روسيا والغرب .. وعود خائبة .. وسهام في الظهر...
علي الأسدي
كان قيام الدولة الاشتراكية بعد ثورة أكتوبر عام 1917 في روسيا قد عزز من حركات الاستقلال الوطنية في البلدان المستعمرة ودعم نضالها لتحقيق استقلالها عن مستعمريها. ولم تتوقف عند ذلك بل قامت بدعم عملية التنمية الاقتصادية والعلمية فيها مما ساعد على انتشار الوعي السياسي والثقافي وساعدها على تقدم مجتمعاتها الى مستويات محسوسة. وقد ساعد ذلك أيضا على تأسيس عشرات الأحزاب الشيوعية والاشتراكية والديمقراطية في غالبية البلدان المستقلة حديثا وفي الدول الرأسمالية في أوربا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية.
لقد عزت الدراسات النظرية الماركسية إبان ستينيات القرن الماضي بأن التطور السياسي والاقتصادي في العالم يعيش مخاض الانتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية. ودخل ذلك الاستنتاج الثقافة الجمعية كبديهة لا تحتمل الشك ، وان مناقشة صحته أو عدمها في الحلقات والمناظرات الفكرية التي كانت تعقد حينها اعتبر ضربا من اضاعة الوقت والترف الفكري.
وما عزز من ذلك الرأي الانتفاضات والثورات الوطنية التي أطاحت بالحكومات اليمينية والتابعة للبلدان الرأسمالية في عشرات البلدان الأسيوية والأفريقية والأمريكية الجنوبية واقامة حكومات وطنية وديمقراطية صديقة للدول الاشتراكية بدلها. وقامت هذه بتصفية الاقطاع ومباشرة بناء الصناعة الوطنية ودعم اقتصادها الوطني لتحسين حياة شعوبها بنفس الوقت الذي بدأت فيه بتصفية العلاقات غير المتكافئة مع الدول الاستعمارية تعزيزا لاستقلالها الوطني.
ولم يضعف من ذلك الاستنتاج الانتكاسات التي لحقت بالكثير من حركات التحرر الوطنية خلال نفس الفترة. فقد أطيح بالحكومات الوطنية في دول الكونغو الديمقراطي عام 1961 والعراق عام 1963 واندونيسيا عام 1964 والسودان عام 1971 والتشيلي عام 1973 وجزيرة غرينادا في البحر الكاريبي عام 1983 وغيرها. وقد ألحقت تلك الانتكاسة خلال نصف القرن الماضي ضررا كبيرا بوتيرة الانتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية. ونتيجة لذلك تصاعدت الشكوك بمدى صحة النظرية القائلة بأن التطور السياسي والاقتصادي نحو الاشتراكية يبقى سمة عصرنا. ان موضوعا كهذا كان مدار مناقشات معقدة وطويلة داخل الحركة الشيوعية في الدول النامية ، وما زادها ضبابية وتعقيدا تهاوي النظام الاشتراكي في دول الاتحاد السوفييتي ومنظومته الأوربية.
لكننا نرتكب خطأ جسيما اذا ما اعتبرنا انهيار المشروع الاشتراكي في روسيا دليلا ماديا على فشل الاشتراكية كنظام بديل للرأسمالية في حين تعيش الرأسمالية العالمية أزمة عامة خانقة ، وما أن تخرج من أزمة الا وتغرق في أخرى أكثر دمارا. وبرغم مرور حوالي ربع قرن على الغاء الدولة الاشتراكية السابقة في روسيا ومحيطها الأوراسيوي لم تثبت جدارتها الاشكال الرأسمالية التي حلت كبدائل للاشتراكية هناك.
