الحوار الإعلامي وفنون اللغة

منى يوسف حمدان

كم أحزنني وآلمني رؤية خط فتاة جامعية تكتب بلغة لا أعرفها، ولا أستطيع فك طلاسمها، وتقول أنا لا أعرف إلاَّ الكتابة باللغة الإنجليزية!!
 

الحوار الإعلامي وفنون اللغة
اللغة التي يتحدّث بها الإعلامي تترك أثرًا في العقل والروح لا يمكن تجاهلها، فالكلمات عندما يتم انتقاؤها بعناية فائقة، وحرص شديد على استقامة اللسان، تستطيع بها أن تصل إلى هدفك المنشود، وبأقصر وأقوى العبارات، المهم هو فصاحة اللسان ووضوح البيان وترتيب الأفكار.
أصبح اليوم بيننا مَن يرفع منصوبًا، وينصب مرفوعًا، حتى أبسط وأضعف الإيمان الجار والمجرور لا يعطيه حقّه، فأضعنا جماليات اللغة وروعتها، ومتعة الاستمتاع بوقع الكلمة الرنان في الأذن، فأصبحت الكلمات خاوية بلا روح، فلا تصل إلى القلوب أو العقول.
من أكرمه الله بحب اللغة والالتزام بقواعدها، هؤلاء هم المؤثرون حقًّا في كلماتهم، رائعون بروعة لغتنا العربية الخالدة.
في سفري الأخير لمعرض الكتاب الدولي للشارقة، وفي أول ليلة لم يعرف النوم طريقه إلى عيني، فقمتُ بفتح جهاز التلفاز، وإذ بي أجد حوارًا مميَّزًا شدّني لمتابعته حتى النهاية، السر في أنني تمسكت بالمتابعة -والمرء تأسره كلمة- كان المحاور الذي طالما تابعته (ريكاردو كرم) قد يتحدث أحيانًا بلهجته اللبنانية، ولكنه أبدًا لا يُخطئ في قواعد اللغة العربية، وينتقي كلماته بعناية شديدة، وحواره ماتع شيّق جذاب متأنق.
توقفتُ كثيرًا عند أسئلته، وإنصاته، وأسلوبه في الحوار، كيف ينتظر حتى ينهي ضيفه كلماته، يتابعه بنظرات عينيه بحرصٍ شديدٍ، حتى وإن كان الضيف لا يتحدّث العربية الفصحى، إلاّ أن ريكاردو يرتقي بالأسلوب والحوار، فيعرف كيف ينقل محاوره إلى عالم فكره الراقي، ولغته الرقراقة.
عدتُ بذاكرتي إلى أيَّام طفولتي، عندما كنتُ أُتابع المسلسلات اللبنانية باللغة العربية الفصحى، وما زال خالدًا في ذاكرة تلك الطفلة صوت (عبدالمجيد مجذوب وجهاد الأطرش)، لذلك ما نغرسه في عقول وأذهان الأطفال، هو ما يُشكِّل شخصيتهم ويُعزِّز انتماءهم.
ليست هذه المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي أتحدّث فيها عن اللغة، وأزمة ما زالت واقعة في مجتمعنا، لأنني أفخر بعشقي لهذه اللغة، وكم استغرب الكثيرون من أن تخصصي بعيد تمامًا عن اللغة العربية ولا ضير في ذلك، لابد أن يعي كافة أفراد المجتمع أن اللغة هي الهوية، نبدأ بها مشوار حياتنا، ونتواصل بها مع عالمنا ومحيطنا، ونحن أبناء الجزيرة العربية لابد أن نكون أحرص الناس عليها، والدعوة إلى حمايتها، والعناية بها، وإصلاح ما اعوجّ من ألسنة شبابنا وبناتنا.
اللغة العربية ليست أزمة بين بعض الإعلاميين والمحاورين فقط، ولكن أيضًا بين جيل اليوم تحدثًا وكتابة -إلاّ من رحم الله-.
كم أحزنني وآلمني رؤية خط فتاة جامعية تكتب بلغة لا أعرفها، ولا أستطيع فك طلاسمها، وتقول أنا لا أعرف إلاّ الكتابة باللغة الإنجليزية!!
الخط العربي ما أجمله! وما أروعه من فن نريد إحياءه، تعلّمت جمالياته في صغري من خط والدي -حفظه الله-، حيث كنت أبحث عن سجلاته الإدارية، ودفاتر التحضير في أروقة مدرسة كان يديرها، ويُعلِّم فيها أيضًا، وكنتُ أحرص على ارتيادها مساءً خارج الدوام الرسمي، وكأني أرى تلك الطفلة تراقب والدها في حركاته وسكناته وانتمائه لمدرسته، وحبه لعمله وهو مشغول بمتابعة أدق التفاصيل، انشغلت الطفلة بتقليد خطه الجميل حتى أصبح خطها أجمل.

نبض المحبة الحقيقي:
شكرًا لمعلمة الأحياء في الثانوية الخامسة (سهير)، كيف كانت معنا في حصص الانتظار تستثمر أوقاتنا في تعليمنا (خط الثلث، والخط الديواني)، مازال كرّاس الرسم معي احتفظ فيه بذكريات جميلة لا تُنسى في أروقة مدارس المدينة النبوية.
شكرًا لك أبي مُعلِّمي وقدوتي، كم أنا فخورة بك.
شكرًا لأنك أبي الذي علّمني الحب والعطاء والتفاني، وحب الخير، ومساعدة الآخرين، وبدون مقابل.
شكرًا لأنك أشركتني معك في كل أمور حياتك، فعزّزت من ثقتي بنفسي، لم يكن تعليمك لي يومًا بطريقة مباشرة، بل من خلال مرافقتي لك، لأنك اتخذتني لك صديقةً ومستشارةً، وأعطيتني كل ما تحلم به الفتاة من أبيها.
أطال الله عمرك في طاعته، يا مصدر فخري واعتزازي، يا رائدًا من روّاد التعليم في وطني، كل نجاحاتي، وكل أيامي التي أُحقِّق فيها إنجازات هي لك، بين يديك، لعلِّي أكون امتدادًا لك يا أغلى الناس، كما أهديها لروح أمي التي لا تُفارقني أبدًا، جمعنا الله بها في مستقر رحمته. كم أحبكما.

المصدر: صحيفة المدينة.

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك