطبيقها بدعم دولي جديد، ما اثر سلبا على المنظومة المتاحة بين الناس للنظام المعرفي الإسلامي.
لذلك كان من المهم التعرف على هذا الأثر المعرفي الذي يعد من أهم الآثار التي كانت لهذه الأمة الريادة فيها، والذي كان هو السبب الأول لأي حالة إيجابية من التقدم العالمي.
وقد يلاحظ أن تعريف النظام المعرفي في الإسلام يختلف بحسب نظرة وتوجه كل باحث يريد أن يعرفه من جهة نظرته المعرفية والواقع التطبيقي، الأمر الذي انطبع على رؤية كل باحث على حدة؛ في وضع معيار واضح من حيث الشكل والمضمون للتعريف، سواء من خلال الأطوار التي مر بها النظام المعرفي قبل حالة الانحدار أو حتى بعد ذلك إلى يومنا هذا.
فالنظام المعرفي موجود في كل البنى المعرفية، فكل الثقافات الإنسانية تشمل على نظام معرفي معين، لأنه من دونه لا يمكن إنشاء ثقافة أو بناء علوم ومعارف.
فهو إذن " شبكة مترابطة من المفاهيم الجامعة والمسلمات الكلية التي تم استنباطها من الرؤية الكلية والفرضيات النظرية، ولها اتساق وانسجام في ما بينهما، وتدعي التعبير الحقيقي عن ما يدور في الواقع الاجتماعي، هذا النظام تترتب في إطاره المشاهدات الحسية وتختمر في بوتقة التجارب الشخصية مع العالم الخارجي لأولئك الذين يستنبطونه" (1)
وفي الرؤية الإسلامية فهو ينبع من سياق يجمع مناظير مختلفة للكون والحياة، مردودها الأصلي في مفهوم الإيمان والتوحيد والعبادة والرسالة وأثر ذلك على الإنسان.
ونستطيع القول بأن الابعاد الرئيسة للنظام المعرفي الإسلامي تنظم ما يتعلق بالإنسان من مناظير كالعقل والفعل والوعي والتاريخ.
فنحن إذن أمام رؤية إسلامية متكاملة تستند إلى مصادر بالغة الثقة والصحة معتمدة على ثوابت راسخة من الحق والعدل تقيم تطبيقا منهجيا وتضع ضوابط ومبررات ومسلمات وأسس للسلوك الإنساني؛ لينتج اثرا إصلاحيا في مجتمع البشر ويتعدى ذلك إلى الكون المحيط من حوله في منظومة بالغة الدقة والصوابية.
ولعل الإسلام هو الوحيد الذي يمكن أن ينافس المعطيات المعرفية للحضارة الغربية ويستوعبها ويعيد صياغتها على شكل نظام معرفي بديل، فيرشد الحضارة ويقودها عبر عمليات تفاعل واندماج طوعي، ويخلصها من روح الهيمنة والاستغلال والطبيعة الصراعية.
فالبحث في النظام المعرفي الإسلامي هو بحث في الهوية الحضارية للأمة المسلمة، وأي إسهام في بناء النظام المعرفي وبلورته هو إسهام في البناء الحضاري للأمة، وبيان للمتطلبات اللازمة لوضع قواعد النهضة والجهود المبذولة من أجلها على أسس معرفية.
وإذا تحددت ملامحه بدقة أفادت في وضوح المنطلقات المشتركة بين أفراد التخصصات المعرفية المختلفة، والذي سيؤدي بدوره إلى انصهار حضاري بين المعارف المختلفة، حاملا في طياته رسالة الأمة إلى العالم، مصبوغة بصبغة حضارية إسلامية مميزة بهوية وبأيدلوجيات ثابتة وبتوجيه عقلي متفهم وبسريرة واضحة غير مشوبة, بعكس ما ينتشر في العالم الآن.
فتوفر المنظومة الإسلامية ثقافة توحديه مخالفة لثقافات الانشقاق والتمزق الموجودة، بجهد يسعى إلى ربط مستوى التعاون بين الأفراد والمجتمع.
فتعلي من قيم الحضارة الأخلاقية التي تراجعت إلى مستويات متدنية اثر تصارع الأفكار النفعية المتناقضة؛ التي أدت إلى اللجوء إلى الإلحاد في المعارف الغربية.
فينعكس ذلك على الاستقرار المجتمعي وإنهاء حالة التمزق والشتات.
ما يساهم في توطيد معان تطبيقية عادلة، وتأسيس قواعد أخلاقية سامية من حسن الظن والتواضع ومساواة الذات مع الآخر ونزع الغل والأحقاد من النفوس والقلوب.
الأمر الذي يستدعي اهتمام الباحثين لتقديم عناصر هذه الرؤية، والدعوة لاستبدال الموجود من الشتات المعرفي الغربي والعالمي بنظام معرفي منبثق من الرؤية الإسلامية.
ويلزمنا ههنا الابتداء ببناء النموذج المعرفي الإسلامي ثم توضيح المنهجية المنبثقة عن هذا النموذج ثم طرائق التطبيق.
وقد تميز النظام المعرفي للإسلام بخصائص ميز بها عن النظم الأخرى جعلته متفردا عنها ومتقدما عليها وحائزا على ثقة كل باحث عادل يبحث عن الحقيقة الثابتة والدليل الراسخ.
فهو يقوم على الإيمان بخالق الكون العظيم وبالرسل التي أرسلها للبشر لهدايتهم، وبالرسالة التي حملوها والتي اختتمت بالرسالة الخاتمة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وبأن هناك يوما آخرا، وحياة بعد الموت، وحسابا وجزاء وبأن الكون يجري بقدر الله سبحانه وقدرته.
والتطبيق المعرفي الإسلامي يقبل مفهوم التغيير في نماذج التطبيق – لا في ثوابته المعرفية - فسنة الله في خلقه التغيير، والعقل والواقع يشهدان تغيرا وتنوعا ووسائل المعرفة دائما في توسع وتقدم.
والإنسان يتعامل مع الواقع الذي يتم إدراكه ومعرفته، لذلك فهذا النظام المعرفي مبني على فهم الواقع وقابلية اكتشاف الجديد فيه، مما يدفع العقل الإنساني للمزيد من البحث والسعي والتعلم والتفهم.
والمعرفة في الإسلام مفتوحة لجميع إبداعات العقول الإنسانية، فإن الله قد أودع في الكون حقائق وقوانين وسخرها للمعرفة، لكن ما يصل إليه الإنسان ينبغي فحصه وتمحيصه وعرضه على الثوابت ثم قبوله إذا ثبتت صدقيته.
كذلك فهي تدرك ذلك الترابط الدقيق بين متطلبات المنهج المعرفي وقيمه مع الحاجيات الإنسانية الحقيقية، فينتج عن تطبيقه تكيف حياتي بشري متكامل غير منقوص، بعكس ما يحصل في المناهج الأخرى إذ تطبق جزءا من المراد نفاذه او التركيز عليه ما يؤدي لاهمال متطلبات الحياة والمتطلبات الروحية او غيرها.
والنظام المعرفي الإسلامي يقدم نموذجا للحياة الإنسانية الحية، البعيدة عن التفرد والإنطواء والاغتراب، بل يرسخ في المفهوم الإنساني أنه يحيا داخل هذا الكون الفسيح وان عليه واجبات تجاهه، وأن أخلاقياته ينبغي أن تصب في اتجاه إصلاحه، بل ربما ألزم المؤمنين به بالاهتمام بغيرهم وبمعونتهم والقضاء على المعوقات التي تعوقهم لممارسة حياتهم بشكل إيجابي.
إننا أمام واجب قيمي وتاريخي يدعونا إلى إعادة نهضة حقيقية تعتبر النظام المعرفي الإسلامي قائدها وموجهها الفكري والتطبيقي، مما قد يلزم منه بلورة رؤى هذا النظام المعرفي الفذ، والتأكيد على ثوابته التي يجب ألا يتطرق إليها التغيير أو العبث أو حتى الاجتهاد، وإعادة تأطير الرؤية التطبيقية مع ما يناسبها من الواقع، فاتحين باب البحث والاجتهاد فيها، مع إخضاع دقيق للمناهج الوافدة من الغرب والشرق للبحث والتقييم والنقد والتنقية قبل الأخذ بها تطبيقيا، خصوصا أن لدينا الرؤية المتكاملة الوثيقة التي يمكننا بها الاستغناء عن الوافد، قابلين في ذلك كل جديد مبتكر ومفيد ونافع للحياة البشرية من الابتكارات، شريطة ألا تتصادم مع نظامنا المعرفي الرصين.
لقد حاول النظام المعرفي الإسلامي تأسيس العلاقة المحورية بين المعرفة والممارسة؛ فشكل نمطا رائعا من القيم في التعامل مع الكون والأحياء، وحمى العقل البشري من الاستغلال المادي، ومن غطرسة القوة، فالفارق الجوهري بين أي نظام معرفي متاح وبين النظام المعرفي الإسلامي هو في الأساس الرؤية العقدية له، إذ الإيمان والتوحيد هو الأساس العقدي للنظام المعرفي الإسلامي، والذي في ضوئه ينبني النظام كله، فمن خلال النظام السليم يمكن الإنسان من تحقيق وظيفته الوجودية وليس عملا خاليا من كل غرض أو هدف أو عبادة.
ـــــــــــــــــــــــــ
1- محمد الحسن بريمة – ( الظاهرة الاجتماعية ونظامها المعرفي في القرآن).
المصدر: http://www.taseel.com/display/pub/default.aspx?id=8633&mot=1