سلاح السلام

 

العفيف الأخضر

في مقال عن احتمالات السلام السوري - الإسرائيلي وقّعه ثلاثة معلقين إسرائيليين, وظهر في وقت واحد في صحيفتي (يديعوت أحرنوت) ومعاريف (10/12/1999) نقرأ التالي: (سنة 1967 قمنا باحتلال هضبة الجولان, وسنة 1973 حافظنا عليها, ويبدو أننا سنقرر قريبا ما إذا كنا سنودّعها إلى الأبد. في أحسن الحالات سيُتخذ قرار ديمقراطي, وفي أسوأ الأحوال ستندلع حرب أهلية).

وأراهن على أن القارئ العربي غير الملمّ بالتيارات السياسية والدينية التي تغلي داخل المجتمع الإسرائيلي سيمر مرور الكرام على فرضية اندلاع حرب أهلية فيها في حال انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة, فلاشيء عنده أدعى للسخرية من مثل هذه الفرضية, فمقولات بعض التيارات السياسية السائدة أوقعت في روعه أن السلام سيجعل (الكيان الصهيوني أكثر قوة وتماسكا من أي وقت مضى), ومن الموضوعية الاعتراف بأن هذه القناعة ليست حكرا على البعض, بل يشاركهم فيها العرب - جمهورا ونخبة - منذ تأسيس الدولة الصهيونية, لقد رفضوا قبول قرار التقسيم اعتقادا منهم بأن الاعتراف بهذه الدولة سيعطيها الشرعية والاستقرار. لكن الآباء المؤسسين للكيان الصهيوني كانوا يعتقدون أن العكس هو الصحيح, رغم ترويجهم في دعايتهم - المرصودة للاستهلاك الداخلي والخارجي - على (رفض العرب لليد الممدودة إليهم بالسلام) كما تقول جولدا مائير.

في فبراير 1967 سأل مراسل جريدة (لوموند) الفرنسية إريك رولو, ديفيد بن غوريون عن اتهام وزير خارجية إسرائيل الأسبق أبا إيبان له برفضه لأي مسعى جدّي للسلام مع العرب, فلم ينف ذلك, وبرر بأن: (المجتمع الإسرائيلي مازال لم ينصهر بعد في دولة - أمة), فاليهودي الروسي أو الأمريكي مازال يعتبر نفسه روسيّا أو أمريكيا قبل أن يكون إسرائيليا, وضرب له مثلا: (عندما أرسل السوفييت أول قمر صناعي, سمع يهودي روسي بالخبر فركض في الصباح الباكر إلى الحي الأمريكي ليقول ليهودي أمريكي: لقد سبقناكم إلى غزو الفضاء), ثم أضاف بن غوريون معلقا: (نحن في حاجة إلى عدو خارجي لننصهر في أمة).

بن غوريون ذو الثقافة السياسية والتاريخية العميقة لا يجهل أن الحرب الخارجية كانت التحدي الكامن وراء انصهار الأمم الحديثة, مما جعل المؤرخ الفرنسي ميشلي يقول عن حرب المائة عام الفرنسية - الإنجليزية أنها شكّلت الأمتين معا, (فبقدر ما شكّلت إنجلترا فرنسا شكّلت فرنسا إنجلترا).

ولكن, كيف ينظر الإسرائيليون أنفسهم - الآن - إلى مخاطر السلام عليهم, يجيب إيلان غريلسمير, أستاذ علم السياسة بجامعة بارإيلان بـ (تل أبيب): (كثيرا ما يُستخدم التعبير الغريب: السلام خطر على إسرائيل. هذا التعبير الغريب يعني أن حالة السلم لا تقل خطرا عن حالة الحرب على دولة إسرائيل, إذا كانت الحرب تهدد بقاء الدولة اليهودية المادي, فإن السلام بدوره قد يشكّل تهديدا مميتا للنسيج الاجتماعي الإسرائيلي ومسببا لانحلال الدولة الصاعق أو انفجارها من الداخل, بعض المستشارين يشيرون بوقاحة على الدول العربية المعادية لإسرائيل: اعملوا السلام وستموت الدولة اليهودية من الداخل بالتدمير الذاتي). ويفسر غريلسمير هذا الاحتمال بكون المجتمع الإسرائيلي مجتمعا من مهاجرين جاءوا من أكثر من مائة بلد تتحكّم فيهم قيم اجتماعية ومشارب أيديولوجية ودينية متناقضة: يهود عرب, يهود شرقيون, يهود غربيون, مهاجرون جدد, مهاجرون قدامى, أغنياء, فقراء, ديمقراطيون, اشتراكيون يدافعون عن دولة الرفاه, ورأسماليون متوحشون على طريقة الاقتصادي الأمريكي ميلتون فريدمان, صقور وحمائم.. الحروب والشعور بالخطر الخارجي هما اللذان جمّدا هذه التناقضات المتفجّرة, لكن - كما يقول المحلل السياسي الإسرائيلي - ما إن انطلق قطار السلام منذ عام 1977 حتى بدأ الإجماع اليهودي القديم أمام تحدي (الخطر الخارجي) يتآكل تاركا مكانه لصراع يهودي - يهودي يخوضه الأصوليون والعلمانيون. المعسكر الديني يضم المتدينين الصهاينة والأرثوذوكس غير الصهاينة, أما المعسكر العلماني فيشمل الحمائم الداعين للسلام والصقور العطاشى للدم العربي.

في إسرائيل خمسة أحزاب دينية: اغودات إسرائيل (اتحاد التوراة), دوجيل هاتوراه (راية التوراة), شاس (الشرقيون المواظبون على أداء الفرائض), المفدال (الحزب القومي الديني) وحزب ميماد, وهذه الأحزاب جميعها خرجت من عباءة اغودات إسرائيل خلال الاعوام الخمسين الماضية, والقاسم المشترك لهذه الأحزاب هو مكافحة العلمانية, وتطبيق الشريعة اليهودية (الهالاخا), أي إقامة دولة ثيوقراطية تستمد شرعيتها من الله لا من الشعب السيّد, لذلك فهي ترفض حقوق الإنسان بذريعة أنها مستوردة من الغرب, الذي يعتبره الأصوليون اليهود مصدر جميع الشرور.

ومنذ ظهور الحركة الصهيونية, وجّه لها اليهود المتدينون سبابة الاتهام, لأن نداء (العودة إلى فلسطين) مناف لنصوص التوراة القائلة بأن الله وحده هو الذي يضع حدّا للشتات اليهودي عندما تكون ساعة العودة إلى أرض الميعاد قد أزفت عشية ظهور المسيح المنتظر (المشيح) (أي الممسوح بالزيت المقدس), وهو الذي سيقيم مملكة الله على الأرض, لذلك ليس لليهود أن يقرّروا من تلقاء أنفسهم العودة إلى فلسطين. لكن اضطهاد النازية لليهود كان أقوى من نصوص التوراة. وهكذا غيّر المتدينون رأيهم وبدأوا يهاجرون إلى (أرض الميعاد).

المتدينون كانوا أيضا ضد إعلان دولة إسرائيل قبل أوانها التوراتي, لكن ما إن أعلن حزب العمل العلماني ميلاد الدولة في 1948 حتى غير معظم المتدينين رأيهم فيها, وقبلوا بوجودها, وحاولوا استخدامها لمآربهم الخاصة, وكمحاولة لدمج اليهود المتدينين في الدولة الصهيونية قدم بن جوريون تنازلا مهما لرجال الدين تمثل في إعفاء طلبة المعاهد الدينية من الخدمة في الجيش. كما تعهد لهم باحترام قوانين الأحوال الشخصية اليهودية مما أغراهم بالمشاركة في حكومته من عام 1948 إلى عام 1952 عندما استقالوا منها احتجاجا على تجنيد الفتيات في الجيش انتهاكا لتعاليم التوراة التي تقول بأن (مكان المرأة الطبيعي هو البيت), حارمة لها من جميع حقوقها السياسية والإنسانية, بل إن اليهود المتدينين يصلّون كل صباح مرددين (حمدا لك اللهم لأنك لم تخلقني امرأة).

والمفارقة أن نموّ الأحزاب الدينية وانتشار أفكارها المعادية يعود لانتشار تيارات التحديث في المجتمع الإسرائيلي المناصرة للمرأة والديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان, وأيضا لانتشار - بالمقابل - المعاهد الدينية التي تسيطر عليها هذه الأحزاب, والتي لا يدرس فيها الطلاب إلا الفقه اليهودي القرووسطي المتخاصم بالضرورة مع العصر, والتي يُفصل فيها البنون عن البنات فصلا كاملا.

والمفارقة الأخرى أنه ما كان بإمكان الأحزاب الدينية أن تنفق على شبكة تعليمها الديني لولا المساعدات المادية التي تقدمها لها الحكومات الإسرائيلية العلمانية المتعاقبة رشوة لمشاركتها في الحكومة, لأن نظام الانتخابات المعتمد على التمثيل النسبي للأحزاب يمكّن الأحزاب الصغيرة التي تحصل على أقل عدد من أصوات الناخبين من أن تجعل الأحزاب الكبيرة رهينة لها, بحيث لا يستطيع أيّ من الحزبين الكبيرين تشكيل حكومة إلا بمشاركتها, لذلك نجد حزب (شاس) الديني المتعصّب لا يغيب عن أي حكومة يمينية أو يسارية, شرط أن تدفع له (الإتاوة المناسبة) أي عشرات ملايين الدولارات, وهذه الإتاوة - أو لنقل الرشوة - التي يحصل عليها (شاس) لا تنفق على تشكيل وعي آلاف الشباب اليهودي بالتعليم التلمودي وحسب, بل تنفق أيضا على مؤسسات خيرية جعلت من الأحزاب الدينية - وخاصة (شاس) - مجتمعا بديلا للمجتمع الرسمي.

فهذا الحزب يقدم لجمهوره المتدين مطاعم للفقراء, ورياض أطفال, ورعاية للتلاميذ طوال اليوم, والنقل المدرسي المجاني, ومصائف للشباب مجانية, ومآوي للعجزة, ونوادي للنساء وأخرى للرجال لتمضية أوقات الفراغ.

باختصار, يتكفّل (شاس) باليهودي الشرقي المتدين من المهد إلى اللحد. ويعلق غليسمير على ذلك قائلا: (المدارس الدينية القرووسطية والمؤسسات الخيرية جعلت قوة شاس تتعاظم ونفوذه الأيديولوجي يتسع ليصيب اليهود الشرقيين بالغباء, عائدا بهم إلى القرون الوسطى بممارسات أسطورية مثل التماس البركة وتعليق التمائم التي يباركها الربّانيون المقدسون) فضلا عن تنفيرهم من القيم العقلانية والإنسانية الحديثة المتضمنة في الديمقراطية وحقوق الإنسان باعتبارها بضاعة مستوردة من (الغويم) أي ممن لا ينتمون لشعب الله المختار!

في انتخابات عام 1996 استطاعت الأحزاب الدينية أن تحقق اختراقا غير مسبوق, إذ حصلت مجتمعة على 23 مقعدا في الكنيست, مما أثار فزع الرأي العام العلماني الإسرائيلي الذي رأى في هذا الاختراق بداية لـ(تهويد) إسرائيل, أي تطبيق التعاليم والشرائع التوراتية على سكانها, ورغم أن المتدينين لا يمثلون - كما يقول المحللون الإسرائيليون - إلا حوالي 20% من السكان, فإنهم خلال حكم نتنياهو حققوا هيمنة أيديولوجية لا تتناسب مع حجمهم في المجتمع, بفضل المساعدات السخية التي أغدقتها الحكومة الليكودية عليهم, لأنها دون مساندتهم لها في الكنيست كانت ستسقط.

يعود نجاح الأحزاب الدينية في انتخابات عامي 1966 و 1999 إلى تآكل الحزبين الكبيرين - العمل والليكود - بسبب تنميط المشروع المجتمعي الذي يدافع عنه كلّ منهما. وهي ظاهرة ملحوظة حتى في الديمقراطيات الغربية, فبرنامج الأحزاب اليوم من صنع الكمبيوتر, لذلك لا يكاد يختلف برنامج المعارضة عن برنامج الأغلبية الحاكمة في شيء ذي بال, مما جعل الملل يسود المعارك الانتخابية, وجعل قطاعا من الناخبين يستنكفون عن التصويت لغياب المشروع البديل. وهذا أحد الأخطار الجدية التي تهدد الديمقراطية في عقر دارها إذا لم تتحوّل إلى ديمقراطية سياسية واجتماعية في آن.

يلاحظ غليسمير أن الاسمنت الذي قام عليه الكيان الإسرائيلي هو (التسوية التاريخية) التي حققها بن جوريون بين المعتدلين من العلمانيين والمتدينين. العلمانيون ممثلون بحزب العمل, والمتدينون ممثلون بالحزب القومي الديني, أما المتدينون المتطرفون - ومعظمهم من اليهود الشرقيين - فقد بقوا على الهامش, لاحظّ لهم في تسيير شئون الدولة, و (الحد الأدنى) الذي أجمع عليه الفريقان - العلماني والديني - هو التزام حزب العمل - من بن جوريون إلى جولدامائير - باحترام المضمون اليهودي للدولة والمتمثل في احترام الحكومة لعطلة السبت واستقلال المدارس الدينية, وعدم تجنيد طلبتها الذين كانوا - آنذاك - أقلية ضئيلة, فيما غدوا اليوم يعدّون بالآلاف, وفي المقابل التزم المتدينون المعتدلون باحترام الطابع الليبرالي, العلماني والديمقراطي للدولة, متخلين نهائيا عن مشروعهم الرامي إلى تحويلها إلى دولة دينية تطبّق الشريعة اليهودية كما جاءت في التوراة, كما التزموا باحترام التعددية والديمقراطية, أي الفصل الواضح بين السلطات الثلاث التشريعية, القضائية, والتنفيذية, والتداول السلمي على السلطة بواسطة انتخابات نزيهة, وهي الأمور التي يرفضها الأصوليون - عادة - بسبب جمودهم الذهني, أي كراهيتهم لكل مخالف لهم أو مختلف عنهم, واعتبارهم ممارسة الحكم واجبا شرعيا لا وظيفة اجتماعية قابلة للتداول دون شروط مسبقة.

ورغم صيغة التعايش هذه, ظل تعريف (مَن هو اليهودي) محل خلاف بين العلمانيين والمتدينين المعتدلين, لكنه خلاف بقي تحت السيطرة, ولم يستشر إلى حدّ كسر التحالف.

اتبعت الأصولية اليهودية أمام هذا التحالف تكتيك (الانتظار النشط): التقوقع على الذات, وتكثيف الدعوة الدينية بين الجمهور, والإعراض عن ممارسة السياسة, وإحكام الربانيين قبضتهم على جمهورهم لتذنيبه, وبالتالي استرقاقه نفسيا, فالضمير المثقل بالذنوب, لابد له من شفيع يلوذ به للأمل في الغفران.

ويرصد غليسمير ثلاثة تواريخ حاسمة أدت إلى فصم التحالف العلماني - الديني المعتدل وتحوّل المتدينين عن بكرة أبيهم إلى الأصولية المتطرفة تعريفا.

عام 1967: أدى انتصار إسرائيل في حرب الأيام الستة إلى هستيريا جماعية في صفوف المتدينين الذين اعتبروها معجزة إلهية أعادت لشعب الله المختار القدس موحّدة ويهودا والسامرة, وآية تشير إلى قرب ظهور (المشيح) ونهاية العالم.

بعد صدور القرار الأممي 242 القاضي بإعادة الأراضي العربية المحتلة جعلت الأصولية اليهودية من رفضه استراتيجية تجمعت حولها الصهيونية الدينية, المطالبة بالحفاظ على (أرض إسرائيل) في حدودها التوراتية, وعدم رد شبر واحد منها إلى العرب, وعدم الاعتراف بالهوية الوطنية الفلسطينية. وفي المقابل قبل حزب العمل - الحاكم آنذاك - القرار الأممي. وهكذا تصدّعت (التسوية التاريخية) بين حزب العمل والحزب القومي الديني. لجأت الأحزاب الدينية - لجعل تطبيق القرار 242 مستحيلا - إلى استيطان الأراضي العربية, جاعلة من إعادتها إلى العرب (تمرّدا على إرادة الله) الذي أعادها إلى شعبه المختار بحرب الأيام الستة!

في مناخ (معجزة الانتصار الربّانية) راح الشباب اليهودي يعود أفواجا أفواجا إلى الطاعة العمياء للتعاليم التوراتية, وبات يفضّل الأكاديمية التلمودية على الجامعة العلمانية, وعادت الفتيات - كما يقول غليسمير - (إلى الحجاب بتغطية رءوسهن بوشاح, فيما كانت أمهاتهن يخرجن سافرات), وهكذا (فحرب الأيام الستة التي استقبلت كمعجزة عسكرية تكشّفت عن كارثة: فقد مزّقت النسيج الاجتماعي الإسرائيلي, وحطّمت التوازنات التي قامت عليها الدولة اليهودية لتفتح الباب للتطرّف الديني والعلماني), الحامل للحرب الأهلية.

عام 1977: هذا هو التاريخ الثاني الذي أدى إلى تعميق القطيعة بين العلمانيين والدينيين. إنه تاريخ انتصار الليكود في الانتخابات البرلمانية. غداة هذا الانتصار, قرر الحزب المتزمت (اتحاد التوراة) الانخراط في السياسة بعد ربع قرن من الابتعاد عنها, وتحالف مع ليكود, وكان الثمن الذي حصل عليه غاليا: امتيازات مادية سخية وقوانين دينية رادعة غير مسبوقة.

منذ ذلك التاريخ غدا (اتحاد التوراة) حزبا لا غنى عنه لأي ائتلاف حكومي يميني أو يساري, مما يعني مزيدا من تغلغل الأصولية والتعصب الديني إلى خبايا وزوايا المجتمع الإسرائيلي.

عام 1987: هذا العام صادف ظهور كتاب المؤرخ الإسرائيلي بني موريس عن (جذور المشكلة الفلسطينية) والذي كان تدشينا لظهور (مدرسة المؤرخين الجدد) التي شككت في صحة الأساطير اليهودية المؤسسة من أسطورة (الماسادا) التي تروي بطولة المتعصبين اليهود الانتحارية في حربهم ضد الفتح الروماني سنة 70 ميلادية إلى أسطورة (الاستقلال) سنة 1948. فقد أثبت (المؤرخون الجدد) - اعتمادا على الوثائق البريطانية والإسرائيلية - أن فلسطين (لم تكن أرضا دون شعب لشعب دون أرض), كما يقول تاريخ إسرائيل الرسمي, بل إن حرب (الاستقلال) كانت - في الواقع - حرب اقتلاع للشعب الفلسطيني وإحلال شعب آخر وافد محله وبأكثر الوسائل قسوة ودموية.

شكّلت الإطاحة بأسطورة حرب الاستقلال - ذات الوقع الرمزي المكثّف - صدمة نفسية هزّت ثقة الإسرائيليين في أنفسهم, وفي شرعية دولتهم الأخلاقية, ودشّنت - ما أسماه كثير من المحللين - دخول المجتمع الإسرائيلي إلى مرحلة (ما بعد الصهيونية) التي بشّر بها القطاع الأوسع من المثقفين (الكتّاب, الشعراء, الفنانون, الأساتذة, الطلبة, الصحفيون, الإعلاميون, صنّاع الرأي العام وصحيفة هاآرتس اليومية) كما يقول كل من البروفسور إيلان كليسمير والصحفية اليهودية الفرنسية جوزات علياء في كتابها المهم عن إسرائيل: (النجمة الزرقاء والقبعة السوداء - 1999).

وكرد فعل على التطرّف الديني الأصولي, رفض أغلب المثقفين الإسرائيليين الاسمنت الذي قامت عليه دولة إسرائيل في 1948 - التحالف بين العلمانيين والمتدينين المعتدلين - وهم اليوم يطالبون بالتراجع عن كل التنازلات التي قدمها بن جوريون للحزب القومي الديني, بل إن البعض منهم يذهب أحيانا إلى أبعد من ذلك.

وتتنوع مطالبهم ما بين وضع حد للمحاكم الربّانية في مادة الحالة المدنية, وجعل الدولة ليبرالية وعلمانية وديمقراطية: وبعضهم يرى ضرورة ألا توصف هذه الدولة باليهودية حتى تكون (دولة لجميع مواطنيها مهما تباينت انتماءاتهم الاثنية أو الدينية), واقترح آخرون إلغاء قانون عودة اليهود إلى أرض الميعاد لأنه يتناقض مع مفهوم الدولة الحديثة, وطالب فريق آخر بتغيير علم إسرائيل (لأن مواطني الدولة من العرب الفلسطينيين لا يعترفون بنجمة داود, ولا يجدون أنفسهم فيها).

كما تنادى عدد كبير من المثقفين إلى تغيير النشيد الوطني الحالي بآخر لا يتحدث عن (الأمل اليهودي الذي مضى عليه ألفا سنة). كما نصح بعض المثقفين يهود الشتات بالاندماج في دولهم, والاهتمام بأنفسهم, والكفّ عن تقديم المال لإسرائيل, وأخيرا لا آخرا, دعا بعض المثقفين الشباب اليهودي إلى عدم التركيز على مذبحة اليهود على أيدي النازيين, والاهتمام بسلسلة المذابح التي كابدتها شعوب أخرى في القرن العشرين.

(يتصارع اليوم في صلب المجتمع الإسرائيلي تياران متناحران, تيار ديمقراطي إنساني (ما بعد صهيوني) يمثله العلمانيون, وتيار آخر ظلامي, متطرف, قومي نرجسي, متقوقع على الهوية يستبعد كل اتجاه إلى الكونية والغيرية), كما يقول غليسمير, هو التيار الديني. بلغ هذا الصراع سنة 1999 حدة غير مسبوقة عندما استطاعت الأحزاب الدينية أن تنظم مظاهرة من ربع مليون شخص ضد القرارات الليبرالية للمحكمة العليا التي أكّدت حق المتدينين الليبراليين - الذين لا يتشددون في المطالبة بتطبيق الشريعة اليهودية - في دخول المجالس الدينية التي كانت إلى ذلك التاريخ حكرا على الأصوليين الذين لا يرضون عن تطبيق الشريعة بديلا, لذلك فبقدر ما ينظر المتدينون المتطرفون إلى المحكمة العليا كتجسيد للشيطان على الأرض وحصان طروادة الذي ستدخل منه (حقوق الإنسان الغربية) إلى إسرائيل, يعتبرها العلمانيون عكس ذلك, حصنا حصينا للديمقراطية وحقوق الإنسان في وجه الخطر الأصولي الداهم.

تصدع وحدة المجتمع الإسرائيلي التي أسسها بن جوريون يجعل الصدام بين معسكر الديمقراطية العلماني ومعسكر الثيوقراطية الديني مسألة وقت, خاصة بعد السلام العربي - الإسرائيلي. ولعل إيلان غليسمير الضليع في شئون وشجون يهود إسرائيل قد شخّص مشكلتهم تشخيصا دقيقا عندما كتب: (كيف سيكون المجتمع الإسرائيلي بعد السلام, بعد الدولة الفسلطينية بعد جنوب لبنان بعد الجولان هذه هي المسألة. (....) قريبا ستظفر إسرائيل بالأمن على حدودها, وعندئذ فإن مفهومين مختلفين للهوية سيهددان بتفجير الدولة اليهودية من الداخل).

فشل الانصهار الاجتماعي Melting pot في إسرائيل - كما تقول جوزات علياء - وضع إسرائيل في خطر السلام, في حين أن الحرب لم تشكّل عليها قط خطرا جديّا, بل على العكس, ساعدت جميع يهود إسرائيل على الاتحاد في وجه (الخطر الخارجي) الذي لا يستثني - نظريا على الأقل - يهوديا علمانيا أو دينيا.

 المصدر: http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=1093&ID=39

 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك