ماذا فعل خادم الحرمين؟

الكاتب: 

 

لم يكن عبدالحميد الثاني مبتكرًا لهذا اللقب (خادم الحرمين الشريفين)، لكنه أصرَ عليه بصفته جزءًا من مربعات صغيرة هشة تشكّل “شرعيته” الرمزية وحمايته للبيتين الشريفين.

تلك الهشاشة السياسية أوجدت حزمة واسعة من الألقاب تاريخيًّا تبدأ بنصير الدين والحاكم بأمر الله والقائم بأمره والعاصم والمعتصم والهادي والمهدي والناصر والمنتصر… إلخ، التي كلما جدَ سلطان تاريخي استبد بلقب رمزي، يضفي عليه ما لا تضفيه أخلاقه وصفاته؛ لتوحي بتضخم ذلك الرمز السياسي بألقابه على حساب الناس وأشيائهم.. وحقوقهم.
ومع كل تلك الأوصاف، كان الناس يضيقون ذرعًا بخلع تلك الرموز الاسمية على السلطان، حتى إن آخر من سقطت عليهم الأندلس كانوا أكثر السلاطين والأمراء ثراءً بالألقاب السلطانية بل رصد ابن حزم هذه الانتفاخ في الألقاب حين ذكر أن أربعة كلهم يسمى بأمير المؤمنين في رقعة من الأرض مقدارها ثلاثون فرسخًا”! (نقط العروس 2:194) ولاغرابة أن كان عبدالحميد رغم تسلمه كرسي الخلافة في رقعة عريضة وتاريخ طويل، كان آخر الخلفاء العثمانيين.

 وهنا تبقى المقاربة المنطقية: كلما ازداد السياسي فقرًا عمليًّا واستبدادًا فارغًا، ازداد ثراءً “لقبيًّا” وامتلاءً اسميًّا، وكان أحد مثقفي الأندلس الشعراء قد سجل تلك الملاحظة الذكية شعرًا قبيل سقوط الأندلس، فقال:

مما يقبّح عندي ذكر أندلسٍ *** أسماء معتضدٍ فيها ومعتمدِ

ألقاب مملكة في غير موضعها *** كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسدِ

وهكذا جدد عبدالحميد الثاني لقب “خادم الحرمين الشريفين” جزءًا من تلك الدعاية الرمزية لآخر خليفة عثماني، حين لاحظ فراغًا قاتلًا وهوةً شعبيةً ساحقة، لم يلجأ للتصالح مع مصادر الشرعية (الشعب) وقيمه، بل حاول مجددًا ملأها بالرمزية الشكلية والاسمية.

ولكنه في ذات الوقت حرص على ارتباط شخصه بحماية الحرمين فعليًّا كصفقة رخيصة ضد مطالب الحقوق، فكان يقدم الخدمات والحماية بل يبني شبكةً حديدة لم يُبنَ مثلها في جزيرة العرب لهذه اللحظة، وقدم توسعات تاريخية للحرمين في الرواق المعروف بالعثماني، وكان يهدي القفطان لشريف الحجاز وحده نوعًا من التشريف المرتبط بشرعية حماية الحرمين التي يقدمها بصفتها بديلا شكليا ورمزيا عن حل القضايا الشعبية والسياسية القائمة.

ولأجل هذا كان عبدالحميد الثاني يحتكر طباعة المصحف بحجة حمايته من التحريف من جهة، ولإعطاء نوع من الشرعية له في كونه حاميًّا الشريعةَ الإسلامية، لذلك في أحداث كثيرة يرويها مؤرخون كيف أن الباب العالي أمر بحرق نسخ كثيرة من المصاحف الصحيحة في العالم لتأكيد هذه القضية (The Well-Protected Domain by Deringel: 53-57)).

وتذكر الوثائق أن خادم الحرمين الشريفين عبدالحميد الثاني نزع السلّم الذهبي من الكعبة، وقد كان هديةً من تاجر هندي مسلم دفع أموالًا طائلة لخدمة الكعبة، وكانت حجة عبدالحميد أنه لا ينبغي لغير السلطان أن يكون خادم الحرمين! ( عن وثيقة عثمانية id 72) .

ولأن تلك “الشرعية” الشكلية التي انشغل بها عبدالحميد الثاني عن الشرعية الأهم في حماية الإنسان وحقوقه وحريته؛ كان عبدالحميد يحرص بشكل خاص على محاربة الأعمال والبحوث والنشاطات والكتب الدينية والإسلامية التي لا تكون تحت نظره ودعمه الخاص وتوجه دولته سياسيًّا، في حين لا يبالي بتداول وبيع تلك الكتب الأخرى التي كان يصنفها بعض الناس في ذاك الوقت بوصفها كتبا ذات توجه لا ديني. يذكر رضا توفيق –مثلًا- أن الخليفة يبذل عناية خاصة لعدم تداول بعض الكتب الفقهية والدينية التي لا تتوافق مع اتجاهه ورأيه في حين أنه بشكل واضح يتيح تلك الكتب التي يصفها توفيق بـ”الهدّامة” مثل كتب داروين وبشنر وسبنسر. (The Callligraphic Sate by Messick: 65). والسبب واضح في هذا السياق لأن تلك الكتب الغربية والفلسفية (خارج الإطار الشرعي) لا تنافس وتهدد في مجال الفهم الديني والشرعي (رمز شرعية عبدالحميد الشكلية).
وفي هذا السياق أيضًا تستطيع فهم؛ لماذا بعض الدول المستبدة التي تلجأ للشرعية الدينية شكليًّا تخاف من أي اتجاهات إسلامية أخرى، لأن الاتجاهات الإسلامية الأخرى قد لا تحمل تلك الهشاشة الشعبية وفي ذات الوقت تنطلق من نفس مصدر الشرعية الشكلي (الاتجاه الإسلامي والديني). فإذا كان هناك اتجاه ينافس في اتخاذ نفس الشرعية الشكلية التي هي “المصدر الديني الإسلامي” ولكنه في ذات الوقت يقدم مشروع تصالح شعبي وحقوقي فهو -لا شك- مصدر إزعاج خطير لكل الدول المستبدة التي تتذرع بذات الشكلية الشرعية (الإسلام) ولكنها تفتقد العمق الشعبي والحقوقي.
لأجل ذلك؛ أرسل خادم الحرمين (عبدالحميد) للمؤسسة الدينية الرسمية في 6 يوليو عام 1883م تقريرًا حول بعض الوعّاظ في المساجد الذين يتحدثون للناس ويتناولون موضوعات سياسية! (وثيقة سياسية في Deringel: 65). بل كان يخاف من حتى تلك الاتجاهات الصوفية حين يتسع مجالات أتباعها وارتباطها بشيخ شعبي مستقل أو حين يمارس الواعظ أو الشيخ الديني استقلاله العلمي والشرعي لأن تلك “الاستقلالية” تهدد “مركزية الدولة” وارتباط الشرعية والشريعة بشخص عبدالحميد.
وفي هذا الجو من الخوف الشديد من التعليم الديني الحر الذي لا يرتبط بتوجيهات الباب العالي وإدارته المباشرة كان عبدالحميد يشتهر ببثه للمخبرين حتى أنه كان يصنع نوعًا من الوعاظ المخبرين السريين أو ما سمي بالبوليس الديني السري!  زيادةً على الصحفيين المخبرين حين أنشأ (الجورنالجية) كصحفيين/مخبرين سريين، وسائر فروع المخبرين. (Deringil 75).

بعد كل هذا يتبين أن سقوط “خادم الحرمين” عبدالحميد رغم مرارته كان محتومًا حين انشغل عبدالحميد بترقيع الشكلية الدينية والترميز الشرعي غافلًا عن مصادرها الحقيقة المرتبطة بدور الناس وحماية حقوقهم وحفظ قيم العدالة الحقيقة بين الناس، ولأنه بذل ماله وجهده ورجاله لحماية نطاقه الخاص كصفقه رخيصة عوضًا عن التصالح مع الناس وقيمهم وحقوقهم.

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك