العروبة والنظام العالمي الـجديد

منح الصلح

بين نقد الذات كضرورة تنبه إليها المتنورون العرب أمام هزائم وكوارث لحقت بهم, وجلد الذات هواية يقبلون عليها بشغف, فارق لابد أن يكون بيّنا وإلا كنا عوناً لغيرنا على أنفسنا.

          تجليات جلد الذات هذه كثيرة, منها وأبرزها في مجال السياسة أننا في أعقاب انهيار عربي واضح اعتبرنا فجأة أن ما كان ممسكا بمقاليد الأمور طيلة الحقبة التالية لنكبة فلسطين عام 1948 هو العروبة, وأن كل ما جرى في الساحة كان تطبيقاً للعروبة وتنفيذاً لأوامرها ونواهيها, وبالتالي فهي المدانة وأنها هي التي ينبغي أن تُنقد حتى الجلد وتُسفّه مقولاتها متطارحين فيما بيننا بديلا عنها أدوية جُرّبت قبلها كفكرة الجامعة الإسلامية والشريعة والقيم الإسلامية كأن الإسلام كله كدين وكملهم للشرائع وموص بالحق كان غريباً بالكلية عن الساحة العربية الإسلامية.

          هكذا تباشر الآن, وعلى نطاق واسع, أقسى أنماط المحاكمة للفكرة العربية بمقاضاتها من منطلق إسلامي وتجريمها بأنها خارجة عن الإسلام, وأنها بخروجها عليه ومنه أوصلت الحياة العربية إلى الهاوية.

          بالمقابل جرت مقاضاة العروبة وتجري على يد الجهة النقيض, فأخذ عليها أنها انحرفت عن العلمانية, فلم تأخذ بالفصل الحاد بين الإسلام والدولة, وأنها اختارت موقفا ملتبسا في افتراقها عن مشروع الإسلام السياسي الأصلي أي الجامعة الإسلامية وتطبيقاتها في إطار دولة الخلافة العثمانية غير آخذة بالعلمانية والعمل بها. فإذا أضيف إلى هذين القاضيين الإسلامي والعلماني القضاء الذي نصبه الاستشراق ومن ورائه الغرب, وذلك القضاء الآخر المتعدد الأحكام الذي اعتمدته الأحزاب العربية المختلفة من منطلق الإنكار لأي عروبة لا تكون هي قيمة عليها, عرفنا أي حرج كبير توضع فيه العروبة الآن.

          وأمام هذا الرفض للعروبة كفكرة تارة باسم الماضي الإسلامي الباهر, وتارة باسم المستقبل العلماني المتاح, قد يكون من الضروري الوقوف عند ظروف ولادة هذه الفكرة التي إن غالى بعضنا يوما في تنزيهها وتنزيه أصحابها عن كل نقص, فإن بعضنا الآخر يغالي اليوم في نسبة كل نقص وكل شرّ إليها.

          أول ما يمكن أن يقال لصالح الفكرة العربية في إطار إعادة العدالة في النظرة إليها هو أنها انطلقت من إحساس بظرف مشابه مائة بالمائة للظرف الحالي الذي تمر به أمتنا, وأنها دواء مالت الأمة للأخذ به تخلصا من حال وهن شبيهة تماما بالحالة التي تمر بها الآن. يمكن تأريخ ولادة فكرة العروبة بالقول إنها ولدت كرد آخر على التفوق الغربي بعد تجربة الرد العثماني والشعور بعدم كفاية هذا الرد في الحد من تغوّل التفوق الغربي في المنطقة العربية بالذات.

          كان العرب صادقين مائة بالمائة في السير مع التجربة العثمانية إلى النهاية. ذلك أن الصعود التركي إلى الزعامة الإسلامية لم يأخذ في بدايته أي طابع عدائي أو تناقضي مع العنصر العربي. فالأتراك كانوا سندا وعضدا وعونا للدولة العباسية الإسلامية العربية الطابع. وقد عاونوا الحكم العباسي دون أن يتطلعوا إلى صبغه بصبغتهم العرقية, ولم تخامرهم أحلام غيرهم من العناصر الإسلامية في الحلول محل العرب في قيادة هذه الدولة, ولم تقم لهم مدعيات تاريخية يفهمها العرب على أنها شعوبية ورغبة في الارتداد إلى عهود سابقة للإسلام والدور العربي.

          هذا وإن الترك أخذوا السلطة وصولاً إلى الزعامة وهم يقاومون عناصر غير العنصر العربي, ويقارعون أدياناً ومذاهب غير الدين الإسلامي. وكان وصولهم في النهاية إلى تسلم السلطة في اسطنبول تسلقا لأكبر ذروة من ذرى التاريخ في ذلك العصر. لقد شكوا راية الإسلام في أعلى موقع عالمي في زمانهم وهو القسطنطينية, فكان تسلمهم القيادة الإسلامية مستكملاً شروط المشروعية.

          واستمر الأتراك في قراع مع غير المسلمين يرسخ لهم قيادتهم أكثر فأكثر. فبعد الدور الذي لعبوه في مقارعة الصليبيين المتجهين إلى الإمساك برقبة البلاد العربية قارعوا غير المسلمين خارج بلاد الإسلام أيضاً وخاصة في البلقان حيث ترجح الدراسات التاريخية الحديثة أن حروب الدولة العثمانية مع خصومها في منطقة البلقان كانت هي الحروب الصليبية بامتياز. فقد استمرت زمانا طويلا وأخذت أحجاما مادية ومعنوية أضخم من حجم الحرب الصليبية في منطقة الشرق الأدنى واتسمت بتزمت وتعصب وقسوة من الطرفين خلت منها المعارك والاشتباكات في المنطقة العربية الإسلامية. كما لم تعرف مراحل هدنة طويلة من النوع الذي كانت تعرفه العلاقات بين الصليبيين والأمراء المسلمين في بلادنا.

          وهكذا كانت الدولة العثمانية تخوض في أوربا, والبلقان بنوع خاص, معركة كان القلب العربي المسلم مشدودا إليها.

          وليس من الأحداث القليلة المغزى أن أول تظاهرة شعبية عرفتها مدينة بيروت في القرن التاسع عشر كانت انحيازا للموقف التركي العثماني في وجه اليونان في موضوع جزيرة كريت. فمن يؤرخ لبداية الحركات الشعبية في مدينة بيروت يلاحظ أن ما كان يجري في البلقان في تلك الفترة هو ما كان يلهم خيال المسلمين, بل المسلمين وغير المسلمين من المشارقة كمعركة الأرثوذكس العرب مع اليونان على كرسي البطريركية. ومن يقرأ صفحات التاريخ هذه يلحظ الهم الذي كان يستولي على الفئات المتنورة والشعبية عامة أمام كل ما كان يجري في البلقان.

          والتاريخ يحدثنا, فيما يحدث, عن مشروع لتأمير الأمير عبدالقادر الجزائري على بلاد الشام في إطار لا مركزية داخل الدولة العثمانية. وقد تجسد هذا المشروع في مؤتمر انعقد في دمشق حوالي السبعينيات من القرن الماضي تداعى إليه وجهاء وأعيان وزعماء ورجال دين من أطراف مختلفة من سوريا ولبنان بصورة خاصة. واشترك في هذا المؤتمر أصناف عدة من الناس منهم مُفتي دمشق وقضاتها وأشرافها, ومنهم وجهاء بيروت, ورجال دين من الجنوب اللبناني, وعشائر علوية من الساحل السوري الشمالي. وقد تسلم أحمد الصلح ومنح الصلح اللذان كانا في قيادة تلك الحركة رسائل من الزعيم اللبناني الماروني يوسف كرم بتأييد هذا المشروع الهادف إلى تأمير الأمير عبدالقادر الجزائري على بلاد الشام. وكان هذا قد قام في أعقاب فتنة 1860 الشهيرة بدور كبير في التوفيق بين المسيحيين والدروز ومسلمين آخرين في بلاد الشام.

          وكان الحوار في ذلك المؤتمر المعقود لترشيح الأمير عبدالقادر أميراً على بلاد الشام يدور كله حول ضرورة مواجهة الحال الناشئة عن هزيمة الدولة العثمانية في حرب القرم, إذ إن هذه الهزيمة كانت من أجراس الإنذار التي دقت في الشرق ونبهت العنصر العربي إلى ضرورة عدم الاعتماد بشكل كامل على فعالية الدولة العثمانية في مواجهة الأخطار المحدقة.

          إن ولادة الدولة العربية كانت تحسساً بعالم جديد متفوق على ما في بلادنا من أنماط حكم وأنماط حياة ومنظومة قيم في الفكر والعمل. فالجامعة الإسلامية لم تقو على أن تكون الكفؤ لمواجهة هذا العالم. لقد استطعنا أن نواجه الغرب بالجامعة الإسلامية عندما كان هذا الغرب صليبيا قائما على الدين المسيحي. ونجحنا ضد الغرب عندما لم يكن الغرب قد قفز قفزته الحضارية الجديدة, ولا كان حقق ثورته المدنية على تسلط الكنيسة. ولكن بعد أن نهض الغرب وحقق وثبته الحضارية ومن جملتها تحديد سلطة الكنيسة أطل علينا كحضارات مؤسسة على مبادئ القومية والحضارة العصرية فلم يعد يجدي للوقوف في وجهه إلا عرب ومسلمون يحققون في بلادهم ويدعون فيها لمثل ما حققه هؤلاء, ودعوا إليه في بلادهم.

          لقد وضعنا الإسلام في وجه الصليبية فنجحنا, فالمطلوب أن نضع العروبة الآن ومعها الحضارة الحديثة في وجه هجمة جديدة قائمة على مبدأ القوميات.

          ولابد من القول هنا إن المشروع الصهيوني نفسه في فلسطين لم يقم به الدينيون ولم يلعب فيه غلاة المتدينين اليهود دورا مذكورا, فكل قادة الصهيونية وزعماء وأصحاب الدور التاريخي فيها هم من العلمانيين بل من اليهود الملحدين الذين ينظرون إلى (العهد القديم) على أساس أنه قصتهم القومية وتاريخ جنسهم. وقد أحسن المفكرون العرب الذين فهموا جوهر هذه الهجمة الغربية التي منها مشروع إقامة إسرائيل فهما سليماً فلم يقعوا في التبسيط الذي يقول إن هؤلاء الآتين من الغرب هم مسيحيون ويهود وما علينا إلا أن نكون مسلمين حتى يتأمن لنا النصر الذي حققناه في وجه الصليبية.

          إن الذين يفهمون الغرب الذي تواجهه القومية العربية منذ أواخر أيام الدولة العثمانية على أنه شيء جديد تماما مختلف بالنوعية عن الغرب الذي واجهه المسلمون والعرب الأوائل هم وحدهم الذين يستطيعون أن يحققوا أي علاقة متكافئة معه.

          ردّا على جديد قام في الغرب فكر العرب في أواخر أيام الدولة العثمانية بجديد يقترحونه في مواجهة هذا الغرب يماثله في أنه قومي ويماثله في أنه يقول بالعلم وبالحرية وبالشخصية الحضارية وبالقومية.

          لم ينهزم العرب في فلسطين لأنهم كانوا عصريين, أو لأنهم كانوا قد عرّضوا أنفسهم لسموم الوطنية والقومية والحرية, وإنما خسر العرب معركتهم لأنهم لم يكونوا كذلك, بل كانوا ماضويين أمام عصري.

          والآن وأمام مشروع سلم مقترح على المنطقة مدعوم من نظام عالمي جديد نحن في وضع مشابه تماماً لذلك المشروع الذي اقترحه الأقوياء على الشريف حسين في آخر الحرب العالمية الثانية, وهو إنشاء مُلك عربي. وخلافا لما نسمع من (الإسلاميين) لم يخطئ الشريف حسين الثائر على تركيا عام 1916  لكونه لم يتصرف كعثماني ملتزم باسطنبول. بل أخطأ لأن الدعوة العربية التي استند إليها, والفئات العربية التي اعتمد عليها, والطلائع العروبية التي ناصرته, لم تتصف بتلك المواصفات التي تجعل منها حركة حديثة في مستوى العصر. وكانت محقة مائة بالمائة في يأسها من المواجهة العثمانية للغزوة الغربية, ولكنها كانت غير مستكملة لشروط العصر, ولا كان الشريف حسين نفسه, والحق يقال, رجل عصر بهذا الوصف.

          ليس بالشعارات القومية وحدها تحيا الأمم ولكن دون مبدأ التكتل على أساس القومية والعروبة, مضافاً إليه شرط المعاصرة, لا سبيل إلى دخول هذا النظام العالمي الجديد المقفل أمام طامعين: عصراوي يترك جذوره ليدخل هذا العالم, وماضوي يرفض التحلي بقيم العصر. كلا الطامعين لا يستطيع الدخول إلى هذا النظام العالمي الجديد. وإنما يكون الدخول إلى هذا النظام بالتمسك بسر العصر والجذور معاً.

          وعلينا ألا ننسى لحظة واحدة أن بداية الفكرة العربية في أواخر أيام الدولة العثمانية كانت المحطة الأولى الصائبة على طريق الجمع بين المعاصرة والجذور, إذ كانت تتمسك بالإسلام وسر العصر معا. بينما كانت الكمالية في تركيا ترتكب خطأ فادحا يتمثل في التخلي عن الإسلام باسم السير مع العصر. وإذا كانت الحركة العربية لم تفلح في تزويد هذه الأمة بالطاقة الكافية لدخول ساحة الدفاع عن الذات بكفاءة, فليس لأنها تمسكت بالعروبة مفهومة على أنها الإسلام زائد العصر, بل لأنها لم تعش عروبتها هذه بالمعنى الصحيح.

          الآن نحن أمام محطة ثانية, والخطر الأكبر هو الارتداد على الانطلاقة العربية لأنها في جوهرها ليست إلا تطلعا إلى جمع بين العصراوية والجذور. وهذا التطلع الذي كان مشروعا في الفترة الأخيرة من حياة الدولة العثمانية مشروع أيضاً الآن, وإن يكن بحاجة إلى نقد ومراجعة وتقويم. وعلينا أن نعترف أننا أخطأنا وارتكبنا أصنافا من التهاون بحق العصر علينا, وحق الزمن الذي نعيش فيه.

          إن الوثبة الثانية للالتقاء بالعصر لا تكفيها للنجاح الشروط الناقصة للوثبة الأولى, ولكن لا بديل عن العروبة بصفتها هوية وحركة نهوض, خصوصا بصفتها اتجاها للأخذ بسر العصر وسر تفوق الغرب دون التنكر للجذور.

          وهنا لابد من القول إن الولايات المتحدة الأمريكية قائدة هذا النظام العالمي الجديد, مالكة أسرار التقدم في مجالات السيطرة على الطبيعة وزيادة قدرة الإنسان, تعيش داخل بلادها حركة يرى فيها المفكرون الأمريكيون جميعاً الوسيلة الوحيدة لإقامة الذات على قاعدة حضارية ثابتة هي حركة العودة إلى الجذور.

          إن الولايات المتحدة التي تعيش ذروة القوة التقنية والعلمية تعيش أيضاً وفي الوقت ذاته ذروة الشعور بالحاجة إلى الجذور. تشعر الولايات المتحدة أن كل شيء بنته حتى الآن وتفوقت به على سواها مهداة إذا لم تتأسس إنسانية أمريكية ذات جذور عميقة في الأرض.

          هل توفق أمريكا في البحث عن جذور لها فتضمن إلى الأبد سيطرتها على هذا العالم الجديد لا تخشى عليه من أوربا واليابان وسواهما? ذلك ما هو متروك للزمن. لكن ما يهمنا نحن كعرب هو أن نسأل أنفسنا: هل نوفق في بحثنا عن سر العصر نكمل به جذورنا وندخل هذا الباب المغلق في وجهنا, باب هذا النظام العالمي الجديد, أم نحن, كما يظهر, لانزال منقسمين: عصراويين بلا جذور على منوال مصطفى كمال في تركيا يدقون على باب هذا العالم فلا يفتح لهم أحد, وجذوريين لا يملكون شيئا من سر هذا العصر?

          لقد تركت الدولة العثمانية وريثين: تركيّاً أخذ بالكمالية أي بسر العصر دون الإسلام, وعربياً أخذ بالعروبة متمسكا بالعصر والإسلام معا, وبين الخيارين لاتزال الأمة العربية تشعر أنها أخذت بالخيار الأفعل في دخول العصر, بينما تركيا تعيش حاليا شكا كبيرا في صحة الخيار الذي أخذت به. فهي تستمر في محاولة وضع الإسلام على الرفّ, بينما يستمر الغرب في النظر إليها والتعامل معها على أنها أمة إسلامية.

المصدر: http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=1388&ID=47

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك