الحوار العمومي وسؤال الهوية

عبد اله المطيري

بالنسبة لإنسان المظهر، لا يكون الحوار إلا حين يضطر له، لأنه ليس خياره المفضل، وهو ليس إلا استراتيجية لتحقيق أهداف غير مصرّح بها في كثير من الأحيان



في المقالة الماضية، انطلقنا في تحليل مواقف الناس في أثناء الحوار في المجال العام من ثنائية: إنسان الجوهر، وإنسان المظهر. هذه الثنائية يمكن أن تساعدنا في فهم وتحليل ماذا يعني الحوار للمشاركين فيه، ولكنها قد توقعنا أيضا في إشكالات قد تعيق هذا الفهم. قلنا إن من هذه الإشكالات أن تؤخذ هذه الثنائية، عند تطبيقها على المتحاورين، بحدّية، وكأن لدينا إنسانا جوهرا كاملا، وإنسانا مظهرا كاملا، وهذا غير صحيح.

الثنائية هذه نظرية، وقد يتراوح الناس بينها عند التطبيق. أكثر ما يربك هذه الصورة هي الأدوار والمناصب التي يحاول أن يعبّر عنها الناس في العموم، وقد لا تكون بالضرورة تعبّر عن رؤية الإنسان لنفسه. المعلمون مثلا يتقمّصون أدوارا في المجتمع باعتبارهم معلمين، مما يفرض عليهم نمطا معيّنا من السلوك والأدوار. حين يقوم الناس بهذه الأدوار دون أن تعبّر حقيقة عن ما يعتقدون، فهم يقومون بدور رجل المظهر بكل جدارة. هذا الدور يكثر جدا في المجتمعات الحادّة في رسم أدوار محددة للفاعلين الاجتماعيين. في هذه المجتمعات، بالتالي، تنخفض معدلات الحوار، لأن ما يجري من أحاديث بين الناس لا تختلف كثيرا عن حوارات الممثلين على المسرح. شخوص المسرح، يعلم المشاهدون، يختلفون عن شخوص الواقع وبالتالي فالحوارات المسرحية حوارات تنتمي لفضائها المسرحي الخاص وليس بالضرورة لفضاء الممثلين والمتابعين الواقعي.

في "تويتر"، يشتكي الكثيرون من انقياد كثير من الفاعلين الاجتماعيين للجماهير التي تتابعهم بدقة وتطلب منهم مواقف محددة. هذه الشخصية الجماهيرية، بهذا الانقياد الكبير، تصبح شخصية مظهرية، لم تعد تعبّر عن صاحبها بقدر ما تعبّر عن ما يطلبه الجماهير، وبالتالي فإن الحوار معها هو في أحسن الأحوال حوار مع جماعة غير واضحة الملامح وفي أحيان كثيرة متوهّمة نسميها الجماهير.

قلق آخر من ثنائية إنسان الجوهر وإنسان المظهر، هو أنها قد تعطي الاعتقاد بأن إنسان الجوهر هو باختصار إنسان قد أنجز مهمة معرفة ذاته! وأصبح عالما بجوهرها وينطلق في الحوارات العامة للتعبير عن هذا الجوهر وهذه الهوية الناجزة. لو تحقق هذا المشهد المتخيّل فعلا لكان هذا الإنسان عاجزا عن الحوار، لأن الحوار هو كما ذكرنا سابقا حالة انفتاح للهوية على الجديد والمختلف والمجهول. الحوار كذلك هو طريق لتشكيل الهوية الفردية، لأنه فرصة للتعرّف على الذات من خلال علاقتها الوجودية الحوارية مع الآخرين. الثنائية لا تريد الوصول إلى هذا الفهم بالتأكيد. ولذا فإن الثنائية إنسان الجوهر/إنسان المظهر يفترض أن تعبّر عن حالة وعي بسيطة يمكن التعبير عنها كالتالي: إنسان الجوهر هو إنسان يعي بضرورة أن يكون ذاته في المجال العام. أي إنه الإنسان الذي يعتقد أن المجال العام فرصة لكي يشاهده الناس كما هو الآن وهنا. المجال العام، الظهور أمام الناس، بالنسبة لهذا الإنسان لا يعني له تقمّص شخصية أخرى ولا دور مختلف في رؤيته للحياة مغاير لما هو في حياته الخاصة. بمعنى آخر أنه الإنسان الذي يقوم بتحجيم دور وجوده أمام الناس في عملية رؤيته لنفسه أو تحديد خياراته في الحياة. نلاحظ أن هذا الإنسان لديه وعي بأنه لا يريد التناقض، وإن كان منفتحا على الاختلاف والتغير. بمعنى أنه لا يمانع في أن يكون الحوار طريقا لتغيير رؤيته للحياة والكون ونفسه، بل يعتقد أن هذا هو دور الحوار الحقيقي. ما يرفضه هذا الإنسان ويقلق هويته فعلا ويفصله عن إنسان المظهر هو هذه الفكرة البسيطة: سأكون كما يريد الناس مني أن أكون. هذه العبارة لا تقال عادة، من إنسان المظهر بسذاجة، لأنه يعلم أنها ستفتح له باب مكاسب اجتماعية كثيرة عن طريق تقمّص هذا الدور.

بالنسبة لإنسان المظهر، يكون الحوار حين يضطر له، وإلا فهو ليس خياره المفضل، وهو ليس إلا استراتيجية لتحقيق أهداف غير مصرّح بها في كثير من الأحيان. بالنسبة لإنسان الجوهر الحوار هو أسلوب حياة. بمعنى أنه شكل من أشكال الوجود الذي يتحقق فيه الوجود الإنساني في أعلى مستوياته. إنسان الجوهر يعتقد أن الحوار هو الطريق الحقيقي لمعرفة الناس ومعرفة الذات من خلال الناس. إنسان الجوهر يعتقد أن الحوار هو العلاقة العادلة في العلاقات الإنسانية. هو يعلم أن الحياة العملية تفرض على الناس علاقات سريعة ومحدودة في الشارع والمطار والسوق، ولكنه يعي أن هذه العلاقات علاقات محدودة وناقصة ولا تؤدي لمعرفة الناس إلا حين نحيلها إلى علاقات حوارية يستطيع من خلالها الناس أن يروا بعضهم بعد أن كانوا يستعملون بعضهم في العلاقات مادون الحوارية. إنسان المظهر في المقابل لا يوجد لديه هذا التفريق بين الحالة الحوارية والحالة ما قبل الحوارية. الحوار في الأخير ليس إلا استراتيجية لاستعمال الناس أيضا. في الحوار العمومي يريد إنسان المظهر أن يحقق مكاسب اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية من خلال الظهور في حالة حوار مع آخرين. إنسان المظهر قادر بجدارة على نسيان حواراته مع الآخرين، على تجاوزها، فهي تنتهي بنهاية أغراضها.

لكن، هذه ليست كل الحكاية بالتأكيد. إنسان المظهر ليس دائما بهذه الروح المنقادة بتحقيق النفع الأناني. إنسان المظهر ليس دائما ذلك الرابح مكاسب اجتماعية بطريقة لا نحبها، ذلك الذي يعرف مفاتيح النجاح الأناني والقفز في ميادين السباقات البهلوانية. هناك إنسان مظهر أصدق من هذا بكثير وأقل رغبة في حالة الاستعمال الأنانية للحوار. هناك إنسان مظهر باختصار لا يزال يصارع المعادلة الاجتماعية التي تقول للناس التزموا بهذه المظاهر ولكم في المقابل مكاسب اجتماعية حقيقية. هذا الإنسان قلق من هذه المعادلة ويعلم قوّة ضغطها عليه ولكنه لم يعرف بعد طريقا لنقدها والخروج عنها. هذا الإنسان هو موضوعنا في المقالات المقبلة.

المصدر: http://www.amnfkri.com/news.php?action=show&id=24503

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك