الحوار والبحث عن التعزيز
عبدالله المطيري
نحن نتحدث ليسمعنا الناس ونكتب ليقرأنا الناس ونتجمّل ليرانا الناس. هذه حقيقة إنسانية ولكنها قد تتحول إلى أزمة عميقة تجعل الفرد يفقد نفسه في رحلته للبحث عن تأكيد الآخرين
انتهت المقالة السابقة بالحديث عن نوع خاص من إنسان المظهر العالق بين حقيقتين. الحقيقة الأولى أنه ينتمي لثقافة لا حوارية لم يخترها ولم يكن أمامه إلا أن يصبح جزءا منها لتصبح تشكيلا أساسيا في هويته الشخصية. الحقيقة الثانية أنه يجد في نفسه إمكانا دائما للتواصل. في داخله نافذة لم تغلق بعد، يستطيع الناس الدخول إليه من خلالها ومن خلالها يخرج لهم. دخولهم إليه عسير ومشوّش ومربك ولكنه لا ينقطع أبدا. لكي نفهم هذه الشخصية أيضا لا بد من استحضار حقيقة إنسانية إضافية وهي أن الإنسان يحتاج تأكيد الآخرين له، فهو في الأخير كائن اجتماعي. التأكيد أو التعزيز المراد به هنا نوع خاص من تفاعل الآخرين معنا. لنتخيّل هذا المشهد المباشر. إنسان يتحدث لإنسان آخر. لكي يستمر الحديث ويصبح له معنى يجب على كل طرف أن يقوم بتأكيد وجود الآخر وتأكيد وعيه بحضوره. هذا التأكيد يتحقق من خلال النظر للمتحدث أو من خلال إظهار تعبيرات وجه معيّنة تشير إلى التفاعل. ابتسامة، امتعاض، أو حتى بريق عين منصتة بجدّية. هذه العلاقات المتداخلة ضرورية لجعل الحوار يستمر وينتعش ويتصاعد. الحوار لا يتم مثلا مع متكبّر لأنه يفشل في تحقيق شرط التأكيد. الحوار أيضا لا يتم مع كاره أو حاقد لأنه أيضا يفشل في أنه يعطي احتراما واهتماما. التأكيد في عمقه شعور بوجود الآخر وقيمته ومعنى الوجود والتفاعل معه. نحن نتحدث ليسمعنا الناس ونكتب ليقرأنا الناس ونتجمّل ليرانا الناس. هذه حقيقة إنسانية ولكنها قد تتحول إلى أزمة عميقة تجعل الفرد يفقد نفسه في رحلته للبحث عن تأكيد الآخرين.
البحث عن التأكيد حين يتحوّل إلى حالة مفرطة تقود الإنسان إلى أن يشكّل ذاته حسب ما يطلبه الآخرون، وباعتبار أن الآخرين مختلفون فإنه يتحول إلى كائن مختلف مع كل جماعة يتواصل معها. الرغبة المفرطة في الحصول على تأكيد ورضا الناس تجعل الفرد يقلّص من جوهره الذاتي. الجوهر هنا يفترض أن يقوم بدور المعيار أو الميزان الذي يحفظ للفرد شخصية مستقرة نسبيا في سياقات مختلفة. الجوهر هنا ليس كينونة ثابتة بقدر ما هو ما يريده الفرد فعلا ليكون ذاته وكيانه. الجوهر هنا هو قناعة شخصية عميقة وليس مجرد استجابة لما يريده الآخرون منّا أن نكون.
الموازنة بين ما يريده الناس أن نكون وما تريده أنت لنفسك أن تكون هي جزء جوهري من تجربة الإنسان في الحياة ومشهد أساس في حياته الاجتماعية وفي التكوين الاجتماعي لهويته. هذه التجربة وإن كانت مشتركة بين كل الناس إلا أنها تختلف بحسب السياق الثقافي الذي ينتمي له الأفراد. بمعنى أن موقف الجماعة التي يتفاعل معها الإنسان من هذه القضية يحدث فرقا كبيرا في تجربة الفرد مع التأكيد. الجماعة التي تعترف بحق أفرادها بمساحة خاصة يشكّلون فيها ذواتهم بغض النظر عن رأي الناس فيها هي جماعة تخفف الضغط عن أفرادها وتجعل تجربتهم أقلّ حديّة. في المقابل الجماعات التي تصمم مخططها الاجتماعي على فكرة تأسيس المجتمع للهويات الفردية وتعطي للجماعة حق وضع المعايير الجوهرية لطبيعة هذه الهويّة تجعل من التجربة أكثر إشكالا وصعوبة وأعلى تكلفة. الخيار الأول وهو القبول بالمعادلة الاجتماعية بدون نقد، تكلفته الذاتية عالية جدا لأنه في الأخير يفقد الفرد مذاق تجربة الحياة الحقيقية. يفقده شعوره بأنه قائد حياته وبأنه صاحب إرادة وحريّة. قبول الفرد بأن يكون نسخة إضافية في مجموع النسخ يعني إعلانه عن تنازله الطوعي عن الوجود الخاص والفردي. هذه بالتأكيد تكلفة عالية، في المقابل هذا المجتمع يجعل من الاستقلال عنه والتحرر منه عمليّة مكلّفة ومرهقة وعسيرة. هذا المجتمع يجعل من المقايضة بين وجودك الاجتماعي ووجودك الفردي، ونحن نعلم أن الإنسان لا يكتمل وجوده إلا داخل هذين البعدين الوجوديين.
الحوار هنا هو قناة عبور بين الذات والآخر، بين الفرد والجماعة وبين ما أريد أن أكون وما يريده الناس مني أن أكون. الحوار هنا هو مساحة طبيعية ومباشرة للتواصل بين الإرادات المتنوعة والمختلفة. الصراع هو بديل الحوار في كثير من الحالات. المجتمع الذي يجعل الحوار جزءا أساسيا من تركيبته وطريقة عمله ونمطا من أنماط تعامله مع حقائق التنوع والاختلاف يجنّب أفراده التكلفة العالية للصراعات التي غالبا ما تقود إلى القمع أو الاستبداد.
جدلية المظهر والمخبر تجعل من تصوّر الحوار على أنه تواصل يحدث في المنطقة البينيّة أكثر وضوحا. المنطقة البينية بيني وبينك هي منطقة مشتركة أحضر فيها كجوهر مفتوح لتحضر فيها معي أيضا كجوهر مفتوح. مظهري في هذه المساحة المشتركة يقترب جدا من جوهري لذا فإن أبدو أكثر حقيقية وصدقا أمامك، أنتظر منك أن تقوم بالعمل ذاته لكي ينشأ وجود عميق بيني وبينك يسمّى الحوار. الإنسان الذي يحاول جرّ الحوار لينشأ لا في المساحة المشتركة ولكن في جوهره الخاص هو إنسان منغلق على ذاته، ويريد أن يحوّل الآخر لمجرد أداة يمارس من خلالها التواصل مع ذاته. في المقابل إنسان المظهر الذي يتجاوز المنطقة المشتركة والبينيّة ليتحول إلى مجرد نسخة تحت الطلب لما يريده الطرف الآخر يقضي على إمكان الحوار لأن الحوار لا يقوم إلا على وجود طرفين على الأقل. النسخة ليست طرفا قادرا على الحوار لأنها تفتقد للذاتية الخاصة والمعنى المفرد. من هنا نفهم الحوار كحالة للتعرف على الذات قبل كل شيء. الذات هنا تتشكل بالأنا والآخر ولا غنى لها عن أي منهما. هذا المعنى للحوار يقوده لأن يكون مساحة صادقة وغير قابلة للاستثمار الموقت والمحدود.
المصدر: http://www.amnfkri.com/news.php?action=show&id=24679