نقاش حول التحرر من أدوات التحكم الإعلامي

 

الكاتب: 

قبل فترة بسيطة من الإعلان عن مقتل أسامة بن لادن كنت أسأل نفسي: “ما الذي ستفعله أميركا عام 2011 لشنِّ حروب جديدة؟”. كنت أسأل نفسي هذا السؤال لوجود ما يشبه “تغيير المسار” في الحروب الأميركية حول العالم كل 10 سنوات؛ ففي عام 2001 حصلت هجمات الحادي عشر من سبتمبر الوحشية التي لا تزال لغزاً (وأعلن جورج بوش حينها أن “الحرب العالمية على الإرهاب” قد تستمر لـ10 سنوات) فأعطت المبرر لعشر سنوات من الاحتلال والقصف والاغتيال والتجسس الأميركي على أفغانستان وباكستان والعراق والصومال واليمن وسوريا ولبنان وغيرها؛ و أيضاً قبل ذلك بعشر سنوات في 1991 قادت أميركا حرب الخليج الثانية على العراق بعد دخول صدام حسين الكويت دخولاً وحشياً لا يزال لغزاً فأعطى أميركا المبرر لاقتحام الخليج العربي بشكل غير مسبوق ولتعزيز تواجدها عند منابع النفط وإحكام الحصار الإجرامي على العراق، وأتاحت هذه الحرب لأميركا دخول عهد جديد من التفرد شبه المطلق بالساحة الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.   وقبل حرب ١٩٩١ بعشر سنوات أيضاً؛ أي في عام 1981 أعلنت الإدارة الأميركية “الحرب على الإرهاب”! بقيادة رونالد ريغان والتي أتاحت لأميركا التدخل العسكري في أميركا اللاتينية وممارسة إرهاب منظم على عدة دول لاتينية وتدمير البُنى التحتية لها وقتل الآلاف من الأبرياء هناك (ونيكاراغوا خير مثال). وتلك كانت أول “حرب دولية على الإرهاب” وهي حرب نسيها أغلب العرب والمسلمين، ونسوا أن قادتها هم نفس قادة الحرب الدولية الثانية على “الإرهاب” والتي شنت بعد 20 عام علينا نحن.

أنا لست مؤمناً بنظرية المؤامرة، وأستعجب من الذين يقضون الساعات الطوال في تحليلات غير موضوعية لحركات سرية هنا وهناك ولرموز خفية وأسرار مطمورة في كتب بعيدة كل البعد عن الطرح العلمي. ولكن عدم إيماني بنظرية المؤامرة لا يتناقض مع إيماني بأن القوى الاستعمارية لا تستطيع أن تعيش دون حروب متجددة و دون تشغيل مستمر لمصانع السلاح ودون أن تتحكم أكثر و أكثر في موارد العالم. لا تناقض بين عدم إيماني بنظرية المؤامرة وبين إيماني بأن هناك العديد من المؤامرات التي تُحاك في السياسة. الدول الاستعمارية – وعلى رأسها أميركا – هي دول تخطط لسياساتها بشكل مدروس، فما المانع أن تكون هناك أيضا خطة عشرية للحروب يتم بها إقناع المواطن الأميركي للدخول في دوامة جديدة من الحروب المربحة كل 10 أعوام؟

لم أر الإعلان عن مقتل ابن لادن إلا كمحاولة لوضع فاصل نفسي في العقلية الأميركية والعالمية لبدء مرحلة حروب جديدة، في تجهيز للحروب القادمة. مجرد رسالة للعقل الباطن الأميركي بأن مرحلة ما انتهت وذلك كي يتجهز للصدمة القادمة والتي ستوفر المبرر لدخول مرحلة جديدة من الحروب.

وإدخال عنصر الصدمة هذا ليس من اختراعي أو مجرد ملاحظة شخصية، بل هو ما رصده عدد من الباحثين والأكاديميين، وقد كُتبتْ عنه العديد من المقالات والأدبيات لعل من أفضلها كتاب “عقيدة الصدمة” للكاتبة الكندية نعومي كلاين التي فصلت فيه كيف تقوم الرأسمالية الأميركية باستغلال الصدمات النفسية (مثل 11 سبتمبر ومثل كارثة إعصار كاترينا) لترويج المزيد من البضائع وتحقيق المزيد من المكاسب، وقد كان كتاباً متقناً وفيه تفاصيل مهمة عن “عقيدة الصدمة”.

ماذا سنرى في الفترة القادمة إذن؟

لا أحد يستطيع الجزم، ولكن ربما نرى على سبيل المثال عملاً إرهابياً كبيراً ضد أميركا، ومن ثم تعلن الولايات المتحدة (دون تقديم أدلة قاطعة) بأن تنظيم القاعدة وراء العملية و لكن مع حلفاء جدد له هذه المرة، قد يتهموا إيران مثلاً أو حركات مقاومة إسرائيل في فلسطين ولبنان أو غيرهم؛ كي تبدأ معارك جديدة تمكنهم من الدخول في حرب للسيطرة الشاملة على كل منابع النفط على ضفتي الخليج، أو ربما حرب تيسر لهم الوصول إلى عمق الصراع على فلسطين والمحاربة إلى جانب إسرائيل بشكل مباشر، أو ربما سيأخذ الأميركي فترة “راحة” تشهد تدخلات عسكرية صغيرة نسبياً مثل تلك التي شهدناها في العشر سنوات التي تلت حرب الكويت (عندما تركزت العمليات العسكرية الأميركية فيها على عمليات صغيرة نسبياً على الصومال وهايتي والبوسنة وصربيا وأفغانستان والسودان وتيمور الشرقية) ثم تتلوها عشر سنين أخرى من التدخلات العسكرية الكبيرة.

هذه مجرد تخمينات، لا أستطيع أن أجزم، ولكني فقط أحاول تحليل السلوك الاستعماري، لأن إعراض البعض عن مجرد المحاولة مؤسف، وذلك رغم أننا تعرضنا لعقود من الدروس القاسية، وكان العقد المنصرم (2001-2011) حاسماً في تعليمنا، و لكن يبدو أن الكثير منا لم يعِ الدرس بعد، بل ما يزال البعض يقف مستنكراً لهذه التوقعات لأنها “خيالية” موغلة في الخيال، و لكن ألم تكن التغيرات الكبرى التي شهدناها بعد 1991 و بعد 2001 أيضاً محض خيال قبل وقوعهما؟

ردة فعل الكثير منا على مثل هذه التخمينات تكون النفي الشديد والقول بأنه من المستحيل أن تستطيع أميركا تبرير مثل هذه الحروب أو إيجاد دعم لها، وأن الشعوب لن ترحمها، ناسين الحروب الكثيرة التي خاضتها أميركا في العالم الإسلامي وفي أميركا اللاتينية وفي أفريقيا دون مبرر واضح ولكن وسط تأييد شعبي أميركي عارم أو جهل عام. لماذا نسينا أن الآلة الدعائية للاستعمار قوية وفعالة جداً؟ لماذا نسينا أن الإمبريالية تقود حملات تسويق وعلاقات عامة كبرى استطاعت أن تقنع 85% من الشعب الأميركي بأن صدام حسين يملك أسلحة دمار شامل غير موجودة أصلاً، و 70% منهم بأن صدام متورط في هجمات 11 سبتمبر؟ و كذلك الحرب الأميركية على غواتيمالا عام 1954 مثلاً – والتي أسقطت الحكومة الغواتيمالية المنتخبة ديمقراطيا – تمت بواسطة الدعاية المكثفة بقيادة إدوارد برنايز الأب الروحي لعلم العلاقات العامة و أحد أهم رواده الأوائل، والذي يعتبر من أوائل الأشخاص الذين تلاعبوا بالرأي العام عبر التأثير على العقل الباطن.

في العراق قدمت أميركا لنا أفلاماً و صوراً من الفضاء لشاحنات، بالإضافة لتسجيل صوتي ما، وزعمت أن هذا دليل قاطع على امتلاك صدام حسين لأسلحة الدمار الشامل، والكثيرين صدقوا و لو جزئياً، رغم أن الصور قد تكون التقطت في أي مكان في العالم وليس بالضرورة في العراق، والتسجيل الصوتي يمكن تزيفه بإمكانيات بسيطة فما بالك بإمكانيات دولة هوليود؟

وها هي الكذبة الكبيرة تتكشف يوماً بعد يوم، وبعد سقوط ملايين الشهداء والجرحى والأسرى هل قامت الشعوب بمعاقبة أميركا على الكذبة وتوابعها؟ ما هي ردة الفعل العقابية على قيام أميركا مثلاً بسجن الآلاف في أفغانستان والعراق وغوانتنامو والسجون السرية؟ ما هي ردة الفعل العقابية على حالات التعذيب والإعدام والسرقة التي تم توثيقها؟ ما هي ردة الفعل العقابية على الغارات الأميركية على باكستان والتي صار عدد ضحاياها أكبر من عدد ضحايا محرقة غزة؟

الشيء نفسه يطرح إذا ما تناولنا مقتل أسامة بن لادن؛ الكثيرون – وأنا منهم – لم يصدقوا و لا للحظة الرواية الرسمية الأمريكية بشأن 11 سبتمبر فكيف يطلب مني أن أصدق رواية قتل ابن لادن وإلقاء جثته في البحر “وفق التقاليد الإسلامية”؟

يستكثر البعض علينا التشكيك في 11 سبتمبر، رغم وجود مشككين في كل مكان في العالم، حتى نعوم تشومسكي أحد أهم الأكاديميين في المائة عام الماضية على الإطلاق قال بأنه لا يوجد أي دليل قاطع على تورط القاعدة في الهجمات، و استند على كلام رئيس الـ FBI حين صرح بعد إجراء التحقيق بأنه لا دليل كافٍ لإدانة أي أحد في أفغانستان. في أميركا نشأت مجموعات للمطالبة بمعرفة حقيقة ما جرى في 11 سبتمبر منها مجموعة من 1500 مهندس ومعماري يجزموا بأن انهيار مباني مركز التجارة العالمي الثلاثة – وليس الاثنين فقط كما هو شائع – غير ممكن فيزيائياً بهذا الشكل إلا بواسطة عملية تفجير منظمة ومؤقتة.

لماذا يستكثر علينا التشكيك في ما تقوله القوى الاستعمارية وقد صدرت وثائق أميركية رسمية حول عملية “نورث وودز” والتي كانت مصممة في الستينات لشن هجمات أميركية على أميركا بعدة وسائل – منها خطف طائرات مدنية – ثم إلقاء اللوم على كوبا كي تتمكن أميركا من غزو كوبا؟

مطلوب منا أن نصدق الرواية الرسمية الأميركية رغم عقود من الدروس القاسية التي تعلمنا فيها أن لا نثق أبداً في ما يقوله المستبد ولا ما يقوله المحتل، مطلوب منا أن نصدق الرواية الرسمية الأميركية فقط لأن أميركا قالتها، وفقط لوجود أدلة غير قاطعة وأن نصدق تسجيلات لا تشكل دليلاً قاطعاً في أي محكمة أميركية، ونسينا أن الأصل في التعامل مع العدو هو الشك وإساءة الظن.

ليس مطلوباً منك بالضرورة أن تكذب الرواية الأميركية إن لم تكن قادراً على ذلك، ولكن من المطلوب منك أن لا تصدقها حين تقدم لك دون أدلة.

وهكذا انجرف العالم كله خلف الرواية الأميركية، وارتعدت فرائص قادة العالم الإسلامي بعد 11 سبتمبر وأخذوا يقدمون كل الأدلة على إنهم ضد الإرهاب دون أن يتهمهم أحد من الأصل، وخضعوا للضغط الأميركي الهائل، وما هي إلا 3 أسابيع فقط لا غير حتى كانت الحملة العسكرية المنظمة على أفغانستان قد بدأت – بدعم عدة حكومات عربية و إسلامية – ولم تنته حتى الآن، وما زال الشعب الأفغاني والباكستاني يدفعان ثمن هذه الحرب المجنونة دون سبب واضح (كل الغارات الأميركية على باكستان غير قانونية، ولكن من يهتم؟).

كم هو محزن أن نتحرك نحن و العالم بأسره كقطيع من الماشية بعد كل “خبر عاجل” يبثه المحتل (أو المستبد) على وسائل الإعلام! يجب أن لا نسمح بأن نكون أمة يُراح بها ويُجاء بسبب خبر زعم المستعمر صحته. فقد أعلن الاحتلال بأنه قتل ابن لادن فهاجت الدنيا وماجت، واصطدمت التيارات الفكرية في العالم الإسلامي ببعضها ووصلت حتى للشجار باليد دون أن نرى أي دليل على صحة الرواية أصلاً! اكتفى المحتل بإصدار الخبر وقمنا نحن بالبقية.

وجاء الإعلان عن إلقاء الجثة في البحر، فدخلنا في جدال جديد حول هذا الإلقاء: هل هو إهانة أم لا؟ لماذا ندخل في هذه المتاهات والنقاشات ونحن أصلاً لم نرَ دليلاً على صحة زعم الاحتلال؟ لا تنسوا أنهم عرضوا جثتي عدي وقصي صدام حسين في خيمة خاصة كي يتأكد الناس من مقتلهما، فقدموا الدليل للناس كي يشاهدوه، فأين الدليل على مقتل ابن لادن؟

ثم تأتيك الأسئلة الأخرى: هل ابن لادن إرهابي؟ هل ابن لادن عميل أمريكي؟

لا أعلم، ولا مشكلة عندي في أن لا أعلم. وإضافة إلى أنه ليس ضرورياً علي أن أعلم، أيضاً ليس ضرورياً علي أن أهتم، هذه ليست قضية، نحن لدينا قضايا حقيقية وثورات قائمة ولدينا أفغانستان منتهكة، يقوم فيها جنود الاحتلال والعملاء بقتل الأبرياء وأسرهم والتصوير مع جثثهم تحت اسم تحرير أفغانستان، هذا هو المهم: أن نتصدى للمخاطر الحقيقية التي تحدق بنا، لا أن ننغمس في حوارات طويلة حول قضايا فرعية.

العصر الأمريكي يقترب من الانتهاء و لابد أن ينتهي. ومع الثورات العربية يصبح الأمل أقوى بأن تحقق هذه الأمة نصرها الكبير، وكي يحصل هذا لابد أن نفهم حقيقة الإمبريالية وتاريخها بشكل أعمق ونقاومها في كل مكان، وأن نحول كل مكان نذهب إليه إلى خلية مقاومة ضد الإمبريالية والصهيونية.

لنلتفت للقضايا الكبرى إذن ولنثقف أنفسنا فيها و ننشر الوعي بها ولنوحد الجهود في سبيلها.

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك