التسامح والعنف مخرجات ثقافية: الموقف المسيحي من رواية شفرة دافنتشي أنموذجاً
عندما أصدر الروائي الأمريكي(دان براون) روايته الأشهر(شفرة دافنتشي) في أبريل من عام 2003م، كان يعلم جيداً أنه سيضرب الوعي المسيحي في العمق، بتشكيكه روائياً على الأقل في معتقدات دينية مسيحية لا تقبل الجدل حولها، ناهيك عن التشكيك فيها! لكنه، من جهة أخرى، كان يعلم علم اليقين أن أحداً في الحضارة والجغرافيا اللذين ينتمي إليهما، لن يتعرض له بما يكره، فلن تجرى له محاكمات كهنوتية يُتهم فيها بالتجديف، كما لن يترصد له تكفيري من بني دينه بشارع منعزل، أو بكراج لمواقف السيارات، فيرديه قتيلاً استبراء ل"دينه"، لتشكيكه بأهم ثوابت الدين!
(شفرة دافنتشي) رواية تتوغل في أعز المعتقدات المسيحية، فتُعمل فيها معول التشكيك، بنفي بعضها من جهة، وبإبراز الأسس الوثنية لبعضها الآخر من جهة أخرى. وهي أسس ألصقها بالمسيحية وفقاً لبراون الامبراطور الروماني قسطنطين العظيم ،( توفي عام 337م). ذلك الإمبراطور الذي (سيس) المسيحية و(ديَّن) الدولة الرومانية، حين أخذ على عاتقه عقد مجمع نيقيا في عام 325 م، والذي رُسِّمت فيه العقيدة المسيحية أُرثوذكسياً، واعتمدت فيه الأناجيل الأربعة القانونية، وأحرقت باقي الأناجيل الأخرى، التي عدت مهرطقة مبتدعة!
من ضمن أصول العقائد في الدين المسيحي، الإيمانُ بأن المسيح عليه السلام منزه عن الحب والغرام والزواج بالنساء، وأنه لأجل ذلك، عاش ومات أعزباً منزهاً عن الصاحبة والخليلة والولد، والتشكيك في هذا الأصل العقدي يخرج صاحبه من الملة، ويبيح دمه وماله، وهو في الآخرة من الخاسرين!
إن مغامرة من هذا النوع، أي الزعم بأن المسيح أحب امرأة، أو تزوجها، كان يكلف صاحبه زمن القرون الوسطى في الغرب، حياته، ولا يزال كذلك في مناطق مسيحية عديدة خارج النطاق الجغرافي والثقافي الغربي!
جاء براون فضرب ضربته القاصمة بقوله، في(شفرة دافنتشي)، اعتماداً على تحليلات معينة، من ضمنها تحليل مدلولات بعض الرموز الغامضة التي تشتمل عليها لوحة (العشاء الأخير) للفنان العالمي المعروف(ليوناردو دافنتشي)،: إن المسيح عليه السلام، على خلاف ما جاء به الكتاب المقدس، لم يمت أعزباً، بل إنه مات متزوجاً، ومنجباً لبنت اسمها(سارة). بل وأكثر من ذلك، فإن المسيح، وفقا لبراون، لم يتزوج زواجاً تقليدياً، بل تزوج عن حب جارف جمعه بواحدة من تلميذاته تسمى(مريم المجدلية). ولما مات المسيح، (=وفقا للاعتقاد المسيحي)، هربت المجدلية إلى جنوب فرنسا بصحبة ابنتها سارة، وهذه الأخيرة أصبحت فيما بعد جدة لسلالة ملوك حكموا جنوب فرنسا خلال العصور الوسطى، يطلق عليهم اسم ( الميروفنجيين).
إن ثمة حقيقة معلومة بالإضطرار من علم الأنثروبولوجيا، ومن مسيرة التاريخ والاجتماع الإنسانيين، وهي أن التعصب والعنف والعنصرية ورفض الآخر، وقسره على إرادة ما، أو على دين أو مذهب أو رؤية معينة، وغيرَها من الأدواء التي لما تزال تحيط بالإنسان المعاصر، كما القديم، ليست (طبْعية) تولد مع الإنسان، كما أنها، من جهة أخرى، ليست نتاج دين بعينه بما هو دين، بل هي نتيجة مباشرة للثقافة الحاضنة بسياقاتها المختلفة وخاصة السياقين: السياسي والاجتماعي. وهذه الثقافة أو تلك إنما تقوم بتأويل نصوص الدين ناحية التعصب أو التسامح، وفقا لتوجه السياقين السياسي والاجتماعي. ولقد أدرك هذه الحقيقة، أعني محورية الثقافة في توجيه المجتمع نحو التعصب أو التسامح، العلامة ابن خلدون(توفي عام 1406م) عندما قال:" الإنسان ابن عوائده ومألوفه، لا ابن طبعه ومزاجه".
لقد أبرزت ردات الفعل المسيحي تجاه رواية(شفرة دافنتشي) هذه الحقيقة بجلاء لا يدع لذي لب تشكيكاً فيها. فبرغم أن الرواية تضرب (سلباً) في أعماق أعماق الوجدان المسيحي، كونها تشكك، إن لم تنكر، ما أجمعت المذاهب المسيحية على أنه مقدس لا يسع المسيحي إلا أن يؤمن به حق الإيمان، إلا أن ردات الفعل تجاهها اختلفت جذرياً بين المجتمع الغربي وغيره من المجتمعات المسيحية الأخرى. في الغرب، اعترض الفاتيكان على الرواية، وحرم دخولها إلى حظيرته، وأصدر عدد من القسس والرهبان والكاردينالات، فتاوى تحرم اقتناءها، أو قراءتها، لكن تلك الفتاوى لم تتعد المجال الكنسي، إذا لم يعبأ أفراد المجتمع هناك بما قاله المفتون. فلقد حققت الرواية مبيعات كبرى وصلت إلى ملايين النسخ، كما ترجمت إلى أكثر من خمسين لغة حول العالم، وقرأها الملايين من الأناسي حول العالم، بفضل انتشارها في الغرب أولا. وفي الغرب وحده حُولت الرواية إلى فيلم سينمائي حمل نفس اسمها. وباختصار: لم تقم في الغرب أي قائمة لغضبة الفاتيكان المضرية تجاه الرواية ومؤلفها، ولا لفتاوى الرهبان والقسس. وأكثر من ذلك، لم يقم الفاتيكان، ناهيك عن الرهبان والقسس بالدعوة إلى استخدام العنف ضد كاتب الرواية، ولا ضد المكتبات التي تبيعها، ولا ضد دور السينما التي عرضت الفيلم، بل كل ما فعلوه لم يتعد حقهم المكفول لهم دستورياً بالاعتراض السلمي على ما جاء في الرواية!. لكن العكس حصل لدى المجتمعات المسيحية الأخرى، وخاصة مسيحيي الشرق، فلقد منعت الرواية في لبنان ومصر والأردن، ولقد كانت ردة فعل مسيحيي الشرق عنيفة بما لا يقاس مع ردة فعل نظرائهم في الغرب.
ماذا نستنج من ذلك؟
لو قيمنا المسيحية بمعيار ردة الفعل الغربي لقلنا إنها متسامحة، ولو قيمناها بمعيار ردة الفعل الشرقي لوصمناها بالعنيفة، أو على الأقل: بغير المتسامحة مع الرأي الآخر! لكنها، أعني المسيحية ليست هكذا، ولا ذاك. نستطيع أن نقول من جهة: إن المسيحية متسامحة في الغرب لأنها تعيش وسط ثقافة مرت بعصر التنوير، بينما نستطيع أن نقول عنها من جهة أخرى: إنها عنيفة، كارهة لغيرها، مستأصلة للرأي الآخر في الشرق، لأنها تعيش وسط ثقافة لم تمسسها يد التنوير بعد، وقس على ذلك بقية الأديان والمذاهب والإيديولوجيات. الناس يؤولون أديانهم بما يخدم توجه التسامح والخير والرفق والمدنية والإنسانية عندما يكونون متنورين، كما يؤولونها تجاه العنف والعنصرية والتوحش واللاإنسانية عندما يكونون (قبْلَ حداثيين). ومن العيب المعرفي، بل والديني، أن نقول عن دين ما إنه عنيف أو متسامح بما هو دين فحسب.
المصدر: http://riy.cc/914216