رحالة الغرب هل رأوا أهل الخليج على حقيقتهم؟

 

محمد الرميحي

في الأسبوع الأول من أبريل الماضي عقدت في مدينة دبي العاصمة الثقافية والتجارية لدولة الإمارات العربية المتحدة ندوة علمية دعي إليها أكثر من خمسين باحثا وباحثة لدراسة موضوع مهم هو كتابات الرحالة والمبعوثين حول منطقة الخليج عبر العصور. والداعي لهذه الندوة الكبيرة والمهمة هو مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، وهو مركز أهلي علمي قام بإنشائه لوجه العلم والبحث وجه من وجوه أهل الخير في دبي وقام بالمساعدة العلمية في هذه الندوة جامعة الإمارات العربية المتحدة بالعين والمجمع الثقافي في أبوظبي.

وأنا أكتب هنا لسببين، أولهما: أن هذه الندوة العلمية بما حوته من أبحاث ومناقشات علمية تستحق التنويه والتذكير. وثانيهما: أن المركز الداعي لهذه الندوة التي جرى الإعداد لها عامين كاملين هو مركز أهلي علمي، يدل كبقية المراكز العلمية الأهلية العديدة في دول الخليج العربي على اهتمام من أعطاهم الله المال بالعلم وأهله، وهو إحياء حميد لتراث إسلامي وعربي عظيم، كل ما نرجوه هو أن يتسع هذا الاهتمام ويتعاظم في عصر هو بلا جدال عصر العلم والمعرفة والاتصال وانتقال المعلومات. وكان الغرض من الندوة التي قدم فيها أكثر من 30 ثلاثين بحثا هو دراسة واسعة لأعمال المبشرين والمبعوثين الأو ربيين إلى المنطقة العربية بوجه العموم وإلى منطقة الخليج على وجه الخصوص، وعلى هامش الموضوع العام هذا كان لا بد من تقديم بحوث علمية تتناول إما تاريخيا أو جغرافيا هو امش هذا الموضوع المهم، ولأن أعمال هذه الندوة التاريخية والمهمة سوف تصدر في كتاب لاحق فإنني هنا أقدم للقارئ - فقط - أبرز القضايا - من وجهة نظري - التي طرحت في هذه الندوة وأهم القضايا التي نوقشت.

كان السؤال الأول هو ما مدى دقة المعلومات والتحليلات والآراء التي أو ردها الرحالة والمبشرون الغربيون عن العرب في كتاباتهم المتتالية التي ازدهرت وتكشفت في القرن التاسع عشر، وما مدى دقة ووضوح نقلهم للحقائق، وهل تأثرت هذه الكتابات بالقيم والمواقف والثقافة والبيئة التي عاشوها، وبالدوافع التي جعلتهم يتحملون مشاق السفر والترحال، وماذا نأخذ منها اليوم وننتقي وماذا نترك ونتجاوز ؟ هذا السؤال الطويل والمعقد لم يكتسب كل هذه الأبعاد من فراغ، فالعديد من هذه الكتابات الاستشراقية كانت دائما تحت وطأة اتجاهين أساسيين: إما أنها تسعى لتزوير الحقائق عن عمد لتناسب وجهات نظر كتابها من المستشرقين، أو أنها قد أعطت تفسيرات لظواهر شاهدوها يشوبها الغموض وعدم الفهم بسبب اختلاف المرجعية الثقافية لهؤلاء المستشرقين. وهناك العديد من هذه الكتابات قامت بسرد الوقائع والحقائق بأسلوب ركيك وملتبس في بعض الأحيان لأن من كتبها كانت تنقصه الخبرة في الكتابة والبحث بينما مال آخرون إلى المبالغة أو تكرار المعلومات أو الاستعارة أحدهم من الآخر دون إسناد لما استعاره إلى مصدره الأصلي، لذلك كله فقد ترك هؤلاء المستشرقون والرحالة والمبشرون كتابات كثيرة حول بلادنا العربية وحول الخليج ومجتمعاته الغثاء فيها كثير والأصيل نادر، ولأن هناك نقصا حادا في التوثيق المحلي فقد شب جيل كامل من طلابنا ومثقفينا على تلك الكتابات، بعضهم فحصها وحاول غربلتها وبعضهم أخذها على علاتها، وحتى لوكان ما تم رصده حقيقة في وقته فإن ما يشكل حدثا أو حقيقة أو تفسيرا لظاهرة تاريخية هو أمر أصبح اليوم معروفا بأنه مرتبط بالزمان والمكان والظروف الثقافية. لذلك كله فلا بد من الحرص الشديد في الغربلة والدراسة والمقارنة بالمصادر المحلية، إن وجدت، أو تحكيم العقل والإحساس العام في كل ما تركه لنا هؤلاء الكتاب عن بلادنا. ولنا من تاريخنا عبرة، فنحن اليوم عندما نقرأ النصوص التي تركها لنا الرحالة العرب والمسلمون من القرون الوسطى نجد أنهم قد استعانوا بالعديد من الأدوات الثقافية والمعرفية التي انحدرت إليهم من الحضارات الأخرى. فقد استعاروا التقاليد الهندية المبكرة المتعلقة بالجغرافيا والفلك، وكذلك بدا تأثيرهم بالمنهج اليوناني في البحث القائم على التجربة وكذلك التأثير الفارسي الوصفية والخرائطية (الجغرافيا الرياضية)، وأكثر هذه الكتابات قد أخذ بالتقسيم اليوناني والفارسي للأرض إلى سبع مناطق. وبحلول القرن السادس الهجري - الثاني عشر الميلادي - بدأت مؤشرات التدهو ر في علم الجغرافيا حيث فقدت المؤلفات الإسلامية المنهج العلمي النقدي الذي ميزها ومكنها من الإضافة العلمية، ومالت إلى النقل والتكرار دون معرفة ملموسة ومباشرة، لذلك فإن بعض المؤلفات امتلأت بالخرافات وما أطلق عليه البعض (جغرافيا الوهم) حين حسبوا أن بعض أماكن الحكايات الشعبية لها وجود على الخرائط وقد احتاج هذا الأمر إلى جهو د علمية مضنية بعد ذلك للتفريق والفصل بين ما هو واقعي وما هو متخيل. حدث نفس هذا الشيء للرحالة الغربيين، وإن امتلك بعضهم بعض أصول المنهج الصحيح، لذا فإن النظر إلى أعمالهم اليوم ومقارنتها بالمصادر المحلية المتوافرة أو إعمال العقل في مناقشتها يكشف عن أن بها الكثير الذي يمكن أن يؤخذ عليها سهو ا أو عمدا.

وهناك أهداف أربعة وراء هذه الموجات المتتالية من هؤلاء المستشرقين إلى البلاد العربية والخليج، لعل أولها هو الدين، فقد كان لوجود القدس ومكة والمدينة المنورة وكلها أماكن دينية هي الهدف الأساسي لمحاولة معرفة الدين الآخر (الإسلام) وإن أمكن محاصرته، وقد شكل الرحيل إلى الأصقاع النائية بحد ذاته موضوعا دائما في الثقافة الغربية، فما بالك إذا كان هذا الرحيل من أجل السعي إلى إقامة المملكة الثانية "القدس الجديدة"، في أرض الميعاد ! فقد اعتقد البوريتانيون وأصحاب النزعة التطهرية التي شهدت انتشارا واسعا في الغرب في أثناء العصور الوسطى بتأثير إعادة الاكتشاف البروتستانتي للعهد القديم، وأصبحت إعادة بناء القدس لبعضهم هو سا يشكل الهدف المطلق للحياة التي يخوض المسيحي غمارها، وتمثل المفهوم الغربي للرحيل إلى الأصقاع البعيدة من أجل إصلاح أمر الأمم الأخرى وإنقاذ أرواحها الضالة، وقد كانت الروح التبشيرية على الدوام تحتل مكانة مركزية في الأيديولوجيا المسيحية.

وقد اكتسب التبشير قوة دفع كبيرة خلال القرن التاسع عشر وتنافست عشرات من المنظمات التبشيرية التي تنتمي إلى الكنيسة (لإنقاذ الأرواح الضائعة) وأخذ المبشرون يشقون طريقهم إلى المنطقة فتركزوا أولا في المدن الساحلية ثم حاولوا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الاندفاع إلى قلب الجزيرة العربية، وكانت الاستراتيجية المرسومة هنا هي محاصرة قلب الإسلام والاندفاع إلى مركزه الأول، ولقد بدا هذا الهدف واضحا بعد أن سقطت القدس مباشرة في أيدي الصليبيين حين حاول رينارد دي شتالوافارس الصليب عام 1180 أن يصل إلى المدينة المنورة ويهدم قبر الرسول الكريم. ولكنه في حقيقة أمره كان يريد أن يسرق الكنوز التي تقول الأساطير وقتها إنها مدفونة حول قبر النبي، وقد جهز رجاله المتحمسين من القراصنة وهبطوا بالسفن على ساحل البحر الأحمر. ولكنهم وجدوا القبائل العربية في انتظارهم، فقد تجمعوا من كل فجاج الصحراء ومعظمهم عزل من أي شيء، إلا إيمانهم، ولكنهم خاضوا معاركهم ضد فرسان الصليب ببسالة حتى قتلوا الفارس رينارد وسيق بقية أتباعه من اللصوص إلى "منى" حيث قتلوا جميعا.

كانت التجارة هي الدافع الثاني لجولات المستشرقين والمبعوثين والمبشرين والرحالة، فقد كانت فكرة إيجاد أسواق جديدة للصناعات الصاعدة في أوربا والتي بدأت بالتراكم تدفع بالتجار إلى تكليف كتاب ومغامرين للبحث عن أسواق جديدة، وكثيرا ما كان هؤلاء المبعوثون والرحالة هم في حقيقتهم وكلاء لأنواع من المنتجات أو البيوت التجارية.

وكان الدافع الثالث هو الاستعمار الذي حول الأسواق الجديدة في هذه البلدان من أماكن للتجارة إلى مناطق تابعة خاضعة للاستنزاف، ولعل أقدم هؤلاء الرحالة الذين يدخلون في مصاف الجواسيس هو "دمنجوباديا بالبياكو" الذي تنكر في زي أمير مراكشي قديم ودخل مكة والمدينة وكتب عنهما تقريرا مفصلا قدمه إلى نابليون بونابرت الذي لم يستطع أن يبعد العالم الإسلامي عن مخيلته بعد فشل حملته على مصر.

أما الدافع الرابع والأخير فهو النفط، وقصة الرحالة والمبشرين مع النفط قصة لها خصوصيتها في الخليج حيث تحول المغامرون إلى صيادي امتيازات للتنقيب عن النفط، سواء كان ذلك إبان النزع الأخير للدولة العثمانية وما تعتقد أنه من ممتلكاتها في الشرق أو بعد الحرب العالمية الأولى عندما اتضحت أشكال الدول والإمارات المستقلة.

أسباب أربعة جعلت من كتابات هؤلاء القادمين من خلف البحار حول المجتمعات العربية بعامة والمجتمعات في الخليج بخاصة ذات أهمية كبيرة في الغرب، وقليلها كان جادا وموضوعيا - كما قلنا - وأغلبها اختلط فيه المنهج العلمي بالرغبات الذاتية والأحكام الشخصية. ومع ذلك كله فإن هذه الكتابات تعد اليوم مصدرا لا بد من الاطلاع عليه، وفهمه بعد تمحيصه، ولكن بعضه يقدم معلومات ووجهات نظر غير متوافرة في أماكن أخرى.

محاولة للتعرف عن قرب و

سوف تحل ذكرى تاريخ مميز بالنسبة لعلاقة الشرق العربي مع أوربا وهي مرور قرنين من الزمن على حملة نابليون بونابرت على مصر التي اعتبرها العديد من المؤرخين والكتاب العرب نقطة الاحتكاك المباشر في العصر الوسيط بين العالم العربي وأوربا، ولأن من الصعب فصل الخليج العربي عن مجريات ما يحدث في الشرق بعامة وللمسلمين أيضا، كما أن من الصعب فصل الأطماع الغربية في القدس عن الأطماع الممكنة في مكة المكرمة، فإن حملة نابليون بونابرت على مصر هي رمز ذلك المنعطف الذي أفاق فيه الشرق الإسلامي بعد الغفوة العثمانية الطويلة على الإدراك الواقعي لمدى تعاظم الهيمنة الغربية.

لقد هزت التكنولوجيا الغربية الصاعدة - وخاصة الجانب العسكري منها - هزت الشرق بعنف وكشفت عن مدى ضعفه وتخلفه، وقد انعكست آثار هذه الحملة أيضا على العالم العربي والإسلامي فبدأ رحلة المعرفة لاكتشاف منابع هذه التكنولوجيا التي هزمته في أوربا. لقد حملت السفن التي كونت أسطول نابليون بونابرت بالإضافة إلى الجنود والخيول والمدافع وبعض الغانيات أكثر من مائة وخمسين باحثا كانت مهمتهم الأساسية إنجاز مسح شامل لمصر في كل المجالات. وبعد أن ظهر هذا المسح للتداول عرف أنه تمتع بمنهجية معقولة وشمل الجيولوجيا والأنهار والمعادن والآثار والأخلاق وعادات السكان، فكان مؤلف "وصف مصر" الدقيق والواقع في أربعة وعشرينمجلدا.

لقد تحول الاهتمام بالشرق العربي إلى صورة أشبه بالحمى. كان من هؤلاء الرحالة لصوص وأفاقون ومقامرون وباحثون عن المجد وعلماء وقساوسة وجواسيس محترفون. كانت تتفاعل داخلهم مشاعر تختلط فيها النظرة الرومانسية في اكتشاف عالم الصحراء البكر بالدوافع الاستعمارية والتحدي الديني. ولكنهم اكتشفوا أن الرحلة إلى الصحراء لم تكن مجرد تجربة في عمرهم ولكنها كانت تجربة عمرهم. فقد تشكلت المصائر فوق ذرات الرمال وكانت الفضيلة الكبرى التي قدموها - برغم كل الخطايا التي ذكرناها - أنهم قدموا للمرة الأولى صورة للشرق تستند إلى واقع الرؤية، لا خرافة التصور كما استمدها الغرب دوما من حكايات الليالي العربية وهو الاسم الغربي لكتاب " ألف ليلة وليلة

رحلة طويلة تبدأ من مغامرة الفارس رينارد الحمقاء.. إلى العبد "بابيت" الذي اختطف وهو صغير بواسطة قراصنة الجزائر واعتنق الإسلام وجاء إلى مكة حاجا، ثم ارتد عندما عاد إلى الغرب وكتب أول كتبه عن مكة والمدينة من الداخل. ثم كارسان نيهبور الذي أرسله ملك الدنمارك ضمن بعثة علمية لدراسة الأماكن التي دارت فيها أحداث الكتاب المقدس على الواقع. ومات أفراد البعثة كلهم إلا نيهبور الذي عاش في جدة وتعود ارتداء الملابس العربية وأكل الخبز الجاف ورسم كل ما كان يقابله من جبال ووديان وصخور وعاش بقية عمره يحاول أن ينشر أعمال رفاقه من الموتى، وقدم للغرب - ربما للمرة الأولى - صورة شبه موضوعية للصحراء العربية وقال قولته المشهورة "لوكان هناك أناس في العالم يحملون كل هذا التاريخ البالغ في القدم مع تلك البساطة العظيمة فإن هؤلاء هم العرب.." ولكن الصحراء العربية لم تشاهد أحدا يوازي جون لودفيج بورخات برغم أن هدفه لم يكن الوصول إليها. فذلك المكتشف الإنجليزي ذوالأصل السويسري كان يحلم باكتشاف منابع النيل، وقد كانت هناك حمى تجتاح أوربا في هذا الوقت لاستكمال الأشياء الناقصة على الخريطة بالنسبة لهذا النهر العظيم. لذا تعلم العربية في جامعة كمبردج لمدة أربع سنوات قبل أن يقنع أعضاء الجمعية الجغرافية بأن أفضل طريقة للوصول إلى منابع النيل هي مصاحبة قوافل الحج العائدة من مكة إلى تومبوكتوعبر الصحراء الكبرى.. وسافر من إنجلترا إلى مالطا ثم إلى مكة متخفيا.

لقد أجاد التنكر حتى أن قاضي مكة نفسه لم يستطع الشك فيه وعقد صداقات حقيقية مع أبناء قبيلة "عنيزة" وجال معهم في كل مكان واستطاع اكتشاف صحراء العرب حتى حدود الفرات. ويبدو أن بور خارت قد نسي هدفه الأساسي فقد وجه همه إلى دخول مكة واكتسب لقب "الحاج" ولم يكتب له أن يعود مع أي قافلة أو يعرف الطريق إلى تومبوكتو.

ولكن الرحالة الذي لا يهدأ كان ريتشارد فرانسيس بيراتون فعلى كثرة الكتب التي نشرت عن جزيرة العرب ومنطقة الخليج لم يتمتع أي واحد منها بشهرة الكتاب الذي كتبه عن رحلته إلى هذه المنطقة لدرجة أن هذا الكتاب قد طبع أكثر من عشر مرات قبل وفاته.. إنها أرض "عشقي الأول" كما أطلق عليها. لقد ساعدته موهبته الفذة في تعلم اللغات على أن يكون رحالة مثاليا، فقد كان يتكلم 29 لغة و12 لهجة وتنكر على هيئة تاجر فارسي ودرس الإسلام في الأزهر واشترى ثياب الإحرام واستأجر جملا وخادما هنديا ورحل مع قافلة الحج، ودخل إلى مكة بل وقبل الحجر الأسود أيضا كما يقول في كتابه وعندما عاد إلى إنجلترا محملا بكم هائل من المعلومات عن هذه المنطقة أنعم عليه بلقب "فارس" وعندما توفي عام 1890 احتفلت زوجته بذكراه بأن أقامت له مقبرة على شكل خيمة.

ولا تنتهي سلسلة هؤلاء الرحالة الذين جابوا هذه الصحراء ولا تنتهي قصصهم من لورانس وفليبي اللذين جاءا وفق أهداف سياسية تريد الإمبراطورية البريطانية تحقيقها، إلى هو لمز الباحث عن النفط، إلى المعتمد البريطاني جون ولتون الذي كان يتظاهر بمحاربة الرقيق بينما كان يسعى في الحقيقة لدعم الوجود البريطاني. كل واحد كان يحمل مصلحة ما وكل واحد حدد تحركاته خلف هذه المصلحة ولكنهم في النهاية خاضوا فوق هذه الأرض تجربة لم يكتب لهم أن ينسوها أبدا.

ولم تكن محاولة التعرف عن قرب أحادية في القرن التاسع عشر بل كانت متبادلة، فبجانب المصري المعروفرفاعة رافع الطه طاوي الذي أتاح له محمد علي السفر إلى باريس ليكون "إماما" للبعثة العلمية المصرية. ولكن شدة ذكائه لم توقفه عند هذا الدور حيث انفعل بالحضارة الفرنسية فدون العديد من الملاحظات حول باريس وعادات الفرنسيين حتى أنه ترجم الدستور الفرنسي لعله يقنع المستبد الشرقي بوضع ميثاق بينه وبين الرعية.نجد أن التاريخ لم يكد - إلا لماما - يذكر مبعوث العاهل المغربي مولاي عبد الرحمن، الذي حكم ما بين و1822 - 1859، الذي سير السفير المغربي محمد الصفار، للقيام ببعثة إلى فرنسا في عامي1845 - 1846، التي كانت قد غزت الجزائر المجاورة في سنة 1830، وأدرك العاهل المغربي أن فرنسا لن تكف عن التدخل المباشر في شؤون دول شمال إفريقيا وطموحاتها في التوسع على حساب الآخرين. وكان مولاي عبد الرحمن يدرك أن الجهل بالعدوهو أكبر عدولذا طلب من الصفار تزويده بصورة كيفية معيشة الفرنسيين وما هم عليه من حياة وتعامل، وكانت النتيجة صورة مدهشة وملاحظات دقيقة عن حياة وأخلاق الفرنسيين في أربعينيات القرن الماضي، عن السفر بالقطارات وأعداد الصحف وانتشارها والمنتديات الحديثة التي يلتقي فيها الرجال والنساء من ذوي السمعة الطيبة للحديث في الشؤون العامة، وقد صدر هذا العمل باللغة العربية في الرباط أخيرا.

التبشير والمبشرون

ولكن كتابات المبشرين عن الشرق العربي والخليج العربي بعد ذلك تميل في مجملها لعدم الدقة في التحليل، فهي تعتمد على ذكر بعض الوقائع، ولكن بصورة محددة عن العربي المسلم بطريقة تعزز الانطباع السائد في العقل الغربي عن العادات والسلوك التي يفرضها هذا "الدين البدائي" ! - كما كانوا يصفون الإسلام - فقد كان لدى الغرب تراكم من الكتابات عن الشرق على مدى قرنين من الزمان أي منذ تاريخ الحروب الصليبية التي حفلت بالخرافات والمبالغات استمرت من القرن السابع حتى الثالث عشر. ولكن القرن التاسع عشر الذي نشطت فيه البعثات التبشيرية وكتابات المبشرين مثل حدا فاصلا في الاهتمام الغربي بالشرق، فالإمبراطورية العثمانية التي شكلت خطرا على قلب أوربا بدأت في الضعف والتفكك، وظهرت القوى الأوربية في أجزاء العالم العربي حاملة شكل الاستعمار الجديد. بل وظهرت على الساحة قوى أخرى لم تكن لها أطماعها الاستعمارية - أي التوسع في الأرض - ولكن بالتأكيد لها أطماعها الاقتصادية - أي التوسع في استثمار عائد هذه الأرض - كالولايات المتحدة التي حاولت جاهدة إزاحة الاستعمار التقليدي من طريقها.

وعلى صعيد آخر راح الحماس الديني التبشيري يغدوقوة كبرى في الحياة الأوربية وخاصة الأمريكية فوصلت الأنشطة التبشيرية إلى ذروتها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وكانت كتابات الرحالة والمبشرين في أوربا والولايات المتحدة أجناسا أدبية مختلفة ومتفاوتة القوة، إن نظرنا إليها بمنطقنا اليوم، وموجهة بشكل عام، إلا أنها تركت انطباعا لدى قرائها وأثرت في رسم صورة زائفة عن العربي والمسلم بينما لم يكن هناك مقوم واحد أو سمات غالبة وقطعية في هذه الكتابات، إلا أن النمطية كانت واضحة بل وتسللت هذه الصورة حتى إلى الكتب الأدبية والأفلام السينمائية، فالعربي المسلم "متعصب ضيق الأفق غارق في الظلام والجهل لديه نزعة طغيانية، لا يمكن الركون إلى كلمته، وهو خارج عن حياة المدينة قريب إلى التوحش غدار يمكن أن يقتل إنسانا آخر لأسباب تافهة على رأسها الحصول على ما لديه من مال أو متاع، شره للنساء، لا يكتفي بزوجاته برغم كثرتهن. ولكن يضيف إليهن أيضا الجواري والإماء"! وقد خاض بعض المستشرقين في أصول العقيدة الإسلامية وحاولوا تفسيرها حسب الصورة التي يرغبون فيها. كما اختلطت هذه الصور بصور أخرى أقل عدوانية وأقل تهديدا، وهي صور نبتت من النظرة الرومانسية التي تخاطب خيال الغربي حول الصحراء ومشاهد ألف ليلة وليلة الساحرة، وحيث عدم الانضباط المطلق، وقد ركز المبشرون في كتاباتهم حول أحوال المجتمع الخليجي في هذا الوقت سواء كان في مدن الساحل التي يعمل أهلها بالغوص وشيء من الزراعة، أو قبائل الداخل المتنقلة، ولقد ظهرت هذه الكتابات في نهاية القرن التاسع عشر وفي بداية القرن العشرين، حيث أسست هذه البعثات التبشيرية مواقع لها على طول امتداد ساحل الخليج من البصرة إلى مسقط بناء على فكرة "تطويق مهد الرسالة المحمدية" ومع أن هذه البعثات التبشيرية قد قدمت بعض الخدمات الطبية والتعليمية فإنها فشلت فشلا ذريعا في التبشير نفسه برغم فقر ومحدودية الوعي لدى السكان. وفي عمان توجد حكاية مشهو رة عن ذلك الطبيب الأمريكي الذي أقام في مسقط لمدة عشرين عاما لم ينجح فيها في تحويل أحد إلى المسيحية إلا الممرض الذي كان يعمل عنده وأطلق عليه الناس "خميس النصراني" ولم يلبث أن ترك المسيحية فور أن مات هذا الطبيب. وعندما قدم كاتب عربي مسيحي معروف هو أمين الريحانيإلى المنطقة وطا ف بها من أقصاها إلى أقصاها، لم يجد ما ينصح به هؤلاء المبشرين في كتابه المعروف "ملوك العرب" الذي وصف فيه رحلته في عشرينيات هذا القرن إلا القول (إنني أنصح هؤلاء المبشرين بالاكتفاء بالتطبيب والتعليم وترك التبشير، فهؤلاء البدولن يتركوا دينهم مهما قدم لهم من إغراءات..).

وما تركه المبشرون في الخليج من كتابات لم يصل بعضها للقارئ العربي فقد ترجم القليل منها وبقي الآخر بلغته الأصلية، وقد قام بعض الشباب العربي في الخليج بدراسة ظاهرة التبشير علميا في الجامعات الغربية عن طريق تقديم الأطروحات، وترجمت بعض أعمال المبشرين وهي في الغالب لا تخرج عن الوصف غير الدقيق والاستعجال في الوصول إلى نتائج دون بينة، ولقد حصلت شخصيا على مذكرات طبيب ومبشر عاش في البحرين والكويت معظم سني النصف الأول من القرن العشرين كان قد أو دعها إحدى المكتبات في جامعة "أكسفورد" فوجدت أن كتاباته انطباعية، اضطررت عند ترجمتها لوضع العديد من الإشارات والتصحيحات في الهو امش، وقد نشرت المذكرات بعنوان "الكويت قبل النفط.. مذكرات الدكتور ميلر" في الستينيات.

التقارير السرية البريطانية

من سوء الطالع أن الخليج العربي أصبح حكرا على البريطانيين خاصة بحلول القرن التاسع عشر، لذلك فإن السلطات البريطانية كانت تقف حجر عثرة أمام أي باحث أو ربي غير إنجليزي ولا تسمح له بالطواف والتفقد حتى من باب العلم اعتقادا منها - وهو قد يكون صحيحا - بأن وراء كل رحالة أو ربي هدفا تجاريا واستعماريا، فقد كانوا أدرى بمقاصد بعضهم البعض خاصة إبان احتدام الصراع على المستعمرات. ولكن سوء الطالع العلمي أننا في الوقت الذي حصلنا فيه على كتابات متنوعة من أطراف مختلفة للمناطق العربية لم تسد إلا وجهة النظر البريطانية في الكتابة عن الخليج، ولعل أهم وثيقة قدمها البريطانيون هي العمل الموسوعي الذي قام بتجميعه "ج.ج لوريمر" وهو موسوعة من أربعة عشر جزءا سبعة منها وصفت بأنها تاريخية وسبعة أخرى وصفت بأنها جغرافية، ولقد كان هذا العمل في بدايته وثيقة محدودة التوزيع طبع لأول مرة في بداية القرن العشرين، وكان يمثل مجموع الكتابات السرية المبكرة عن المنطقة، وقد خص كل بلد من الخليج على حدة، فكتب عن سكانها ونشاطهم وقراها وقبائلها وملخصا لتاريخها، ولقد ظهرت هذه الموسوعة إلى العلن في السبعينيات وقام بترجمتها إلى العربية ديوان حاكم قطر الذي وزعها توزيعا محدودا. تشكل عملية الوصف التي أنجزها "لوريمر" عملا مرجعيا في المجال الجغرافي مدعما بالوقائع التاريخية للأحداث الماضية وهو يوفر معلومات شبه دقيقة للهو يات القبلية وولائها ونشاط السكان الاقتصادي، لأنه اعتمد في بنيته الأساسية على تقارير سابقة مكتوبة من قبل المقيمين السياسيين البريطانيين والمبعوثين. برغم هذا فإن هذه التقارير لا تخلومن الهو ى والبحث عن المصلحة. بجانب التقارير السياسية فإن هناك مصدرا آخر ملهما للأو ضاع في الخليج العربي يمكن استقاؤه من التقارير التي كانت تكتب لصالح الشركات النفطية التي حصلت على امتيازات البحث والتنقيب وأصبح لازماً أن تتعرف الواقع الاقتصادي والسياسي للأرض التي تبحث فيها. وقد حجبت هذه التقارير عن ناظري الرأي العام لفترة قبل أن تظهر هذه الأيام في صورة مذكرات لرجال النفط، وقد انصبت هذه التقارير والمذكرات على ما دار في الأحاديث الشخصية مع القيادات المحلية، كما أنها ركزت إلى حد كبير على وصف المناطق الحدودية المختلف عليها لأهميتها في استخراج النفط. وعند قراءة هذه المواد المتوافرة علناً اليوم ومنها مذكرات خاصة يستطيع المتابع أن يتعرف شبكة المناورات والخداع اللذين اتصفت بهما المصالح النفطية، ومن الخطأ الكبير الأعتماد عليها اليوم كلياً لتحديد مستقبل العلاقات السياسية.

الصورة اليوم

إذا ضربنا صفحاً عن كتابات الرحالة والمبشرين والبعوثين في القرن الماضي على أنهاكانت لأغراض محددة لا يستطيع المراقب اليوم إلا أن يلاحظ أن الكتابات الغربية المعاصرة ما زالت تحوي الكثير من التشويش الساذج أو المعتمد، وتشوبها - كسابقاتها - المبالغات أو إساءة التسفير. وحتى بعد انفتاح هذه المنطقة وتدفق الكثير من أبنائها للعمل أو الدراسة في الخارج، فقد كان العقل الغربي في مواجهة هذا التدفق هو أسير تلك التصورات السابقة وامتلأت الدراسات والقصص الأدبية بكتابات هي مزيج من التهكم والحسد. ولكن هل تحولت هذه الصورة المشوهة بالقدر الكافي؟ لقد أشتري بعض العرب القصور الكلاسيكية في الريف البريطاني وانخرطوا في الشوارع والمحلات الكبري في أوربا وأصبح من المستحيل مقارنة صورة الأعرابي ذي الثوب القصير بالرجل الفاره المتحدث بطلاقة بلغة التاج البريطاني، لقد قضت هذه الصورة على حلم أساسي شغف به الغربيون عن العربي "الرذيل" أو العربي الرومانسي، هذا الشغف قد تحول إلى ماض بعد أن تدخل المال العربي مع مؤسسات تلاستثمار المتعددة الجنسيات، وتنقل رجال الأعمال العرب على متن الطائرات الخاصة، وطافت سياراتهم السريعة شوارع العواصم الأو ربية، وتحول العرب إلى غرباء يثيرون الحيرة في معظم الأو قات والحسد في بعضها. لقد نظرت الكتابات الجديدة والسيارة التي التقطها القارئ الغربي بسرعة إلى العرب - خاصة أهل الخليج - على أنهم قلة من البدوذوي الثراء الفاحش والذين لا جذور ثقافية لهم، فكان الخليج هو النفط لا غير. وإن كانت الكتابات مجاملة فعرب الخليج هم مربوخيول مهتمون بسباقات الهجن وطيور الصيد. ونستطيع أن نعرض كتباً عديدة عن الحريم وطقوس الحياة اليومية المرسومة بالبذح والاسترخاء، لقد تغيرت كتابات العرب الرحالة المحديثن من الرومانسية القديمة إلى النقد المبطن والملاحظات السريعة ومتابعة الفضائح المالية وغيرها. وبقي الأمر حتي الآن متاهمة بين كتابات عديدة أقلها عدوانية هي الكتابات الرومانسية التي تقع بين وصف ماض غير دقيق ووصف حال معاصر مشوه. خلال الثمانيات زاد الاهتمام بالخليج العربي وفي الجوار العربي ومال بعض الكتاب إلى رفض التصورات الماضية المغرقة في الرومانسية أو المغرقة في العداء والسعي إلى الوصول إلى الحقائق، وقد اسفر ذلك عن كتابات متوازنة مثل كتاب "جون بولك" "كشف النقاب عن الخليج" (1984) وصدرت كتابات عن السعودية والكويت والإمارات وعمان يستطيع المرء أن يري فيها التوازن والإتقان العلمي. ولكن تبقي حصيلة كل هذا أن هذه البقعة من الأرض حتى قبل اكتشاف النفط كانت تحت العين الأوربية الفاحصة. لقد أركوأن هذه الأرض التي أعطتهم الدين والتاريخ لا يمكن معاملتها مثل أي بقعة أخري من العالم. ولكنهم صارعوها لسنوات طويلة. صارعوها كي يستأصلوا دينها أولا ثم ليغنمو ثروتها ثانيا، لذلك فقد احبوها ذلك الحب القاسي المليء بالشراهة بدلاً من عشق التفهم والتواصل. وكما قلنا فإن هذه الأرض في حاجة إلى من يعشقها أولاً حتى يراها بشكل جيد، وقد فعل ذلك القليلون وفشل الكثيرون.

 المصدر: http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=121&ID=66

 

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك