إدوارد سعيد: قمة عربية شامخة خارج المكان

محمد شاهين

 

في يونيو 1983 دعي إدوارد سعيد للاشتراك في سمنار بجامعة أكسفورد بالاشتراك مع أبو لغد ويوسف الصايغ رئيس تحرير مجلة فلسطين - إسرائيل، التي تصدر في باريس. غص مدرج سينت كاثرين بالحضور من أساتذة جامعات بريطانية ومفكرين بريطانيين وغير بريطانيين. عنوان السمنار كان «غزو إسرائيل أرض لبنان». ما أن وقف إدوارد سعيد خلف المنصة حتى وقف الحضور وقابلوه بتصفيق حار، وفعلوا كذلك عندما فرغ من كلمته التي كان فحواها أن إسرائيل تبحث دائما عن مكان خارج الأرض المحتلة تخلق فيه أزمة، لتحول الأنظار عن الأزمة الحقيقية، وهو احتلالها مكان الغير الذي هو فعلا مصدر الأزمات، أي كيف تعتمد إسرائيل على تصدير أزمتها إلى الجوار، بل إلى العالم أجمع.

 

وقفت مع الذين اصطفوا للسلام على إدوارد سعيد بعد المحاضرة والظفر بكلمة أو تعليق منه. قال لي إنه غير راض عما قال في أكسفورد رغم كل التقدير الذي استقبل به ولا عما قال ويقول في كل مكان في أمريكا من ساحل كاليفورنيا غربًا إلى الساحل الشرقي للبلاد. واستطرد قائلا: القول يجب أن يكون في مكان الفعل فوق أرضنا وبين أهلنا، وأكد أنه لا يؤمن بجدوى أي قول خارج المكان. ربما نتذكر هنا أنه جاء إلى عمان في أواخر الستينيات من القرن الماضي ليشارك المدافعين عن الحق الفلسطيني همهم، وأنه حاول جاهدا تعلم العربية ليستطيع الكتابة بها، بل وأنه قضى سنة تفرغه العلمي عام 1972 في الجامعة الأمريكية في بيروت لهذا الغرض عندما أشرف قسطنطين زريق على المشروع، علاوة على أن نجليه قضيا وقتا في الضفة الغربية على أمل الاستمرار في العيش هناك رغم مضايقات سلطات الاحتلال لهما!

في شهر يوليو من العام نفسه حظيت بمقابلة إدوارد سعيد عندما كنت أقضي صيف ذلك العام في إجازة بحثية في جامعة ييل. مازلت أعجب كيف تكرم علي بسويعات من وقته، خصوصًا أنني لم أكن آنذاك قد قرأت له ما كان يكفي للمبادرة بنقاش حول خطابه الذي غير مسار النقد الثقافي والنظرية الحديثة في العالم. في مكتبه قدم لي عددًا من الكتب التي كان مكتبه يعج بها، من بينها نسخة جديدة صدرت على التو من مطبعة جامعة كولومبيا، وهي كتاب ريموند وليمز «الثقافة والمجتمع»، عثرت في طياته لاحقًا على رسالة من مدير المطبعة يطلب من إدوارد سعيد عرضًا للكتاب ولو بسطر واحد!

في طريقنا إلى المطعم المجاور للحرم الجامعي كان يستوقفه عدد من الطلاب المارة، فقط ليحظون بالسلام عليه، وسمعت من كان يهمس باسمه لمن يقف بجواره، وكأنه نجم من هوليوود. سألته ونحن نتناول الغداء، لماذا يا إدوارد كل هذا العداء بيننا وبينهم؟ فأجاب إنهم يكرهوننا، ثم تابعت وكيف تستطيع أنت شخصيا العيش بينهم (نحن نعلم أن طرفا معاديًا أضرم النار في مكتبة في مرة من المرات)؟ فأجاب «أنا شوكة في حلوقهم». ذكر لي ونحن نتجاذب أطراف الحديث أن أمنيته أن ينسحب من العالم ويكتب رواية، واستطرد قائلا وهو يحمل غليونًا فارغًا من التبغ: على كل فلسطيني أن يروي روايته!

عندما أتأمل حياة إدوارد سعيد في الغرب تبرز مفارقات كثيرة، أبرزها أن حياة المنفى التي عاشها كانت بلا شك الرافعة التي أوصلته إلى قمة الشهرة، فهي التي جعلت كبار المثقفين في العالم ينتبهون إلى فكره الكوني ويشيدون به في كتاباتهم. كتبت عنه صحيفة الجارديان البريطانية مقالا بعنوان «أسد جوديا» الأسد الأسطوري في التوراة. أما جون بيلي فقد ذكر في الملحق الأدبي لصحيفة التايمز اللندنية أن إدوارد سعيد أبدع لغة إنجليزية جديدة كان من شأنها أنها ساهمت في هدم دعائم البنيوية وتشييد نقد ثقافي مازال مهيمنًا منذ بداية الثمانينيات. أما توم بولين شاعر أكسفورد والأستاذ في جامعتها فيقول في مقالة بعنوان «إدوارد سعيد الناقد الفنان» إن إدوارد سعيد أعظم محاضر بل وأكثر المحاضرين إيحاء للجمهور.

