لا يمكن فهم ماضي ومستقبل الغرب من دون فهم العلاقة مع الإسلام
هو محاولة لإزالة الالتباس والغموض الذي رافق الوعي الأميركي بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) الإرهابية على نيويورك وواشنطن.
ويوضح في حديث مع «الشرق الأوسط» أن ما حاول القيام به في هذا الكتاب هو إزالة عنصر الدهشة من خلال تتبع مسار انتشار الإسلام
في منطقة الشرق الأوسط ومسار انتشار المسيحية في أوروبا الغربية بدءا من القرن الثامن الميلادي. ويقول بوليت المختص بتاريخ الإسلام وبالشؤون الإيرانية قائلا: «إن ما نحتاجه هو الرجوع إلى مقدمات جوهرية تلتقي عندها الديانة الإسلامية والمسيحية كالتوحيد».ويلاحظ أن الخطاب اللاهوتي لكلا الديانتين قد استفاد كثيراً من أصول الفلسفة اليونانية. في كتابه الذي ترجم إلى لغات عدة منها الفرنسية والإيطالية والألمانية والعربية يحاول بولييت العودة إلى هذه القرابة المشتركة ويجري حفريات من خلال تتبع مسار الحضارتين.
الصدام الحاصل بين العالمين الإسلامي والغربي حسب ريتشارد بوليت، أستاذ التاريخ في جامعة كولومبيا، قد تعود جذوره إلى القرن الخامس عشر الميلادي خصوصا بعد محاولة الدولة العثمانية الفاشلة في السيطرة على فيينا وما سبق تلك الفترة التي تمثلت بالحروب الصليبية التي شكلت بداية العلاقة الملتبسة بين مسيحية أوربا الغربية والعالم الإسلامي.
لكنه يؤكدفي الوقت نفسه على أن الحضارتين هما توأمان: «لا يمكن فهم ماضي ومستقبل الغرب بصورة كاملة دون فهم العلاقة التوأمية مع الإسلام التي تجذرت خلال القرون الأربعة التي أعقبت القرن الثامن الميلادي».
غير أنه يلاحظ أن الصراع الحالي بين الشرق والغرب يعود إلى الحرب الباردة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. وما يخص العالم العربي، فإن هذا الصراع قد بدأ مع صعود نجم الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر.
وهو يرى أن ما يسميه «الإيديولوجية الإسلامية الحديثة» قد وظفت الدين ضد ثقافة الغرب الراهنة وبكل ظلالها المسيحية واليهودية وعلمانيتها الإنسانية.
وما يسعى إليه بوليت في كتابه المهم الذي تجاهلته أغلبية وسائل الإعلام الأميركية بالرغم من شهرته الواسعة في أوربا، هو نحت مصطلح «الحضارة الإسلامية المسيحية» كبديل لمصطلح «الحضارة اليهودية المسيحية».
وهو يعتقد أن المصطلح الأخير غامض بالرغم من شيوعه في أدبيات المؤرخين الأوربيين المعاصرين للتكفير عما ارتكبته البربرية النازية من فظائع. وقد استخدمه الفيلسوف الألماني نيتشه بشكل ساخر وغامض وعابر في كتابه «ضد المسيح».
ويجادل بوليت أن الهوية اليهودية المسيحية لديها جذور تاريخية معينة داخل أوروبا، وقد تشكلت للرد على أحداث وكوارث حصلت في القرنين الماضيين.
وهو يقول إن مصطلح الحضارة اليهودية المسيحية يتجاهل عن عمد يهود ومسيحيي الشرق الأوسط والعالم الإسلامي ويمارس نوعا من الإقصاء المتعمد على الجاليتين اليهودية والمسيحية، مثبتاً هنا رأياً فحواه أن العقيدة المسيحية أقرب إلى الدين الإسلامي.
ولا يسلم صموئيل هينتغتون صاحب نظرية صدام الحضارات من النقد الذي يوجه إليه بوليت بقسوة، وهو يرى أن أطروحة هينتغتون تعود بجذورها إلى الحرب الباردة، وأن أساسها يقوم على مبدأ المقارنة المثالية مع الحضارة الغربية التي بنيت على أساس الديمقراطية وحقوق الإنسان، وعلى المؤسسات الحرة وعولمة الاقتصاد، وأن نظرية هينتغتون لا تختلف من حيث الجوهر عن أقدم النظريات الكونية للحداثة في ما بعد الحرب العالمية الأولى والثانية التي سادت في الغرب وهذه النظريات التي تقوم على نفي الدين من القضايا العامة.
وفي الكتاب يتحدث بوليت عن مفاجأة قد تدهش أنصار هينتغتون باكتشافه لكتاب صدر في عام 1926 تحت عنوان «شباب الإسلام في تركيا: دراسة في صراع الحضارات» وكاتبه هو بازل ماثيو عضو نادي الشباب التابع للتحالف العالمي، وتتمثل وجهة نظر ماثيو حول الإسلام في المقارنة التقليدية مع الحداثة الأوروبية التي بدأت تشق طريقها في تلك الفترة. ورغم أن مقاربة ثيو تختلف عن تصور هينتغتون حول دور الغرب في تحديث العالم الإسلامي، غير أنه قد يلتقي معه بشكل غير مباشر حين يؤكد على دور المذهب البروتستنتي في إحداث طفرة تحديث في العالم الإسلامي.
وقد يكون من المفاجئ أن صموئيل هينتغتون لم يكتف باستعارة العنوان الفرعي لكتابه من بازل ماثيو، بل استعار حتى أفكاره الرئيسية التي عرضها في ذلك الكتيب الصغير الذي نشر بعد الحرب العالمية الأولى.
والباحث الآخر الذي لم يسلم من نقد بوليت هو الباحث والمستشرق برنارد لويس. وهو يرد على تساؤل لويس الشهير بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر «أين الخطأ»، بقوله إن الخطأ يكمن في ذهن لويس فقط، الذي رأى إلى المسألة من جانب واحد. إن الخطأ لا يكمن في المجتمعات العربية والإسلامية فقط وإنما أيضا في الغرب وأميركا.
ويستعرض أستاذ التاريخ في جامعة كولومبيا مجالات التحديث التي بدأت في العالم الإسلامي والعربي، ويأخذ على سبيل المثال تجربة محمد علي باشا وجمال اتاتورك بتركيا. ويجد بوليت أن مقتربات التحديث هذه قد سارت بشكل متواز مع ما كان يجري في الغرب، لكن هذا الأخير أجهض تجربة محمد علي باشا في التحديث نظرا لعدم رغبة دول أوروبا الكبرى آنذاك بإنهاء الدولة العثمانية.
أما بالنسبة لتجربة اتاتورك، فيرى أنها تلتقي مع تجربة ألمانيا وإيطاليا في خلق وإنشاء دولة حديثة تقوم على أساس العنصر القومي وعلى تفوق العنصر التركي. ويجادل بوليت أنه لم يجر الانتباه إلى التجربة التركية التي تلتقي طروحاتها القومية مع الفاشية والنازية بسبب أن تركيا لم تدخل الحرب العالمية الثانية وسكت الغرب عن فاشية تركيا القومية وتم التركيز على فاشية إيطاليا ونازية ألمانيا.
ويذكر بوليت أن الغرب عندما يتساءل عن الخطأ فانه يلجأ إلى مقاييس للمقارنة نابعة من ذهنه وتصوراته عن نفسه وعن الآخر، ويقترح صياغة السؤال بشكل آخر ليكون «ما هو الصحيح ؟»، والمشكلة كما يشخصها هي «أن الأميركيين يريدون من يحبهم كما هم ولا يستطيعون أن يفهموا لماذا لا يحبهم الآخر».
وإذا كان الراحل ادوارد سعيد قد حاول تفكيك خطاب المستشرقين الغربيين، فأن ريتشارد بوليت حاول أن يسلط الضوء على المدرسة الاستشراقية الأميركية التي تختلف عن المدرسة الأوروبية لإصرارها على أهمية تحديث العالمين العربي والإسلامي. ويلاحظ أن أولى الأقسام التي أنشئت في الجامعات الأميركية كانت الأقسام التي تهتم بدراسات الشرق الأوسط والعالم الإسلامي بعد الحرب العالمية الثانية وبالتحديد مع بدء الحرب الباردة؛ أي منذ بداية الستينات. ويبن أن هذه الأقسام قد ساهمت في صياغة السياسة الأميركية تجاه العالم الإسلامي والعربي والتي لم تتغير حتى الآن والتي تقوم على مبدأ تحديث تلك المجتمعات اعتمادا على مجموعة من الأفراد أو على أنظمة سياسية معينة.
ونتيجة الإصرار على هذه السياسة وتغذيتها بوسائل شتى ساهمت في خلق أنظمة دكتاتورية ومع زيادة نسبة التعليم، تزايدت البطالة وتنامى الفساد الإداري والمالي وساهم هذا بخلق جيش من العاطلين أغلبيتهم من الطبقة الوسطى أو من المتعلمين.
ويلاحظ بوليت، بعد أن يستعرض أبرز كتابات المسؤولين عن تلك الأقسام في الجامعات الأميركية التي بدأت عمليا منذ عام 1952، أنها تكاد تتجاهل بالكامل حقل الدراسات الإسلامية على اعتبار أن عنصر الدين هامشي طالما هناك أفراد تعتمد عليهم الولايات المتحدة بتحديث تلك المجتمعات.