مسار الأحداث.. وحتمية التاريخ!!

د. عبدالله القفاري

    يذكر الراحل الاستاذ انيس منصور أن الكاتب والمفكر الاستاذ عباس محمود العقاد، كان أول من قال أثناء انتصارات القوات النازية: إن هزيمة هتلر محتومة.. وكانت الاسباب التي يقدمها كثيرة. ولم يكن أحد يرى رأيه. وكان ذلك يضاعف تمسك العقاد بفلسفته. وكان يقول: "لو أن ألف أعمى قالوا بأن الشمس غير موجودة، وقال واحد مبصر إنها ليست كذلك، فهل هو على خطأ وهم على صواب؟".

وكأن العقاد كان يريد ان يقول: إن الناس ينظرون إلى ما أنظر، ولكنهم لا يرون ما أرى!

أما لماذا كان العقاد يرى أن هزيمة هتلر - في خضم انتصاراته - محتومة، فإنه يقول إن الذين يقولون انه سيكسب هذه الحرب يحكمون على ذلك باللمس. إنهم يرونه يتقدم الى النصر التام في النهاية.. إنهم أناس يتحسسون التاريخ بأصابعهم، ولكن الذي يرى هتلر يتقدم وينتصر فيقول انه سوف يهزم حتما.. فهو لا يتحسس التاريخ، إنما هو يرى حتمية التاريخ. إنه يسبق هتلر ويقف في مواجهته، ويقول: ليس من الطبيعي أن ينتصر في النهاية بل هزيمته مؤكدة.

 

 

إنها مرحلة تدلهمّ فيها الخطوب.. وتتعاظم فيها المخاطر.. ولقد بحت الحناجر بالدعوة لمشروع يقاوم هذا التآكل الهائل.. ويواجه مخاطر محدقة لا يعزز حضورها كالظلم والقهر والفساد.. الحصون المنهكة من الداخل بيئة مثلى لإنتاج المزيد من عوامل التفكيك والانهيار..

 

 

لاح لي هذا المنطق في دراسة التاريخ وتحليل شخصياته الذي اعتمده العقاد كذلك في سلسلة "العبقريات" التي كتبها.. وأنا اراقب هذا الخضم الهادر والخطير والمتطور بسرعة في المشرق العربي.

من يرى حتمية التاريخ ليس كمن يتحسس مسار التاريخ.. من يصدح انفعالا او يصخب لمجموعة انتصارات هشة ليس كمن يدرك ان الحتمية التاريخية ليست سطرا في مسار تاريخي تحكمه عوامل وشروط من الصعب تجاوزها او تهميشها او القفز عليها.

بعض العمى الايديولوجي هو الذي يسوق الالاف، والقطعان البشرية التي يحكمها التفكير الرغبوي وتسيطر عليها عواطفها الجانحة السريعة الاثارة السريعة الانهيار.. نحو التصفيق لانتصارات قد تكون بدايات الانهيار الكبير.

وقد يكون من المناسب تطبيق هذه الفلسفة على ما يحدث بالعراق اليوم. وبالذات حول دولة الخلافة على طريقة البغدادي، التي حركت مشاعر البعض، وجعلتهم يبتهجون ويرون انهم امام معجزة انتصار ستوالي تحقيق الانتصارات حتى النهاية.. بينما تبدو لمن يرى حتميات التاريخ انها وفق بواعثها الفكرية، وما تمخض عنها من مشروع تظهر ابعاده بما تطبقه وتدعو له، وما ترجوه وتأمله، انها ستكون كارثة طويلة وربما هزيمة محتمة..

المبتهجون بدولة البغدادي، يتحسسون الوقائع اليومية.. يتتبعون مشاهد الانتصار وعلى من؟ قد تكون ضد نظام المالكي الطائفي.. لكنها ايضا قد تكون ضد مواطنين عراقيين من اقليات او ديانات أخرى ومذاهب أخرى.. إلا انها انتصارات والغة بالدم معمدة بالذبح تقترب من الظلم الكبير على مستوى الانسان الذي لا يد له في اختيار دينه أو مذهبه أو تكوينه الاجتماعي.. وقد تكون انتصارات ضد رفاقهم بالأمس لانهم خالفوا منهجهم ولم يستسلموا لرؤيتهم ولم يبايعوا خليفتهم..

اولئك يتحسسون مسار التاريخ، لكن كثيرا منهم لا يدرك انهم لو عاشوا في ظل كهذا دولة فستكون شقوتهم أكبر، وإظلامهم أعم، وحروبهم ليلاً لا آخر له، ودماؤهم انهاراً تسفك لترتوي منها شهية الخلفاء الجدد.

أما من يرى ان مضي اربعة عشر قرنا، كافية لإفشال محاولة هضم العالم في دولة خلافة تمتد من مراكش الى خراسان. ومن يرى ان الظلم كارثة محتمة لا تعني في النهاية سوى الهزيمة والفشل.. ومن يرى ان عالمنا اليوم مختبر كبير للعبة اكبر قد تجعل من هذه التنظيمات ايقونات شهادة وفداء، وهي لا يمكن ان تعيش الا بحبل من الناس.. ومن هم هؤلاء الناس؟ (استخبارات دولية – متعاطفون – ممولون) فحبل الله لا يمكن ان يمد لمن يقتل بالشبهة ويظلم بالجملة ويتعطش للدم.. فأولئك منحوا الرؤية. إنهم يرون حتمية التاريخ مهما بلغ الظلام والتبس الحق بالباطل.. ومهما علت صرخات النفير ومهما تطاولت البنادق وراجمات الصواريخ وعربات التفخيخ.

أي نصر هذا، ونحن نرى العشرات ممن تجري فيهم عمليات إعدام جماعية.. ما مبرر قتلهم ولمن الحكم اليوم.. هل هم اسرى معركة فأولئك لهم معاملة أخرى.. هل هم على غير مذهبهم وعقيدتهم، فمن اختار دينه او مذهبه؟! أيتها العقول الخاملة.. ولو تساءل أحد هؤلاء الذين يطلقون الرصاص على رؤوسهم، لو كنت ايها المجاهد الكبير مولودا في النجف فهل ستكون على مذهب آخر غير مذهب امك وابيك.. وإذا تشربت كل جرعات المذاهب للبغضاء والكراهية للآخر فهل ستكون شيئا آخر؟

وذات الشيء يمكن أن يقال لجماعات البغي الطائفية من حزب الله الى ابي الفضل العباس الى مهووسي الدفاع عن مراقد لا تعني في عرف العقل وقيمة الحياة شيئا مذكورا يجعل الموت دونها شهادة او الاستبسال للوصول إليها لتقويضها مكنة ونصرا..!!

هكذا تبدو الحياة رخيصة.. وهكذا تبدو شريعة الله في تخريجهم، انما هي مكنة وغلبة واصطفاء. وهكذا يبدو للمصفقين لانتصارات مؤقتة في غيبة عن الغايات. إنه طريق الاحتراب الطويل والدم والهدم.. واخيرا انهاك متبادل كبير، فليس بإمكان احدهم افناء الآخر او إرساله الى الدار الآخرة دون ان يبذل ايضا نفسه لهذا الاحتمال الذي لا يبقي ولا يذر.

أليست الشريعة هي العدل.. وحيثما كان العدل كانت شريعة الله.. فما بال قوم لا يرون الشريعة، سوى مفردة سياسية تاريخية تداعب عقولهم التي تعيش بماضي المجد البعيد- مع ان هذا الماضي لم يكن مجيدا كله - مع فرض سلوك مذهبي متزمت خانق مؤطر بالعقوبات، وكأن الناس خلقوا دمى متحركة لا ترى سوى ما يراد لها ولا موقف سوى ما يتخذ نيابة عنها.. ولا جنود للموت والنفير سواهم اذا ما قرر قائدهم المضي في عمليات معارك القتل والتفجير.. وعند الله تجتمع الخصوم!!

اتساءل إذا كان الخليفة لا يصبر على مخالف له من بني عقيدته وفكره ونسقه، فهو يتعرض اليوم للقتل والتفجير والترحيل.. فكيف سيكون مع الاخرين الذين لا يشاركونه معتقده. كيف يرى العالم من حوله.. هل تكسير صُلبان مواطني دولته.. يعني اصطفاء بشر آخرين لا تاريخ لهم ولا عقائد ولا طقوس؟

حذر المفكر عبدالله القصيمي من عودة هارون الرشيد.. واليوم ربما يقول البعض مرحى بتلك العودة لو كانت.. ألم تكن بغداد زينة المدن، تزخر بالتنوع وتزدهر بالفنون والعلوم والآداب في ذلك العصر العباسي.. أما خلافة اليوم فتعمّد بالدم وتعيش بالدم وتذوي فيها كرامة الحياة وحق الاحياء.. إنها الوجه العابس للحياة.

ان من يتلمس خط التاريخ اليومي الصاعد لهذا التنظيم - وهو من المتعاطفين - سيطرب لإنجازات سريعة نكاية بالعدو، فجماعته الاكثر مقدرة على القتال والاكثر تضحية والاكثر بذلا.. ولكن الدولة ليست معركة حربية مع الخصوم، انها نسق فكري وبناء عدلي وعقد اجتماعي وعلاقات مواطنة.. أين ستذهب كل هذه المفاهيم.. ماذا سنفعل بكل هذا التراث الانساني الحقوقي الذي لم تصل إليه البشرية الا بعد تجارب وعذابات وحروب وانهيارات.

إن التساهل بسفك الدماء، والقتل على الهوية المذهبية، والترهيب، وفرض نسق جبري للحياة.. لن يكون سوى خندق كبير سيجعل هزيمة مثل هذا المشروع حاضرة.. مهما بدت بعض الانتصارات تبدو حاسمة.

إنها مرحلة تدلهمّ فيها الخطوب.. وتتعاظم فيها المخاطر.. ولقد بحت الحناجر بالدعوة لمشروع يقاوم هذا التآكل الهائل.. ويواجه مخاطر محدقة لا يعزز حضورها كالظلم والقهر والفساد.. الحصون المنهكة من الداخل بيئة مثلى لإنتاج المزيد من عوامل التفكيك والانهيار.

http://www.alriyadh.com/952371

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك