الاستشراق والمستشرقون: نظرة منصفة

الكاتب  :  أسماء عبد الرحمن العقيل

كلما فتحت كتاب المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي للمستشرق الهولندي فنسنك, أخرّج حديثاً؛ توقفت فترة ‏متعجبة لهذا المجهود الضخم الذي نفع المسلمين إلى درجة أن هذا المعجم مقرر تدريسه في الجامعات الإسلامية ‏وخصوصاً قسم الحديث والسنة، بل لا تكاد تخلو مكتبة طالب علم من هذا المؤلف لعظيم فائدته وشدة حاجة ‏الدارس والعالم في معرفة مواطن الأحاديث من مصادرها الأصلية.‏

وأتساءل ما بيني وبين نفسي، لماذا ألف المستشرق الهولندي هذا المعجم الضخم مع جماعة من المستشرقين، ‏ومكثوا في تأليفه 62 عاماً، وبذلوا جهوداً لا يمكن وصفها في فهرسة أحاديث تسعة كتب: البخاري ومسلم ‏والترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه والموطأ ومسند الإمام أحمد وسنن الدارمي.‏
هل بذل هذا الجهد العظيم لأجل تسهيل غاياتهم وأهدافهم في الإساءة لهذا الدين، والتشكيك في النبوة والرسالة، ‏بحيث يسهل لهم الرجوع لأي حديث في أي مصدر دون عناء في البحث؟ أم أنهم فعلوا ذلك حباً في علوم الشرق ‏وإكباراً لهذا الدين العظيم، وهذه العلوم الجليلة، فساهموا في إثراءها وتأليف هذا المعجم وغيره من المؤلفات ‏الضخمة، ليضيفوا لمكتبة الشرق وعلومها عملاً لا يمكن الاستغناء عنه؟
قد لا نختلف في أن المستشرقين قدموا خدمة للعرب والإسلام بسبب ابتعاد بعضهم عن السيطرة الكنيسية، ‏وتأثيرات المسيحية، معتمدين على المنهج العقلي والمنطقي في كتابة التأريخ، ولكن هذا لا ينفي وجود أهداف ‏خبيثة عند بعضهم يرمون من خلالها الإساءة للدين والتشكيك في الرسالة والنبوة وفي القرآن.‏
ولا شك أن العالم عرف منهم حضارة بابل وسومر وآكد وآشور والفراعنة وغيرها، وفهرسوا الأحاديث النبوية ‏بل ترجموا القرآن الكريم.‏
ولكن لا بد أن نقف أمام أعمالهم هذه موقف المحلل والمدقق خصوصاً في التأريخ والعقيدة والتراجم.‏
فلنتوقف قليلاً لنتعرف على ماهية الاستشراق ومتى ظهر، ودوافع المستشرقين، ونبذة عن بعض المستشرقين ‏المشهورين ومؤلفاتهم وردود العلماء عليهم ثم نختم بموقف المسلمين منهم.‏
مفهوم الاستشراق
عند النظر إلى لفظة (استشراق) نجد أنها مصوغة على وزن استفعال، ومشتقة من مادة (ش ر ق)، (وقد أضيف ‏إليها الألف والسين والتاء لتعني طلب الشيء فيصبح المعنى: طلب لغات الشرق وعلومه وأديانه. أو التعرف إلى ‏العالم الشرقي من خلال الدراسات اللغوية والدينية والتاريخية والاجتماعية وغيرها, مع أنه لم نجد لها في ‏القواميس العربية القديمة ذكراً أو تعريفاً، ولعل السبب في ذلك راجع إلى تأخر حدوثها.‏
ومن الغربيين الذين تناولوا ظهور الاستشراق وتعريفه المستشرق الفرنسي مكسيم رودنـسون ‏Maxime ‎Rodinson‏ الذي أشار في كتابه الصور الغربية والدراسات الغربية الإسلامية إلى أن مصطلح الاستشراق ظهر ‏في اللغة الفرنسية عام 1799بينما ظهر في اللغة الإنجليزية عام 1838، وأن الاستشراق إنما ظهر للحاجة إلى ‏‏«إيجاد فرع متخصص من فروع المعرفة لدراسة الشرق», ويضيف بأن الحاجة كانت ماسة لوجود متخصصين ‏للقيام على إنشاء المجلات والجمعيات والأقسام العلمية.‏
ولقد رأى الغرب أن هذا المصطلح ينطوي على حمولات تاريخية ودلالات سلبية, وأن هذا المصطلح لم يعد يفي ‏بوصف الباحثين المتخصصين في العالم الإسلامي، فكان من قرارات منظمة المؤتمرات العالمية في مؤتمرها ‏الذي عقد في باريس عام 1973 بأن يتم الاستغناء عن هذا المصطلح، وأن يطلق على هذه المنظمة (المؤتمرات ‏العالمية للدراسات الإنسانية حـول آسيا وشمال أفريقيا (‏ICHSANA‏, وعقدت المنظمة مؤتمرين تحت هذا ‏العنوان إلى أن تم تغييره مرة ثانية إلى (المؤتمرات العالمية للدراسات الآسيوية والشمال أفريقية ( ‏ICANAS‏. ‏وقد عارض هذا القرار دول الكتلة الشرقية (روسيا والدول التي كانت تدور في فلكها).‏
وإن اختاروا تغيير التسمية لأهداف معينة, ولكن تغيير الاسم يجب ألا يصرفنا عن الانتباه لما يكتبونه وينشرونه.‏
أما التعريف المتعارف عليه فهو: دراسات أكاديمية يقوم بها علماء غير مسلمين للإسلام والمسلمين من شتى ‏الجوانب عقيدة وشريعة وثقافة وحضارة وتاريخاً ونظماً وثروات وإمكانات، سواء أكانت هذه الشعوب تقطن ‏شرق البحر الأبيض أم الجانب الجنوبي منه، وسواء أكانت لغة هذه الشعوب العربية أم غير العربية كالتركية ‏والفارسية والأوردية وغيرها من اللغات، لأهداف متنوعة ومقاصد مختلفة.‏
ولقد اختار الدكتور أحمد عبد الحميد غراب في كتابه رؤية إسلامية للاستشراق هـذا التعريف:‏
دراسات (أكاديمية) يقوم بها غربيون كافرون –من أهل الكتاب بوجه خاص- للإسلام والمسلمين، من شـتى ‏الجوانب عقيدة، وشريعة، وثقافة، وحضارة، وتاريخاً، ونظمـاً، وثروات وإمكانات.. بهدف تشويه الإسلام ‏ومحاولة تشكيك المسلمين فيه، وتضليلهم عنه، وفرض التبعية للغرب عليهم، ومحاولـة تبرير هذه التبعية ‏بدراسات ونظريات تدعي العلمية والموضوعية، وتزعم التفوق العنصري والثقافي للغرب المسيحي على الشرق ‏الإسلامي.‏
بداية الاستشراق
اختلفت الآراء في بداية الاستشراق فقد ذكر د.مصطفى السباعي في كتابه الاستشراق والمستشرقون أن بداية ‏الاستشراق كانت عندما ذهب بعض الرهبان الغربيين إلى الأندلس في إبان عظمتها ومجدها وتثقفوا في مدارسها ‏وترجموا القرآن والكتب العربية إلى لغاتهم وتتلمذوا على علماء المسلمين في مختلف العلوم وبخاصة الفلسفة ‏والطب والرياضيات، ومن أوائل هؤلاء الراهب الفرنسي (جربرت ‏Jerbert‏) الذي انتخب بابا لكنيسة روما عام ‏‏999م بعد تعلمه في معاهد الأندلس وعودته إلى بلاده، وبطرس المحترم 1092-1156، وجيراردي كريمون ‏‏1114-1187. وبعد أن عاد هؤلاء الرهبان إلى بلادهم نشروا ثقافة العرب ومؤلفات أشهر علمائهم.‏
ومنهم من ذكر أن بدايته كانت في القرن الرابع عشر ميلادي مستندين بذلك إلى مؤتمر فينا، الذي أصدر قراراته ‏بتأسيس عدد من كراسي اللغة العربية في عدد من الجامعات.‏
وأكثر الآراء انتشاراً أنه بدأ في القرن الثاني عشر الميلادي, مستندين بذلك على أمور:‏
أن في هذا القرن تمت ترجمة القرآن لأول مرة إلى اللغة اللاتينية.‏
كما أنه في نفس القرن أنشئ أول قاموس لاتيني.‏
كما بذلت جهود كبيرة لتدريس اللغة العربية في القرن نفسه.‏
والجدير بالذكر أنه لم يظهر مفهوم الاستشراق في أوروبا إلا في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي؛ فقد ظهر أولاً ‏في إنجلترا عام 1779م، وفرنسا عام 1799م، وهو العصر الذي بدأ فيه الاستعمار على العالم الإسلامي ونهب ‏تراثه الفكري ومخطوطاته.‏
وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر عقد أول مؤتمر للمستشرقين في باريس عام 1873م.‏
وقد بلغ اهتمام المستشرقين بدراسة الإسلام ذروته في إصدارهم (دائرة المعارف الإسلامية) التي تعد من أكبر ‏الدراسات الاستشراقية للإسلام، وأعظمها خطورة خلال القرن العشرين، بل هي تمثل خلاصة جهود المستشرقين ‏في الدراسات الإسلامية خلال القرون الميلادية الثلاثة الأخيرة. وتشير دائرة المعارف الإسلامية إلى أن دراسات ‏المستشرقين للإسلام لم تكن مجرد جهود فردية، بل كونت أيضاً اتجاهاً منظماً يسير وفق خطط تشرف عليها ‏مؤسسات علمية إذ لم يكن إصدار الدائرة عملاً فردياً يشرف عليه بعض المستشرقين المنتمين إلى قطر واحد أو ‏إلى لغة واحدة، بل كان عملاً جماعياً دولياً عقدت له المؤتمرات، وتنادى من أجله المستشرقون من شتى دول ‏أوروبا.‏
دوافع الاستشراق ‏
لم يتوقف اهتمام علماء الغرب بالإنتاج الموسوعي لمعارفهم فقط، بل اهتموا بإنتاج الأعمال الموسوعية للأديان ‏والحضارات الأخرى, ومن بينها الإسلام الذي لقي عناية خاصة في هذا المجال، وظهر ذلك جلياً بوضعهم ‏فهارس لمصدري الإسلام الأساسيين مثل العمل الذي قام به المستشرق الألماني جوستاف فلوجل بعنوان (نجوم ‏الفرقان في أطراف القرآن) وهو أول فهرس نشر في أوروبا للقرآن الكريم. وكذلك العمل الذي بدأه المستشرق ‏الهولندي فنسنك بعنوان (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي).‏
إن أهم ما يعتني به الاستشراق هو دراسة الإسلام والآداب العربية والحضارة الإسلامية.‏
وقد كان أول اهتماماتهم هو دراسة اللغة العربية، لأنها هي المفتاح للدخول إلى هذه العلوم والمعارف والثقافة ‏الخاصة بالمسلمين وغيرهم، ولهذه الضرورة بدأ الغرب خلال القرون الوسطى في دراسة لغتين: العبرية، ‏لصلتها بالدين النصراني، والثانية: العربية، لكثرة من يتكلم بها، ولوفرة المؤلفات المكتوبة بها، ولأن الفلاسفة ‏والأطباء اعتمدوها لعرض علومهم, ثم انتشر بعد ذلك تعلم اللغات الشرقية الأخرى كالفارسية والتركية، وأنشأ ‏الأوربيون المعاهد الخاصة في ذلك.‏
من أشهر المستشرقين
جولد تسيهر: (1865-1921م) مستشرق يهودي مجري بدأ رحلته عبر سوريا وفلسطين ومصر وحضر ‏محاضرات المشايخ المسلمين في مسجد الأزهر, وكان أول يهودي في العالم تقلد منصب أستاذ في جامعة ‏بودابست واعتنى في اللغة العربية على وجه الخصوص.‏
يعتبر جولد تسيهر أول مستشرق عمل على التشكيك في الأحاديث النبوية الشريفة، وقد ألف الكتب الكثيرة بهدف ‏الطعن في الإسلام، وانبهر بكتاباته الكثير من العرب وقد عارضه بعض المستشرقين المتأخرين المنصفين.‏
من كتبه (الظاهرية مذهبهم وتأريخهم) بحث فيه عن الفقه وأصوله ودرس دراسة تفصيلية عن المذهب الظاهري ‏وأصول المذاهب الفقهية المختلفة والإجماع والاختلاف بين الأئمة والصلة بين هذه المذاهب وبين المذهب ‏الظاهري وما بينهما من فروق.‏
والكتاب الآخر (دراسات إسلامية) قسمه إلى جزءين، في الجزء الأول تحدث عن الوثنية والإسلام والجزء الثاني ‏وهو الأهم: تحدث عن علم الحديث.‏
ومن مؤلفاته أيضاً: (الإسلام والدين الفارسي), (مذاهب التفسير الإسلامي) الذي ترجم للعربية باسم (العقيدة ‏والشريعة في الإسلام)، ويعتبر هذا الكتاب من أخطرها حيث تحدث فيه عن محمد صلى الله عليه وسلم والإسلام ‏ونفى كونه أتى بجديد وأرجع نمو الإسلام إلى التيارات والآراء الهندية والأفلاطونية، كما اتهم الإسلام والقرآن ‏أنهما لم يتمّا كل شيء وأن الفقه الإسلامي تطوره وتأثره من القانون الروماني وأسهب في العقيدة وعلم الكلام ‏بخزعبلات لا صحة لها.‏
وقد تصدى له كثير من العلماء وردوا على مزاعمه وآرائه الباطلة وممن قام بالرد عليه د.علي حسن عبد القادر ‏بعد أن كان من المعجبين فيه لكن تبين له خلاف ذلك، وقد أكد في ترجمته لكتابه (المذاهب الإسلامية في تفسير ‏القرآن) أن المؤلف قد تخلى عنه قلم العالم النزيه في نقد المسائل نقداً سليماً ومعالجتها في جو علمي لا تشوبه ‏الأهواء ولا تعكر صفاءه الأوهام والشكوك.‏
ومن أفضل من قام برد مزاعمه وتفنيد آرائه د.مصطفى السباعي وهو أول من رد عليه بكتابة بحث فند فيه آراءه ‏وشكوكه في الحديث النبوي وطعنه في الإمام الزهري عالم الحديث، ثم ألف كتاب (السنة ومكانتها في التشريع ‏الإسلامي).‏
كما قام أيضاً الشيخ محمد الغزالي بالرد على جولد تسيهر وذلك في كتابه (دفاع عن العقيدة والشريعة ضد ‏مطاعن المستشرقين).‏
داود صمويل مرجليوث: (1858- 1940م) مستشرق إنكليزي. ولد بلندن، وتلقى العلم في ونشستر، ثم التحق ‏بكلية نيوكوليج بجامعة أكسفورد، وحصل على الدكتوراه في الآداب، وعين أستاذاً لتدريس اللغة العربية في ‏جامعة أكسفورد، وعين مدرساً للغات الشرقية في جامعة لندن. انتخب عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق، ‏وعضواً في جمعية المستشرقين الألمان، وتقلد أخيراً رئاسة الجمعية الآسيوية الملكية ببريطانيا، وتوفي بلندن ‏‏1940م, ارتبط مرجليوث بحركة الاستشراق, واشتهر بقضية انتحال الشعر الجاهلي التي قيل إن طه حسين تأثر ‏بأقواله واتجاهاته فيها. وله جهود كثيرة في مجال الدراسات والتحقيقات العربية والإسلامية, فقد حقق كتاب -‏معجم الأدباء- لياقوت الحموي، وفهرس عدداً من البرديات العربية، وشرح رسائل المعري وعقب عليها، وترجم ‏أجزاء من (تجارب الأمم) لمسكويه, وكتب سير بعض المتصوفة مثل (عبد القادر الجيلانى).‏
وقد أرق الإسلام مرجليوث وهاله المد الإسلامي شرقاً وغرباً فوضع رسالة عن –مستقبل الإسلام- ناقش فيها ‏بعض أقوال المستشرقين عن مستقبل الإسلام واختلف معهم, لأنهم رأوا أن الإسلام يضمحل ويضعف إذا اتصل ‏بالتمدن الحديث، أما هو فقد ذهب إلى أن الإسلام يطول بقاؤه لالتئامه بالعلم والمدنية الجديدة، وهو رأي صحيح ‏ولكنه خطير في الوقت نفسه لأنه يأتي بمنزلة التوجيه العام لحرمان المسلمين من التقدم العلمي والتحضر ‏الحديث. ‏
وقد عرضت الرسالة ونقدتها مجلة الهلال عدد نوفمبر 1904م وله كتاب آخر خطير عنوانه (محمد وظهور ‏الإسلام) عرّض فيه بعرب الجاهلية ورماهم بعدم الغيرة على العرض وعدم عفة النفس.. أما حديثه عن النبي ‏صلى الله عليه وسلم فيخلو من التهذيب والدقة العلمية، فقد ذكر أن لفظ «حنيف» معناه في السريانية (الوثني) ‏وفي العبرية (المنافق)، وأن المسلم معناه في الأصل الخائن وأن المسلمين حولوه إلى معنى التسليم المشهور ‏اليوم، والكثير من الأخطاء التاريخية التي تدل على سوء نية، مما اضطرت معه الهلال عرض الكتاب وتفنيده ‏والرد عليه وتصحيح الأغلاط التي وقع فيها في عدد مارس 1906م.‏
فنسنك ، أرنت: 1882م-1939م ‏vensinek‏ مستشرق هولندي واضع الأساس الأول للمعجم المفهرس لألفاظ ‏العربية، وقد تولى تحرير دائرة المعارف الإسلامية, وكانت له فيها مقالات قيمة، تتلمذ على يد المستشرق ‏هوتسمان ودي خويه وسنوك هورخرونيه وسخاو. حصل على الدكتوراه في بحثه (محمد واليهود في المدينة) ‏عام 1908م. وصاحب المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي الذي قام بتحقيقه وترجمته محمد فؤاد عبد الباقي ‏‏(1882 - 1967م)، وكان فؤاد عبد الباقي قد أرسل يستأذنه في ترجمته ونشره فأذن له بل فرح في ذلك وأرسل ‏إليه الفصل الأول من المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، فاطلع عليه، ووجد به أخطاء كثيرة، فضمنها كشفاً ‏أرسله إلى الدكتور فنسنك، فسُر لذلك وطلب منه فنسنك تصحيح (بروفات) المعجم، فقام بتصحيح أخطائه ‏وترجمته، وقد تخطف العلماء هذا المعجم أول ظهوره، حتى إنه كان يباع قبل أكثر من أربعين سنة بخمسة آلاف ‏ريال حين كانت الآلاف الخمسة هذه تساوي ثروة كبيرة فعلاً.‏
بدأ في عمل المعجم المفهرس مستعيناً بعدد كبير من الباحثين وتمويل من أكاديمية العلوم في أمستردام ومؤسسات ‏هولندية وأوروبية أخرى،  -وفهرسة الأحاديث بالنسبة لهم من أهم الأمور التي تساعدهم في دراسة الإسلام ‏والسبر في غوره والإحاطة بجميع جوانبه- وقد فهرس في معجمه للكتب الستة: البخاري ومسلم والترمذي وأبو ‏داود والنسائي وابن ماجه والموطأ ومسند الإمام أحمد وسنن الدارمي, وأصدر أيضا كتاباً في فهرسة الحديث ‏فهرسة موضوعية لكتب الحديث: البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والموطأ ومسند أحمد ‏وسنن الدارمي ومسندي زيد بن علي وأبي داود الطيالسي وطبقات ابن سعد وسيرة ابن هشام ومغازي الواقدي، ‏وقد رتب كتابه على المعاني والمسائل العلمية والأعلام التاريخية وقسم كل معنى أو ترجمة إلى الموضوعات ‏التفصيلية المتعلقة بذلك ثم رتب عناوين الكتاب على حروف المعجم، واجتهد في جمع ما يتعلق بكل مسألة من ‏الأحاديث والآثار الواردة في هذه الكتب، ترجمه فؤاد عبد الباقي بعنوان (مفتاح كنوز السنة)، وهو بخلاف ‏المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي الذي تم تبويبه على الحروف وفهرسه فهرسة لفظية, وله مؤلفات عديدة ‏منها كتاب في العقيدة الإسلامية نشأتها وتطورها التاريخي.‏
جوستاف لوبون: 1841-1931م، طبيب ومؤرخ فرنسي عني بالحضارة الشرقية، من أشهر مؤلفاته (حضارة ‏العرب), وقد عني بالحضارات المصرية وحضارة الأندلس وحضارة الهند، ويعتبر من المنصفين الذين أنصفوا ‏الأمة العربية والحضارة الإسلامية.‏
وقد خالف غوستاف كثير من المستشرقين والمؤرخين الأوربيين في إنكار فضل الإسلام على العالم الغربي, بل ‏إنه أقر أن المسلمين هم من مدنوا أوروبا، وقد قدم هذا الكتاب منصفاً لتاريخ العرب, وكان عادلاً في تأريخه وفي ‏حضارتنا الذي جمع فيها كل ما كان له تأثير منها للعالم دون إجحاف أو تزييف للحقائق.‏
وقد كانت له آراء منصفة تخط بماء الذهب من ذلك رأيه في المرأة حيث قال: الإسلام لا النصرانية هو الذي رفع ‏المرأة من الدرك الأسفل الذي كانت فيه، وكان يرى أن عمل المرأة هو تربية الأسرة مشاطرة لرأي الشرقيين.‏
وله مؤلفات أخرى لكن هذا الكتاب من أبرز مؤلفاته والتي انتفع منها المسلمون.‏
جاك بيرك: (1995 - 1910م) مستشرق فرنسي، مؤرخ اجتماعي للعالم الإسلامي وأحد أعمدة الثقافة الفرنسية ‏المعاصرة.‏
شغل العديد من المواقع الفكرية في فرنسا والعالم العربي وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة. أنجز العديد من ‏الآثار الفكرية ومنها ترجمته للقرآن الكريم والتقديم لهذه الترجمة، وكتاب (الإسلام من الأمس إلى الغد).‏
وكان من أهداف ترجمته للقرآن هو أن تكون أساساً لتوجيه المزيد من الإدانات ضد القرآن الكريم، هذا ما ‏وضحته د.زينب عبد العزيز في كتابها رسالة إلى جاك بيرك والذي كشفت فيه أنه يتعامل مع النص القرآني بوجه ‏ويتحدث عنه بوجه آخر يشوه صورة الإسلام.‏
وإن كان عمله يعتبر جهداً ملموساً لم يقم به كثير من المترجمين فيؤخذ صوابه ويترك منه خطؤه، وقد أنصف ‏بعضهم في رأيهم فيه استناداً لأعماله الجليلة ومواقفه الشجاعة والعادلة إزاء العرب. ‏
وهناك غيرهم الكثير من المستشرقين من الذين دأبوا على دراسة العلوم العربية، وألفوا العديد من الكتب التي ‏تعتبر في بعض الأحيان مراجع لا تستغني عنها المكاتب العربية ضمن ثروتها العلمية وإن اختلفت أهدافهم.‏
بل بعضهم كانت مؤلفاته بمثابة اكتشاف جديد لبعض التراث العربي الذي اندثر, كما فعل المستشرق الفرنسي ‏الشهير لويس ماسينون (1883-1962م) الذي درس التصوف وتخصص في دراسة الحلاج ومصطلحات ‏الصوفية, وبالرغم من آرائه السلبية في تصرفاته وأقواله التبشيرية إلا أنه قدم أعمالاً أدبية كثيرة، وأعاد اكتشاف ‏الكثير من التراث العربي والإسلامي.‏
أخيراً
لا يمكن التحامل المطلق ولا الثناء المطلق, إنما هي نظرة منصفة لأعمال هؤلاء بغض النظر عن أهدافهم, إلا إذا ‏كان في عملهم إساءة واضحة وتحريفاً جليّاً.. هنا نقف موقف المدافع والمفند في الرد على أباطيلهم بمنهجية عادلة ‏وحجج قوية كما فعل كثير من علماؤنا وألفوا الكتب في ذلك. وعلينا ألا نغفل جانب أن المستشرق يكتب عندما ‏يكتب عن الإسلام فإنه لا يتجرد عن مواريثه الدينية والفكرية الخاصة بل يكون واقعاً تحت تأثيرها.‏
ولكن لا ننسى أن البعض من المعاصرين منهم –وإن كانوا قلة-  أهدافهم علمية لأجل دراسة العلوم الشرقية ‏واكتشاف ما اندرس منها حباً في العلم والتراث, بل إن بعضهم أسلم كما حدث مع محمد أسد، ونجح الكثيرون ‏منهم بنقل حضارات كانت مغيّبة ودراستها وتحليلها وجمعها كما سبق وأوضحنا في مدى استفادة المسلمين من ‏كثير من كتبهم وبخاصة كتب التراجم والتخريج, ومن أعظمها المعجم المفهرس لألفاظ الحديث والذي مازال إلى ‏الآن في يد كل طالب علم وطالب حديث بغض النظر عن أهدافهم في تأليفه.‏
فتكون عندنا منهجية عادلة في الحكم على المستشرق ومؤلفاته لتكون قاعدتنا هي:‏
أن الاستشراق الجاد هو الذي يقوم بعمل علمي مفيد بعيداً عن أي مغالطة أو طائفية أو تشويه لصورته أو إفساد ‏لمكانته أو تهجماً على العرب والإسلام.
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك