الإعلام العربي: سؤال الأفق

يحيى اليحياوي

 

ثمة قضايا إشكالية كبرى، تعتمل بقوة ومنذ أمد طويل بداخل "الفضاء" الإعلامي العربي، لم يتسن له أن يحسم الأمر بشأنها، على الرغم من التراكم النسبي الذي حققه هذا الفضاء، منذ أواسط ثمانينيات القرن الماضي تحديدا، لا سيما على ضوء الطفرة الرقمية التي طاولته في شكله، كما في العديد من جوانب مضامينه. هي قضايا كبرى، تم التعرض لها هنا وهناك، لكنها بقيت عصية، إذا لم نقل على التكريس والحل؛ فعلى الأقل على الحسم في أساسياتها، والتداعيات التي بالإمكان أن تترتب عن ذات الأساسيات:

+ القضية الأولى وتتعلق بإشكالية الهوية، بما هي مكمن الذات، وصلب الاستقلالية الفعلية التي يتغيؤها، أو يطمح هذا المنبر أو ذاك لإدراكها، أو لإدراك جزء منها على الأقل. بهذه الإشكالية، يطاول السؤال بقوة جهة انتماء معظم وسائل الإعلام العربية، بالقياس إلى السلطة السياسية وسلطة رأس المال الضاغط، أو ما يسمى بالغرب بضغط لوبيات الإعلام، وقدرة هذه الأخيرة على ضبط تموجات هذا المجال، والإمساك بتمفصلاته الكبرى.

نتصور في هذه النقطة، أن الإعلام العربي، بكل أشكاله وروافده، المكتوبة والمسموعة والمرئية، هو بالعديد من الحالات، جزء من السلطة القائمة، ولا سلطة له قائمة بالتالي، على الأقل إن نحن أخذنا بالاعتبار أطروحة السلطة الرابعة المروج لها بقوة هنا وهناك. الإعلام العربي جزء من بنيان قائم، لا بنيانا قائما بذاته، له مرجعياته وفلسفته وتمايزاته عما سواه من مستويات.

من هنا، فإن هوية الإعلام العربي لا تتحدد إلا بالاحتكام إلى هويات أخرى، يفعل من بين ظهرانيها، يتمثل قيمها لحد الاندغام في بناها ومؤسساتها مباشرة، أو بالفعل المضمر. وعلى هذا الأساس، فإن هذا الإعلام سيبقى بأزمة حقيقية من وضعه، طالما لم يستنبت لذاته هوية خاصة به، يدفع بها بالشكل والمضمون، في أفق تشكيل رأي مضاد، إذا لم يكن بوجه السلط الثلاث المعروفة، فعلى الأقل بوجه السلطة التنفيذية؛ أي بوجه الحكومات باعتبارها الجهة المؤثرة والضاغطة، لا بل والمالكة للعنف المادي والرمزي الذي قد لا يسلم منه إلا مداهن، أو مناور، أو منافق، أو صاحب مصلحة، أو متخوف من طيش محتمل.

وعلى الرغم من انفجار الفضائيات، عددا وفي شبكات البرامج، فإن ما زعمناه أعلاه يبقى ساريا دون أدنى شك، إذ هذه الفضائيات، العام منها كما الخاص، الجامع منها كما المتخصص، تبقى رهينة هوية مالكها أو ممولها، أو من يستضيف استوديوهاتها على أرضه، أو من يمنحها سبل الارتباط عبر هذا القمر الصناعي أو ذاك، أو من يضخ المال بميزانياتها عبر الإعلان والإشهار، أو من يزودها بالمعلومات ومصادر الأخبار، وهكذا دواليك. الهوية هنا على المحك أيضا، ليس فقط بمقاييس التحكم المادي المباشر، بل أيضا بمعايير التأثير غير المباشر؛ أي عن بعد، والذي نحسه ونستشعره لدى استقرائنا لبرامج هذه الفضائية أو تلك.

+ القضية الثانية، وترتبط بوظيفة الإعلام العربي وبدوره. هل المفروض أن يكون هذا الإعلام عاكسا أمينا لما يعتمل بواقع الحال، أم المفروض أن يعمل على تغيير ذات البين من بين ظهرانيه وظهرانينا، على اعتبار قدرته ونجاعته على بلوغ ما لا يمكن للأحزاب أو النقابات أو الجمعيات أن تبلغه، وهو الجماهير الواسعة من المستمعين والمشاهدين؟

بهذه الإشكالية، لا زلنا نتصور بأن من وظائف الإعلام أن يعكس ما يروج بأرض الواقع، أن يكون مرآة لما يعتمل داخل المجتمع من وقائع وأحداث وقضايا، أن يعكس بالصوت والصورة حقيقة ما يجري دون رتوشات أو مواد تجميل. بالآن ذاته، فالمفروض في ذات الإعلام أن يكون أداة للتغيير والتحول والانتقال للأفضل، إذا لم يكن عبر فضحه للسلوكات الشائنة وغير القانونية، فعلى الأقل بمساهمته في استنبات قوة معارضة حقيقية، لا سيما في ظل واقع ترهل الأحزاب، وانفراط عقد النقابات، وتقوض أدوات التأطير الأخرى.

إن مبدأ تلفزيون القرب مثلا، الذي نلحظه بالعديد من الدول المتقدمة، لا يستهدف فقط ترجمة ثلاثية "الإخبار والتثقيف والترفيه" التي من المفروض أن تتطلع لإدراكها التلفزيونات العمومية أو المحكومة، باعتبارات المرفق العام، وتعمل على تشكيل شبكاتها البرامجية على أساس من استحضارها، لا نجد له من أثر يذكر بالتلفزيونات العربية، الأرضية منها كما الباثة عبر السواتل، والتي غالبا ما تعتبر ذلك ثانويا، أو غير ذي جدوى، أو غير مذر لمصادر الإشهار التي تقتات منها هذه التلفزيونات بهذا الشكل أو ذاك.

بالتالي، وبمحصلة هذه الإشكالية، يبدو لنا أن الإعلام العربي في معظمه، لم ينجح لا بهذه الوظيفة، ولا بتلك، بل بقي رهينا لأزمة الهوية الملازمة له، يدور بفلك السلطة، ويجامل لوبيات المال والإشهار وغيرها.

صحيح أن دور الإعلام يبقى هامشيا بالنظرة الأولى، وبالقياس إلى دور الحزب مثلا أو النقابة أو الجمعية أو النادي أو غيرها، لكن التقصير هنا لا يطاول ذات الإعلام، بقدر ما يطاول الثاوين خلفه، والذين لا يريدون له أن يقوم بهذه الوظيفة التأسيسية أو تلك، اللهم إلا تلك المرسومة له بدقة من عل، والتي لا مجال لأن يزوغ عنها لهذا الاعتبار أو ذاك.

+ بالقضية الثالثة، إشكالية المصداقية، يبدو لنا، بملاحظة واقع الحال، أن معظم وسائل وأدوات الإعلام العربي تفتقد عنصر المصداقية في حده الأدنى، فتتعامل مع المعطيات بحذر جراء ذلك، أو تتعامل معها في العديد من الحالات بمنسوب مرتفع من الكذب والتضليل، إما لتغطية سلوك، أو للتستر على ممارسة، أو للتجاوز على سياسة. والنماذج بهذا الجانب كثيرة، يضيق المجال لسوق بعض منها بهذا المقام.

إن تدني نسبة البرامج المباشرة بالإعلام المرئي مثلا، عامه وخاصه، جامعه ومتخصصه، الباث عبر الكوابل الأرضية، كما الباث عبر الأقمار الاصطناعية، والإكثار من المواد "الترفيهية"، وتغييب الأبعاد الثقافية والفنية الجادة، في العديد من المنابر الإعلامية العربية، وابتعاد هذه الأخيرة عن النبش في سلوك النخب الحاكمة، أو اللوبيات الاقتصادية الفاسدة الدائرة بفلكها، كل هذا يزكي طرح أن المواطن العربي لم يعد يثق كثيرا في هذا الإعلام، ولا يعير اهتماما كبيرا لما يقدمه، لا بل ويتبرم عنه لفائدة بعض من الإعلام الغربي الذي يغطي العديد من الجوانب المتغافل عنها بذات الإعلام، أو التي يتحايل عليها خدمة لهذه الجهة أو تلك.

المصداقية هنا موضوعة على المحك بدورها، ليس فقط لأن وظيفة هذا الإعلام محددة سلفا، بل وأيضا لأن ذات الإعلام مرتهن في هويته، مضيق على دوره، وغير قادر على تثبيت ماهيته بالمحصلة النهائية.

+ أما القضية الرابعة، فترتبط بتذبذب هذا الإعلام، سيما الإعلام المرئي والمسموع، وارتكازه على لغة إعلامية، تمزج بين الفصحى والعامية، لدرجة لا يدري المرء هل هو بإزاء لغة أم لهجة، أم بإزاء خليط بينهما، هجين ومقزز. العبرة هنا، يقول الثاوون خلف هذه المنابر، ببلوغ الرسالة، كائنة ما تكن الأداة لتبليغها. وهذا صحيح إلى حد ما، لكن مكمن الخطر قائم هنا أيضا بجهة التوجه بجهة طمس معالم اللغة العربية، وتعويضها بلهجات لا تعبر بالمطلق عن "سياسة القرب"، التي يدعيها بعض من هؤلاء.

لا يقتصر الأمر على هذه الثنائية، بل يتعداه ببعض الدول، إلى مستويات تلجأ فيها العديد من المنابر للغات الأجنبية في بثها لمواطنيها، كما لو أن واقع حالهم يقول بعدم وجود مواطن يتكلم لغته، أو يستهجنها، أو يتبرم عن المادة المموسطة عبرها، وهكذا.

هذه مجموعة قضايا، تبدو لنا أساسية، بالإمكان التدليل عليها بحالات عديدة بمشرق الوطن العربي كما بمغربه، وبكل وسائل الإعلام، المكتوب منه كما المرئي كما المسموع على حد سواء.

لقائل يقول: وما السبيل لتجاوز ذلك، أو على الأقل للتخفيف من حدته، بزمن انفتاح السماوات، وتزايد المنافسة فيما بين وسائل الإعلام، واشتداد ارتباط الأفراد والجماعات بهوياتهم وثقافاتهم، التي من المفروض أن تعكسها الوسائل إياها؟

نتصور أن تجاوز هذا الواقع يجب أن يبدأ بمسلمات بسيطة، لعل إحدى مداخلها الأساس الاعتراف بفشل المنظومة الإعلامية القائمة، وعدم مجاراتها لما يعتمل بواقع الحال بالمنطقة العربية؛ أي الاعتراف بعدم قدرة هذه المنظومة للقيام بالدور الذي من المفروض أن تقوم به في الزمن والمكان.

وقد نضيف لهذا المدخل، مدخلا آخر لا يقل عنه أهمية، ويتمثل في التفكير في سبل رد الاعتبار لثلاثية "الإخبار والتثقيف والترفيه" في الآن معا من بين ظهراني الإعلام العربي. المفروض هنا أن يجد المشاهد العربي ضالته في إعلامه، أن يراه قريبا منه، رافعا لمنسوب وعيه، لا مترفعا عنه، قارئا لواقعه، مساعدا على النهوض به، لا مزايدا عليه، متبرما عنه.

بالتالي، فإن التساؤل في أفق هذا الإعلام، إنما يجب أن يبدأ من هنا، لا أن يبقى متسترا خلف أطروحات قد لا تدفع بالإشكالية إلى الأمام، بقدر ما قد تؤجلها وتجهض مفعولها.

المصدر: http://www.mominoun.com/arabic/ar-sa/articles/%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%84%D...

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك