نقد التجربة الإصلاحية: الإصلاح، نقد المفاهيم والأفكار
مفهوم الإصلاح في مأزق
على مستوى العالم العربي، تواجه أغلب المصطلحات الحديثة حالة من الغموض القاموسي والفكري تساعد في عشوائية الاختلاف في المفاهيم. مصطلح “الحداثة” نفسه ما يزال الأصل القاموسي الذي أوخذ منه غير محدد، وغالبًا يفهم من أصلين مختلفين، فالبعض يفهمها من المصطلح الأجنبي modernism بمعنى الحداثة التي تشير إلى القطيعة مع الماضي الذي ظهر في منتصف القرن 19، وبعض آخر يقصد به المصطلح الأجنبي modernity الذي ظهر منذ عصر التنوير، وتعني التحديث دون قطيعة مع الماضي، كالتوجه لإقامة الدولة الوطنية الحديثة التي تنشئ الوزارات والمدارس والمستشفيات والشؤون البلدية وفقاً للنمط الحديث.
ومشابه لذلك، دخلنا مرحلة “الإصلاح” في السعودية ونحن بعيدون عن الاتفاق حول أصله اللغوي ومفهومه. ما المفاهيم الإصلاحية وما أفكارها؟ هل هناك خطابات إصلاحية واضحة المعالم؟ هل هناك مشاريع فكرية إصلاحية؟ من يطلقها؟ وهل ثمة رؤية واضحة للإصلاح، أم هي اجتهادات عملية وإجرائية، ودحرجة الحالة إلى الأمام كيفما اتفق؟ الإجابة عن مفهوم الإصلاح يمكن توزيعها على ثلاثة مستويات؛ منظور النظام للإصلاح، ومنظور الرأي العام، وأخيرًا منظور النخبة من الناشطين والمثقفين والإعلاميين. ويحدث تفاعل بين المستويات الثلاثة لمفهوم الإصلاح حيث تؤثر في بعضها البعض. فالنظام صاحب القرار قد تبنى الفكرة الإصلاحية وهو يتأثر بالمجتمع الذي له استحقاقات محلية وإقليمية وعالمية، وكلاهما (النظام والمجتمع) يتأثران بأفكار النخبة عبر نفوذها الفكري والإعلامي والحركي.
على مستوى النخبة يكتنف مفهوم الإصلاح غموض غير صحي (تشتت وتناقض) بين التيارات المختلفة. ثمة اختلاف قطبي بين المفهوم السلفي للإصلاح وهو قد يكون عبر الاستنجاد بالماضي، والرجوع للنمط القديم وإزالة ما تراكم في الواقع من محدثات ومستجدات، وبين المفهوم الحديث للإصلاح وهو التجديد والتحديث ونفض غبار الماضي. فالسلفي قد يرى أن المفهوم الحديث للإصلاح هو إفساد لأنه يبتعد عن عقيدة السلف، في حين يرى الحداثي أن المفهوم السلفي للإصلاح هو تخلف أسوأ من الوضع الراهن، وما بينهما تقع محاولات للتوفيق أو للميل بهذا الاتجاه أو ذاك حسب نوع المشروع الإصلاحي (اقتصادي، سياسي، اجتماعي، تعليمي…)
حتى داخل المفهوم الحديث للإصلاح تلتبس مفاهيم ودلالات مصطلحات حديثة أخرى كالتغيير والتطوير دون إتباع الخطوات المنهجية في رسم الحدود الوصفية والتطور الدلالي للمصطلح التي تتخلص من شوائب إنشائية التعبير وازدواجية المعنى بين اللغوي والاصطلاحي، بين العامي والنخبوي والرسمي. فالتغيير (change) قد يشير إلى تبدل جذري (ثوري) في البنية الاجتماعية والاقتصادية، في حين التطوير (development) يشير إلى عملية النمو الطبيعي الصحي لمؤسسات الدولة والمجتمع، أما الإصلاح (reform) فهو يسعى إلى معالجة الأخطاء الكبيرة وتغيير في المؤسسات دون تغيير أسس النظام. ورغم أن دوائر التطوير والإصلاح والتغيير تتداخل فيما بينها دلاليًّا إلا أن لكل منها أفقه المفهومي الخاص.
ففي بيانات الإصلاحيين تجد أن بعضها إصلاحي، مثل “خطاب الرؤية” الذي أصدره مجموعة من الليبراليين والإسلاميين واليساريين والقوميين عام 2003 وباركه الملك عبد الله حين كان وليا للعهد؛ وبعضها تغييري كبيان “الملكية الدستورية” من مجموعة من الإسلاميين العصرانيين والقوميين في نفس ذلك العام؛ وأخرى محافظة كبيانات من يطلق عليهم مشايخ الصحوة. وهناك نوع آخر من البيانات الذي يمثل في المطالب الوقتية التطويرية. وإدراج كل هذه البيانات باعتبارها “إصلاحية” لا يتوافق مع مفهوم الإصلاح، رغم ما لهذه الكلمة من سطوة معنوية وتأثير عاطفي!
وإذا كانت غالبية النخبة يلتبس لديها مفهوم الإصلاح، فمن المتوقع أن يكون اللبس أكثر اختلاطًا وعشوائية لدى الرأي العام. فمفهوم الإصلاح له دلالات متشتتة داخل المجتمع لعل أكثر ما يظهر منها هو التصور بأن الإصلاح يوحي بفساد الوضع الراهن وضرورة تغييره بالمجمل، فالإصلاح هنا “تغيير”. أو على النقيض قد تحمل دلالة إنشائية جمالية تعنى تلميع القرارات الصادرة من النظام، فالإصلاح هنا “دعاية” أو ربما “تطوير”. لذا فإن النظام حاول أن لا يكثر من مصطلح “الإصلاح” درءًا للمعنى الأول وتحاشيا لسوء الفهم.
و كان النظام أكثر وضوحًا وتحديدًا من النخبة في تصوره لمفهوم “الإصلاح” بأنه حالة تطوير، واقتصرت الخطابات الرسمية للدولة على مفردة “تطوير”، كما يصدر من مشاريع الدولة، مثل مشروع الملك عبد الله لتطوير التعليم، مشروع الملك عبد الله لتطوير القضاء، رغم أن بعض البيانات شبه الرسمية تستخدم أحيانا مصطلح “الإصلاح” في التعبير عن هذه المشاريع، ومع أن الكتابة الرسمية في الإعلام كثيرًا ما تعد مشروع الإصلاح هو مشروع خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله. لكن المراقب المحايد في تحديد دلالة المصطلحات يمكنه أن يتفق مع الخطاب الرسمي بأنها مشاريع “تطوير”. وعموما، يمكن ملاحظة أن قاموس الدولة أكثر ضبطًا للمصطلحات والمفاهيم في العملية التي نسميها إصلاحية: “تطوير” بدلا من “إصلاح”، “شورى” بدلا من “ديمقراطية”، مؤسسات المجتمع “الأهلى” بدلا من “المدني”، “أنظمة” بدلا من “قوانين”..إلخ. هذا الضبط مهم جدا على مستوى الأفكار والمفاهيم، لأنه يحدد فعلاً دلالات مشاريع “الإصلاح” التي تقيمها الدولة، وينبغي تقييمها وفقًا لهذه الدلالات.
الأفكار والمفاهيم الإصلاحية
إذا كان مفهوم الإصلاح يعاني من غموض فمن المتوقع أن تمتد الحالة إلى المفاهيم الإصلاحية وتتسع كلما تقدمنا في فروع المفاهيم، مثل الوضع الذي تنحرف بها الطائرة وقت إقلاعها عن جهة الوصول، ليزيد الانحراف مع قطع المسافة. فالافتقار للأرضية الفكرية التي ينطلق منها مفهوم الإصلاح سيؤدي إلى أزمة مفاهيم وصراع أفكار، وتدور العملية الإصلاحية في تيه من الأنشطة المتفرقة وحالة من التجريب والخطأ (trail and error)، لا تجد إطارًا يجمعها ولا يوجهها، وفي دورانها هذا قد تصل إلى حالات من التصادم بين التيارات الفكرية التي تتبنى “مشروع” الإصلاح، وقد تتقدم إلى الأمام بمشاريع متطورة.
ثمة اختلاف واسع على بناء القاعدة الفكرية والفلسفية لمفاهيم الإصلاح: حقوق الإنسان، الديمقراطية، المشاركة الشعبية، الانتخابات، المواطنة، فصل السلطات، استقلالية القضاء، الحريات العامة والخاصة، المساواة، تمكين المرأة، الشفافية، الدولة المدنية، مؤسسات المجتمع المدني، التعددية، مكافحة الفساد..إلخ. في الأساس كل واحدة من تلك المبادئ أو المفاهيم قلما يُناقَش حول بنائها الفكري والإجابة عن أسئلتها الكبرى: ما الفكرة؟ ما فلسفتها وأخلاقياتها وأهدافها؟ ما ضوابطها والثابت والمتغير فيها؟ ينتقل الخلاف بعد ذلك إلى الإطار الواقعي للفكرة، فنجد غموض الرؤية للواقع والمستقبل: ما الوضع الراهن، ما أهم سلبياته وإيجابياته؟ ما التحديات والمعوقات وما الفرص والإمكانات؟ ما الأهداف المطلوب الوصول إليها؟ وما الطريقة المثلى لتنفيذ هذه الأهداف أو للانتقال إلى وضع أفضل وما الوسائل المناسبة لذلك؟ إلى أن يصل الحال إلى جهل في الطرق المناسبة لتنفيذ الفكرة.
فالغموض الحاصل في المفاهيم وما يتخلله من فراغات في مبادئ الفكرة وفلسفتها انتقل إلى الإطار النظري للتنفيذ ثم أخيرًا إلى ما نشهده من ممارسة، لتظهر حالات من الازدواجية والتصادم والاحتقان المفتعل والاستقطابات الحادة والمصطنعة. خذ مثلا، أبسط مبادئ حقوق الإنسان كحرية التعبير التي تجمع عليها التيارات “الإصلاحية”، تجد جزءًا من الجانب المحافظ من الإصلاحيين يؤيد مصادرة الرأي لأفراد التيارات الأخرى لأنه يراها آراء كفرية أو تغريبية أو منحرفة، وبالمقابل يؤيد جزء من تيار التجديد مصادرة رأي التيار الآخر لأنه يراه ظلاميا أو إرهابيا. الأول يقول لا حرية للتغريبيين، والآخر يقول لا حرية لأعداء الحرية، فمِن أي فلسفة لمبادئ للحرية ينطلق هذان الفهمان؟
ترك كثير من المثقفين مهمته الثقافية والتنويرية وصار يطارد المخالفين، يطالب بإقصاء هذا ومحاكمة ذاك، وتحوَّل إلى شرطي آداب وجلاد ثقافي، صار محققا في النوايا وحارسًا على العقول، ونصب نفسه قاضيا سياسيًّا ورجل أمن فكري! صار يحرض الدولة ويهيج الناس على الكتاب الذين يختلف معهم. وامتد الأمر بعد الربيع العربي إلى أن أصبح أفراد داخل كل تيار (إنْ سلفيا أو ليبراليا) يشكك ويخون أفرادًا آخرين من نفس مجموعته الفكرية. وبلغ الأمر إلى حالة من الاحتقان الطائفي والاستقطاب السياسي الحاد الذي جعل مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني يهرب بجلده وينأى بنفسه عن الحوار الفكري الذي يمثل دوره الرئيس ويلجأ إلى الحوار في القضايا الخدمية المتفق عليها سلفًا.
ستجد من الإصلاحيين من يعترف بالتعددية والمكاشفة ولكنه يرفض التصنيفات الفكرية، باعتبار أنها تمزق اللحمة الوطنية. فمن أي فكرة إصلاحية ينطلق هذا الفهم؟ إذا كان صراع التيارات الفكرية مضرا فإن إنكار وجوده أكثر ضررا، فضلا عن أن التنوع والتعددية سمة أساسية وصحية لإثراء المجتمع المدني. يدعون للمجتمع المدني ويرفضون التعددية. يريدون الديمقراطية ويرفضون السماح لخصومهم بالتعبير. يؤمنون بالوطنية وينتقصون المواطنين من الطوائف الأخرى. يقولون بالمساواة ويصادرون حقوق المرأة وحقوق الأقليات. يريدون دولة عصرية ولكن يرفضون آليات تقدم الدولة. إنها أزمة مفاهيم وأفكار! مفاهيم لم تتحدد منطلقاتها الفكرية ولا فلسفتها فضاعت آفاقها ودارت في صراع مع مفرداتها الداخلية.
أولويات الخطاب الإصلاحي
لا يوجد إطار مؤسسي يتم به تداول أولويات الإصلاح رغم وجود قليل من المؤسسات الرسمية (كمركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، هيئة حقوق الإنسان) ومؤسسات المجتمع المدني (كالجمعية الوطنية لحقوق الإنسان، وهيئة الصحفيين)، والمؤسسات شبه الرسمية (كالأندية الأدبية). فعندما تتناول تلك المؤسسات مفاهيم الإصلاح وأفكاره وأولوياته، يتم ذلك على طريقة العزف المنفرد. كما أن التيارات الفكرية الموجودة في الساحة هي أشبه بأطياف متماوجة يصعب رصدها إصلاحيا، لا سيما أنه لا يوجد تمثيل مؤسسي لهذه التيارات لكي تتداول أطروحاتها الفكرية والإصلاحية وتدير خلافاتها وتحدد أولوياتها، ولكي تُقيَّيم وتُدرَس.
سنظل في هذه دائرة الاجتهادات الفردية، قد نعود من حيث بدأنا، وقد نتقدم إلى الأمام، لكن في الأغلب نستمر في دوامة أفكار ومفاهيم، ولا يكسر الدائرة إلا مفاجآت الواقع الداخلية أو الخارجية كما فعل الربيع العربي الذي كان تأثيره في المفاهيم الحقوقية أكثر من تأثير الإعلام الرسمي وخطابات النخبة الإصلاحية. لقد فعل العامل الخارجي المجاور تأثيره أشد من العامل الداخلي ليعيد صياغة الأولويات التي ينبغي أن تكون في خطاب الإصلاح. إنها مواجهة الثلاثي المظلم: الفقر والقمع والفساد، الفساد نما في ظل القمع فظهر الفقر والبطالة، هذه هي رسالة الربيع العربي.
من يضع أولويات الخطاب الإصلاحي؟ في ظل غياب المؤسسات (أو على الأقل ضعفها) لكل إصلاحي حقه في تناول مفاهيم الإصلاح وأولوياتها من وجهة النظر التي يستطيع أن يرى منها حسب الزاوية التي يقف فيها. لا أحد يملك جميع الزوايا، لا أحد يستطيع أن يكون في مكانين بوقت واحد. لكن ثمة اتفاق عام لما يحدث في كافة الزوايا من عصر التنوير إلى يومنا هذا. فعلى مستوى العالم ثمة فهم حقوقي متبادل للاختلاف يمكن استيعابه وإدارته، وثَم يؤدي إلى الاتفاق على مبادئ إنسانية عامة يتواضع عليها المختلفون. فإذا كان لا يوجد وضوح في دلالات المفاهيم الإصلاحية وأولوياتها في واقعنا المحلي، ولا يوجد اتفاق على الدلالات المنبثقة من مصطلح “حقوق الإنسان” كالحرية والمساواة وحق العمل والمشاركة في القرار، فإنه على الأقل توجد حدود دلالية عامة متفق عليها، وتوجد حدود قانونية تحمي هذه الحقوق. إنه الاتفاق على المبادئ العامة لحقوق الإنسان، والأولوية لمواجهة الأعداء الحقيقيين للإنسان: الفقر والقمع والفساد والبطالة، والآليات المحققة لتلك المواجهة، أما صراع التيارات الفكرية والطائفية فهو تأخير للمواجهة الحقيقية مع الأعداء الحقيقيين.
المصدر: موقع “المقال”