الفجوة الإعلاميّة العربيّة
يحيى اليحياوي
تتحدّد الفجوة الإعلاميّة، في منطوقها وواقع حالها، في كونها الهوّة أو البون الذي يفصل أداء إعلامياً ما عمّا سواه من أداء، لا سيّما أداء إعلام الدول المتقدمّة الكبرى، ليس فقط بجانب بيئة الأداء ذاته ومناخ إفراز مدخلاته، ولكن أيضاً على مستوى نوعية الأداء نفسه في شكله العام وفلسفته، في جوهره كما في البنى الذهنيّة القائمة عليه.
هي فروقات عميقة وتمايزات كبرى، تطال مناخ الاشتغال العام (سياسياً وقانونياً وإدارياً) وتطال البنيان المؤسساتي (مهنياً وأخلاقياً)، وتطال فضلاً عن كلّ ذلك، الخلفيّة الثاوية وراء الأداء الإعلامي، بجانب المسؤولية والاستقلالية الذاتية.
وعلى هذا الأساس، فإنّ الفجوة الإعلامية القائمة بيننا وبين الغرب، إنّما هي فجوة يمكن قياس مداها الزمني (ضمن مقاييس أخرى) باستحضار عنصرين اثنين:
*هي فجوة في الأدوات الماديّة، تاريخية بالأساس، إذ التراكم التقنيّ المبكر في ميدان الإعلام والمعلومات والاتصال بالغرب، لم يواكبه إلا استيراد متأخر ومبتور وانبهاري وغير منظّمللتقنيات ذاتها؛ ولذلك لم تنجح الدول العربية في ترويج التقنيات إيّاها على نطاق واسع، ولم تستطع موطنة مزاياها لا بالزمن ولا بالمكان.
وهو أمر لا يتعذر التحاجج كثيراً بشأنه، فيما يتعلق بالصحافة المكتوبة، وبالمذياع، وبالسينما، وبالتلفزة، وبالإنترنيت، وبغيرها؛ إذ إنّ تاريخ اختراع الغرب لهذه المستجدات، وتاريخ "تمكين" العرب منها، تاريخ طويل، لم تقلّص من مداه نسبياً إلا بعض النخب العربية المتنوّرة هنا أو هناك. بالتالي، فالفجوةفي هذا المجال هي فجوة تقنية، بل يقول البعض أدواتيّة صرفة، تفصل ما بين زمنين متنافرين: زمن المصمّم والمنتج، وزمن المستورد والمستهلك... وهو حال العرب مع هذه المستجدّات منذ أكثر من نصف قرن من الزمن، ولا يزال الأمر يسير على المنوال ذاته بهذا الشكل أو ذاك.
* وهي فجوة تصميم محتويات وإنتاج مضامين، بين جزء من العالم خبر مبكراً قيمة الإعلام وخطورته، وبين جهة أخرى (المنطقة العربية) اعتبرت الإعلام بمواصفاته الحديثة مستجداً استعمارياً دخيلاً، وعنصر بلبلة مؤكد، وفي أخفّ الأحوال وسيلة كمالية نخبوية الطبيعة والطابع، لا فائدة من استقدامها والتعاطي معها، حتى بثبوت جدواها ضمنياً أو بالاعتراف المتأخر بها.
هي إذن هوّة بين من ينتج الإعلامانطلاقاً من منظومته وبأساليب عمل استجدّها لذلك، وبين من يرفضها، أو يقوم باستهلاكها، بعد قبول، لكن دونما الانتباه إلى ما قد تجرّه خلفها من رهانات أو تضمره من تحدّيات.
لا ينحصر الأمر عند هذه النقطة، بل يتعداه (من لدنّ النخب الإعلامية الحاكمة أو الدائرة بفلكها) إلى اعتبار أنّ استجلاب ما يتوفر من مستجدات تقنيّة في المضمار ذاته (عندما لا يعترض سبيل استقدامها منغص يذكر)، يعتبر كافياً لحلّ الإشكالية الإعلامية المطروحة، في حين أنّ الحلّ ذاته لا يستقيم في غياب بعد الإنتاج الملازم له، المصاحب لتطوراته :
* فإذا كانت التقنيّة الرقميّة قد أضحت لغة الإعلام بالغرب، كما بالعديد من الدول العربية ـ بعض الشبكات الهاتفية العربية أكثر تطوّراً من بعض الدول المتقدمة ذات التقاليد الإعلامية المتأصلة ـ ، فإنّ الجزء الثاني من المعادلة (جزء المحتويات والمضامين) يبقى بالمنطقة العربية دون ما توفره التقنية ذاتها، أو تستوجبه، أو لا يستقيم بنيانها بغيابه.
معنى هذا، أنّ معظم الدول العربية (المقتنية لآخر ما أنتجته تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصال) بقيت حبيسة "إنتاجات إعلامية" تمجّد السلطان (رئيساً أو ملكاً)، أو تنبش في التراث لشرعنة نظامه، أو تمرّر ما تسنّى لها من منتجات غربية تجاوزتها الدورة التجارية وبنت على أنقاضها، في حين أنّ الطفرة التكنولوجية الجارية تجاوزت ذلك، بل أفسحت المجال واسعاً لتجاوز ذلك في الشكل والمضمون.
ومعناه أيضاً ـ بجانب آخر ـ أنّ إدخال شبكة الإنترنيت مثلاً في معظم الدول العربية، لم يترجم بمضامين ومحتويات على مستويات المواقع المقامة، الرسمي منها وغير الرسمي على حدّ سواء، بل أفرز لنا واقعاً الجسد من بين ظهرانيه قائم، فيما الروح غائبة في المظهر كما في الجوهر.
* وإذا كانت معظم الدول العربية قد أنشأت وكالات وطنية للأنباء، تتقصى الأنباء العالمية وتزود بها من هم بحاجة إليها، فإنها تبقى في الغالبية العظمى منها سجينة ما توفره لها وكالات الأنباء الدولية من أخبار ومعلومات عالمية، وفي العديد من الحالات بما توفره لها من معطيات حول الأحداث الداخلية المرتبطة بالدولة التي تنتمي إليها هذه الوكالة الرسمية أو تلك.
* وإذا كانت جلّ الدول العربية قد أوجدت بين ظهرانيها فضائيات لها (وأكثر من فضائية في العديد من الحالات)، فإنها تبقى رهينة ما تروّجه وسائل الإعلام الغربيّة المحلي منهاوالفضائي، المكتوب منه والمصوّر والمسموع سواء بسواء، اللّهمّ إلا هذا الاستثناء الشاذ أو ذاك. ليس ثّمة من شك إذن، في أنّ الفجوة الإعلامية القائمة بين الغرب والدول العربية، إنما هي فجوة حقيقية، ذات أبعاد تاريخية وتداعيات سوسيولوجية، ولا يمكن بأّية حال من الأحوال تجاوزها أو القفز عليها:
* فهي، فضلاً عمّا سبق، فجوة قانونية وتشريعية، بين جهة من العالم تكّرس وتقّدس حرية التعبير والتفكير والرأي، والحق في الإعلام ولوجاً وشيوعاً، وبين جهة من العالم (المنطقة العربية) لا تزال قوانينها وتشريعاتها تجرّ خلفها استبداد الرأي الواحد، وسيادة الخطوط الحمراء، وتحتكم إلى نظرية المؤامرة في متابعة الإعلاميين، واضطهاد المدافعين عن الرأي الحر.
* وهي فجوة سياسية (وبالمحصلة ديموقراطية)، لا تتمّ مقاربة الحقل الإعلامي في ظلها، باعتباره رافداً من روافد البناء الديموقراطي، وتكريس دولة الحق والقانون (كما بالدول المتقدمة)، بل باعتباره منافساً شرساً، إذا تسنّى له تكريس سلطته على أرض الواقع، فستكون بالتأكيد من اقتطاع سلطة السياسي الحاكم، حجماً وعلى مستوى التأثير.
* وهي فجوة نفسية غير جليّة للوهلة الأولى، بين أداء إعلامي متحرّر، تحكمه قواعد وأخلاقيات المهنة والمسؤولية، وبين أداء يتمّ الاحتكام في التعامل معه إلى القوانين الزجرية، ولوائح المنع، وتشريعات الحصار والمضايقة والمتابعة أمام المحاكم.
* وهي فجوة ذهنية (عقلية بمنطوق الدكتورة عواطف عبد الرحمن)، بين إعلاميين تحكمهم مواثيق وخلفيات ثقافية متجذّرة، وبين إعلاميين ضاقت بهم السبل لدرجة طغيان الرقابة الذاتية من بين ظهرانيهم، مجاملة لهذه الجهة من السلطة، أو درءاً للبطش المحتمل لتلك.
هي إذن بالمحصلة النهائية فجوة مركّبة، يتداخل في صلبها التقني بالاقتصادي بالثقافي وبالرمزي أيضاً، إذ الإعلام بالمنطقة العربية هو إلى حد بعيد جزء من سلطة رمزية (سياسية أو دينية أو طائفية أو ما سواها)...بالتالي فهي بوجه من الوجوه، تمظهر من تمظهرات الفجوة بين الحاكم والمحكوم.
ولمّا كانت الفجوة ذاتها مركّبة العناصر (منظومية يقول البعض) فيما بيننا وبين الغرب؛ فهي أيضاً فجوة مركًبة بداخل كلّ دولة عربية على حدة، قد لا تختلف هذه الدولة عن تلك إلا في الدرجة، في حين أنّ الطبيعة واحدة :
* فهي فجوة بين خطاب (كلّ الخطاب الرسمي العربي) يدّعي الانفتاح والحرية واحترام قيم الاختلاف، وبين سلوك يحجر على حريّة الفكر والتعبير، يحاصر الإعلاميين (تشريعاً وبقوة الاستبداد في الغالب الأعم)، ويضيق ذرعاً بتطلّعهم إلى الاستقلالية والمهنية وأخلاقيات الحرفة.
* وهي فجوة بين إعلام يداهن السلطة في تصرفاتها وسلوكها (ويبرّر لها خشونتها في الغالب الأعم) وبين إعلام ينتقدها، يطالب بمحاسبتها، يستفزّها ويتمادى في استفزازه إياها، إيماناً منه بأنه بالمحصلة سلطة لا تقلّ قوة عن باقي السلط.
* وهي فجوة بين تصورين في العمل الإعلامي، ينطلق أحدهما من التسليم بواقع الحال (وحسن سيرة أولي الأمر من بين ظهرانينا)، في حين يدفع الثاني بفساد الواقع ذاته وفساد القائمين عليه، طالما لا توجد سبل لمحاسبتهم أو مراقبتهم، في أفق تجاوز الواقع إيّاه. هي بهذا الجانب، فجوة مركّبة من المتعذر حلّ تداخلاتها، أو تفكيك عناصر المعادلة القائمة عليها، في الشكل والمظهر كما في المضمون والجوهر.
لقائل أن يقول: إذا كان الحال كما تمّ توصيفه، فهل يا ترى من سبيل لتجاوز الفجوة ذاتها، أو على الأقل التضييق من مداها وتداعياتها، إذا لم يكن فيما بين بعضنا البعض كدول عربية، فعلى الأقل بإزاء الغرب؟ وهو تساؤل لا يخلو طرحه من صواب، لكن عناصر الجواب متعذرة وصعبة، وقد لا تخرج عن إطار الانطباعات.
فإذا كان من الوارد (من الممكن أقصد) تدارك الفجوة فيما بين الأقطار العربية (بين من يملك المال ومن يملك الخبرات والقدرات العلمية)، وداخل الدولة العربية الواحدة عبر التشريعات، والقوانين الفاتحة للسبل في العمل والمبادرة، دونما حصار أو تضييق، فإنّ معالجةالفجوة ذاتها مع الغرب، تبقى عسيرة المنال بكل المقاييس:
* فالعمل الإعلامي تراكم تاريخي، صبّت في بنيانه روافد سياسية واقتصادية وجيوستراتيجية، وأنشئت له بنيات اجتماعية وثقافية وذهنية من الاستحالة حقاً "استيرادها" من لدن الدول العربية، حتى وإن تمّ لها استيراد ما يفرزه التراكم ذاته على مستوى الوسائل والمعدات والأدوات وما سواها.
* ويطال العمل الإعلامي التقادم بسرعة، لا تستطيع الدول العربية مجاراته لا في شكل تموّجاته ولا في طبيعة التموجات نفسها؛ فانتقال الصحافة المكتوبةفي الغرب بجهة توظيف شبكة الإنترنيت، إنّما يدخل في إطار التحوّلات التي تعرفها المجتمعات الغربية، وفي أساليب تعاملها مع الخبر والمعلومة، في حين لا تتعامل معه المنابر الإعلامية العربية (التي لها مواقع بالشبكة) إلا من باب الحامل المحايد، وفي أحسن الأحوال المساعد.
صحيح أنّ شبكة الإنترنيت هي بنية تقنية وأدوات برامجية، لكنّها في الآن ذاته حمّالة منظومة قيم وثقافة وسلوك وما سواها، وهو أمر ما لم يتم إدراكه، فستبقى الشبكة منفصمة عن مستخدميها شكلاً ومضموناً.
* والعمل الإعلامي، فضلاً عن كلّ هذا وذاك، فضاء متكامل، يعتمل بداخله البعد الاقتصادي بالبعد الاجتماعي بالبعد الثقافي بما سواه من أبعاد، ولا يمكن بالتالي اختزاله في هذا البعد أو ذاك.
ولمّا كان الأمر كذلك، فإنّ طرح "المدن الإعلامية الحرة" في بعض الدول العربية مثلاً، إنّما هو طرح يختزل الإعلام في بعده الاستثماري والتجاري، دونما مساءلة في ذلك لما سواه من أبعاد، لا سيّما سعة ومدى فضاء الحرية والحقوق، وقدرة المدى ذاته على إفراز قيمة إعلامية إضافية.
يبدو لنا في المحصلّة النهائية، أنّ الفجوة الإعلامية (المكتوب منها والمرئي والمسموعوالإلكتروني)، إنّما هي مظهر من مظاهر فجوة التنمية التي لا تزال تفصلنا عن الغرب، وأنّ التساؤل في سبل تضييق مداها أو ردمه على المدى الطويل، إنّما مدخله التساؤل في طبيعة التنمية المنشودة، والنموذج الذي من الواجب استنباته ذاتياً، لا التهافت على استجلاب معدات وتجهيزات ومستجدات قد لا تجاريه، بقدر ما قد تقوّضه.
المصدر: http://www.mominoun.com/arabic/ar-sa/articles/%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%84%D...