وليس للماركسيين ما يعتذرون عنه بعد انهيار المنظومة الاشتراكية ، فالطبقة العاملة في الدول الاشتراكية السابقة تدفع الثمن مضاعفا نتيجة تقييمها الخاطئ للمنجزات التي وفرتها لها الاشتراكية ، ولانبهارها بالدعاية المضللة عن الجنة الرأسمالية الموعودة. ويكفي مراجعة أرقام البطالة وتردي حياة الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية لتكوين صورة حقيقية عن الرأسمالية التي ضحوا بالاشتراكية من أجلها.
حدوث ثورة بروليتارية في بلدان الاشتراكية السابقة أو في المراكز الرأسمالية الحالية يبقى احتمالا واردا ، بنفس الوقت لا يمكننا نفي الانتقال السلمي نحو الاشتراكية في الدول الرأسمالية المتقدمة والنامية. فالحكومات التي تقود عملية الانتقال من الاشتراكية الى الرأسمالية تبذل ما تستطيع من جهود لتثبت أن الآليات الرأسمالية التي يستخدمونها لبناء الاقتصاد الرأسمالي تعمل بنجاح.
لكن رغم تلك الادعاءات فان فرص العمل التي تتيحها المشروعات الاقتصادية تبقى عاجزة عن استيعاب العاطلين عن العمل الذين تتراوح نسبتهم بين 7 - 12% قوى العمل ممن هم في سن 24- 56 عاما ، في حين ترتفع نسبة العاطلين عن العمل لمن هم دون سن 24 عاما الى 57% قوى العمل في هذه الفصيلة من السكان. وتزداد مع مرور الزمن أعداد المعدمين الذين يعيشون تحت خط الفقر وحوله. قد تتمكن الرأسمالية الصاعدة في دول الاشتراكية السابقة من رفع معدل النمو الاقتصادي وزيادة متوسط دخل الفرد ، لكنها لن تحقق أبدا التشغيل الكامل لقوى العمل.
فالتقنية المتقدمة وهو ما تعتمده الاستثمارات الجديدة في القطاعات الانتاجية سعيا لتحقيق أعلى انتاجية للعمل ومن ثم أعلى نسبة من تراكم راس المال تكون كثيفة رأس المال مقابل عدد أقل من العمل البشري. ولأن الاستثمارات الرأسمالية عالية التقنية يقررها حافز أعلى ربح وليس حافز توفير أكثر ما يمكن من فرص العمل فلا يعول كثيرا على قدرة هذا الصنف من الاستثمارات لحل مشكلة البطالة في تلك الرأسماليات.
التخطيط الصناعي لاستخدام الموارد المادية والبشرية هو وحده القادر على ايجاد التوازن بين الاستثمارات كثيفة رأس المال والاستثمارات كثيفة العمل ، فلا يمكن والحالة هذه لاقتصاد السوق الحرة السائد حاليا في تلك الاقتصاديات الوصول الى العلاقة المتوازنة بين استخدام التقنية كثيفة رأس المال والتقنية كثيفة العمل.
خلال فترة ربع القرن الماضي حينما بوشر باحلال الرأسمالية في بلدان الاشتراكية السابقة كان التفاؤل هو الشعور الوحيد الذي يفصح عنه بين الحين والآخر بعض المنظريين الاقتصاديين ، لكن هل حقا ما يزالون متفائلين ؟؟
الحياة المعيشية للشغيلة في تلك الرأسماليات النامية تزداد سوءا ، بينما تتلاشى آمال العاطلين في الحصول على عمل ولذا تشد الرحال نسبة كبيرة منهم الى دول أخرى بعد أن يئسوا من الحصول على عمل في بلدانهم الأم. من جهة أخرى يرتفع حجم الدين العام والعجز الدائم في موازين التجارة الخارجية والمدفوعات وفي الميزانيات المالية ، وهي أدلة كافية لتثبت ان نظام الاشتراكية كان أكثرجدارة وقدرة على التعامل مع هذه المشكلات.
وتحت تأثير الرضا الزائف عن المنجزات تعيش السلطات الرأسمالية في الدول الاشتراكية السابقة سعيدة بعالم لا صلة له بواقع حياة عامة الناس ، وما علينا الا الانتظار لنرى كيف سيتطور ميزان القوى الطبقية في تلك المجتمعات. فللفكر الاشتراكي هناك أرضا خصبة وللحركة العمالية فيها تاريخا حافلا بالنضالات الثورية ضد استغلال رأس المال ومن أجل تحسين ظروف العمل والحياة المعيشية.
ففي روسيا مهد الثورة الاشتراكية والتاريخ الثري للحركة العمالية لا يمكن أبدا استبعاد قيام ثورة بروليتارية فيها رغم ما يشاع عن نجاحات التطبيقات الرأسمالية ، فتطور المناخ السياسي هناك يدفع للتفاؤل لا التشاؤم. فالصراع الطبقي يميل لصالح البروليتاريا والاشتراكية هناك ، والحزب الشيوعي الروسي حقق في الانتخابات الأخيرة المركز الثاني كأقوى ثاني حزب في روسيا ، وتزداد نسبة المنتمين للحزب باستمرار.
صعود ميخائيل كورباجيف وبوريس يلتسن للسلطة عام 1985 كان الخطوة الأخيرة فكل شيئ كان جاهزا لاعلان نهاية الاشتراكية في روسيا. ومع تسلم يلتسين قيادة روسيا تكون أكبر المؤسسات الاقتصادية الروسية قد تحولت الى ملكية خاصة لثمانية عائلات فقط. (1) وهذا يفسر لنا حقيقة أن الفئات الطفيلية من موظفي الادارة الروسية كانت تحكم هيمنتها على السلطة السياسية وشريان الحياة الاقتصادية.
وبذلك تكون الأوساط الغربية قد نجحت في تحقيق هدفها الذي سعت له بكل السبل الممكنة السياسية والمالية والتجارية والاعلامية والتجسسية. انهاء الاشتراكية واعلان الرأسمالية في روسيا كان هدفا كبيرا ، لكن الهدف الأعظم هو انهاء النظام الاشتراكي برمته عالميا الذي شكلت روسيا فيه الرأس. وحق للدول الرأسمالية والرجعية العالمية أن تعبر عن نشوتها الغامرة التي انتظرتها طويلا ، لكن ما لم يطرء ببالها أبدا أن يقوم قادة الاتحاد السوفييتي ذاتهم بتصفية النظام الاشتراكي ليس في الدولة السوفييتية وحدها ، بل وفي دول شرقي أوربا الاشتراكية ايضا.
لم يكن ميخائيل كورباجيف سياسيا ماهرا ولا اقتصاديا ضليعا ، فقد تصرف بسذاجة الفلاح الروسي البسيط ما سهل على رونالد ريغن الممثل السينمائي البارع استدراجه للايقاع به ليخسر كل رصيده السياسي والشخصي ويخرج من اللعبة صفر اليدين. لقد سلم مفاتيح الدولة السوفييتية ومنظومتها الاشتراكية الى مجموعة من اللصوص دون مقابل ، متوهما أن ما قام به سيجعل منه واحدا من عظماء العالم ممن اقترنت بأسمائهم منجزات باهرة.
لكن الحلم الذي داعب مخيلة كورباجي لم يدم شهورا قبل أن يكتشف بنفسه زيف الهالة التي أحاطته بها الأوساط الغربية ، وأدرك لكن بعد فوات الأوان عمق سذاجته عندما صدق وعودا تنكر لها قادة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية لاحقا.
فما أن استلم يلتسن رئاسة روسيا حتى انفضت عن كورباتجيف عدسات التصوير واختفت من حوله الأضواء وممثلي وسائل الاعلام وتناساه قادة الدول الغربية ، بعد أن وجدوا في يلتسين دمية أكثر منه اثارة للضحك والتسلية. لكن ليلتسن صنيعا واحدا ربما سيتذكره الروس عنه وهو اختياره لفلاديمير بوتين خليفة له ليعيد لهم بعض الكرامة التي أضاعها يلتسين نفسه وكورباجيف.
وفي حوار مع ميخائيل كورباتجيف أجراه الصحفي البريطاني في صحيفة الغارديان البريطانية روبرت سيل علق في بدايته قائلا : من النادر أن يعترف السياسيون باخطائهم ، لكن كورباتجيف كان مختلفا ، فليس من المفاجئ أن يمضي في قيادة الحزب الشيوعي السوفييتي ستة أعوام يلقي بعدها نظرة الى الماضي ليحسب الأخطاء التي ارتكبها.
وخلال الحوار مع ستيل عدد كورباجيف خمسة من أخطائه ، تلك الأخطاء ليست فقط قادت الى سقوطه عشرون عاما مضت ( تم الحوار عام 2011) بل قادت الى انهاء الاتحاد السوفييتي. لقد أقيم على أنقاضه نظاما اقتصاديا مافيويا خارجا عن السيطرة انتفعت منه القلة الفاسدة من الروس ممن أصبحوا من أصحاب البلايين بينما دفع معظم الروس الى الفقر والفاقة. لقد سأله المحرر في الغارديان أن يسمي له الأشياء التي يأسف لها خلال تلك الفترة. فأجاب دون قائلا : (2)
" لقد أمضيت وقتا أطول مما يجب في تنفيذ الاصلاحات. ولم أقدم استقالتي من الحزب الشيوعي التي كنت أفكر بها . ولم أنفذ رغبتي بتشكيل حزب ديمقراطي ليقوم هو بالاصلاحات ، لأن الحزب الشيوعي كان يضع العراقيل أمام التغيير الذي كان ضروريا. ولم أقم بمنح الجمهوريات السوفييتية الخمسة عشر صلاحيات أكثر في ادارة شئونها الخاصة. وكان علي أن أعين يلتسين سفيرا في تركيا رغم دوره في مقاومة محاولة الانقلاب الفاشلة ضدي."
لكن التغيرات الفوضوية التي قام بها اثر تسلمه أمانة اللجنة المركزية للحزب عام 1985 قد أحالت حياة المواطن الروسي الى معاناة لم يتذكر الروس مثيلا لها غير أولئك الذين عايشوا القحط الذي مروا به أثناء حرب التدخل العدوانية عام 1918 - 1922، أو فترة الحرب العالمية الثانية التي تسبب بها النازيون الألمان.
مجيئ كورباجيف للسلطة بث التفاؤل في الدول الغربية ، حيث توقع المؤرخون عودة روسيا للاندماج بالغرب منهية قطيعة استمرت ألف عام من الحروب والتوترات. الاحتفالات بموت الشيوعية كانت قد استمرت في أجواء الوعود بجنة اقتصاد السوق ، فالخبراء الذين أرسلهم الغرب الى روسيا كانوا محملين بأطنان من الوعود بالخيرات ، لكن ومع مرور أكثر من ربع قرن على تلك الوعود فان حياة عامة الروس تزداد صعوبة.
فاسعار السلع الأساسية ازدادت حينها 26 ضعفا عن مستواها قبل صعود كورباجيف-يلتسن الى السلطة. وقد جرى خصخصة الشركات الاشتراكية بسرعة في سباق مع الزمن لتستقر ملكيتها في أيدي قليلة من المضاربين القداما والجدد بما فيهم عائلة بوريس يلتسين وأقربائه وأحفاده. وقد ظهرت في روسيا لأول مرة منذ انحلال الدولة السوفييتية فئة أصحاب البلايين الذين وجدوا في يلتسن دعما غير محدود. كما تمكنت فئة أصحاب الملايين من بسط هيمنتها على موجودات ما تبقى من ملكية الدولة وتسيير اقتصادها لصالحهم بغية تحقيق الارباح الخيالية.
المصدر: http://www.alnoor.se/article.asp?id=234225