أي محاضرة يقدمها إدوارد سعيد، يقول بولين، هي مناسبة فريدة (Unique Occasion). وفي كتاب صدر حديثا يلاحظ توني جودت في سياق إعادة تقييمه لشخصيات بارزة في القرن العشرين: لو لم يكتب إدوارد سعيد سوى كتاب «الاستشراق» (1978)، علاوة على استمراره في وظيفته في جامعة كولومبيا من 1963 إلى حين وفاته 2003، فإنه سيظل واحدًا من أهم المفكرين الذين أثروا عالم الفكر في نهايات القرن العشرين وتركوا بصماتهم عليه.

وقبل عامين تقريبًا خصت مطبعة جامعة كمبريدج في سلسلتها النقدية إدوارد سعيد بكتاب عنه أسوة بمشاهير المفكرين في العالم بغية تعريف أكبر عدد ممكن من جمهور القراء به، يتناول الكتاب عرضا لأهم كتبه وإنجازاته وتأثيره في الفكر العالمي. وقبل سنوات من ظهور الكتاب: «تقديم مطبعة كمبريدج لإدوارد سعيد» عرضت المطبعة على كلية الأدب الإنجليزي في جامعة كمبريدج مشروع دعوته لإلقاء سلسلة من المحاضرات بمناسبة تكريم الشاعر الناقد المعروف وليم أمبسون، (الذي كان طالبًا في الجامعة) لتكون بداية لمحاضرات تكريمية لاحقة. روت لي جليان بير (ديم جليان بير) رئيسة كلية الأدب الإنجليزي أنها قضت ما يقرب من أربعين دقيقة تتحدث إلى إدوارد سعيد على التلفون وهو تحت العلاج في المستشفى في نيويورك، وعندما علمت في اللحظة الأخيرة فقط من المكالمة أنه يوافق على الحضور وإلقاء المحاضرات انتابها شعور مختلط من السرور والارتباك أسقط جهاز التلفون من يدها بعد انتهاء المكالمة. لم تتسع قاعة ميشل للمحاضرات في سجوك سايت، مما اضطر عدد كبير من الحضور أن يجلس خارج القاعة أمام الأجهزة التلفزيونية التي جهزت سلفا للقيام بالغرض.

اتصل بي إدوارد سعيد قائلا باستحياء إنه يخشى ألا تتوافر ثلاجة في غرفته التي خصصتها كلية كنجز لإقامته، ظاناً أنها غرفة في كلية قديمة شأنها شأن كليات جامعتي أكسفورد وكمبريدج وكان يعلم أن كلية كنجز هي الكلية التي انتسبت إليها أيام كنت طالبا.

اتصلت بعميد الكلية وأخبرتني مساعدته أن إدوارد سعيد سيقيم في المبنى الجديد للكلية في غرفة فيها ثلاجة وسيكون على مقربة من المكان الذي يقيم فيه صديق عمره توني تانر، والذي كانت أمنيته في يوم من الأيام أن يحضر إدوارد سعيد إلى كمبريدج، ويقيم فيها بعض الوقت. كذلك ذكرت المساعدة أن المصعد الذي كان معطلا قد أصبح صالحا لينقله إلى الطابق العلوي. أكثر من ذلك ذكرت المساعدة أن الكلية فرشت له السجاد الأحمر الذي لا يفرش إلا في مناسبات مهمة مثل زيارة الملكة.

قبل رحيل إدوارد سعيد بسنوات اعتصم عدد من طلاب جامعة كولومبيا في الحرم الجامعي، مطالبين بإخراج إدوارد سعيد من الجامعة لأنه، كما ادعوا، أستاذ إرهاب. اجتمع رئيس الجامعة بالطلبة المحتجين الذين اعتصموا أمام مبنى الرئاسة وبدأ حديثه إلى الطلاب قائلا إن مطلبهم سخيف لدرجة أنه لا يستحق الاجتماع بهم أصلا، ثم أردف قائلا: أريد أن أسألكم لماذا تجدون فرص الالتحاق بالوظيفة بعد تخرجكم من الجامعة ميسرة للغاية، مقارنة مع غيركم من خريجي الجامعات الأمريكية الأخرى؟ الجواب يجب أن يكون معروفًا لديكم وهو أنكم تتخرجون من جامعة متميزة، وأن تميزها لا يأتي من فراغ بل من حرصها على الاحتفاظ بأساتذة متميزين على رأسهم إدوارد سعيد. تقول الرواية التي تناقلتها وسائل الإعلام (ليست العربية طبعًا) إن الطلاب انفضوا دون كلمة واحدة!

هذا وقد قامت جامعة كولومبيا بجمع ما تركه إدوارد سعيد بعد رحيله من كتب وأوراق ومخطوطات وتخصيص مركز بحثي لها يكون مزارًا للباحثين لاستكمال المهمة الفكرية التي نذر إدوارد سعيد نفسه إليها طيلة وجوده في الجامعة، إذ إنه أصبح تراثًا (Legacy).

وبعد هذا هل كان إدوارد سعيد سيحقق ما حقق؟ وهل كان للأمة العربية أن تجد مكانها على خريطة العالم لو أن القدر حقق حلمه في العودة إلى المكان؟ ربما من الأفضل أن نضع الجواب جانبًا حتى لا ننشغل بجلد الذات!.

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك