كيف رأيت الغرب في الشرق

 

محمد المخزنجي

عند ارتفاع ألف وثمانية وستين مترًا, وعلى مشهد من المحيطين الأطلسي والهندي, كنا نوغل في عالم كالحلم عند القمة المسطحة لجبل المائدة في كيب تاون, مروج وغابات صنوبر وفراشات, وسحب تعبرنا, ونعبرها, فنحس بالنشوة والندى. غابة وديعة لا وحشية فيها ولا ضوضاء, وفي ظلال شجرة وارفة يلفت نظرنا بناء صغير أبيض, ناصع البياض, ثم في الهدوء السابغ الذي يلد نغمات من صفاء خالص - شقشقة عصفور - رفة جناح - رفيف فراشة - هسهسة أوراق شجر تلاعبها النسائم... نسمع أصواتًا صغيرة تقرأ قرآنًا.

          كان البناء الأبيض الصغير ضريحًا, والأصوات الصغيرة لأطفال ضمن أسرة تزور الضريح للتبرّك. ولم يكن ذلك غير واحد من عشرات الأضرحة المماثلة التي تتناثر على قمم جبال الكاب, أقامها مسلمو المدينة فوق قبور الرعيل الأول من المسلمين الماليزيين الذين جلبهم الهولنديون قسرًا في بداية القرن 17 ليعملوا في مزرعة الشركة الهولندية كعبيد أو كسجناء منفيين, وكانوا يفرون إلى قمم الجبال ويموتون جوعى وهم يتلون القرآن الذي حُرموا من تلاوته في مزارع العبودية وتحت سياط البيض الأوربيين, فقد كان الدستور العنصري لدولة الآبارتهايد في جنوب إفريقيا يصف الإسلام بأنه: عقيدة منحرفة يُجرّم الداعي إليها.

          صورة تستدعي حشدًا من الصور الدامية التي أعقبت اكتشاف الأوربيين لرأس الرجاء الصالح عام 1448 وهم يبحثون عن (طريق آخر للهند عبر المحيط لقطع طريق التوابل والبهار على التجار المسلمين) كما عنون البرتغاليون حملتهم تلك. في البدء وطيء البرتغاليون هذه الأرض, وعندما تضعضعت قوتهم جاء الهولنديون وأسسوا محطة تموين بحرية في الكاب لزراعة الخضراوات للتغلب على مرض الاسقربوط الذي كان يصيب البحارة من جراء السفر الطويل عبر المحيط وعدم الاغتذاء بشيء طازج من الفاكهة والخضار. من مرضى الاسقربوط والمزارعين الهولنديين تكوّنت أول موجة من موجات الاستيطان الأوربي في الكاب. وكان يطلق على المزارعين الهولنديين لقب (البوير), والذين دارت عليهم دورة الشركة الهولندية بالتضييق لشراء مزروعاتهم بأسعار أرخص, وراحت الشركة تستورد (العبيد) من غرب إفريقيا ومن الملايو ليعملوا في الزراعة, وتحتكر الشركة ناتج عملهم. نفر (البوير) من ضغوط الشركة وهجروا مزارعهم متراجعين إلى الداخل في براري (الكاروو) فاصطدموا بالرعاة الهوتنتوت - سكان البلاد الأصليين. وبدأت المجازر: مئات الآلاف من السكان الأصليين حصدتهم بنادق البوير, ومئات أخرى من الآلاف حصدها مرض الجدري الذي أتى به البوير ولم يكن للهوتنتوت حصانة ضده. وبعد أن تسيّد البوير براري الكاروو صعدوا مزيداً فاصطدموا برعاة آخرين من قبائل (الاكسهوسا) - أي ذوي الملافح الحمراء (وينحدر من سلالتهم نيلسون مانديللا), واشتعلت نيران أول حرب كبيرة بين البيض والسود عام 1778...وتوالت النيران حتى أقام البوير جمهوريتهم الصغيرة عام 1795 وكانت تتحصّن بروح العداوة لتصلب عودها الغريب في هذه الأرض الإفريقية. لكن هيهات لهؤلاء البوير الذين تحوّرت لغتهم مطعمة بمفردات من لغة هذه الأرض الإفريقية, فأطلق عليهم الأوربيون الخُلّص, سخرية, لقب (الأفريكان) أي المتأفرقين. صعد الانجليز في مدارج الإغارة على بلاد الناس بعد أفول هولندا, واحتلت بريطانيا الكاب في سبتمبر 1795, ثم توغلت في البراري الجنوب إفريقية, وأججت النيران بين البوير والأفارقة, فكانت حروب (البوير) التي حصدت من الجانبين الكثير, وبعد أن أوهن النزيف طرفي هذه الحروب - السود والبوير - دخل (البريتون) (البريطانيون) المعمعمة بأنفسهم, وصارت حرب البوير أشد اضطرامًا وأججها مزيدًا اكتشاف الذهب. ومن هذه المحرقة خرجت دولة جنوب إفريقيا العنصرية: أفريكانية بثياب بريطانية. وتضاعفت معاناة السود تحت سياط هذا القهر العنصري المزدوج وبقية القصة الأليمة معروفة.

          (2) في أفقر بلدان آسيا وأشدها بؤسًا وأكثرها زركشة بالاحتفالات الشعبية وموسيقى البؤس الذي يسرى عن نفسه. بلد الحياة عند سقف العالم في ظل جبال الهيمالايا والتي يتساقط عليها أغزر أمطار العالم في موسم (المانسون). ومع ذلك تقضي معظم العام تتحرّق عطشا وتتعرض تلالها الخضراء من سبخات الرطوبة التي خلفها الطوفان الهارب, وتعوزها بضعة ملايين لتقيم بضعة مشاريع مائية تختطف قليلاً من مياه طوفانها ليسقيها في مواسم العطش الطويلة.

          نيبال هذه لم يجد بها الإنجليز ذهب الهند ولا توابلها. لم يجدوا بها إلا نوعًا فاخرًا من الشاي تُقطف براعمه البكر وتقدم هدية لملكة بريطانيا. وإلى جوار الشاي عثر الإنجليز على نوع نادر من العساكر أنشأوا بهم فرقة (الجورخا) التي تعد - حتى الآن - أكثر فرق الجيش البريطاني ثباتًا وقدرة على إصابة الأهداف وهم من أبناء القبائل الجبلية التي تعيش في المناطق المرتفعة (فوق 4000 متر) ويعزى لهم فضل إحراز النصر في حرب (الفوكلاند).

          3) على الرغم من لزوجة نظام موجابي الملتصق بكرسي الحكم حتى الموت, شأن معظم حكام العالم الثالث القديم, ثمة ذرائع حقيقية يتشبث بها.. تاريخ من القهر الاستعماري الغربي ـ الأبيض ـ للأرض الإفريقية وأبنائها ـ السود. وحكاية استعمارية ممعنة في الاستهتار والابتذال تجعلني أفهم لماذا يدعم المزارعون السود والمحاربون القدماء وأغلبية السكان ـ الفقراء ـ لماذا يدعمون نظام موجابي, على الرغم من مخاتلاته ووضوح تشبثه بالسلطة..  إنه يثير آلام جراحهم القديمة من الاستعمار.. وأي استعمار.. ليس استعمار دولة غربية لدولة إفريقية كالمعتاد.. بل استعمار فرد أوربي واحد لبلدين كاملين بأرضهما وناسهما ونباتهما وحيواناتهما وأنهارهما.. فسيسل جون رودس الفتى الصائع الضائع معتل الصحة ابن القس البروتوستانتي البريطاني المتواضع, ووصل إلى إقليم الناتال في جنوب إفريقيا عام 1870, وكان في السابعة عشرة من عمره.. لعب لعبة الماس وهي في بدايتها مستعملا بالطبع كل أدوات المستعمرين من مكر وقسوة وخداع واستعباد مع أبناء البلاد الأصليين, وتحول في سنوات قليلة إلى قطب من أقطاب مجموعة (دي بير) المتحكمة في إنتاج وتجارة الماس في العالم, ومكنه هذا من وضع يده على بلدين نسبهما إلى اسم عائلته: روديسيا الشمالية وروديسيا الجنوبية.. وكانت زيمبابوي إحداهما, والتي حكمها نظام رودس العنصري بالنار والحديد, وبأبشع أساليب التنكيل والحرمان في التاريخ. والشيء بالشيء يذكر.. فسيسل رودس التافه الضائع العليل هذا واكبه أفاق آخر صعد إلى سدة حكم إمبراطورية الماس المنهوب من الأرض الجنوب إفريقية هو اليهودي الإنجليزي ضئيل الحجم والقيمة بارني إزاك (إسحاق) الذي فضل أن يُُدعى بارني باراناتو ـ لأسباب في بطن الأفعى ـ كان جرسوناً تافهاً في إحدى خمارات أفقر أحياء لندن والتي تدعى (كوكني) وتحول على أرض الجنوب الإفريقي إى أحد أباطرة الماس, وصار مالك مناجم وبلدات وبشرا وشريكا لسيسل رودس, ولاعبا مركزياً في إمبراطورية احتكار الماس العالمية (دي بيير) التي تعطل ورشاتها ومتاجرها يوم السبت!

          (4) في كمبوديا بلد المطر والجزر النهرية الخلابة ومبتوري الأطراف, ـ واحد من كل 250 مبتورة أطرافهم  بسبب الألغام ـ والتي كانت مستعمرة فرنسية, ثم مسرحاً لترجيعات الحرب الباردة التي لم تكن ساخنة إلا على أرض العالم الثالث.

          في سيم ريب الكمبودية توجد انكور وات, مدينة معابد أثرية تمتد 200كم وسط الغابة المدارية الكثيفة, إحدى عجائب الدنيا القديمة المبسوطة على مساحة 200 كم2 تحولت بعد أن وقعت عليها عين عالم الطبيعة الفرنسي هنري موهرت عام 1859 إلى قبلة للسياحة والنهب الغربي الذي لم يوفر أحداً حتى أهل الثقافة الرفيعة, فمن أشهر لصوص الآثار المنهوبة من أنكور كان الكاتب الفرنسي العالمي اندريه مارلو قد زار انكور عام 1923 وانتزع من معبد بانشيه بأنكور قطعة الحجر الرملي الوردي وضبط بها في فندق (بنه) لكن التمثال لم يعد لمكانه إلا بعد سبعين سنة (1993).

          (5) بومباي التي استعادت اسمها الهندي (مومباي) والتي أرادها الاستعمار البرتغالي أولا ومن بعده الاستعمار البريطاني بوابة للغرب, يدلفون منها إلى كنوز الشرق, تنازل البرتغاليون للإنجليز عن الجزيرة التي كانت نواة مدينة بومباي كجزء من مهر الأميرة كاترين بمناسبة زواجها من الأمير تشارلز الثاني. والتي نزح إليها يوميا ـ ومنذ نشأتها ـ 300 أسرة يحلمون بالثراء أو الستر, وينتهي المطاف بالكثيرين منهم إلى النوم على الأرصفة ومعاناة الجوع المزمن.

          بومباي مدينة الزحام والبؤس والحلم والذهب والمفارقات.. قبالة بوابتها الشهيرة بوابة الهند التي أقامها الإنجليزي جورج ويند عام 1927على نسق قوس النصر الفرنسي, وإن بمذاق التوابل الهندية.. قبالة هذه البوابة كان هناك فندق اسمه واطسون أقامه الإنجليز وكانت هناك لافتة عند مدخله مكتوب عليها (ممنوع دخول الهنود والكلاب).

          تداعى الفندق وصعد قبالته فندق باذخ يعد من أبهى وأفخم فنادق العالم يسمى (تاج محل) أقامه الثري الهندي الزرادشتي جامشيتجي نصروانجي تاتا عميد اسرة تاتا الصناعية الهندية المشهورة ليثأر مما لحق به عندما طرد من فندق واطسون زمن الاحتلال البريطاني لمجرد أنه (هندي).

          فمن تراه نال ثأر الهند التي حصد الاستعمار مئات الآلاف من أبنائها لمجرد أنهم كانوا يقاومون بمجرد الرفض السلمي في حركة العصيان المدني التي قادها غاندي, ومن يستعيد للهند ما نهب منها وقد كان نهبا بلا حدود.

          هذا هو القليل من الكثير من وجه الغرب الذي تبدّى لي عبر 25 رحلة كان معظمها إلى الجنوب والشرق من خلال بعض آثار زمن (الكشوفات) وعقود الكولونيالية, وهو وجه لو طبق على من يمثله معايير علم النفس الفردي لحصلنا على تشخيص دامغ بالسيكوباتية أو الشخصية الإجرامية التي من سماتها المرضية العدوانية, والخداع, والشراهة الحسيّة, والاندفاع بلا روادع أخلاقية...باختصار الأنانية الفظّة.

          ولأن الأمم مثل الأنهر, لا تجري فيها المياه ذاتها مرتين, سننحي جانبا حديث علم نفس الإجرام الفردي, ونطبّق قانون الأنهر, ونقول نعم ما حدث من تلوث لمياه النهر الغربي حدث, وشربناه نحن - في الشرق, في الجنوب - حتى النخاع, لكن حتى لا تتكرر المأساة هناك استحقاقات منها, أن يعترف أصحاب النهر بأن أسلافهم لوّثوه بأنانية شرسة, وشربه أسلافنا الذين أورثونا الكثير من آلامهم. فنحن بحاجة إلى اعتذار, وهذا يتضمن الاعتراف, وبداهة يتطلب التعويض.

          لن نكون مبتزّين للغرب مثل إسرائيل, التي لم تكف عن قبض ثمن الهولوكوست - على افتراض أنه كما قدموه - أضعافًا مضاعفة معنويا بإشهار سيف معاداة السامية على رقبة كل منتقد لإسرائيل, ومن ثم إطلاق الحبل على الغارب لتعيث فسادا في الأرض, أرضنا العربية بالتحديد. أما التعويض المادي فقد نالته وتناله إسرائيل, مفاعلات وقنابل ذرية, ودعم علمي وتقني, لا نريد نحن أهل الشرق والجنوب تعويضًا من الغرب على نمط الابتزاز الإسرائيلي...بل نريده مخلصا تجاه ورثة الآلام وضحايا النهب, في الاقتصاد, في العلم والمعرفة, في السياسة .. نريد التعويض, تيسيرات اقتصادية لقدراتنا التي تهدرها قسوة وأنانية الجات.. في الغذاء والدواء, وحق استخدام المعرفة. ونريد التعويض موقفاً غربياً صادقاً وغير مراوغ يدعم أشواقنا للحرية الحقيقية وحقوق الإنسان. ونريد من الغرب أن يدرك أن العالم بهذا الانشطار ـ حيث نصفه الغربي (الشمالي) يطفو ونصفه الجنوبي يغرق ـ هو عالم مريض ومعرض للانهيار أو الانفجار. والغرب لا يعدم المخلصين من أبنائه الذين يؤيدون ذلك كله, هؤلاء الصارخين بأشواقنا في دربان وسياتل, ضمير الغرب الحي من أبناء المنظمات الأهلية والمجتمع المدني, إخوتنا في الإنسانية التي ينبغي أن تسد هذه الفجوة السوداء بيننا وبين غرب قديم نخشى أن يتجدد وإن بصور أخرى.

المصدر: http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=949&ID=35 

 
الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك