نحن والآخر في أدب الحوار

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله ومن والاه، وبعد.
فيسعدني أن أقدم عظيم شكري وامتناني للقائمين باللجنة الشرعية على الإعداد لهذا المؤتمر العلمي حول موضوع أدب الحوار بعنوان (نحن والآخر)، عسى الله تعالى أن ينفع به، ويشكر جهود القائمين عليه.
الأمل المرجو من إقامة المؤتمرات العلمية:
الذي أتمناه، وأرجوه، وألح عليه، أن لا يكون حظُّنا من إقامة هذا المؤتمر العلمي، حول الحوار مع الآخر ـ كغيره من كثير من المؤتمرات المشابهة، التي تعقد في أماكن كثيرة هنا وهناك ـ هو مجرد الإسهام ببحوث علمية ودراسات نظرية، نثري بها جانبا من جوانب تراثنا الإسلامي، وتجعلنا نحسّ بمزيد من النشوة والفخر والاعتزاز بانتمائنا إلى هذا التراث، ونوصي كما جرت العادة بطباعة البحوث المقدمة في كتاب يصدر باسم هذا المؤتمر أو ذاك، ثم ينتهي كل شيء، فلا نرى استفادة في الواقع العملي مستخلصة من نتائج دراسات الباحثين ومشاركاتهم، وذلك بتحويلها إلى مشاريع عمل تُسْتثمر في بناء دراسات فقهية معاصرة، تُوَظَّف للخير ونفع المسلمين تُصَحِّح الأخطاء، وتصل الحاضر بالماضي، تتبناها وتتابع تنفيذها الجهة المشرفة على المؤتمر.
هذا هو السبيل إلى الانتفاع باللقاءات والبحوث العلمية الذي جرى عليه العالم المتحضر في الشرق والغرب، وبدون ذلك، نكون قد بددنا أوقاتنا وجهودنا فيما ثمنه باهظ، ونفعه قليل.

أهمية الموضوع:
موضوع الاعتناء بالخطاب مع الآخرين في القضايا الدينية من الأهمية بمكان، لدخوله ضمن الخطاب الديني، الذي لا تخفى أهميته هذه الأيام، وقد تكالب على الإسلام أعداؤه، فبإحسانه ومراعاة متطلباته تجتمع الكلمة، وتَقْوَى الأُمَّة، ويقل الخلاف، وينسدّ باب يتذرع منه أعداء الإسلام لرمي أهله بما صار معروفا لدى كل منصف بأنه أكذوبة العصر، ما يسمى بالإرهاب، للتنكيل بالمسلمين والتسلط عليهم وسلب خيراتهم.
وبالإعراض عن إحسان هذا الخطاب مع الآخر وعدم مراعاة متطلباته الشرعية بما يحقق مصلحة المسلمين ويواكب العصر والتغيرات، ويحافظ على الثوابت، يعطي المسلمون لأعداء الإسلام العذر الكاذب لتأليب الأمم عليهم، واجتياح ديارهم وبلادهم الواحدةِ بعد الأخرى.
كذلك فإن ما نشاهده اليوم من تزايد تفرق المسلمين وتَشَتُّت شباب الأمة المتدين، إلى مُفْرِط في التشدد ومُفَرِّط في التساهل، وإلى جماعات وانتماءات يعادي بعضها بعضا، ما هو إلا ثمرة مرة من ثمرات الخلل في الخطاب مع الآخر، الذي ابتعد عن الوسطية، وجنح إما إلى إفراط أو تفريط.
والخطاب مع الآخر الذي نحتاج إلى وضع ضوابط له لتحسين صور التواصل وتعزيز الوسطية، يتنوع إلى نوعين؛ خطاب المجتمعات غير الإسلامية، وخطاب المجتمعات الإسلامية.
النوع الأول ـ خطاب غير المسلمين
التجديد والمرونة مع التقيد بالثوابت:
المراد بالتقيد بالثوابت في خطاب غير المسلمين: التقيد في الخطاب بما جاء النص عليه في الكتاب والسنة، مع الرجوع في فهمهما إلى الاستعانة بكلام الأئمة المتقدمين من سلف الأمة، لا أن يضرب به عَرض الحائط، ويعول على الرأي المجرد الذي لا يتقيد بقواعد العلم.
يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: (يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاةُ ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به، فهو أحرى بالصواب، وأقومُ في العلم والعمل) ( ).
والناس على مر العصور لهم في التقيد بالثوابت في الخطاب الديني، أو التجديد وعدم التقيد، ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول: اتجاه التزم بالنصوص في الخطاب الديني التزاما حرفيا، ولم يُعط لتغير أحوال الناس والأزمان والأعراف حَظًّا، وأغرق في التشبث بحرفية الدليل، وبالمُدَوَّن في الكتب، مهما كان بعيدا عن الواقع، وسَلَف هذا الفريق فيما ذهب إليه، مدرسة أهل الظاهر التي ترفض الرأي والقياس( ).
الاتجاه الثاني: اتجاه أعرض عن النصوص، وترك الثوابت، ووَلَّى وجهه في الخطاب شطر المعاصرة والحداثة والليونة والمساهلة، فليس في الشريعة عنده حكم ثابت ـ في غير التعبدات المحضة من أركان الدين التي لا يعيرها هذا الفريق كبير اهتمام ـ بل كل الأحكام عنده تقبل التغيير، والخطاب مع غير المسلمين تبعا لذلك عنده يقبل التلوين والمصانعة والمجاملة في كل أمر، ولو كان الصادر من غير المسلمين في الخطاب عدوانا على أصول الدين، والأمر المتنازع فيه طعنا في نصوص الوحي صريحا قاطعا، ويبررون هذه الدعوى العريضة الخطيرة في مطاوعة المشركين ومصانعتهم بعمومات لا تنهض دليلا على المراد، ولا تَشْفِي غليلا، كقول النبي $: (يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا)، وقوله في مسألة تأبير النخل: (أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ) ( )، وإلى عمومات أخرى، كمراعاة المصالح والمفاسد وصلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، وأن الشريعة تقوم على رفع الحرج واليسر، ويصادمون بتلك العمومات الأدلة الخاصة من الوحي في الثوابت التي حرم الله تعالى فيها المداهنة في الخطاب، ومعلوم أن العمل بالعمومات فيما فيه دليل خاص قاطع، خطأ بيّن، إذ قد أطبق أهل الشرع والملة، وكذلك أهل القانون والوضع، أنه لا اجتهاد مع النص.
ـ الاتجاه الثالث: اتجاه الجمهور من العلماء المحققين، وهو الاتجاه الأصوب والأرجح، وعليه المعول، ويرى هذا الفريق وجوب التمسك في خطاب الآخرين بالنصوص في الثوابت من الأحكام الشرعية التي جاء فيها من الوحي نص صريح قاطع، فهذه لا يتغير الخطاب فيها بتغير العصور والدهور، ولا باختلاف الزمان والمكان والأشخاص والعقول والثقافات، مثل الاعتداء على التوحيد والدين والأنبياء والرسل، أو التدخل بالتغيير فيما هو من دين المسلمين، كإيجاب الواجبات، وتحريم المحرمات القطعية، مثل تحريم الربا والزنا، وكشف العورات، وانتهاك الحرمات، والاعتداء على الدماء والأعراض، فهذا لا يتغير حكمه ولا يتبدل، وليس لخطاب من اعتدى فيه على المسلمين وتعدى إلا وجه واحد، ولا يتغير الخطاب فيه بتغير أحوال الناس، أو كونٍِ الدار دار إسلام أو كفر البتة، لأن مراضاة غير المسلمين في هذا الباب غاية لا تدرك إلا بترك ما عليه دين المسلمين من الحق، واتباعِ ما هم عليه من الباطل، كما قال تعالى: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم، وعندنا في القرآن في سورة القلم مثال واضح لهذا الأمر، تكلم الله تعالى فيه على حكم مداهنة المشركين في الخطاب، عندما يتعلق الأمر بثوابت الدين.
والمداهنة الملاينة والمصانعة في الكلام، من الدهان وهو الذي يَظهر على الشيء ويَستر باطنه، وكان المشركون قد أحبوا ورغبوا وعرضوا أن يكون من الرسول ملاينة ومسايرة لهم على باطلهم ومعتقداتهم فيجاملونه هم أيضا بمداهنة مثلها، ويظهرون له التسامح والرفق والملاطفة في معتقده، فنهاه الله سبحانه أن يوافقهم ويقبل منهم ذلك، وقال له في خطاب صارم قاطع: (فلا تطع المكذبين، ودوا لو تدهن فيدهنون ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آيتنا قال أساطير الأولين)، وهذه الآيات وإن نزلت في الوليد بن المغيرة، فإن في كل عصر وليدا، فيه من الصفات التي ذكر الله تعالى في الآية، وفي القرآن سورة كاملة ليس أوضح منها في مصارحة الكافرين، وتبري المسلمين منهم دون مداراة فيما يتعارض مع ثوابت الدين، قال الله تعالى: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين.
ويجوز عند هذا الفريق ـ الذي يمثل جمهور أهل العلم وهو الحق والصواب إن شاء الله ـ تغير الخطاب والملاينة فيه ومد جسور التواصل مع غير المسلمين لتحقيق مصالح الدنيا وسياسة الخلق، والتعايش معهم ومنح شعوبهم وأممهم فرصة الاطلاع على ما عند المسلمين، من أعراف وتقاليد وثقافات وتعاليم وثوابت ومتغيرات، وتبيين ما يعد من هذه التعاليم مقدسا لا يقبلون من أحد المساس به بحال، ولا التنازل عن شيء منه وما لا يعد كذلك، ويوصّل إليهم أن التعاون بالحسنى معهم مرغب فيه ومطلوب في دين المسلمين، حيث لم تكن مقدسات في دينهم يُستهزأ بها، ولا نصوص صريحة قاطعة يُعتدى عليها، وذلك التعاون يكون في كل ما يَجِدُّ من شؤون الحياة وسياسة الدنيا التي لا يعرض غير المسلمين فيها إلى معتقدات المسلمين وثوابتهم بالانتهاك، فيعاملون في ذلك كله بالبر والعدل والرفق في الخطاب وإظهار التسامح بما يُرَغِّبهم فيما عند المسلمين، ليكون المسلمون في ذلك رسل هداية للأمم قاطبة، وفي التواصل والتلاقي معهم على هذا الوجه للمسلمين نفعان:
1 ـ إتاحة الفرصة بتبليغ دعوة الإسلام لأهل الأرض قاطبة تنفيذا لأمر الله تعالى: لأنذركم به ومن بلغ وقوله $: بلغوا عني.
2 ـ تمكينهم من التواصل مع المسلمين على النحو السابق يدفع عن المسلمين أذاهم ، ولا أقول يجنب (صدام الحضارات) كما هو مستعمل الآن، فعلى هذا التعبير الذي تسرب من الإعلام وعمم حتى شاع استخدامه من العلماء والدعاة ـ تحفظ، حيث يجعل ما عند المسلمين من الحق والوحي والقرآن وهداية البشر مساويا لما عليه باقي أمم الأرض من الباطل، وأن ما عند الأمم كلها مسلمين وغير مسلمين لا يعدو أن يكون حضارات لا تَميُّز بينها، بل من الأمم ما لها من الحضارات بمفهومها الدنيوي اليوم ما يعلو حضارات المسلمين، وقد ذكر الله تعالى الأديان التي حرفت وأهلها وبين باطلها ثم قال: إن الدين عند الله الإسلام فهذا هو استعمال القرآن.
فالتعايش مع غير المسلمين والتواصل معهم مشروط بكف أذاهم عن المسلمين، وقد بين الله تعالى لنا هذا الأصل في سورة الممتحنة أتم بيان قال تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين.
والبر المأذون فيه حسن المعاملة وحسن الكلام والتواصل في المعروف، والقسط إليهم ـ العدل في المعاملة بمثل ما يعامِلون به من التقرب والتعاون والتوافق، فالمبدأ الذي أسسته هذه الآية في خطاب ومعاملة غير المسلمين، جمع مع التقيد بالثوابت، حظا وافرا من التعايش والمرونة في القول باستعمال لغة العصر ووسائل الإقناع التي تراعي حال المخاطب وثقافتَه وعلمَه وأسلوبَ تفكيره، ونمطَ حياته، وعاداته ومحيطَه الاجتماعي وما إلى ذلك من المتغيرات التي تختلف من مجتمع لآخر، فمراعاة ما ذكر متعين لمن يريد توصيل الخطاب إلى عقل الآخرين فيما يُعرض من قضايا، قال الله تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فإن المعنى القريب المتبادر من الآية هو كلام الرسول بلغة المرسل إليهم لا بلغة غيرهم، لكنه يشمل أيضا الطريقة والمنهج الذي يكون به الخطاب وتصل به الرسالة إلى عقل المرسَل إليهم، بحيث تراعى أحوالهم ومناهجهم في الإقناع وطريقة تفكيرهم، والتدرج بهم بالمسلمات التي لا يحتاج المُعرض في قبولها إلى كبير عناء، إذ القبول والإقناع هو الغاية من الخطاب في الآية، ولذلك جاء قوله تعالى فيها ليبين لهم أي يجدون الكلام بينا في الحجة لا يقدر السامع المنصف على صده والانفكاك عنه، وفي صحيح البخاري عن علي رضي الله عنه: (حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللهُ وَرَسُولُهُ) ( ).
وكراهية غير المسلم لكفره لا تمنع مجاملته في الخطاب الذي لا ينقص من قدر الدين، دفعا لأذاه أو وصولا إلى نفع للمسلمين منه، ففي الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (استأذن على النبي $ رجل فقال ائذنوا له فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام، فقلت له: يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له في القول، فقال: أي عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه) ( )، وذكر البخاري عن أبي الدرداء قوله: (إنا لَنَكْشِر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم) ( )، (الكشر: ظهور الأسنان وأكثر ما يطلق عند الضحك)( ).
فمداراة الكافر جائزة، ومداهنته لا تجوز لأن مداهنته لا تكون إلا مع بذل الدين، قال القاضي عياض: (المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا، وهي مباحة، وربما استحبت، والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا) ( ).
قال ابن بطال في شرح الحديث السابق: (المداراة من أخلاق المؤمنين وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة، وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة، فغلط، لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يََظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه) ( ).
هذا هو الحكم مع غير المسلمين في التعايش معهم إذا أحسنوا وسالموا، أو الإغلاظ عليهم وتحريم مداهنتهم إذا أضرّت بالدين أو انتُهكت حرمات المسلمين، فما هو واقع المسلمين اليوم معهم يا ترى؟ وأي الأمرين إذا تواصلوا معهم يقعون فيه؟ البر والمعايشة المأذون فيها، أم المداهنة المحرمة؟
إذا نظرنا إلى غير المسلمين حكومات نجد من بينها ما عداؤه للمسلمين سافر لا يحتاج إلى برهان أو إقامة دليل، تحالف وتكتُّل عدائي؛ عسكري واقتصادي وسياسي في المحافل الدولية، وانحياز كامل إلى حلفائهم من غير المسلمين يجاهرون به ولا يخفونه، بل تكتّل إعلامي أيضا، فقد شاهدنا عندما استخفت صحيفة واحدة بنبي المسلمين $، كيف تحالف الإعلام الغربي معها ونشر تلك الصور، حتى لا يتركوا تلك الصحيفة وحدها في الميدان، تواجه احتجاج المسلمين ومقاطعاتهم، ناهيك عما تقوم به هذه الحكومات غير المسلمة في تحالف دولي متحزب لم يسبق له نظير من تدمير وتقتيل وتعذيب مشين في أكثر من بلد من بلاد المسلمين، تحت أسماء مزيفة هم أنفسهم لا يلبثوا أن يكذبوها، ناهيك بما تقوم به هذه الحكومات من مساندة ظالمة لليهود فيما نراه كل يوم من سفك دماء المسلمين وتخريب ديارهم وانتهاك أموالهم وأعراضهم، وتجويعهم وتمزيقهم شر ممزق، فهل أبقى هذا النمط من الحكومات غير المسلمة حجة لمسلم يتذرع بها في التعايش معهم والتواصل، لقد وصلت بهم الجرأة والاستهانة وهوان المسلمين عليهم أن طلبوا من بعض بلدان المسلمين أن تسلم لهم بعض الدعاة من علمائها لتتولى هذه الحكومة غير المسلمة التنكيل به!، في الوقت الذي يدافعون فيه عن حرية الرأي ضد من احتج عليهم: لا تستهزؤوا بالأديان والمقدسات فأين حرمة الأشخاص! وسيادة الدول وحرياتها، وهل التدخل في خصوصيات المسلمين ومن بينها مقرراتهم الدراسية وما يقرؤون من القرآن وما لا يقرؤون لا يتعارض مع حرية الفكر والرأي عندهم !، والاعتراض على الاستهزاء بالأنبياء يتعارض معها، وما أمر الصور المشينة من التعذيب وانتهاك أعراض المسلمين والمسلمات في سجون غير المسلمين مما يندى له جبين الإنسانية بخاف عن أحد، فهل بعد هذا الانتهاك للحريات والحرمات انتهاك، لا شك أن الحكم الذي يحكم التعامل مع من صدر منه أقل من هذا هو قول الله تعالى: إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون، فهل نحن أعلم أم الله ؟!!
تحددت إذا المعالم بكتاب الله في معاملة المسلمين للحكومات غير المسلمة التي تكتلت وتحالفت عليها، بقي القول: ما بال شعوبها؟ لم لا يكون التعايش مع الشعوب، الشعوب لا ناقة لها فيما يجري ولا جمل ، الجواب إن الشعوب في تلك البلاد تختار حكامها بالأغلبية، وقد قالت الأغلبية للحاكم نعم، ولا تزال تقول له يوما بعد يوم نعم، وهم يرون ما يفعلونه بالمسلمين، ولو تغاضينا وأعطيناهم فرصة للتواصل وأعذرناهم كما عذرنا الأقلية منهم التي عارضت حكامها، فالتواصل معهم لا يكون مفيدا، يحرك الغافلين منهم إن زعمنا أنهم غافلون، إلا إذا استعمل المسلمون قبل التواصل وأثناءه ما يملكون من وسائل الضغط الاقتصادي والإعلامي والتكتل السياسي ضد مصالحهم، فحين تعاني مؤسساتهم وشركاتهم التجارية الإفلاس والكساد في السلع، وتقفل أسواقهم وتمنع بضائعهم ونمنع عنهم ما نملك منعه، ويجد الواحد منهم نفسه فقد النعيم، مسرّحا من العمل، متشردا، يبحث عن اللقمة من شظف العيش ـ حينها فقط يشعر بقضيتنا ويفكر ويعيش مآسينا وجوع أطفالنا، ويغير حكامه وسياسات حكامه، ليجد لنفسه مخرجا مما وقع هو فيه، إن لم يجد بعد في قلبه شفقة علينا، أما أن نمد له الورود، ونتملقه بالمصالحة، ويد حكامه ملطخة بدماء المسلمين وأعراضهم، وهو يواصل دعمهم في استطلاعات الرأي التي تكاد تكون يومية، ويقول نعم، فهي عِلاوة على أنها سياسة خاسرة لأنها مخالفة لحكم الله لا يفعلها منصف.
فلنجعل أيدينا تمتد إلى غير المسلمين لتأليفهم والتعايش معهم لكن ليسوا أولئك الذين يتواصل علينا عداؤهم صباح مساء ويستخفون بمقدساتنا ولا يبالون، فلنول وجهنا شطر المسالمين لنا من غير المسلمين، الذين لم ينهنا الله تعالى عن برهم والإقساط إليهم، ولتمتد إليهم أيدينا بالتواصل على نحو ما سبق، ونعرض عن المعاندين، فإن اتباع أمر الله أرشد، لم لا نبني تعاوننا الاقتصادي والسياسي والثقافي على مصالحنا الحقيقية ونجعله يدور معها أينما دارت، فإن لأمتنا ثقلا إذا استعملناه كان لمد أيدينا للتعايش مع المجتمعات غير المسلمة تقبل، ولمقالنا معهم أذن صاغية، وبدون ذلك لا يزيد قربنا منهم إلا إذلالا لنا وتضييعا لحقوقنا واستخفافا بمقدساتنا، فالذي يعرض التعايش وهو قوي يملك التأثير يُحترم عَرضه ويُقدر قدره، والذي يعرضه متجردا من كل تأثير يملكه هو مُسْتَجْدٍ، وما يغني استجداء المتكبرين؟.

خطاب المسلم
الذي يُعلم من ظاهر حاله الحرص على الحق وسلامة الدين، اعتنى أهل العلم به اعتناء عظيما، وتكلم فيه وفي آدابه وسلوكه الأئمة الكبار؛ كمالك، والشافعي، وأبي حنيفة وسفيانَ، وابن المُبَارك، وعمرَ بن عبد العزيز وأضرابهم، وسيأتي ذكر بعض عباراتهم التي صارت قواعد لمن أتى بعدهم من الفقهاء، فتوسعوا فيها، وأفردوها بتآليف وبمباحث ضمن كتبهم، وممن أفرد هذه الآداب بمباحث موسعة ضمن كتبهم جماعة من الحفاظ وأعلام الفقه، منهم الحافظ الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) في (الفقيه والمتفقه)، والحافظ ابن عبد البر (ت 463 هـ) في (جامع بيان العلم وفضله)، والآجُرِّي (محمد بن الحسين البغدادي ت 360 هـ) في (أخلاق العلماء)، والعلموي في (المعيد في أدب المفيد والمستفيد) وغيرهم ممن كتبوا في آداب الفتوى،كالشيخ ابنِ الصلاح (ت 643 هـ) في (أدب المفتي والمستفتي)، والشيخ أبي زكرياء النووي (ت 676 هـ)، في (المجموع) والشيخ أحمد بن حمدان الحراني الحنبلي (ت 695 هـ) في (صفة الفتوى والمفتي والمستفتي)، والحافظ السيوطي (ت 911 هـ) في (أدب الفتيا)، والشيخ إبراهيم اللقاني المالكي (ت1041هـ) في (منار أصول الفتوى).
وكان الخلفاء والحكام يتعاهدون من يتولى مخاطبة الناس باسم الدين، ويتصَفَّحون أحوالهم، بل كان الأمراء يلجؤون أحيانا إلى توحيد الخطاب ولا يقبلون تعدده على خلاف الأصل في أوقات معينة عندما يرون أن كلمة المسلمين لا تجتمع إلا به، وذلك حين يخشى التفرق بتعدده ممن لا يحسنه، عند وجود من يحسنه.
يقول الحافظ البغدادي: كان ينادَى في موسم الحج: لا يُفتِي الناس إلا عطاءُ بن أبي رباح، فإن لم يكن فعبد الله بن أبي نَجيح+( )، وعطاء هذا تابعي من الطبقة الوسطى، مات في أول المائة الثانية، وأعلام الفتوى والاجتهاد يجتمع منهم في الموسم الجم الغفير، ولكن خُصَّ عطاء دونهم لمزيد اعتنائه وشهرته بعلم المناسك، ولئلا يضطرب الخطاب الديني ويختلف الناس.
أما اليوم فإن بث الخطاب عبر وسائل العصر المختلفة، من النشرات الصوتية والمقروءة، وعبر الشبكات الالكترونية، والقنوات الفضائية، على مدار الساعة، واختصارََََ المسافات، صيَّر العالم من أقصاه إلى أقصاه كالقرية الصغيرة، وهذا الخطاب الذي يُبثّ لا يخضع إلى ضوابط، أو رقابة علمية واحدة، وبذلك تعددت مشاربه، واختلفت مناهجه، ومنه المتشدد والمتساهل والمُفَرِّط والمُفْرِط والقوي والضعيف، فجمع الغث والسمين، والقول وخلافه، يأذن هذا، ويمنع الآخر، وأكثره اجتهادات فردية، والمرجعية مفقودة، فيضطرب القول على سامعه ويتناقض، ويحصل الاختلاف والتباين، وينمو الخلاف إلى نزاع وتعصّب، ثم تجريح وتبغيض وفرقة.
الإصلاح وتلافي الخلل:
إصلاح الخطاب مع المسلمين؛ متشددين أو متهاونين، وما نتج عن التشدد فيه من الآثار السلبية على ضعف الأمة وتفرقها، ووقوعها تحت الضربات الموجعة من أعدائها، ورمي الإسلام بالتعصب والإرهاب ـ هذا الإصلاح يمكن الوصول إليه بمراعاة أمور متعددة من أهمها في تقديري ما يلي:
1 ـ سلامة الاجتهاد، عندما يكون الخطاب من القضايا المتوقف معرفة حكمها على اجتهاد.
2 ـ تحرير محل النزاع مع المخالف، حتى لا يتشعب الخلاف فيما لا خلاف فيه.
3 ـ سلامة المنهج في خطاب الآخرين.
4 ـ التقيد بالشروط والآداب الشرعية للخطاب الديني.
أما سلامة الاجتهاد فضمانها بالاعتناء بالاجتهاد الجماعي، ودعم مؤسساته، واعتماد أقواله في العلم، وتوجيه الناس إليها.
وأما تحرير محل النزاع، فيكون بالاعتناء بالمضمون المتنازع فيه وتقريب شقة الخلاف، بحيث يسقط منها الخلاف اللفظي الذي ضخمه التعصب للآراء بمبارزات كلامية، تختفي عند قياس الخلاف بالنتائج، فلا يبقى للخلاف أثر.
وأما سلامة المنهج في خطاب الآخرين، فبإتباع مسلك أئمة السلف المتقدمين في التعامل مع المخالف.
وفيما يلي تفصيل ما أجمل:
أولا ـ الاجتهاد الجماعي:
التضارب في الخطاب مع الآخرين في القضايا الدينية، وما ترتب على ذلك من التشدد والتعصب جوهر أسبابه فقد المرجعية، وأن الاجتهاد الجماعي لم يأخذ بعد مكانه من الأهمية والتطبيق، في دوائر البحوث والفتوى في بلاد المسلمين، ووجوده لا يزال حبيس عدد من المجامع الفقهية، وهي على قلة إمكاناتها، وضعف دعمها المالي والمعنوي، الذي لا يمكنها حتى من توسيع قاعدتها، لِتضم كل من تحتاج إليه من المؤَهَّلين والباحثين ـ هي أيضا لا تتعامل إلا مع نوازل محدودة جدا، لا تتصل بحل المشكلات اليومية لعامة الناس، وإنما تعالج قضايا خاصة، ترفع إليها بتوصيات من النخبة والخاصة، وبذلك بقيت النوازل اليومية ـ التي لها التأثير المباشر في حياة المسلمين ـ للاجتهادات الفردية، ونشأ عنها ما نراه من التضارب والتشدد في الخطاب، الأمر الذي كان منه أثر عظيم الضرر على حياتنا العلمية، وتفككنا الاجتماعي، فقد فرق تعدد مشارب الخطاب الديني مع الآخرين شباب الأمة، وأفسد ذات البين، وأعطى لأعداء الإسلام ذريعة تأليب الأمم عليه والكيدِ لأهله.
وتوسيع قاعدة الاجتهاد الجماعي إذا أردنا أن نعطيه دوره المؤمل، يكون بوضع منهج شامل قابل للتطبيق، يوضح أسسه، ويضمن نجاحه، ومن أول أسسه وركائزه ما يلي:
1 ـ صدق النية من الحكومات والمؤسسات في دعمه المادي والمعنوي، وإعطاء آرائه ومشوراته الصلاحيات الإدارية والمالية، التي تعطى في الوقت الحاضر للإدارات القانونية، ومستشاري القانون الوضعي، بحيث لا تخلو إدارة في الدولة، ولا مؤسسة من مستشار شرعي.
2 ـ يتكون في كل بلد عدد من المجالس العلمية تشرف على توجيه الخطاب الديني في القضايا المهمة، يقوم اختيار أعضائه على أساس متين من الأمانة والدين والكفاية العلمية، بحيث يسير أعضاؤه على منهج واحد في القضايا المطروحة، بما يوافق ويلائم أعراف ذلك البلد، ولا يتعارض مع الدليل والثوابت الشرعية، ويرأس هذه المجالس مجلس علمي أعلى، يرفع إليه ما لم يمكن للمجالس الأولى ولا للمستشارين الشرعيين في الأقاليم البث فيه من قضايا.
3 ـ يتكون مجلس علمي أعلى على مستوى العالم الإسلامي بدعم قوي من جميع البلاد الإسلامية، أعضاؤه متفرغون للبحث والنظر في القضايا الكبرى المصيرية للأمة، والقضايا المرفوعة إليه من المجالس العلمية العليا في البلاد المختلفة، وبذلك يجد المهتمون بالخطاب المتعدد المشارب مرجعية يطمئنون إليها تختفي معها كثير من صور التشدد والخلاف.
ثانيا ـ تحرير محل النزاع:
كثير من النزاع بين الجماعات الإسلامية الذي نشاهده اليوم، نجده عند التحقيق وقياس الخلاف بالنتائج والمضمون لا بالملاسنة والتصاول ـ لا يخرج عن أن يكون جدلا لفظيا، يُضخم ويتولد، وينمو ويتشقق، ويتفرع ويترعرع، في خطب ومطبوعات وأشرطة تسجيلات، حيث في الواقع لا نزاع ولا اختلاف إذا ما نظرنا في الحقيقة والمضمون، وكل هذه المعارك الخطابية إنما هي اختلاف في مصطلاحات، وقديما قال أسلافنا: لا مشاحة في الاصطلاحات، ليجنبونا مثل هذه المساجلات العقيمة من كل خير، المتناسلة المتكاثرة بالفرقة والشر.
ولنضرب على ذلك مثالا بمسألة تقسيم التوحيد إلى توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، التي تُصوَّر وكأنها أمر جديد في التوحيد لم يعرفه السابقون، ومن لا يقول به ولا يعنونه بهذا العنوان لم يعرف التوحيد ( ):
فقد شاع استعمال هذا المصطلح في الآونة الأخيرة على قلة استعماله عند الأقدمين، واستعماله أثار جدلا بين المعاصرين، وأضاف مادة لأسباب الخلاف القائم بينهم، شأنه شأن كثير من مسائل الخلاف في تراثنا الفكري التي غذاها التعصب والجدل الفكري، ولم يحرر فيها محل النزاع.
فالخلاف في هذه القضية خلاف ناتج عن عدم إنعام النظر في مدلول هذا اللفظ ومعناه، والوقوف عند التقسيم ومبناه.
فتوحيد الألوهية لا يختلف مَن ذكره من القدامى والمحدثين في أن معناه هو تخصيص الله تعالى بالعبادة، واستحقاقه إياها دون سواه، وهذا المعنى في التوحيد مما أجمعت عليه الأمة، ونطقت به آيات القرآن، وجاء به دين الإسلام، ولا يختلف عليه من المسلمين اثنان.
وتوحيد الربوبية يراد به: الاعتقاد بأن الله تعالى وحده خالق كل شيء، ومليكه ومدبّره، لا رب سواه لا يُرجى إلا نفعه، ولا يُخشى إلا ضرُّه، فهو الخالق الرازق، الضار النافع المغيث، الذي بيده الأمر كلُّه، ما من حركة ولا سكون في الأرض ولا في السماء إلا بإذنه، وثبوت هذا التوحيد لله تعالى أيضا لا يختلف عليه أهل الإسلام من صرح منهم بهذا التقسيم ومن لم يصرح، فعلام النزاع إذا ؟!!
ثالثا ـ سلامة المنهج في خطاب الآخرين:
ويكون ذلك باتباع قواعد الأئمة السابقين في أدب الاختلاف، وهي كثيرة، أذكر منها ما وقع بسبب الإخلال به أثر مباشر على الخطاب في واقعنا المعاصر:
1 ـ الاعتراف باختلاف العلماء:
اختلاف العلماء في المسائل الاجتهادية التي يحتملها النص، أو التي لا نص فيها، أمر ثابت، وليس في مقدور أحد فرض قول واحد على أهل الكرة الأرضية في مسألة اجتهادية، فإن ذلك من العنت والحرج، ومخالفة ما كان عليه الناس على عهد رسول الله $ والأئمةُ من بعدهم.
والتطبيق القولي والعملي عن الصحابة والتابعين ومَن بعدهم يدل على صحة ذلك وسلامته، وأنه محل اتفاق بينهم.
قال ابن عبد البر: (اجتمع عمر بن عبد العزيز، والقاسم بن محمد، فجعلا يتذاكران الحديث، قال فجعل عمر يجئ بالشيء مخالفا فيه القاسم، وجعل ذلك يشق على القاسم، حتى تبين فيه، فقال له عمر: لا تفعل فما يسرني أن لي باختلافهم حُمْر النعم، وقال عبد الرحمن بن القاسم بن محمد: لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز: ما أحب أن أصحاب رسول الله $ لم يختلفوا، لأنه لو كانوا قولا واحدا كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يُقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سَعة) ( )، والأصل في هذا اختلاف الصحابة في فهم حديث النبي $: (لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ) ( )، وإقرارِ النبي $ لعمل الطائفتين.
والاختلاف داخل جماعات المسلمين، التي تعددت اليوم وانقسمت لعدم سلامة المنهج، يجب تقبله من حيث المبدإ، والتعامل معه بأدب الاختلاف وإن أخطأ، فهو اختلاف اجتهاد وفتوى، وليس اختلافَ بغي، إذ كل فريق من هذه الجماعات طالب للحق، ينزع من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله $، وسيرة أصحابه، وسلف الأمة، وله في فهم الأدلة طريق واستنباط، ومَن رأينا منه الحرص على الاقتداء والاهتداء بهدي النبي $ بصدق ظاهر، فلا نطالب بالتفتيش على سريرته، ونتهمه فيها، فذلك عمل أهل البدع، قال $: (إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ) ( ).
ومن أخطاء عدم الاعتراف باختلاف العلماء أن الصدور لم تتسع للخلاف في مسائل من مواضع الاجتهاد، اختلف فيها من قبلنا من أهل العلم بأدلة وحجج، فليس في الاجتهاد تحجير، ولا يُحتج باجتهاد على اجتهاد، وليس للعالم أن يُكره الناس على اتباع قوله وفتواه، ولا أن يُشنِّع على من خالفها، إلا إذا كانت فتوى المخالف شاذة لا يحتملها الدليل، أما إذا كانت الفتوى يحتملها الدليل، فليس لمن رأى خلافها من أهل العلم أن ينكر على أهلها، ولا أن يُلزمهم بترك ما عندهم إلى ما عنده.
وفي هذا يقول أبو حنيفة رحمه الله تعالى: =هذا الذي نحن فيه رأي لا نُجبر أحدا عليه، ولا نقول يجب على أحد قبوله بكراهية، فمن كان عنده شيء أحسن منه فليأت به+( )، ويقول سفيان الثوري رحمه الله تعالى: ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحدا من إخواني أن يأخذ به ( ).
وأراد الخليفة المنصور من الإمام مالك أن يضع له كتابا يحمل الناس في كل البلاد عليه، فقال له: )مالَك إلى ذلك سبيل، إن أصحاب النبي $ افترقوا بعده في الأمصار فحدثوا، فعند كل أهل مصر علم).
ويقول ابن تيمية: (ليس لأحد أن يُلزم غيره باتباع قوله فيه، وليس له ولا لغيره أن يُشنِّع على المخالف، ولكن يتكلم فيه بالحجج العلمية) ( )، ويقول أيضا: (... ثم إنه إذا فرض أن الدليل الشرعي يوجب الرجحان لم يُعب على من فعل الجائز، ولا يُنفّر عنه لأجل ذلك) ( ).
ولا أعلم في كلام التربويين، وأرباب المناهج المعاصرة، كلاما أبلغ في التوجيه والإنصاف، والتجرد والتسامح في العلم ـ من كلمة الشافعي رحمه الله تعالى، حين قال: (وددت أن الناس تعلموا هذا العلم، ولا يُنسب إليّ شيء منه، وأوجر عليه ولا يحمدوني) ( )، وقوله: (ما ناظرت أحدا إلا دعوت الله أن يُظهر الحق على يديه).
والدعوة إلى القول الواحد وما عداه لا يقبل، مهما ادعى قائلها من التمسك بالكتاب والسنة، هي دعوة إلى العودة إلى فرض التقليد، وقفل باب الاجتهاد، ويذلك يعود الأمر إلى القول الذي تتفق الأطراف كلها على عدم صوابه.
2 ـ طالب الحق مأجور أخطأ أو أصاب ولا يعنّف:
طالب الحق المجتهدُ في الوصول إليه مأجور على اجتهاده أخطأ أو أصاب، وما كان السلف يبدّعون من أخطأ، ولا يفسّقونه ولا يكفّرونه، بل يكتفون بتخطئته ولا يزيدون، والدليل على ذلك قول النبي $: (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ) ( )، ويدل له أيضا ما جاء في الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: بَعَثَ النَّبِيُّ $ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلامِ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ صَبَأْنَا صَبَأْنَا، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ …. حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ $ فَذَكَرْنَاهُ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ $ يَدَهُ، فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ، مَرَّتَيْنِ))( )، فإن خالدا اجتهد وفهم من قولهم: (صبأنا)، الإعراضَ عن الإسلام، وهم أرادوا أسلمنا، ولم يعاقبه النبي $ وعذره وتحمّل دية من قُتل، وإذا كان الجاهل قد عُذر بجهله في العقيدة، فمن باب أولى المجتهد المتأوّل في الفروع.
والصحابة ومَن بعدهم من أهل القرون الخيّرة، كانوا يختلفون في مسائل العلم، وما كانوا على قول واحد في كل مسألة، وما كانوا يعنفون من خالفهم لو أخطأ أو يجرحونه لمجرد المخالفة، بل كانوا يكتفون ببيان خطئه، ويعذرونه ويترحمون عليه، امتثالا لما علمهم القرآن: رحماء بينهم،  يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم( ).
ولقد بلغ من حال السلف في إعذار بعضهم أن الواحد منهم كان يتعلّم من العلم ما لا يحتاج إلى العمل به، بل ليجد به لمخالفه العذر، يقول ابن المبارك: إني لأسمع الحديث فأكتبه وما من رأيي أن أعمل به، ولا أن أحدّث به، ولكن أتّخذه عدة لبعض أصحابي، إن عمل به أقول: عمل بالحديث( ).
3 ـ التنزه عن تصنيف الناس بالانتماء إلى المذاهب:
شاع في الآونة الأخيرة على ألسنة بعض طلبة العلم ـ وأخذوه من شيوخهم، عن طريق التسجيلات الصوتية المسموعة، والنشرات المكتوبة، تكفيرُ أو تبديع كثير من الجماعات والطوائف المخالفة لمنهجهم، القديمة والمعاصرة على حد سواء.
وهذا عِلاوة على خطئه وبطلانه ومخالفته للسُّنة، ولما كان عليه الأئمة عند التنازع والاختلاف ـ فإن شيوعه أفسد ذات البين، وأشاع الفتنة والفرقة بين المسلمين، وسبّب نُفرة من قائله، ترتب عليها ردّ ما معه من الحق، فصار مخالفوه أيضا لا يقبلون منه صرفا ولا عدلا، ولا علما ولا قولا، فأورث ذلك كراهية للحق ذاته، بسبب الأحكام الخاطئة، وخلل المنهج.
كما شاع أيضا بين بعض هذه الجماعات امتحان الناس وتصنيفهم بالانتماء إلى الشيوخ، بدل المنزلة في العلم والتقوى والعمل الصالح، فمن انتمى إلى فلان ومذهبه، فهو على الحق ويُسمع قوله، ومن كان على مذهب آخر، فهو مبتدع ولا يؤخذ عنه علم ولا يقبل له خطاب.
وليس في الكتاب والسنة تصنيف الناس بالانتماء، تصنيف القرآن للعباد: إن أكرمكم عند الله أتقاكم( )، واتفقت الأمة على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله $، والكمال عزيز كما يقول العلماء، والخطأ لا يسلم منه أحد عدا المعصوم، فلم يبق إلا التعصب( ).
4 ـ لا يترك علم الرجل لخطئه:
كان ابن عباس يقول: لا ربا إلا في النسيئة، ولا ربا فيما كان يدا بيد( )، وكان يليّن في متعة النساء( )، وما بدّعه أحد من الصحابة ولا مَن بعدهم، ولا أشاعوا في البلاد أنه ضال، ولا حرّضوا طلاب العلم على ألا يأخذوا منه العلم ولا يسمعوا له في غير تلك النازلة، بل نزلوه منزلته، واعتذروا له عن قوله هذا، بأنه لم يبلغه النهي.
وكان من المتكلمين في الرجال متشددون، كيحيي بن سعيد القطان، وأبي الحسن القطان، وأبي حاتم الرازي، حتى إنهم ضعّفوا بعض الثِّقاة، بل منهم من تحامل لعداوة أو غيرها فتكلم في أئمة أعلام، كما تكلم ابن أبي ذئب في مالك، وكما تكلم النسائي في أحمد بن صالح المصري الحافظ، ردّ أهل العلم أقوالهم فيما تعنّتوا فيه وتحاملوا به، لعداوة أو منافسة مما لا يسلم منه البشر، وبينوا أنه لا يُلتفت إليها، ولا يعوّل عليها، وبقيت أقوالهم فيما عدا ذلك مرجعا وحجة، فلم يشوهوا صورتهم في أعين الناس لخطئهم، ولم يحذروا منهم، لأنه لا معصوم إلا من عصمه الله.
ودواوين السنة اشتهرت فيها الرواية عن كثير من المبتدعة، فأخذوا عنهم ما علموا صدقهم فيه، وردّوا عليهم ما ابتدعوه( ).
يقول ابن القيم: (وَمَنْ لَهُ عِلْمٌ بِالشَّرْعِ وَالوَاقِعِ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الرَّجُلَ الجَلِيلَ الَّذِي لَهُ فِي الإِسْلامِ قَدَمٌ صَالِحٌ وَآثَارٌ حَسَنَةٌ، وَهُوَ مِنْ الإِسْلامِ وَأَهْلِهِ بِمَكَانٍ، قَدْ تَكُونُ مِنْهُ الهَفْوَةُ وَالزَّلَّةُ، هُوَ فِيهَا مَعْذُورٌ، بَلْ وَمَأْجُورٌ لاجْتِهَادِهِ ; فَلا يَجُوزُ أَنْ يُتْبَعَ فِيهَا , وَلا يَجُوزُ أَنْ تُهْدَرَ مَكَانَتُهُ وَإِمَامَتُهُ وَمَنْزِلَتُهُ مِنْ قُلُوبِ المُسْلِمِينَ)( ).
ويقول الذهبي: (ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخيه لإتباع الحق أهدرناه وبدّعناه، لقلّ من يسلم من الأئمة معنا) ( ).
ولو عوقب المخطئ من العلماء بترك قوله لعوقب أهل العلم جميعا، بل لعوقب جميع المسلمين، فإنه ما منهم من أحد إلا وله أقوال اجتهد فيها، أو قلد فيها، وهو مخطئ فيها، فلو عاقب الله المخطئ لعاقب جميع الخلق( ).
الاختلاف في واقعنا المعاصر:
جانب كبير من الاختلاف في الخطاب في واقعنا المعاصر يجري على غير الصواب، ليس بين عامة المسلمين أفراد وجماعات فحسب، بل بين العلماء والمصلحين أيضا، على حين أن الذي تقتضيه مسؤولية العاملين لله، العالمين بشرعه، أن يجري الخلاف بينهم إن جرى، على سنن المهتدين، ومنهج المجتهدين، منهج الاستدلال المضبوط بقواعده العلمية.
الاختلاف بين كثير من أهل العلم في أيامنا أخطأ سبيله القويم، الذي كان عليه أئمة المؤمنين، ولم يسلم في غالبه من المحاذير، محاذير الانتصار للنفس، والتعصب للرأي والشيخ والجماعة والطائفة، ومغالبة الخصم، وأنفة الرجوع إلى الحق، قسموا العلماء على نحو ما قسمت غلاة الطرق شيوخهم ورؤساءهم، تحزبوا تحزب الطوائف الجاهلة، وحلت أخوة الانتماء إلى الشيخ والجماعة محل أخوة الإيمان التي لا يعرف القرآن أخوة غيرها، دخل بينهم التصنيف الذي هو داعي الفرقة، هذا عالم رباني، وهذا غير رباني، وهذا مبتدع، وهذا إخواني، وهذا معطّل، وهذا مرجئ، كل ذلك باسم هجران صاحب البدعة، أو باسم الولاء والبراء، الذي أصابه من التشدّد وعدم سلامة التطبيق ما أصاب غيره، وانعكست آثار ذلك كله على الخطاب الديني سلبا، ورميه بالغلو والتطرف.
المأمول من أهل العلم عند الاختلاف، أن تتجه الهمة إلى إحقاق الحق، وجمع الكلمة، والتعاون على ما فيه مصلحة الأمة، وما ينفع الناس في أمور الدنيا والعاقبة، والتماس العذر للمخالف في الأمور الاجتهادية بعد بيان خطئه بالحسنى والنصح إن كان مخطئا، كما كان الحال عند سلفنا الصالح.
والإخلاص والعمل لله ابتداء ودواما من المتصدين للخطاب الديني ضروري لسلامة النتائج، وتحقيق الأهداف، فمن أراد الإخلاص سهل عليه ترك ما لنفسه من أجل إصلاح غيره، ولا يلقّاها إلا الصابرون، ومن انقطع دونه، حميّة وأنفة، حتى لا يقال غُلب وأُفحم، دون مبالاة بالنتائج والأهداف، ذهب عمله أدراج الرياح.
رابعا ـ التقيد بالشروط والآداب الشرعية للخطاب الديني:
من أهم شروط الخطاب الديني وآدابه الشرعية ـ التي بفقدها يتحرك الخصام، وبمراعاتها يحصل قبول الخطاب من الآخرين ـ ما يلي:
1ـ تأهل المتكلم للخطاب:
كم جر الإخلال بهذا الشرط في الخطاب زَلاَّت لأهل العلم وهفوات، حيث تسمع من وقت لآخر بخطاب تضِج به أركان الدنيا، ويصُك مسامع سكان الأرض في ساعات، وينكره أهل العلم ويغضب له أهل الدين، ولكن أنى لنا بمن ينتهي إذا نُهِي؟.
2ـ الاعتناء بالدليل:
يُعاني الخطاب على أيدي بعض المنتسبين إلى العلم الذين لا يُمحِّصون القول ولا يلتفتون إلى الدليل، وينابذونه منابذة كلية، وينكرون على من ينبههم إليه، أو يطالبهم به، ولا يرجعون فيما يقولون حتى إلى ما دُوِّن في المصادر الأولى المعتمدة من أمهات الكتب، التي تذكر صحيح العلم ولا تجرد الفقه من الأثر، بل يقنعون أحيانا بما تنفرد به بعض الحواشي المتأخرة في مسائل غريبة حذر منها المحققون من المتقدمين، زاهدين في الدليل، معرضين عنه، بل لا يبالون أن يطلقوا على العمل المخالف لما ألفوه وتقلدوه بأنه بدعة، ولو كان ثابتا عند المخالف بسنة صحيحة.
وقد انتقد ابن عبد البر الفقهاء الذين يلتزمون المسائل المجردة عن الدليل ويرون أنها منتهى غايتهم، ولا يستدلون عليها بالآثار، فقال عنهم إنهم: (طرحوا علم السنن والآثار، وزهدوا فيها، وأضربوا عنها، فلم يعرفوا الإجماع من الاختلاف، ولا فرقوا بين التنازع والائتلاف، بل عَوَّلوا على حفظ ما دُوّن لهم من الرأي والاستحسان الذي كان عند العلماء آخرَ العلم والبيان، وكان الأئمة يبكون على ما سلف وسبق لهم فيه، ويودون أن حظهم السلامةُ منه) ( ).
وقد أوجد الإعراض عن الدليل بالكلية في الخطاب في الوقت الحاضر طبقة جامدة من المنتمين إلى العلم، تُعطِي تسليما وقبولا، بل تفضيلا لكل ما وُجد في بعض الحواشي المتأخرة، من أقوال غريبة، وتُفتي به مهما كانت مخالفته واضحة للكتاب والسنة، ولأصول المذاهب المعتمدة، وما دُوِّن في مصادره الأولى، ولا يشك عاقل في أن الغريب الذي تفردت به هذه الكتب دخيل على الفقه، تسرَّب إليه من الكتب التي تعتمد في الأحكام الشرعية الخواطر والكرامات، حتى إنك لو قلت لأحدهم هذا الحكم ذكره فلان في شرح كذا، أو حاشية كذا لوقف عنده، والتزم به، وجعله حجة، أما لو قلت له هذا مخالف لقول الله تعالى، أو قول رسول الله $، أو لقول إمام المذهب نفسه الذي يتقلده، كأبي حنيفة أو مالك أو الشافعي، فإنه يتحير، ويتعلق بما وجده غريبا في ذلك المصدر المتأخر مما لا أصل له عند الأئمة المتقدمين، ولا في دواوينهم، ويتأول لما وجده في هذه الكتب المتأخرة مخالفا لصحيح العلم، بتأويلات متكلَّفة، لا يقبلها عقل ولا نقل، فأعطى بذلك لكل من دب وهب ومن لم يتأهل من الفريق المقابل في النزاع ذريعة للحط من فقه الأئمة والانتساب إليهم والاستخفاف بهم بحجة العمل بالكتاب والسنة والتحاكم إلى الدليل، فالتفريط من الفريق الأول في الدليل واعتمادهم من المصادر في العلم ما لم يعتمد، قوبل من الفريق الثاني بالإفراط والتسفيه للتراث الفقهي الذي هو مفخرة للمسلمين.
وقد حذر القرافي وغيرُه من المحققين من الاعتماد في الفتوى على ما انفردت به الكتب المتأخرة، فقال: (تحرم الفتوى من الكتب الغريبة التي لم تشتهر، حتى تتظافر عليها الخواطر ويُعلَم صحة ما فيها، وكذلك الكتب الحديثةُ التصنيف، ـ ويقصد حديثة بالنسبة إلى عصره ـ إذا لم يشتهر عزوُ ما فيها من النقول إلى الكتب المشهورة، أو يُعلم أن مصنّفها كان يعتمد هذا النوع من الصحة، وهو موثوق بعدالته) ( )، ويقول: (إن حواشيَ الكتب تحرم الفتوى بها، لعدم صحتها والوثوق بها)، ومراده إذا كانت الحواشي غريبة النقل، كما قيّد ذلك ابن فرحون في التبصرة بعد أن نقل كلام القرافي( ).
وقال أيضا في شرح المحصول: (ينبغي أن يُحذّر مما وقع في زماننا من تساهل بعض الفقهاء بالفتوى من الكتب الغريبة، التي ليس فيها رواية المفتي عن المجتهد بالسند الصحيح، ولا قام مقام ذلك شهرةٌ عظيمة تمنع من التصحيف والتحريف بسبب الشهرة، وبالغ بعضهم في التساهل حتى صار إذا وجد حاشية في كتاب أفتى بها، وهذا عدم دين وبعدٌ شديد عن القواعد) ( )، وقال: (كان الأصل يقتضي ألا تجوز الفتوى إلا بما يرويه العدل عن العدل عن المجتهد الذي يقلده المفتي حتى يصح ذلك عند المفتي، كما تصح الأحاديث عند المجتهد، لأنه نقل لدين الله في الوصفين، وغير هذا كان ينبغي أن يحرم، غير أن الناس توسعوا في هذا العصر، فصاروا يفتون من كتب يطالعونها من غير رواية، وهو خطر عظيم في الدين، وخروج عن القواعد) ( ).
وقال النووي: لا يجوز لمن كانت فتواه نقلا لمذهب إمام ـ إذا اعتمد الكتب أن يعتمد إلا على كتاب موثوق بصحته، وبأنه مذهب ذلك الإمام، فإن وثق بأن أصل التصنيف بهذه الصفة لكن لم تكن هذه النسخة معتمدة فليستظهر بنسخ منها متقنة، فإن لم يجد إلا في نسخة غير موثوق بها، قال ابن الصلاح، ينظر، فإن وجده موافقا لأصول المذهب ـ وهو أهل لتخريج مثله في المذهب ـ فله أن يفتي به، وإن لم يكن أهلا لتخريج مثله فلا يجوز له ذلك( ).
3 ـ الاعتناء بفقه الدليل ومراعاة مقاصد النصوص:
لا يكفي في خطاب الآخرين التجمل بالدليل ورفع شعاره، حتى تنضم إليه الرغبة في فقه الدليل، والتوجه إلى الاعتناء بمقاصد النصوص، وإعمالها مجتمعة، دون الوقوف عند حرفية بعضها بما يتضارب مع نصوصها الأخرى
يقول ابن عبد البر: (أما طلب الحديث على ما يطلبه كثير من أهل عصرنا اليوم دون تفقّه فيه، ولا تدبّر لمعانيه، فمكروه عند جماعة أهل العلم) ( )، ويقول: (الذي عليه جماعة فقهاء المسلمين وعلمائهم ذم الإكثار، دون تفقه ولا تدبر، والمكثر لا يأمن موافقة الكذب على رسول الله $) ( ).
وقد كان لاتجاه الصحوة الإسلامية التي اعتنت بالدليل، ورفعت راية العمل بالكتاب والسنة جهد عظيم القدر، كان له أثره النافع في الاهتمام بتراثنا الإسلامي، وتنقيته من الدخيل والموضوع، وهو جهد مبارك مشكور مأجور بفضل الله تعالى كل من أسهم فيه، وسعى إليه مخلصا لمولاه، يُفرح قلب كل مؤمن، لأنه نصر لدين الله وكتابه وسنة نبيه $، ولكنه ترك سلبيات بارزة، سيئة الأثر في خطاب الآخرين، نشأت عند جماعات ممن انتسبوا إلى هذ المهيع القويم عن الخطأ في المنهج، بسبب انعدام المُربِّي، وتلقي العلم عن الشيوخ، والتأدب في الطلب بأدب العلماء، وبسبب الاكتفاء بالخلاصات والنشرات الصغيرة في مسائل العلم، عن المطولات وأمهات الكتب، وأدَّى هذا الخلل إلى التعصب وضيق العَطَن، وتسطيح المفاهيم الشرعية للنصوص، بالإعراض عن مقاصدها، وانقسام أتباع بعض هذه الجماعات فيما بينها انقساما عظيما، وغلوِ كل طائفة في التشبث بما عندها والتشدد فيه والتعصب إليه، ورفض خطاب الآخرين، رفضا مطلقا لا يقبل المراجعة ولا النظر، ولا يُعذر فيه مجتهد باجتهاد، بل التشنيع والتضليل والرفض لكل مخالف في الخطاب من القدامى والمحدثين، ولم يَسْلَم من مطاعنهم حتى الأئمة المشهورون الذين شهد لهم أهل الإسلام قاطبة بالعدالة والأمانة، وصحة العلم، والإصابة في العمل، وهم العمدة، ومن طريقهم وصلت إلينا السنن، ولا يقبل قول عند هذه الجماعات إلا ممن كان على مسلكهم في رفض المخالف في الخطاب، والطعن فيه، والإغراق في الظاهرية والحرفية، التي تتضارب معها نصوص الوحي، كل ذلك بحجة العمل بالكتاب والسنة، وهو دون شك خلل نشأ عن عدم التقيد بشروط وآداب الخطاب.
وتَصدّى لتوجيه الخطاب من هذه الجماعات طلبة علم، حملوا الناس أحيانا على أقوال شاذة مهجورة من أهل العلم، بحجة إحياء سنن متروكة، كما حدث في بعض البلاد في أحد الأعياد التي وافقت الجمعة، حين أفتوا بالاكتفاء بصلاة العيد عن الظهر والجمعة معا، فلم يصلوا ظهرا ولا جمعة، وأسقطوا فرضا مجمعا عليه من أركان الإسلام، بشبهة ليس عليها أثارة من علم، ولا يقبلها إلا سقيم الفهم، بزعم إحياء سنة، فضيعوا بذلك ركنا من أركان الدين.
وكما حدث مؤخرا أيضا عندما تَصَدَّى بعض هذه الجماعات إلى الإفتاء بإلزام إفطار الناس يوم عرفة بعد أن عقدوا صومه، لأنه وافق السبت، خلافا لجمهور أهل العلم، استنادا في فتواهم إلى حديث مختلف في صحته، وفي متنه نكارة، تُخالف عددا من الأحاديث الثابتة المتفق على صحتها.
والخطأ في هذه الفتوى ليس من جهة الأخذ بالقول المخالف للجمهور الذي لا يرى صوم السبت مطلقا، وإن وافق يوم عرفة ـ وإنما من جهة عد هذه الفتوى الصومَ في ذلك اليوم منكرا يجب تغييره، وإلزام من عقد صومه بالفطر، وهذا دون شك خطأ نشأ عن التعصب، لا من اتباع الدليل على قواعد أهل العلم.
وتعاني المساجد في كثير من بلاد المسلمين هذه الأيام لعدم المرجعية الموحدة في الخطاب من انقسام في صفوف المصلين بسبب أقوال متضاربة، منها الغريب عن صحيح العلم، من المنابذين للدليل، ومنها المغرقة في الحرفية من المناصرين للدليل عن غير فقه، وأكثره خلاف في مسائل خلافية أو مما يدخل في نطاق المندوب أو المكروه، وحدة المسلمين مقدمة على التعلق به لمن له فقه وبصيرة، إلى أن يتعلم الفريقان من السنن ما يرجع بهما إلى الصواب، والحل عندي في هذه وفي مثلها من المسائل العالقة إنما يكون بالتحاكم إلى الاجتهاد الجماعي على النحو الذي تقدم.
4ـ بيان المتكلم في العلم للمخاطب منهجه ومذهبه:
معظم الذين يبث لهم الخطاب الديني في الإعلام لا يبينون مناهجهم ولا مذاهبهم، ولا يعزون العلم ولا يُوَثِّقونه، ولا يبالون بهذا الأمر، وصار العزو إلى أهل العلم ومذاهبهم كأنه يَحُط من قدر العالم، بعد أن كان التوثيق والتأصيل والرجوع إلى مصادر العلم ومذاهب الأئمة، علامةَ التثبت، الذي يعلو به قدره، ويرتفع ذكره، صار عدم العزو إلى المذهب والتثبت في نسبة الأقوال إلى أصحابها شهادةً بعلو كعب المتكلم في الدين، وأنه في نظر أنصاف المتعلمين مجتهد، يأخذ من الكتاب والسنة رأسا، لا يحتاج إلى أقوال أهل العلم، ولا إلى ذكرها، أو العزو إليها، وهذا خلاف ما عليه العلماء وذوو التحقيق منهم، فمن لا يرجع إلى المصادر، ولا يُوَثِّق علمه، لا يُوثَق بعلمه عندهم.
5 ـ تجنب ذكر الضعيف وشاذ العلم من أجل الدنيا:
العمل بالراجح من أقوال أهل العلم واجب لا راجح، لأن الرجحان تتقوى معه غلبة الظن على أن ما دل عليه هو الحق، والعمل بما غلب على الظن أنه الحق واجب، لأن خلافه اتباع للهوى، قال تعالى: "فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ"( ).
يقول الشوكاني عن العمل بالراجح: (... أنه متفق عليه، ولم يختلف في ذلك إلا من لا يعتدّ به، ومن نظر في أحوال الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم، وجدهم متفقين على العمل بالراجح وترك المرجوح) ( )، ويدل على وجوب العمل بالراجح حديث معاذ في ترتيب الأدلة، ففيه النص على تقديم القرآن على السنة، والسنة على الرأي، فلا تجوز الفتوى بضعيف الأقوال.
6 ـ تأثير المنصب والإعلام:
مما يدخل في إطار الإخلال بشروط الخطاب وآدابه أن يَنْجَرَّ العالم، تحت تأثير الإعلام، أو المنصب والوظيفة ـ إلى تنازلات يداهن فيها، إرضاء للمنصب، أو الإعلام، الذي يقوده في الغالب اللادينيون، وذلك بإصدار أقوال غريبة في قضايا العصر، مثل المرأة، والربا، وقضايا الأموال والبنوك، وغير ذلك من موضوعات العصر، وأحيانا تصدر هذه الآراء للجمهور عن طريق الإعلام المباشر، المرئي أو المسموع، باسم التيسير ورفع الحرج دون روية وتَأَنٍّ.
ولو عُرضت تلك الأقوال على أصحابها بعيدا عن تأثير الإعلام والرأي العام، أو تأثير السلطة والمنصب، لرأوا فيها رأيا آخر، حيث إن الناظر حين يُقلِّبها، يجد أنها لا تتجه ولا تقوم إلا على شيء واحد واضح، لا يُخفي نفسه، وهو أنها خطاب مجامَلَة لإرضاء غير الملتزمين بالإسلام، الذي هو في نظرهم متّهم بالجمود في طرحه لقضايا العصر.
7 ـ عدم التوسع في المسائل الكلامية:
من محاذير الخطاب الديني التوسع في المسائل الكلامية للعامة وإقحامهم في تفصيلات من مسائل العقيدة لا قِبل لهم بها، ولا هي واجبة عليهم لتصحيح إيمانهم، كالتفصيل في متشابه صفات الرب عز وجل، وكلامه، إذ لا فائدة لهم من الخوض فيها سوى إثارة الجدل ووقوع الشُّبَه، إذ لا شك في صحة الإيمان المجمل على ما جاء في حديث جبريل عليه السلام وهو الذي يطيقونه، وهو الذي كان رسول الله $ يقبله من أصحابه حين إسلامهم، كما دَلَّت عليه أحاديث إسلام الأعرابي، وإسلام أبي ذر، وخالد بن الوليد، وحديث بَهز بن حكيم، وغيرِهم من الصحابة.
فلم يكن $ يفصِّل لمن يأتيه منهم راغبا في الإسلام مسائل الصفات، أو كلام الله تعالى، بل كان يكتفي منه بالتصديق والتسليم بما يجب الإيمان به إجمالا، والنطقِ بالشهادتين، وتعليمه أركان الإسلام الظاهرة، ليعمل بها.
روى بَهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال: (قُلْتُ يَا نَبِيَّ الله مَا أَتَيْتُكَ حَتَّى حَلَفْتُ أَكْثَرَ مِنْ عَدَدِهِنَّ ـ لأَصَابِعِ يَدَيْهِ ـ أَنْ لا آتِيَكَ وَلا آتِيَ دِينَكَ، وَإِنِّي كُنْتُ امْرَأً لا أَعْقِلُ شَيْئًا إِلا مَا عَلَّمَنِي الله عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولُهُ، وَإِنِّي أَسْأَلُكَ بِوَحْيِ الله، بِم بَعَثَكَ رَبُّكَ إِلَيْنَا ؟، قَالَ: بِالإِسْلامِ، قُلْتُ: وَمَا آيَاتُ الإِسْلامِ ؟، قَالَ: أَنْ تَقُولَ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَى الله، وَتَخَلَّيْتُ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ) ( ).
يقول ابن عبد البر: (إنه مَنْ نَظَر إلى إسلام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وسعد وعبد الرحمن وسائرِ المهاجرين والأنصار، وجميعِِ الوفود الذين دخلوا في دين الله أفواجا، علِمَ أن الله عز وجل لم يَعرِفه واحد منهم إلا بتصديق النبيين بأعلام النبوة، ودلائلِ الرسالة، لا مِن قِبَل حركة، ولا من باب الكل والبعض، ولا من باب كان ويكون، ولو كان النظر في الحركة والسكون عليهم واجبا، وفي الجسم وفي نفيه، والتشبيه ونفيه لازما، ما أضاعوه، ولو أضاعوا الواجب ما نطق القرآن بتزكيتهم وتقديمهم، ولا أطنب في مدحهم وتعظيمهم، ولو كان ذلك من عملهم مشهورا أو من أخلاقهم معروفا، لاستفاض عنهم، ولشُهِروا به، كما شُهروا بالقرآن والروايات) ( ).
وفيما كتبه $ إلى هِرَقل وكِسرى وغيرهما من الملوك، ما يدل على ذلك ويؤكده، وأنه $ لم يزد في دعاء المشركين إلى الإسلام على دعوتهم أن يؤمنوا بالله وحده، ويصدقوه فيما جاء به، فمن فعل ذلك قَبِل منه( ).
والامتناع عن تفصيلات مسائل العقيدة في الخطاب الديني للعامة هو سبيل سلف الأمة، وأئمة المذاهب الذين هم محل القدوة، سئل الإمام مالك عن أهل البدع، قال: (أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله تعالى وصفاته، وكلامه وعلمه وقدرته، ولا يكفون عما سكت عليه الصحابة والتابعون) ( )، وقال للسائل عن الاستواء: (الإقرار به واجب والسؤال عنه بدعة)، وقال: أخرجوه، ونقل الحافظ ابن عبد البر الامتناع عن الكلام في كل ذلك عن الفقهاء والعلماء قديما وحديثا من أهل الحديث والفتوى، قال: وإنما خالف في ذلك أهل البدع( ).
يقول ابن عبد البر: (الكلام في صفات الباري يستبشعه أهل السنة، وقد سكت عنه الأئمة، فما أشكل علينا من مثل هذا الباب بشبهة أمررناه كما جاء، وآمنا به كما نصنع بمتشابه القرآن، ولم نناظر عليه، لأن المناظرة إنما تسوغ وتجوز فيما تحته عمل، ويصحبه قياس، والقياس غير جائز في صفات الباري تعالى) ( )، وقال: كان مالك يقول: (أدركت أهل هذا البلد ويعني ـ المدينة ـ وهم يكرهون المناظرة والجدال إلا فيما تحته عمل، قال: يريد مالك ـ رحمه الله ـ الأحكام في الصلاة والزكاة والطهارة، ولا يجوز عنده الجدل فيما تعتقده الأفئدة، مما لا عمل تحته أكثر من الاعتقاد) ( ).
ومن كلام لابن عقيل الحنبلي: (يكفي في صحة إيمان المسلم أن يقول القرآن كلام الله، ولا يخوض فيه، وهو الذي كان عليه أصحاب رسول الله $ والتابعون، فيسكت عما سكتوا عنه، فإن الصحابة ماتوا وما خاضوا في القرآن ولا في الصفات)، (ومن رأى أن طريقة المتكلمين أجود من طريق أبي بكر وعمر فبئس الاعتقاد) ( ).
واستُفْتِيَ الغزالي رحمه الله تعالى في صفة كلام الله تبارك وتعالى، فكان من جوابه: وأما الخوض في أن كلامه تعالى حرف وصوت، أو ليس كذلك فهو بدعة، وكل من يدعو العوام إلى الخوض في هذا فليس من أئمة الدين، وإنما هو من المُضِلِّين، ومثاله من يدعو الصبيان الذين لا يُحسنون السباحة إلى البحر( )، ويقول أيضا: (الصواب للخلق إلا الشاذ النادر الذي لا تسمح الأعصار إلا بواحد منهم أو اثنين سلوك مسلك السلف في الإيمان المرسل والإيمان المجمل بكل ما أنزله الله تعالى، وأخبر به رسوله $ من غير بحث وتفتيش، والاشتغال بالتقوى، ففيه شغل شاغل) ( ).
والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك