الجمال الفني ابن الجلال والكمال
أضافه الحوار اليوم في

أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
كل عمل إبداعي -فني، أو أدبي- فهو الظلال الدافئة الممتعة في حضن قمم الفكر الشاهقة: الفكر عظمة، والفن متعة، والروعة في تمازجهما.. وما عهدت قط (في طول التاريخ وعرضه) أن عصراً بدأ بظاهرة أو ظاهرات فنية وأدبية ذات مستوى إبداعي مجمع على عشقه إلا وهو مسبوق أو متزامن مع طلائع فكرية ذات فلسفة أصيلة عتيدة؛ فالمفكرون والفلاسفة هم دائماً طلائع الإبداع والاكتشاف في العلم المادي والإبداع الفني والأدبي، والذين يدرسون الفلسفة مؤرخين لأفكارها أو مصنفين لموضوعاتها: تراهم لا يغفلون عن علاقة الفلسفة بالعلم والأدب والفن؛ لأن الفيلسوف يستهدي بالعلم المادي والمعارف البشرية؛ ليثري أمثلته وشواهده بالمثال الواقعي الحي بدلاً من المثال الافتراضي الذي لا يفيد سوى التصور.. وترى العالم يستهدي بالفلسفات (ولا سيما فلسفات عصره)؛ ليدلف إلى اكتشاف علمي؛ لأن نظرية الفيلسوف هي فرضية العالم، بل إن نظرية الفيلسوف تمهد له أول أشواط التجربة، وتثري ملاحظته في رصد خطوات التجربة.. والفارق بين الفيلسوف والعالم: أن الفيلسوف أعزل من أدوات المختبر والمعمل، وربما لو كانت بيده لم يحسن استخدامها.. والعالم ذو حرفة ومهارة في استخدام آلات المختبر، ولا يعوزه الذكاء في استعمال حرفته ومهارته، ولكنه يحتاج إلى عقلية الفيلسوف وشمول معارفه؛ لأنه جرد من عموم المعارف البشرية أفكاراً فلسفية، وحدس ما ينبغي أو يمكن أن يكون برؤية عقل مباشرة، أو من حتميات فكرية جردها من خبرة الأجيال.. لقد كان ديكارت الفيلسوف ملمـاً بالعلم، وكان نيوتن العالم ملماً بالفلسفة.. وفي مجال الفن والأدب كان الفيلسوف الفذ أمانوئيل كانط (وهو من أثقل الناس روحاً، وأغلظهم حساً) من رواد النظرية الأدبية والفنية؛ لمباحثه في فلسفة الجمال.. وكان رواد الأدب والفن في الصعيدين العالمي والعربي ذوي ثقافة فلسفية عريضة.. وإذا تصفحت مجرد فهارس الموضوعات للكتب التي صنفت تصنيفاً مقبولاً أو رائعاً في نقد الأدب ودراسته: أصبت بالدوار؛ لأنك تجد الفطرية الجمالية -التي نجدها في كتب البلاغة العربية، أو كتب النقد العربي القديمة- ليست سوى مسحات تأتي لتتمة المنهج وحسب، وأما العناصر الرائعة التي يتألف منها مفهوم النقد والدراسة أدبياً وفنياً؛ فهي العلاقات الشائكة الصعبة المتناغمة بين المعارف البشرية؛ ليمخض بها القيم الفنية والأدبية؛ فعالم النفس تستنطقه كتب الدراسة والنقد؛ ليفسر لنا طبيعة الإبداع الفني والأدبي.. والفيلسوف يستنطق؛ ليفسر المضمون الفكري، والـمختص في التاريخ بشتى فروعه إنما يستنطق ليحلل مدلول الأسطورة، ويعلل الظاهرات والمضامين.. وعالم اللغات ومفلسفها يحرج بأكثر من سؤال، ويطلب منه أكثر من حل؛ لتوسيع المدلولات الإيحائية؛ فيطمح الأديب إلى أكثر من دلالة معجمية، ويضيق ببساطة التناول.. وبما أن اسم الأدب في مصطلح الأسلاف في تراثنا لا يزال عنواناً لموسوعات مثل نهاية الأرب، ولأخصَّ كتاب لدى المعاصرين -ككتاب عن نظرية الزمن في الأدب-: فإنني أعد فهرسة المكتبة الأدبية وتصنيفها من أعقد الأعمال وأدقها؛ فلا تبويبات الرازي إلى عصر حاجي خليفة، ولا طريقة ديوي شفت في فهرسة الموضوعات الأدبية وتصنيفها, ولا سيما أن مفهوم النظرية محل خلاف كثير عريض.. والعصور التي خلت من طلائع الفلاسفة والمفكرين المجددين هي المتعارف عليها بعصور الانحطاط الأدبي.. إن نماذج ابن حجة في خزانته من نماذج الأدب في عصور الانحطاط، ونظلم هذا الأدب (وإن كان معظمه حلية بديعية) إن قلنا: (إنه لا يوجد فيه كثير من المتعة والعظمة أحياناً).. ومن يجسر على قول ذلك في مثل شعر ابن نباتة والحلي والحاجري والتلعفري؟! وإنما جاءت فكرة (عصور الانحطاط)؛ لأن ذلك الجمال الفني والأدبي إنما هو في ظلال الفكر القديم؛ لأنه محاكاة أمينة له، ولأن عنصر الجلال وما يقدر عليه من الكمال قليل، وأحط ما في ذلك الغزل بالمردان.. والدليل على أنه تقليدي أنهم جعلوا الحلية البديعية قصداً وأسرفوا فيها، والعمل التقليدي يكون جميلاً ومتخثراً معاً.. يكون جميلاً في نفسه؛ فإذا استجد العلم بأنه تقليدي أصبح متخثراً.. وكثيراً ما يقول العلماء: (قال الشاعر فلان على مذهب أهل الصنعة) يريدون الصنعة البديعية التقليدية، والأدب والفن لا يكونان تجديداً في ظلال فكر قديم منعزل عن متغيرات الفكر والفلسفة؛ وإنما يتجدد الفن والأدب بتجدد الفكر.. ولقد غاظني كثيراً فطاحل من أئمة اللغة العربية والبيان العربي يضيق عطنهم عن تجديد فني في الأسلوب الأدبي يتجدد به الفكر اللغوي؛ فتراهم ينكرون وصف القبلة بالحرارة، ووصف الإشعاع بالبركان، ووصف الصوت بالدفء؟! لأنهم جمدوا عند علاقة المجاز العربي الفطري التي يبحثها البلاغيون في الاستعارة والمجاز المرسل، وقد غبي عنهم دلالة الشعور الذي جاء على حكمه تراسل الحواس، وإنني أخشى أن يظل أدب الشباب السعودي أدب عصور الانحطاط ولكن بوجه آخر.. كان أدب خزانة ابن حجة في ظل الفكر القديم، وأدب الشباب محاكاة لأدب لا يملك بعضهم أو أكثرهم مقوماته الفكرية.. إن من قضايا الأدب والفن -شعراً، ومسرحاً، وقصة، ورواية- المشكلات الأسرية من تعدد الزوجات والطلاق، والاصطدام في الحب، والغيرة، والخطيئة والعفاف، وزوجة الأب، والبنت أو الأخت الكبرى العانس.. أو قضية الاستعمار، والعمالة، واللاجئ الفلسطيني (وما أكثر اللاجئين من غير الفلسطينيين خلال الحريق الذي يسمونه الربيع العربي!)، وتجسيد المأساة في ضحايا الأفكار من رجال التاريخ، والتجزئة الوطنية، والتمزق القومي، والضياع، والاستلاب في عصر العلم المادي.. أو الواقعية الأمينة في التقاط حياة الريفي، وأحلام الموظف، ورجل الشارع، وانغماس المنتمي، وأستاذ الجامعة، وتفاهة القابع في الملهى تحت التخت-أو في المقهى مع النارجيلة، أو في ملاعب الوثنية مع رقص الدراويش وسدنة المزارات-؛ فأي موضوع من هذه الموضوعات أو غيرها يوظف فيها الشاب أدبه أو فنه (مهما قرأ من الآداب والفنون العربية المترجمة) فإنه يتجاوز نطاق الأفكار العرفية التي تعيش تلك الفنون والآداب في ظلها؛ فإن أحسن غاية الإحسان فالنتيجة أنه أتقن المحاكاة، وإن حكم له بالإبداع فهو إبداع نسبي؛ لأنه في ظل أفكار عرفية.
قال أبو عبدالرحمن: لست أنصب من نفسي معلماً ومربياً للشباب، ولست أدعي عملاً إبداعياً؛ لأن تفرغي الثقافي والفكري شغلني عن معاناة عمل إبداعي، ولست حريصاً على عداوة الشباب؛ لأن لي مندوحة بأن أمضي في مشربي ولا أعبأ بهم؛ وإنما يدفعني -والله حسيبي- الغيرة على سمعة بلادي الأدبية والفنية، وأن أكاثر في سوق المفاخرة بنوابغ بلادي، بل فرحي بالعمل الإبداعي السعودي أكثر من فرح الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى بروائع أهل الأندلس في رسالته الميزان.. وكوني لم أفرغ لعمل إبداعي لا يعني حرماني من ملكة الذوق والتمييز؛ ذلك أن الرجل الأنيق ذا الحس الفني يختار أجمل الأزياء ولا يستطيع تصميم أدناها، ورجال الفكر كلهم منذ فجر البشرية يميزون جمال الطبيعة ويحكمون ويفاضلون وهم لم يخلقوها.. ولست ههنا واعظاً؛ لأنني لم أشرح لهم الترغيب والترهيب للمنذري؛ وإنما أطللت على روائع الفن والأدب من خلال معاناتي لقضايا الفلسفة والفكر، فرأيت أن في هذين الحقلين ظلالاً باردة لعقد الفكر وقممه؛ لهذا أناشد أحبابي أدباء الشباب (إن كانوا يعرفون عن مستوى ثقافتهم نفس الذي أتوقعه) أن يتفرغوا لبناء فكري فلسفي واع مستوعب؛ وبذلك يكونون في المستقبل طلائع التجديد للفن والأدب: إما بأن تتألق موضوعات الفن والأدب التي ذكرت طرفاً منها في ظلال إبداعهم الفكري والفلسفي؛ فيكون الموضوع الـمعرفي صادراً عن فكر سعودي أصيل؛ فهذا لعمر الله هو الإبداع الذي يرسم لبلادنا هويةً جديدة بين المدارس والمذاهب والمتغيرات.. ولله در المحابر والطروس ما أسعد حظ المخلصين لها!!.. وإما بأن ينتقل الشباب أنفسهم من الإبداع الفكري؛ وذلك عند بلوغ الأشد (مع جانب كثير كبير لله لا نضيعه) إلى الإبداع الأدبي والفني، ولعلهم يحسنون غاية الإحسان إذا بلغوا الأشد عندما ينقلون الموضوع الأدبي والفني المكرر المميت إلى فن فكري محض يؤمن بأن المعرفة هي (شهوة الإنسان العظمى) كما قال سوفوكليس في مأساة أوديب؛ وبهذا نحول الأفكار الفلسفية إلى طرح فني وأدبي في أطر جمالية؛ وهذا ما أعنيه بالانتقال من المسرح الاجتماعي إلى المسرح الذهني، وقس على ذلك شتى ضروب الفن والأدب.. وأعني بإيضاح أكثر أن تكون ضروب التعبير الفني والأدبي تحتاج إلى وعي الشعور وتأمل الفكر أكثر مما تحتاج إلى إصغاء السمع وتحديد الحدقة، وأعني ألا تفقد شيئاً من معايير الجمال؛ فإن غلب جانب القوة والعظمة على جانب المتعة فلا يضير ذلك في بداية التجديد؛ ذلك أن عظمة الفكر وشمول الثقافة بشير صادق بتفوق فني وعلمي وأدبي.. إن الجاذبية وليدة الفكر الحاد.. والشاب الذي عمره ما بين ثمانية عشر عاماً إلى ثلاثين عاماً وهو لا يلم بعموم المتغيرات الفكرية والفلسفية في العالم مع جذور من تراثه كالفقه والتخصص في بعضها، ثم يوسع شمول ثقافته، ولا يضيره أن يتناوش شيئاً من توافه بعض المعارف: لا يمكن أن يكون رائداً ولا مبدعاً وإن منح موهبة التذوق والمحاكاة؛ لأن التذوق الفطري العاطل من جبروت الفكر وسعة الثقافة لا يجدي في بناء الأدب والفن بمفهوم العصر الحديث.. وليعلم أحبائي أن رواد الأدب منذ السياب إلى صلاح عبدالصبور ونجيب محفوظ والناقدين الوديعين مثل محمد غنيمي هلال وشكري عياد: كانوا أئمة في الفكر والثقافة قبل أن يكونوا رواداً لإبداع الأدب وتنظيره.. وليقل عني أحبائي الشباب ما قاله مالك في الخمر إن صح ذلك القول عنه -ولعل جار الله الحميد قال عني في اليمامة منذ سنوات أكثر مما قاله مالك في الخمر-؛ فلهم خالص حبي وابتهالي، والرائد لا يكذب أهله، ولبئس الخيانة خيانة القلم.. هكذا قلت مرة في جريدة الجزيرة عام 1405هـ.
قال أبو عبدالرحمن: أزكي موعظتي الفنية بنموذج من الشعر الخواجي وصل إلي بما يقدر عليه من إحضار المعاني من غير ما لا يقدر عليه من مقومات الجمال الفني، وهذا النموذج قصيدة (إليكو وزمفيرا)، وهما اسمان خواجيان لبطلي (ملحمة الغجريات) للشاعر الروسي بوشكين (1799 - 1837م)، وقد ترجمها عن الإنجليزية محمود برهوم، و(إليكو) رمز الشاعر نفسه الذي كان موظفاً بوزارة الخارجية الروسية، ولكنه في عام 1820م نقل موظفاً بجنوب روسيا في بسارابيا؛ لأنه داعية للحرية، ضائق بالأنظمة والقوانين والقيود والأخلاق العامة التي هي من قيم المجتمع ومسلماته.. وعاد إلى موسكو من منفاه سنة 1826م بعد أن هدأت ثورته على حكومة روسيا ودوائرها وموظفيها، وقد أمضى في الـمنفى ست سنوات كتب فيها روائعه الأدبية، وكان ذلك قبل ثورة روسيا الشيوعية سنة 1917م، وكانت أعماله تلك غناء بالحري ة وهجاء للمدينة والنظام، وشعره وكتاباته معلم لليساريين في العالم.. ولما تأملت ما ترجم من بعض أعماله طن في أذني رجع ما كنت أسمعه من الشعر العربي الحداثي الذي يصف الأنظمة بالقضبان، والزعامات والمبادئ بالأصنام، ويجعل من التغني بالطبيعة والفطرة هجاء للمدينة لا لنفسها، بل لما فيها من نظام وقانون، وهذا اللون من البكاء الرومانسي ضروري لأدب الحداثة؛ لأنه ليس كرومانسية من يتعبد في الطبيعة تعبداً وثنياً ليخلو بحبيبته ويشعرها -أو يستشعر معها- العناق في الطبيعة وجاذبية الحب؛ فهذا من البطر الوجداني؛ وإنما هو رومانسية مُصْطلٍ هموم المجتمع، مكافح من أجلها، يستجلي مظاهر المحبة في الطبيعة ونواميس الحب: إما ليستمتع بها في لحيظات انهزامه؛ لتكون محطة استراحة في سبيـل مواصلة الكـفاح، وإما ليـذكـر الـمستـلبين نعمـةً ما فقـدوه؛ فيفجـر ذلك التذكير الكفاح في نفوسهم.
قال أبو عبدالرحمن: حينما نأتي لأشعار أمثال بوشكين فلا يعني ذلك أننا ندين النظام الذي عاشه بإطلاق، بل نجزم أنه لو عاش ثورة 1917م وما بعدها -وهي الثورة القائمة بشعارات منها الحرية!: لكان أشد وأكثر لعناً للنظام والمدينة والريف معاً! هذا على فرض أن ظروف الثورة تسمح له بأن يكون قمرياً، وتسمح بأن تهب له غصناً يغني عليه!.. وإنما يعني الاتجاه لأشعار بوشكين وأمثاله أنها الغناء الوجداني الطبيعي إذا وجد ما يفدح الحريات المشروعة حقيقة لا تزويراً، ويعني أنها معلم لتكوين رؤية أدبية وراء كل ما يفدح الحريات المشروعة.. والحرية في الطبيعة جمال طبيعي يستهلم منه الرومانسيون جمالاً فنياً، ويجعلون الحرية الجمالية الطبيعية مسوغةً مشروعية بعض الحريات.. ولقد أسلفت في مناسبات كثيرة: أن الحرية مفردة لغوية، وجزء تصور، وليست قيمة معيارية.. وإعطاء الحرية قيمتها من الحق والباطل عمل الفقهاء، ورجال الفكر، والمستهدين بدين الله، والخائضين غمار التجارب، والـمربين عن أهلية.. بيد أن عواطف الأدباء تلتهب؛ فتجعل للحرية قيمة سارة بإطلاق حينما تصادر الحقوق، ويستهان بالمواهب الفكرية، ولا يكون العدل أو الظلم بالسوية.. وحينما تصل الممارسات في المدينة إلى هذا المستوى يشيد الأدباء أهرام الحرية، وينسون الفرق بين حريات الحقوق وحريات الديوثة كما في ملحمة الغجريات.
قال أبو عبدالرحمن: بعد تقطع أيدي الغوغائية من التصفيق، وبحة حلوقهم من الهتاف، واستراحتهم من السدر والخدر: يأتي دور المفكرين والمربين والمصلحين؛ ليوضحوا الواضح ويجلوا عنه التمويه؛ فيبينوا لهم أنه لا حرية معقولة إلا بقيود معقولة.. والملحمة الغجرية نظمها بوشكين في منفاه فيما بين 1823 - 1824م، وموجز الملحمة أن إليكو (أي بوشكين نفسه) جاء من جحيم المدينة إلى الريف جنوب روسيا (بسارابيا)، فوقع في غرام الغجرية (زمفيرا)، وعاش حياتها وحياة قومها الريفية الحرة، ولكن الغجر نفوه من حياتهم لمـا أدركه طبع المدينة؛ فغار على زوجته الغجرية من عشيق آخر فقتلهما.. وحياة الغجر حرة لا تعرف القيود، ولا ترضى بمقنن يحد من حريتهم.. وأول عنصر في الملحمة الغناء بالريف ممثلاً في حياة الغجر؛ لأن الغجريات يقضين الليلة فوق النهر في صخب الزحمة، والخيول ترعى، والدب مستلق في دعة.. وزمفيرا جلبت إليكو من الأرض المهجورة خلف الأكمة، وأخبرت والدها الكهل بأنه مطلوب من القانون؛ ولهذا فهو يبغى أن يكون غجرياً؛ فرحبوا به ليحيا الفقر مع الحرية !!.. ولهذا يوجهه الكهل الغجري بالتالي:
(كن منا.. عود نفسك ما نحيا.. الفقر مع الحرية.
وغداً في الفجر نجول فمارس أية حرفة.
أمسك بالدب وجل معه.
غنّ للناس أغانينا.
أو فلتصهر في النهر المعدن).
ويحكي بوشكين ما صار صباحاً؛ ليصور حياة الريف فيقول:
(عم نور الأرض.. والكل يطوف حول الخيمة.. هيا يا زمفيرا.
قد أشرقت الشمس.. انهض يا ضيف.
حان الوقت.. حان الوقت .
قوما من مضجعكما.. قوما واندفع الناس.
بسلال تتدلى وحمير.
تحمل أطفالاً لاهين.
صيحات وضجيج وأغانٍ غجرية.. وصياح الدب.
ورنين سلاسله المتلاحقة.
وخليط الأسمال الرثة ذات الألوان المختلفة.
وكهول مع أطفال أشباه عراة.
ونباح كلاب ممتزج مع أصوات مزامير وصرير العربات.
أصواب ومناظر بائسة يضطرب الحشد بها.
لكن تتصف جميعاً بنشاط وقلق).
ويتبع ذلك غناء بحياة طائر في الريف لا يكترث ولا يتعب، ولا يقلق كي يبني عشاً أبدياً:
(في الليل ينام على غصن لا يرهب.. وعند شروق الشمس يصيخ السمع لصوت الله.
ينفض ريشه.. ويغني.
وربيع الدنيا ذو الثوب الأخضر يكسوها أجمل حلتها.
حتى بربيع الدنيا المبهج ينحو الطائر نحو
أرض نائية يبحث عن طقس دافئ خلف البحر الأزرق.
وكذلك الطائر هو أيضاً جوال منفي لم يعرف عشاً أبدياً يخلد له.
لم يقدر أن يعتاد على شيء.
فالدرب أمامه.
في كل مكان مفتوحة.
وبكل مكان مأوى يرتاح به ليله.
حتى يبزغ صبح فيعاود يومه).
قال أبو عبدالرحمن: صوت الله ههنا بمعنى خلق الله وملكه وهو تعبير عن حال مظاهر الطبيعة، وترجمة الشعر الخواجي لا تستطيع توصيل الصور والمجاز فنياً، وموسيقى الشعر؛ وإنما توصل المعاني، وتجعل للشاعر العربي فرصاً لإحضار الصور والمجازات بما يناسب سياق الشاعر الخواجي.. ويضع إليكو معادلة للريف مع المدينة في جوابه لزمفيرا وقد سألته عن مدى حسرته من فراق المدينة:
(ماذا تعتقدين هنالك؟.. كم أشعر بالحسرة.. لو تدرين.
المدن الخانقة.. الحرية تشنق فيها والناس هنالك محتجزون وراء سدود.
لا يسمح بتنفس نسمة صبح أو عطر شذى حلو.
يضطهدون الفكر وبالحرية.
هم يتجرون.
وأمام الأصنام رؤوسهم محنية.. يسعون إلى الأموال.
وتقيد أيديهم بسلاسل وقيود.. فرطت بماذا؟.
بقوانين الجور الغاشم.
بجموع مضطهدة.
بالخزي الناعم).
وآنيات المدينة التي هولتها زمفيرا لخص إليكو قصتها بأنها عقود بدون عطر، والرومانسيون يمجدون مباهج الطبيعة، وينفون بجمالها الفني شريعة الغاب فيها.. وبوشكين كان رومانسياً في العناصر المذكورة آنفاً؛ ليجعل منها مجالاً لتسويغ الديوثة، أو تسويغ نوع من الحرية يعكر الصفاء الرومانسي.
قال أبو عبدالرحمن: في عرائس وشياطين للعقاد مقطوعة لشاعر إنجليزي اسمه (أوكاس) يقول فيها:
(يا صاح إن الطبيعة أسعد منك في صنيعها.
فما فيها يوماً من جديد، وفيها كل يوم جمال.
تخرج من القالب ألف ألف مثال).
قال ذلك رداً على من يطالب بشعر جديد؛ فهذا نَفَس رومانسي يستلهم من جمال الطبيعة جمالاً فنياً كالجمال الشعري مثلاً.. وثمة نفس آخر يستوحي الطبيعة فكراً؛ إذ يجعلها رمزاً للواقع الآدمي الـمعاش في المدينة؛ ففي العرائس والشياطين أورد العقاد قصيدة شاعرة إنجليزية اسمها (روث بثر) لما تغنت بوسواس العشب، وتموج اللبلاب، وترقرق الماء.. إلخ: أطلقت هذا النداء للموت على نهج (فيا موت زر) لأبي العلاء:
(مرحباً بدعائك حين ينثر الورق من الشجر على ثراه.
حين يسمع للسفوح فحيح في العاصف المهتاج.
حين يشم الرعاة من الشرق رائحة الثلوج.. حين يهجر الحقل للريح تتولى حصاده.
حين يصبح الإعصار حطاب الوادي الذي يطيح بأعواده.
حين يصبح البرد بذرة الأرض التي تنثرها السماء.
حين ننفر من كل شيء ولا نتوق إلى شيء).
قال أبو عبدالرحمن: وبوشكين في هذه الملحمة يصور حياة الغجر في معرض هجاء المدينة بما يوافق فلسفة إسبينوزا اليهودي بالحيل الصهيونية قبل أن تظهر غطاءً سياسياً وعقيدةً وضعية؛ لأنه أجهد فكره من أجل العبث بالعقول؛ ليرفع عن الناس القانون؛ ليكونوا شركاء في الشهوة؛ فالغيرة الزوجية من الخدين المحرم أنانية، وقتل الخائنين خطيئة.. هكذا يقول الغجريون وهم يرحلون إليكو بعد جريمته:
(ارحل عنا.. إنا أصحاب.
طباع متوحشة.. لا قانون لنا يحكمنا.. فارحل عنا.. إنا لا نقترف القتل ولا نحتاج لسفك الدم.. إنك لم تولد لطريقتنا.
في العيش.. تبغي الحرية وحدك.. ترفض للناس الحرية.. شرير أنت..
جريء فاتركنا.. وليعف الله خطيئة حقدك).
قال أبو عبدالرحمن: وهناك ما يظن أنه تناقض فني، وهو أن هذه الحرية مشروعة عند غجر بوشكين كما مر من المقطع المذكور آنفاً، وكما في قول زمفيرا لزوجها:
(يا زوجي القاسي يا زوجي الكهل محبوبي لن تعرفه.
أنقى من وجه ربيع أخضر.
أدفأ من يوم صيفي ساخن.. كم هو حلوف وشغوف.
كم هو يعشقني؟!.
في الليل الساكن كم عانقته.. ولكم جذلت أنفسنا فتضاحكنا).
وإذن فكيف قالت بعد هذا لخدينها الغجري:
(حان الوقت لكي أرجع.
زوجي إليكو غيور..) إلخ.. إلخ؟
قال أبو عبدالرحمن: لا تناقض في الأصل؛ لأن شرع الغجرية (زمفيرا) الريفية غير شرع إليكو المدني! ولأن مقطع (يا زوجي القاسي) ليس من شعر زمفيرا، بل هو أغنية موروثة غناها الناس طويلاً.. ولأنها علمت من أبيها أن دين المدنيين على الغيرة.. قال أبوها:
(لا تقتربي مني.
فأنا أعرف ما اعتقد الناس من القدم.
وعقيدتهم روسية).
قال أبو عبدالرحمن: كانت عقيدتهم روسية أرثوذكسية قبل الثورة الشيوعية ببلاشفتها، والشعر العربي الحداثي وليد ريادات الشعر العالمي، وإذا رحب واقعنا الخيّر بحريات مباركة، فلا يعني ذلك الضياع في ضجيج الغوغائية التي لا تميز بين حريات الحقوق وحريات الديوثة. والله المستعان.
أنواع أخرى: