عائد السلام

محمود المراغي

 

لعبة الحرب والسلام هي أيضا لعبة الرفاهة والتنمية، فإما أن ننفق على الحرب والاستعداد لها، وإما أن ننفق على التنمية ورفاهة البشر.

وقد مر العالم بمراحل مختلفة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وانقسام العالم إلى شرق وغرب متنافسين، متناطحين يتبادلان التهديد النووي وغير النووي.

خلال هذه المراحل، ومع تقدم تكنولوجيا الحرب ارتفعت نفقات التسلح إلى حدود غير مسبوقة، مما جعل دعاة السلام يقولون ويطرحون السؤال مرارا: ماذا لو اتجهت نفقات الحرب للتنمية؟.. أي نوع من التحسن في أحوال البشرية يمكن أن يتحقق؟

ويبدو أن هذه الدعوات لم تجد الاستجابة الكافية فوصل العالم إلى حالة من الإنهاك والاستنزاف، تعثرت معها الكثير من جهود التنمية، واهتزت كيانات دول كبرى، حتى أنه في تفسير سقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار الكتلة الاشتراكية وانفراط عقد حلف وارسو.. يذهب الكثيرون إلى أن سباق التسلح بين واشنطن وموسكو واستدراج الأخيرة لإنفاق لايتحمله اقتصادها، كان وراء الانهيار.

وأيا كان صواب التحليل أو خطـؤه فإنه بسقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة بدأت مرحلة جديدة في تاريخ العالم. صحيح أن الحروب الصغيرة والصراعات الإقليمية قد استمرت.. وصحيح أن هناك دولا قد زادت من ميزانياتها للدفاع، لكن الصحيح أيضا أن الصورة العامة قد تغيرت. فعندما نتحدث عن النفقات العسكرية في العالم فإن الحديث في معظمه يكون متجها للدول الكبرى ذات الثقل الاقتصادي والعسكري، والتي لم تعد بحاجة ـ في ظل انتهاء الحرب الباردة - إلى نفس القدر من التسلح والاستعداد.

انكمش الإنفاق العسكري، وعاد الاقتصاديون يسألون: وماذا كانت الثمرة؟ .. ماهو عائد السلام الذي انتظرناه طويلا؟

حاولت دراسة لصندوق النقد الدولي جرى نشرها في مارس 1997 أن تجيب عن السؤال فلاحظت أن الانخفاض في النفقات قد امتد طيلة سنوات 86 ـ 90، ثم تحقق انخفاض بدرجة أكبر بين عامي 91 ـ 95، وفي السنوات الخمس الأخيرة المشار إليها تراجع نصيب الإنفاق العسكري منسوبا للناتج المحلي الإجمالي في مختلف دول العالم بنسبة الثلث دفعة واحدة. كان الإنفاق يمثل 3.6% من الناتج المحلي فأصبح عام 95 ـ 2.4% فقط. وبنظرة شاملة للسنوات العشر (85 ـ 95) نجد أن الإنفاق العسكري قد انخفض بنسبة 3% من الناتج المحلي الإجمالي.

ويعود السؤال بالأرقام، كم يبلغ عائد السلام إذن؟ وتأتي الإجابة: 345 مليار دولار كل عام، والرقم يخص عام 95 مقارنا بما كان عليه لو استمر معدل الإنفاق بلا تخفيض.

بتفصيل أكثر، فإنه بدراسة عينة من 80 بلدا وهو مافعله فريق عمل من صندوق النقد الدولي. اتضح أن 15 بلدا منها قد أجرى تخفيضا في إنفاقه العسكري.. بل وفي إنفاقه على البنود الأخرى، وبما يشير إلى أن حركة تصحيح اقتصادي قد حدثت في هذه البلدان فشمل التخفيض نواحي الإنفاق المختلفة.

وربما يأتي تفسير آخر للأرقام فيقول إن الإنفاق العسكري يجذب وراءه قطاعات أخرى مدنية، وبالتالي فإن نسبة الخفض فيه لابد أن يوازيها خفض في بقية القطاعات.

على أي حال، فقد كان الخفض ملحوظا. و.. على العكس كانت البلدان التي ارتفع فيها الإنفاق وهي 92 بلدا من العينة التي شملتها الدراسة.

حدث إذن تطور في الاتجاهين: النقص والزيادة، لكن درجة النقص في الإنفاق كانت الأكثر بروزا، فشملت معظم مناطق العالم، خاصة فيما أسماه صندوق النقد (اقتصادات في مرحلة الانتقال) والمعني بها في الأساس: دول أوربا الشرقية.

و.. تمضي الأسئلة: "إلى أين ذهب الوفر في الإنفاق؟".. وتجيء الإجابة أيضا: "لقد ذهبت للتنمية، ولكن بمفهومها الواسع".

ومفهوم التنمية لم يعد مقصورا على المشروعات الإنتاجية. لم يعد الاستثمار في الصناعة والزراعة والكهرباء هو التنمية.. لكن الاستثمار البشري أصبح على رأس أولويات التنمية.. و.. من ثم أصبح التعليم والصحة والأمن الاجتماعي والإسكان من أكثر القطاعات إنجازا في مجال التنمية.

وبالفعل وبمتابعة الوفر الذي تم في الإنفاق العسكري نجد أن جزءا كبيراً منه قد اتجه لهذه القطاعات ذات الطابع الاجتماعي وهو مايعني أن نفقات الحرب كانت فيما مضى على حساب فرصة تعليم، وفرصة علاج، ومسكن ومأوى يحوزه مواطن. كل ذلك تم تأجيله لسنوات طويلة والسبب هو نفقات الحرب أو مايمكن تسميتها بالمنافسة بين عنصر الأمن وعنصر التنمية البشرية. إنه التنافس على الموارد يجري حسمه الآن بشكل مختلف عن ذي قبل.

وربما يكون لافتا للنظر أن تتوقف دراسات الهيئات الدولية أمام مسارات الإنفاق البديل، إن صح التعبير.. وهل كانت متجهة للقطاع الخاص أم لقطاعات أخرى؟

وتنتهي دراسة صندوق النقد إلى أن القطاع الخاص كان المستفيد الأول من ضغط نفقات الدفاع.. أحيانا من خلال تخفيض الضرائب، وأحيانا بشكل غير مباشر عبر الميزانيات العامة التي قل العجز فيها فتوازن الاقتصاد وزاد الاستقرار.

حدث ذلك على نطاق العالم أو في معظم أنحائه أما في الشرق الأوسط فإن الأمر يختلف.. و.. طبقا لدراسة أخرى لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (يوليو96) فإن الإنفاق على الدفاع في الدول العربية مازال يحتل 7.6% من الناتج المحلي الإجمالي.

كانت هذه هي الصورة في عام 94.. بينما كانت النسبة في العالم 3.2% وكانت في الدول النامية 3.6%.

نحن ندفع أكثر من أجل الدفاع، فأنفقنا في ذلك العام (94) مايقارب 34 مليار دولار.. وكان نصيب الفرد من الإنفاق على الدفاع 170 دولارا.. مقابل 34 دولارا فقط في الدول النامية و141 دولارا كمتوسط عالمي.

إننا ننفق أكثر والأسباب معروفة حروب وصراعات إقليمية ووطنية.. وتوتر دائم يخلق الحاجة إلى المزيد من التسليح، والمزيد من الاستعداد.

أنفقنا أكثر برغم الركود الاقتصادي الذي ساد في السنوات الأخيرة. تساوت في ذلك دول الخليج التي واجهت حربين في عقد واحد، ودول الجوار مع إسرائيل التي تواجه ـ برغم جهود السلام ـ تهديدات دائمة.. ودول شمال إفريقيا التي يلف الحصار إحداها، وتنهش أعمال العنف والإرهاب جسد بلد آخر فيها!

و.. كما أن السلام له ثمن، فإن عدم الاستقرار أيضاً له ثمن.. ونحن ندفع دائما، حتى لو كان ذلك نقيضا لما يحدث في العالم!

المصدر: http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=866&ID=65

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك