الفن تمرّد أو لا يكون
ترجمة عبد السلام الككلي
بقلم: عبد الوهاب المؤدب
نص للكاتب التونسي الراحل عبد الوهاب المؤدب نشر يوم 16 جوان 2011 بمجلة ليدرز يعود فيه إلى أحداث العبدلية ويقرؤها على ضوء الثقافة العربية والفن العالمي. يعطي حيزا للوحة التي أثارت غضب السلفيين ويبحث داخلها عن العمق الصوفي والانتساب الحميمي إلى أكثر المدارس تمردا في تاريخ الفن في القرن العشرين... نص عميق ومثير وإنساني يشيد بالكونية ويهبها أجمل الأماكن حين تريد البشاعة أن تستولي على كل شيء.
ازداد الوضع في تونس تّوتّرا، فالسّلفيّون يهجمون على عالم الفنون والثقافة. والسلطة الإسلاميّة الحاكمة والمعتدلة زعما لا تعطي الحق لا إلى الذين يزرعون الرّعب ولا إلى الفنّانين الذين يشبّهون بعناصر مستفزّة متطرّفة. وبذلك تظهر مرّة أخرى إستراتيجية حزب النّهضة الإسلاميّ الّذي يقود البلاد، فقد ترك هذا الحزب السّلفيّين يمارسون عدوانهم ليدين في نفس الحركة الاندفاعية المجرم والضّحيّة. بهذا يرجو النّهضويّون شلّ حركة القوى العلمانيّة والحداثيّة معتبرين وجودهم في المدينة شرا يبرر وجود مجانين الله ، فبعد الاعتداء على وسائل الإعلام (من خلال الفيلم الإيراني الّذي عرضته قناة نسمة) وبعد الهجوم على الفضاء الأكاديمي (لا سيما في كلّيّة الآداب والفنون بمنّوبة) جاء الدور على عالم الفنّ، وفي كلّ مرّة تكون الحجّة هي نفسها: لا يمكن للحرّيّة أن تُمَارَسَ إلاّ في حدود المقدّس. ولمّا لم نكن نعرف ما المقدّس ولا من أين يبدأ ولا حيث ينتهي فإنّ هذا الحصر يتحول إلى إعدام للحرية. فقد اقتحم السّلفيّون بعد تهديداتهم النهارية ليلة الأحد الماضي (10جوان) قصر العبدلّيّة الحفصيّ بالمرسى الّذي يحتضن عرض ربيع الفنون، دنسوا الأعمال الفنّيّة التي يعارضونها. مُزِّقَت حوالي عشر لوحات وخُرِّبَتْ. لقد بيّن السلفيون بوحشيتهم هذه بربريتهم وجهلهم. ولنأخذ مثالا على ذلك عملا عدُّوه تدنيسا للمقدس في حين أنه ينتمي أكثر من غيره إلى المقدّس كما نعرّفه نحن، الأمر يعني لوحة ترسم العبارة الطقسية“سبحان اللّه”، وهي عبارة جاهزة ينطق بها المسلمون في شكل تّعجّب لبيان إعجابهم أو رعبهم. موكب من النمل يرسم أحرف هذه العبارة. وقد واصل النّمل الصادر من الحرف الأول من الأبجدية والّذي به تبتدئ كلمة “اللّه” طريقَهُ حتّى يخترق رأس إنسان فيسلب دماغه ويجرده من مَلَكَة التمييز، وبهذا قد يكون الفنّان يرمز إلى عمليّة بتر الأنسجة العصبية الّتي تُنْتِجُ سَلَفْيًّا. بيد إنّ هذا العمل يجد مشروعية مزدوجة في المقدّس الفنّيّ كما في المقدّس الصّوفيّ. أولا إن الالتجاء إلى النّمل مشتقّ من استعمال سالفادور دالي له في لوحاته. إذ نرى عند هذا الفنّان السّرياليّ الكاتلاني العاملات السود وهن منهمكات في عملهن، على ملامس بيانو بيضاء. إنّ هذا الظهور الغريب يخلق صدمة الرّؤية التي تثير الانفعال. وقد اقتبس الفنّان التّونسيّ هذا العنصر المنتمي إلى ذاكرة الرّسم ليحيل على الوضع الّذي هو بصدد عيشه في بلاده، وانطلاقا من هذا الاقتراض الموجه فإنه يتصرف كفنان كسموبوليتي. وإنّ هذه المنزلة هي الّتي تصدم الإسلاميّ المتشبّث بهويّة مهووسة راضية باكتفاء ذاتيّ عقيم. ثمّ إنّ التّراث الإسلاميّ يعطينا مثالا لجسارة خيال خلاّق جريء يغير وجهة الصّيغة المقدّسة الّتي أعاد الفنّان التّونسيّ استعمالها. تخرج “سبحان الله” من فم البسطامي أحد شيوخ الصوفية الأوائل (المتوفّى سنة 842) وقد مورس عليها تعديل لتصبح “سبحاني”. فـ“سبحان الله” تصير “سبحاني” وهكذا يستولي ضمير المتكلم المفرد على عبارة يصرفها الطقس الديني مع ضمير الغائب وتجد هذه الحالة صيغتها النظرية في “الشطح”، وهو لفظ ينتمي إلى القاموس التقني الصوفي والذي وقع ترجمته بـ“المفارقة الموحى بها” صيغة للحب الإلهي“المسماة ناتجة عن النشوة”الفيض“ وهو تعبير من تعابير الحلول الناتجة عن حالة النشوة الصوفية وتعني اللفظة في الاستعمال اللغوي المشترك فضيان الوادي أو ذرات الحب التي تتناثر من الرحى ويعني هذا الكلام فيض السكر الذي يعرفه الإنسان عندما تستولي عليه النشوة ويحيط به المطلق من كل جانب.
ف”سبحاني“الّتي تحلّ محلّ”سبحان اللّه“تحوّل ملفوظا (وهو معطى متّفق عليه) إلى عمليّة تلفّظ مفعمة بذاتيّة متمردة وهي تعبّر عن الطّاقة الإنشائيّة الّتي يضفي عليها التّصوّف بعدا دراميّا عندما يتحدّث الإله من خلال الصوفي. إنّ نقل اللّه إلى ضمير المتكلّم المفرد قد وقع التأمل فيه منذ ألف سنة. وقد عكفت كتابات ضخمة سواء باللسان العربي او الفارسي على هذا التمرد لتلائم بينه وبين المدونة الرسمية والعقيدة. وإنّ هذا الاعتراف يصادق على شكل من الأشكال المتمردة في إطار العقيدة الإسلاميّة. لكنّنا نعلم أنّ الإسلاميّين يكرهون هذا النّوع من المقدّس ويحاربونه، وما تبقّى منه في التصوف الشعبي وتقديس الأولياء الصالحين –وقد أذكاه فنّان معاصر- شنّع به السّلفيّون الذين شرعوا في تهديم أضرحة الأولياء حيث تمسرح عمليات الشطح الصوفي. وإن وجهة النّظر الإسلاميّة الّتي تحرّم الصّورة هي في الواقع مبنيّة على نفي التّراث والحضارة الإسلاميّين نفسيهما. فالعمل الّذي يعارضه السّلفيّون والّذي يماثلون بينه وبين الحرام وانتهاك حرمة المقدس والكفر والجحود في منطق السلفيين الجهلة يجب أن يطرد من المدينة. لكنّ هذا العمل يكتسب شرعيّته المقدّسة المزدوجة من خلال دالي بفضل شرف الصّورة ومن خلال البسطامي باعتباره معطى حضاريّا أكثر تفتّحا وأشدّ مفارقة وتعقيدا ممّا يتحمّله السّلفيّون والإسلاميّون، وهذه الشّرعيّة المزدوجة تشرّف قداسة العقل المرفوضة من قبل الرقابة الإسلامية . وينبغي أن نقرّ بأنّ الفنّ والشّعر كليهما هدّام أو لا يكون وأنّ الفنّان التّونسيّ الشّابّ ظلّ بعيدا عن الهدم إذا ما قارنّاه بالشّاعر الآتي من التّراث الإسلاميّ (البسطامي) أو بالرّسّام المنتمي إلى إحدى الثّورات الفنّيّة الّتي شهدها الغرب في القرن العشرين.
أكتب هذا النّصّ أثناء إقامتي في برلين. بيد أن التّاريخ الألماني يقدّم مشاهد قادرة على إضاءة الأحداث في تونس، فإسلاميّو النّهضة يدعون الانتساب إلى ديمقراطيّة إسلاميّة قياسا على الدّيمقراطيّة المسيحيّة كما يتصورها مثلا الحزب الديمقراطي المسيحي الّذي قادته أنجيلا ميركل، لكنّ الدّيمقراطيّين المسيحيّين لا يتدخّلون قطّ لا في الإبداع الفنّيّ ولا في أخلاق الناس، فمفهوم الحرّيّة لديهم لا يحدّه المقدّس، فبرلين تستقبل حوالي عشرين مليون فنّان من العالم بأسره يعيشون في الحرّيّة المطلقة ويبدعون بها دون أدنى مقتضى أخلاقيّ. وعلى الإسلاميّين وحلفائهم الّذين يستدعون أنموذج الدّيمقراطيّين المسيحيّين أن يعلموا أنّ هؤلاء إنّما يتصرّفون وفق ذاكرة شكّلها تعليم فلسفة الأنوار الكانطي الكونيّ الّذي أوّل مبادئه حرية الفرد اللامشروطة.
وبالإضافة إلى ذلكّ فقد التقيت في برلين بمسؤول عن مؤسّسة قريبة من الحكومة تخصّصت في الانتقال الدّيمقراطي. لقد حقّق اندماج ألمانيا الشّيوعيّة في الدّولة الفدراليّة خبرة لهذه المؤسّسة في حقل المرور من الكليانيّة إلى اللّيبراليّة ومن الحزب الواحد إلى التّعدّديّة، ومن الدّيكتاتوريّة إلى الدّيمقراطيّة. وقد تجندت هذه المؤسّسة لخدمة الثّورة التّونسيّة منذ فرار الطّاغية في الرّابع عشر من جانفي2011، وكان المسؤولون عنها مستعدّين للاستثمار حتّى يسهموا في إنجاح المرحلة الانتقاليّة. ولكن الخبير المعني عبر لي عن مخاوف مؤسّسته أمام مخاطبيه النّهضويّين الّذين يحكمون تونس، إذ أنّ هؤلاء لا يشعرون أنّهم معنيّون إلاّ بالجزء من البرنامج الّذي يمحو بقايا النّظام البائد. ولكنهم يبدون محترزين عندما يعني الامر وضع برنامج يمنع أيّ عودة إلى الدّيكتاتوريّة لكأنّهم يتركون هذه الإمكانيّة مفتوحة لأنفسهم؟ وأمام هذا الغموض الّذي يترك مكانا للرّيبة يظهر القياس الألمانيّ الثّاني، ذاك الّذي يحيي ذكرى القومية الاشتراكية المشؤومة. لقد وصل هذا الحزب إلى السّلطة ليفرض في ما بعد رؤيته الكليانيّة. بدأت النشأة التي لاتقاوم للدّيكتاتوريّة بالهجوم على الثّقافة والاعتداء على الفنون. ولنعد إلى عام 1933، فبعد انتصارهم في الانتخابات، أخذ النّازيّون يطهّرون الثّقافة والفنون قبل أن تهيمن لدى شعب بأسره إيديولوجيّتهم المدمرة. وفي 10ماي 1933، في ساحة الأوبرا ببرلين أُحْرِقَ 20.000 كتاب اعتبرت غير ألمانية أو ضد ألمانية . وبسرعة أصبحت برلين المضيافة للعقل خانقة.
وقبل أسابيع من ذلك وأثناء عرض مسرحيّة شالجتر الّتي كتبها جوست، يوم20 أفريل للاحتفال بعيد ميلاد الفهرر قالت إحدى الشخوص”عندما أسمع كلمة “ثقافة” أتحسس مسدّسي“وهو الشعار الذي طبقه النازيون. وإنّي في هذا الظرف التعيس الّذي تحياه تونس وقد سلّمت للمتطرّفين أتذكّر جملة أخرى للشّاعر الألمانيّ المنتمي إلى العصر الرّومنطيقيّ هينريك هان الّذي كتب”هنا حيث تُحرق الكتب سينتهي الأمر بأن يُحرق البشر." لقد اثبت التاريخ باستمرار وللأسف حدس هاين . ففي غليان المساجد التي تسودها الفتنة تنتشر فتاوى تهدر دم الفنّانين الّذين عرضوا أعمالهم في المرسى،وهكذا يجعلون دمهم مباحا لكل مرشح لارتكاب جريمة.
ومن البديهي أن هؤلاء المتعصبين الذين يشعلون البلد ويغرقونه في الدم سيعتبرون هذا النص (إذا اطلعوا عليه) في حكم المعدوم سواء في إحالاته أو في تفاصيله وحيثياته أو في أفقه الفكري. إن هذا النص يعطي أفضل مكان لما هو كوني ذاك الذي يسكنه حسب نظرهم الصليبيون (دالي، كانت) والجاحدون الكفرة (البسطامي) وسيضيف كاتب هذا النص اسمه أيضا في قائمة المغضوب عليهم ولكن مهما يكن الثمن فإننا إلى هذا الكوني نعلن انتسابنا لمقاومة التوحش.