ديفد بوم: في التواصل.. لغة الحوار...المراجعة الفكرية العميقة وفرصة الوصول إلى جذور المشكلة

ترجمة كارولين توماس

 

قامت وسائل التكنولوجيا الحديثة في العقود الماضية بحياكة شبكة واسعة من الاتصالات ممكّنة بذلك أي بقعة من العالم أن تكون على اتصال مباشر وسريع مع سائر بقاع الأرض.

 وعلى الرغم من هذا التشبيك فإنه ينتابنا شعور عام في هذا الوقت بالذات بأننا نفتقد إلى التواصل الحقيقي، إذ يصعب على الناس الذين يقطنون في بلدان مختلفة أن يتواصلوا مع بعضهم دون الانجرار إلى صراعات بينهم، وهذا ما نشهده أيضاً ضمن البلد الواحد وحتى على نطاق ضيق جداً ضمن البيئة الاجتماعية الواحدة حيث تتسع فجوة التواصل العميق بين الأجيال ويقتصر الأمر على ما هو سطحي تماماً. علاوة على ذلك يرى الطلاب في المدارس والجامعات أن أساتذتهم يمطرونهم بوابل من المعلومات التي يجدونها خالية من أي فائدة في حياتهم العملية، كما أن ما يبث أو يكتب في كثير من وسائل الإعلام ما هو إلا باقة من الترهات أو المعلومات المضلِّلة.
وانطلاقاً من تلك الحالة هنالك شعور متنام بالقلق ورغبة متزايدة في إيجاد حل لمشكلة التواصل. إلا أن من يراقب القائمين على الجهود المبذولة في هذا الإطار يلحظ أنهم يفتقدون المقدرة على الإنصات والاستماع، الأمر الذي يدفع بدوره إلى مزيد من العدائية والعنف عوضاً عن إرساء التفاهم وبناء الثقة.
ومن هنا قد يكون من المفيد التمهل قليلاً وإجراء مراجعة فكرية عميقة لنمنح أنفسنا فرصة الوصول إلى جذور المشكلة. أفليس من الممكن أن يكون فهمنا الخاطئ لمعنى التواصل يشكل عاملاً أساساً وراء عجزنا عن إيجاد حل خلاق لهذه المشكلة؟
من المفيد أن نبدأ نقاش هذه المسألة بالنظر أولاً إلى مفردة تواصل التي تعني في أصلها اللاتيني «التشارك في أمر ما» أي إيصال معلومة محددة من شخص إلى آخر بدقة، وهذا ما يقوم عليه قسط كبير من الصناعة والتكنولوجيا. ومع هذا فإن المعنى السابق لا يشمل كل ما يمكن أن تحمله مفردة تواصل من معانٍ. فلنأخذ موضوع الحوار مثالاً، نرى أن الأشخاص المتحاورين لا يسعون إلى مجرد إيصال أفكارهم إلى بعضهم، بل إنهم يخلقون شيئاً جديداً مشتركاً بينهم.
وبالطبع فإن هذا النمط من التواصل البنّاء لا يمكن إدراكه إلا إذا استمعنا جيداً إلى بعضنا وابتعدنا عن المواقف المسبقة وتجنبنا محاولة الهيمنة على الآخر. ففي الحوار الحقيقي علينا الاهتمام أولاً وبشكل أساسي بصحة الأفكار وترابطها المنطقي والانفتاح على أفكار جديدة.
من الواضح جلياً أننا بحاجة ملحة للتواصل بمعناه الجديد. فإن كان علينا العيش والعمل معاً، لا بدّ لنا أن نكون قادرين على خلق شيء مشترك بيننا، شيء يتبلور تدريجياً ويأخذ شكله نتيجة لنقاشاتنا وتفاعلنا المتبادل، ولا يكفي لذلك أن يتم تبادل التعليمات بين جهة تلعب دور السلطة وأخرى تؤدي دور الأداة المنفّذة.
حتى في علاقتنا مع البيئة المحيطة بشكل عام هناك شيء يشبه التواصل. خذ على سبيل المثال كيفية عمل الفنان: هل تستطيع القول إن الفنان أثناء تشكيله لعمل فني ما يعبر عن نفسه فحسب- أي إنه «يعكس للخارج» صورة جاهزة في مخيلته عن ذلك العمل؟ في الواقع إن هذا التوصيف لا يعبر بدقة عن عمل الفنان بشكل عام، بل إن ما يحدث فعلاً هو أن نتيجة الخطوة الأولى لعمل الفنان تكون مشابهة لا مطابقة لتصوره الأولي، إذ يلاحظ الفنان أوجه التشابه وأوجه التباين بين ما أنجزه على أرض الواقع وما هو مكنون في تصوراته، وعندها ينبثق من ملاحظته تلك شيء جديد يبني عليه في خطواته اللاحقة. إذا يولد وباستمرار شيء جديد مشترك بين الفنان من جهة ولوحته أو منحوتته التي يعمل عليها من جهة أخرى.
بات من الواضح لنا أنه أن أردنا العيش بوئام وتناغم مع أنفسنا ومع مجتمعنا، فلا بد لنا أن نكون قادرين على بناء تواصل حر خلاق بعيد عن التعصب لأفكارنا ومواقفنا. والسؤال إذاً: لماذا يصعب علينا إقامة هذا النمط من التواصل؟
إن هذا السؤال مركب وعميق جداً، لكن ما يمكن قوله هو أنه عندما نتواصل مع الآخر نميل بطبيعتنا إلى الاعتقاد بأننا من جهتنا نصغي جيداً إليه، ونظن أن المشكلة الأساسية إنما تكمن في أن الطرف الآخر منحاز لآرائه المسبقة ولا يصغي إلينا جيداً! ولا ريب في أنه من السهل على كل طرف أن يرى «عوائق» الآخرين التي تجعلهم- دون أن يعوا ذلك- يتجنبون مواجهة التناقضات التي تشوب بعض المعتقدات الغالية على قلوبهم والتي اعتادوا على التسليم بصحتها.
بيد أن طبيعة تلك «العوائق» تتمثل في أنها تشكل نوعاً من «المخدر» الذي يعوق المرء من رؤية تناقضاته الذاتية ويوجهه إلى رؤية تناقضات الآخرين فقط. فإن وجه المرء انتباهه لذاته ولطريقة تواصله مع الآخر، يمكنه أن يلاحظ على سبيل المثال أنه أنّما تُثار مسائل بعينها تتصف بحساسية خاصة له، يتولد لديه إحساس بالضيق يدفعه بعيداً عن الغوص بهذه المسائل المحرجة نحو مسائل أخرى تشعره بالارتياح.
فالقضية الأساس تكمن إذاً في أن يعي كل منا تلك «العوائق» الذاتية التي تعرقل عملية التواصل الحقيقي. عندئذ يمكننا خلق شيء جديد يمكّننا من وضع حلول خلاقة لما نشهده من معاناة ومشاكل تبدو مستعصية على صعيد الفرد والمجتمع.
الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك