في بداية عام جديد.. المتوقع والممكن

                                                                                                   م حمد بن علي المحمود

    عامنا الجديد لن يكون إلا فصلا من فصول الصراع الدامي الذي ينهض على جبال الكراهية العمياء المستعرة بين الطوائف، كما هي مستعرة بين المتنازعين على السلطة، من دون التعويل على اختلاف الشعارات التي يجري بها تزييف هذا النزاع الدموي الذي يقتات على الانتهاك الصارخ لبدهيات حقوق الإنسان

 

 

 

 

 

يتصل الزمن - كصيرورة - بشروطه وبإمكاناته في صورة تعاقب حتمي، بحيث لا يكون حاضره إلا تفصيلا على ماضيه، ولا يكون مستقبله إلا تفصيلا عن حاضره، بل ولا يكون الماضي المتحقق/ الناجز إلا تصورا على ضوء تفاصيل الوعي بالحاضر والمستقبل. ومن ثم فالمتوقع هو - فقط - ما تسمح به شروط الإمكان. وما تسمح به شروط الإمكان هو ما يخلقه المُتوقّع في وعينا، مشروطا بكل نتاج الماضي القريب والبعيد. فنحن - بواقعنا وبوعينا - لم ولن نكون إلا نتاج هذا الماضي الذي يخلق واقعنا؛ بقدرما يخلقنا واقعا، ويخلقنا واقعا؛ بقدرما نخلقه وَعْيا فينا، وهو نتاج حاضرنا، هذا الحاضر الذي هو نحن في الواقع، نحن هو حقيقة وتَوهّما.

من هنا، تصبح إحداثيات الفعل التوقّعي جزءا من شروط الممكن، أو من شروط الإمكان. نتوقع، وبقدر ما يكون توقعنا توهّما؛ يصبح واقعا، أي جزءا من الفعل الواقعي الذي يتغيا المستقبل، مشروطا بالماضي الذي صاغ مُكوّنات وعينا، بالتواقت مع صياغته لواقعنا؛ من حيث كون هذا الواقع ليس إلا حصيلته النهائية - والحتمية - التي لم يكن قادرا على الانعتاق منها ولو على سبيل الاحتمال الذهني.

ما الذي نتوقعه في هذا العام الجديد الذي هو نتاج حاضرنا وماضينا؟ سؤال تقليدي يتيه بين تفاؤل المتشائمين وتشاؤم المتفائلين، وكلٌّ يجيب بآماله وأحلامه؛ بقدر ما يجيب بمخاوفه، ومن ثم بافتراضاته التي هي نتاج هذا الخوف وذاك الأمل. ومهما كانت هذه الافترضات تبدو متجاوزة وقافزة على شروط الواقع، وعلى شروط الماضي بوصفه إمكانا واقعيا، إلا أنها (= الافتراضات المتجاوزة) لا تعدو أن تكون جزءا من إمكانات الوعي المتكون بفعل صيرورة التاريخ، التاريخ الذي تنفعل به مُكونات الوعي وتفعل فيه في آن.

عندما نُعاين الواقع العربي الراهن في صورته الظاهرة/ المباشرة، نجد أن ثمة فرقا هائلا بين ما كان عيله الواقع قبل سنتين، وبين حالته الراهنة. وطبيعي هنا أني لا أقصد المقارنة بين واقع وواقع، بل مقارنتي هي بين أحلام وطموحات كانت جزءا من واقع الأمس، وبين واقع راهن مُتعيّن ينقض، بل ويُشوّه كل معالم الصورة التي كان المتفائلون يصنعونها في (واقع الوعي) قبل سنتين، عندما كانت الآمال معقودة على موجات الغضب أن تستطيع كسر الحلقة المفرغة التي يدور بها هذا العالم العربي منذ عقود (من عقود، كما يُخادع بذلك سدنة الخطاب النهضوي، وإلا فهي منذ قرون، أي منذ السنوات الأولى لبداية تشكل الهوية في التاريخ).

في مصر، كما في تونس وسورية والعراق واليمن ولبنان والسودان، تبدو الجراح نازفة كما لم تكن من قبل. وفي غيرها لا تسير الأمور إلى الأحسن في كل الأحوال، إذ في هذه المجتمعات التي تبدو متماسكة رضوض وكدمات واحتقانات قد لا تنزّ دما، ولكنها تُنذر بالأسوأ فالأسوأ. وهو ما يشي بأن الزمن العربي - على اختلاف كبير فيما بينه، فهو ليس زمن واحدا على كل المستويات - بات يسير إلى إلى الوراء، أي إلى حيث تصوّر المتشائمين وواقع المُحبطين.

لهذا، ومن حيث كون العام الجديد ليس إلا الفصل التالي للعام الحالي، لن يرتفع سقف توقعاتنا بما يتجاوز قاع ما نحن عليه. فعامنا الحالي كان هو الأسوأ في مسيرة التغيير العربي التي كانت تَعِد - وعودا جازمة - بالأحسن، وتؤكد أنها بداية الخروج من النفق المظلم الذي لم يكن ثمة ضوء في آخره على الإطلاق.

لقد فتحت موجة الاحتجاجات الغاضبة العيون على بصيص نور في آخر النفق. كثيرون اعتقدوا أنه كان نورا حقيقيا، بينما اعتقد غيرهم أنه ليس أكثر من نور متوهم صنعه التوق إلى الانعتاق بعد يأس امتد لقرون من الإحباط التاريخي المتواصل. وهنا تمايز دعاة الوهم المتفائلين عن دعاة الواقع المتشائمين؛ مع الاتفاق على توصيف بؤس الواقع الذي يرزح تحته هؤلاء وهؤلاء.

جزء من الاحباط يتعلق بحجم الأمل. بقدر التحليق في سماء الوهم ستكون حِدّة الارتطام بالواقع. وسينتج عن هذا الارتطام الحاد محاولة تصدير الأزمة إلى خارج الذات، الفرد يُصدّرها إلى الفرد الآخر، والجماعة إلى الجماعة الأخرى، والدولة إلى الدولة الأخرى، أو إلى دُول أخرى يُفترض أنها تقود مؤامرة عالمية، وعلى من؟ على متميزين في فشلهم، وعلى واقع فاشل من أقصاه إلى أقصاه!

قبل موجة الاحتجاجات الغاضبة كان هناك إجماع عربي (إجماع جماهيري) على أن انحطاط الواقع وصل إلى القاع، وعلى أن الأنظمة السياسية هي المسؤول الأول والأخير عن هذا الانحطاط، أي اختصار المسؤولية، من غير أن يتحمّل التاريخ ونظام الوعي أي جزء من المسؤولية عن هذا الواقع، وكأن الأنظمة بأشخاصها وبثقافتها السياسية وبتصوراتها الاجتماعية آتية من الفراغ (وهنا الإحالة الدائمة على مسؤولية الاستعمار حتى بعد رحيل الاستعمار).

قاد هذا الإجماع إلى اختصار كل عناصر الأزمة الحضارية إلى عنصر واحد، عنصر واحد هو سبب الداء في هذا الادعاء، ومن ثم فمن خلاله - وحده؛ دون غيره - سيكون الدواء. بل لقد تصور هذا الإجماع، أو الجزء الغالب منه، أن الأزمة أبسط من أن تُختصر في النظام السياسي، فاختصرت - جرّاء ذلك - في فرد أو في عدد محدود من أفراد النظام. وهنا اقتنع الغاضبون (الثائرون بلا ثورة) أن اقتلاع هؤلاء، بل والانتقام منهم، كفيل بتحقيق كل الطموحات التي اشتعل بها الوجدان العربي منذ أكثر من مئة عام!

في مصر وتونس تحديدا، تحقق ما كان يظنه الغاضبون نهاية مرحلة البؤس. سقط رأس النظام، وبدا الواقع مفتوحا على إمكانية تحقيق كل ما راود الوعي الجماهيري الغاضب من أحلام، خاصة وأن العملية في البداية تمت بأقل قدر من الخسائر المادية والإنسانية، ما يشي بأن الأثمان لن تكون باهضة في الخطوات التالية، وهي الخطوات التي كانت الجماهير تتخيلها أقل كُلفة بكثير من عملية إسقاط النظام، أو - على نحو أدق - من عملية إسقاط رأس النظام.

أول صور الارتطام الأليم بالواقع كان هو الفراغ السياسي التالي، أي إفلاس البدائل السياسية إلى درجة عدم قدرتها على التوافق ولو على الحدود الدنيا الضرورية لممارسة العمل السياسي المدني، خاصة وأنها كانت تنشط في ظرف تتهددها فيه جماعات التطرف، بل وأحيانا جماعات الإرهاب. ولا شك أن هذا الارتباك والحيرة، فضلا عن التنازع والتآمر، كان من مؤشرات الإحباط الأولى. غير أن الجماهير لم تصدق، ولم تكن تريد أن تصدق، حقيقة كانت ماثلة للعيان، وهي أنها دخلت في مرحلة أزمات خانقة قد تقودها من (السيىء) إلى (الأسوأ)؛ لأن تصديقها لهذه الحقيقة يعني فقدانها الكامل للبوصلة التي تربطها بالمستقبل. ولهذا كان عليها الاستمرار؛ لأنها لا تمتلك غيره - أي بلغة: العدو أمامك والبحر وراءك، ومن ثم لا خيار.

في سورية، حيث أشد الأنظمة قمعا على مستوى العالم، كان هناك إقدام على المستحيل، إقدام على الجحيم. ولكن كان الشعور السائد يؤكد لنفسه - حقيقة أو خداعا للذات - أن كل ما في المستقبل من جحيم لن يكون بمستوى جحيم الصبر على مثل هذا النظام. وهنا بدأت العمليات مراهنة على ما هو خارج المنطق السياسي، أي إنه كان رهانا غير واقعي على القيمي والأخلاقي إقليميا وعالميا؛ فكان أن تصاعد الصراع واتسع وتشعب وتعقّد، إلى درجة لم يتوقعها أولئك الذين صنعوا واقع الصراع السوري من الداخل أو الخارج، حيث الحرب الأهلية الراهنة لا تلتهم الأحلام والطموحات السابقة فحسب، وإنما تلتهم الواقع أيضا.

وإذا كانت السنة ما قبل الماضية (= 2012م) قد شهدت صعود نجم الأصوليات سياسيا، وتربعها على هرم السطة في مصر خاصة، فإن السنة الماضية (= 2013م) قد شهدت سقوط هذا النجم الصاعد ممثلا بسقوط/ إسقاط الإخوان، بعد فشل سياسي سريع، لم يتوقعه حتى أكثر المتشائمين من العقل السياسي للإخوان.

وإذا كان سقوط الإخوان في مصر مدويا وحادا، حتى في تفاصيله اللاحقه، فإن اختناقاتهم السياسية في تونس تؤكد أن السنة الماضية كانت هي السنة التي خرجت فيها نتيجة الاختبار الأولي لمقولات الإسلام السياسي، وفيها كانت علامة (صفر) لهم تملأ فضاء الوعي الجماهيري الذي طالما عوّل على شعارات جوفاء تنضح بالمقدس الديني، مثلما كان من قبل يُعوّل على الشعارات القومية التي تنضح بالمقدس القومي، فانتهى هؤلاء وهؤلاء - جرّاء تجاوز الشرط المدني/ الإنساني، المحايد في هويته سياسيا - إلى الإفلاس.

لكن، وكما شهد العام الماضي سقوط/ إسقاط الإخوان، وافتضاح مشروعهم الطوباوي، شهد في الوقت نفسه إفلاس البدائل التي تقدمت لتملأ الفراغ الذي خلفه انهيار المشروع الإخواني. فإذا كانت التجربة الواقعية حكمت على الإخوان - أفكارا وأشخاصا - بالفشل، فإنها حكمت على البديل بما هو أسوأ من الفشل، وتحديدا فيما يرتبط بالتعاطي القضائي والأمني مع حقوق الإنسان.

إذن، بالنظر إلى الصورة في متوالياتها الزمنية، نجد أن ما قبل الإخوان كان سيئا، وأثبت الإخوان أنهم أسوأ من هذا السيىء، كما أثبت من بعدهم أنهم أسوأ من هذا الأسوأ الإخواني! يحدث هذا في متتالية زمنية يبدو أنها من خصائص الزمن العربي، وكأن اللاحق لا يأتي إلا بما هو أسوأ من السابق. أي كأن ما يحدث واقعيا مؤيد للنظرة السلفية التي تُقيّم الزمن بناء على قربه أو بعده من (العصر الذهبي) في الماضي، أو هو (= ما يحدث) مشدود - على مستوى الفعل اللاواعي - إليها (= النظرة التقليدية)، فينتجها في الواقع على كافة المستويات.

وكما شهدت السنة الماضية سقوط الإخوان، وسقوط بالبدائل أيضا، شهدت التحوّل الأسوأ في الواقع السوري، إذ ظهرت المفاصلة الطائفية بألوانها الفاقعة كما لم تحدث من قبل. صحيح أن الاصطفاف الطائفي في الصراع كان واضحا منذ البدايات الأولى للمواجهات السورية الداخلية، وخاصة بعد العسكرة التامة للمواجهة، وهي العسكرة التي أدت إلى تحوّل الصراع السوري إلى صراع إقليمي ودولي مكشوف، بحيث لم تعد مسائل الديمقراطية وحقوق الإنسان هي مبررات المواجهة، حتى عند أولئك الذين كانوا يصدرون عنها في بداية المواجهة، والذين لم يكن الاصطفاف الطائفي من أولوياتهم، بل لم يكن هذا الاصطفاف لدى كثير منهم على قائمة الأجندة السياسية التي لم تكن تستهدف إلا الطغيان ممثلا في ديكتاتورية النظام.

ومما يزيد في ركام سحب التشاؤم لهذا العام الجديد أن هذا الواقع السوري المتفجر طائفية أجج الصراع الطائفي - بأكثر مما كان من قبل - في كل من العراق ولبنان. وهنا أصبحت المنطقة بأسرها تتفاعل وتتصارع على مفاعيل طائفية تتصاعد وتيرتها باستمرار. وحتى من يقع خارج نطاق الصراع الطائفي المسلح يقع في قبضته على مستوى التفاعل الوجداني والثقافي، فضلا عن الإسهام اللوجستي الذي يجعل من الجميع شركاء في هذا الواقع بلا استثناء.

هنا نجد أن المشهد السياسي والاجتماعي لهذا العام مفتوح - للأسف - على الأسوأ في معظم أقطار هذا العالم العربي الذي كان قبل عامين يحلم بالأجمل والأفضل. ويزداد الأمر سوءا حين نُضيف إلى هذا الاصطفاف الطائفي - الذي بات واضحا في العراق وسورية ولبنان واليمن والبحرين - توغل النفوذ الإيراني الذي بات رقما صعبا في معادلات القوة داخل الأقطار العربية المأزومة. فإذا أضفنا إلى ذلك التوافق الغربي الإيراني الذي يمنح قوة إضافية للنفوذ الإيراني، في مقابل ظهور بعض التصدعات في وحدة الصف الخليجي، اتضح لنا إلى أي مدى ستكون الصورة في هذا العام أكثر قتامة مما يظن كثير من المتفائلين.

من الضروري رؤية المشهد كما هو عليه فعلا، وليس كما نتمنى أن يكون عليه. فإذا أردنا أن نرى المشهد كما نتوقعه في هذا العام (= 2014م) فما علينا إلا أن نحدد على ماذا نُراهن؟ وهنا لا شيء يدعو إلى الأمل بما هو أفضل، لا في سورية ولا في العراق ولا في مصر ولا في اليمن. ربما يكون الوضع أفضل - نسبيا - في تونس. لكن محيطنا الأكثر تأثيرا فينا، والمتمثل في دول المشرق العربي، بالإضافة إلى مصر، لن يكون - في تقديري - هذه السنة أفضل منه في السنة الماضية. ولا أريد أن أكون متشائما - رغم كل المؤشرات التي تدعم وجهات النظر التشاؤمية - فأرجّح أن عامنا الجديد لن يكون إلا فصلا من فصول الصراع الدامي الذي ينهض على جبال الكراهية العمياء المستعرة بين الطوائف، كما هي مستعرة بين المتنازعين على السلطة، من دون التعويل على اختلاف الشعارات التي يجري بها تزييف هذا النزاع الدموي الذي يقتات على الانتهاك الصارخ لبدهيات حقوق الإنسان.

 المصدر: http://www.alriyadh.com/2014/01/02/article897507.html    

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك