أفلام التراث: توثيق ثقافات الشعوب ودراستها

الكاتب  :  بلقاسم حمد

 

فيلم التراث في العادة يشمل كل عمل سينمائي مهمته توثيق التراث بهدف البحث في مكوناته ودلالاته وأغراض أخرى. كما تعود عبارة فيلم التراث إلى الأفلام غير الأكاديمية التي تستعمل التراث موضوعاً رئيساً لها.
بدأ علماء التراث في استعمال الفيلم وسيلةً في فترة متأخرة نسبياً مقارنة بمعاصريهم في العلوم الاجتماعية والمجالات البحثية الأخرى. ثم تحول الفيلم للتركيز على التراث ليعكس بذلك كل التقنيات والاهتمامات التي شغلت منتجي الأفلام الأوائل الذين أسسوا مجال الفيلم الوثائقي. وعلى غرار (أفلام الواقع) التي صورت في سنوات 1900، تتمثل أفلام التراث في أغلب الأحيان في مقاطع فيديو قصيرة حول مظاهر مهمة التقطت من أجل أن تحفظ للأجيال القادمة. ومن أوائل الأفلام الموثقة للتراث في شكل شريط سينمائي كانت سلسلة أفلام March of Time التي أنتجت سنة 1935 وهي تصور John Lomax بصدد محاورة الموسيقار Leadbelly  وتسجيل أغانيه الشعبية لفائدة أرشيف مكتبة الكونغرس, ثم أنتج فيلم آخر عن هذا الفنان سنة 1945. ولم تنتج أفلام التراث الأمريكية من جديد إلا بنهاية الخمسينات من القرن الماضي. 
وفي أوروبا استعملت لقطات الفيديو القصيرة والمباشرة لمواضيع التراث لأغراض توثيقية من طرف مؤسسة الأفلام الألمانية Fur den Wissenschaftlichen. وبعد الحرب العالمية الثانية مولت هذه المؤسسة برنامجاً في العمل الميداني لتدريب علماء الأعراق البشرية في كيفية استعمال معدات وتقنيات التصوير. وفي سنة 1959 نشرت المؤسسة قواعدها الخاصة لتوثيق السلالات والأجناس البشرية والتراث وطلبت من الباحثين الميدانيين توثيق الأحداث الواقعية المصورة من قبل الهواة. ونظمت المؤسسة أرشيفاً للفيلم سنة 1952 إضافة إلى كتابة (الموسوعة السينمائية). وتكتسي الأفلام الأنثروبولوجية، التي صنفت في البداية حسب القارات ثم الدول وأخيراً حسب كل جهة في كل دولة؛ قيمة كبيرة لأبحاث التراث المقارن. وكانت الأفلام قصيرة وصامتة وتتطرق إلى موضوع واحد على غرار لعب الأطفال في غرب أفريقيا أو مهرجان الرقص بجنوب أفريقيا أو أداء أغنية رومانية ملحمية. 
وتتميز بعض أفلام التراث الأخرى بأسلوب روائي وتوضيحي عميق يشبه الأفلام الوثائقية المنتجة قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها على امتداد الستينات. ويعتمد بعضها إما مقاربة سينما الواقع أو ما بعد الواقع والتي تتضمن صوتاً مركباً أو متزامناً مع تصوير خطي لأحداث معبرة ومركبة (بما في ذلك التفاعلات والأداء ومختلف أوجه عمليات الإنتاج)، في حين كانت أفلام أخرى انعكاسية ومتعددة المواضيع وتقحم منتج الفيلم في مواضيع الدرس. وفي مجال أفلام الواقع، ومن الناحية الأسلوبية، لا يختلف فيلم التراث عن الفيلم الوثائقي والفيلم الوثائقي العرقي. وفي المستوى النظري تقيد العديد من علماء التراث بالنماذج المستعملة من طرف صناع الأفلام الوثائقية الأوائل وبالأسس المفهومة لمؤسسي علم التراث. كما ركز بعض المنتجين أعمالهم على العوالم الرومنطيقية للأرستقراطي المتوحش أو تراث ما قبل ظهور الصناعة، في حين اختار آخرون التركيز على المسائل الحياتية اليومية لمجتمعات بشرية مختلفة. 
وفي أفلام التراث عادة ما تنال مشاهد الحياة الريفية مكانة أكبر من المشاهد الحضرية. ويحتل الماضي مكانة أفضل تقديراً من الحاضر على غرار أفلام جورج بريلوران عن شعوب لا يعرف عنها إلا القليل والمناطق النائية بالأرجنتين، وكذلك أفلام Blank التي تستعرض ثقافة الكريولية الهايتية والشعوب البدائية بمنطقة بايو بلويزيانا الأمريكية، ولكنهم لم يقتصروا على ذلك ودرسوا أنشطة حديثة ومشاهد حضرية. وبالنسبة لعلماء التراث فقد مثلت سينما الواقع أول فرصة حقيقية لتوثيق أحداث من البداية إلى النهاية، سمحت لأصحاب العمل الميداني بربط النظريات الجديدة حول التراث بدراسات السلوك البشري، والتي تأسست بنهاية الستينات. كما أصبحت تقنية الصوت المتزامن في الفيلم منتشرة بشكل واسع. وفي النهاية أصبح بإمكان الأفراد موضوع الدرس التحدث بأنفسهم مع التصوير وتقديم تحاليل وظيفية خاصة بهم دون إجبار من الراوي أو الباحث. 
وفي الولايات المتحدة كانت أفلام الواقع تستعمل في الغالب لسرد حكايات الشعوب الأخرى المحرومة من وسائل الإعلام والاتصال. وتجمع أفلام التراث بين الهدف التوثيقي لتسجيل أحداث غير موثقة وهدف الفيلم الوثائقي لأحد الأعراق البشرية في تقديم معلومات حول ثقافة شعب ما. ولما أصبح علماء الأثنوغرافيا أقل اهتماماً بالملامح الثقافية العامة مقابل الاهتمام أكثر بالأحداث في خضم الثقافة (مثل المآدب والمأتم والمهرجانات...)، فقد أصبحت أفلامهم تميل أكثر للأفلام التراثية. ويركز فيلم التراث بالأساس على السلوك التقليدي ويوثق الكثير من الخصائص الأساسية لحياتنا التي تجمع بين الطقوس والحفلات والفن التراثي والثقافة المادية وبين الحكايات القديمة وأغاني التراث وفنون مختلف الشعوب المتعلقة بالطابع العرقي والسن والنوع الاجتماعي والعائلة والمهنة والترفيه والدين والمناطق الجغرافية. 
وعلى عكس منتجي الأفلام الوثائقية العرقية، لم يقتصر منتج فيلم التراث على الشعوب البدائية والغريبة من العالم الثالث أو الشعوب المهمشة والبعيدة، بل كانوا يسافرون لاكتشاف التراث والقيام بأعمال ميدانية. كما كان أشهر منتجي الأفلام التراثية يعكفون على دراسة التراث وسط مجتمعاتهم وشعوبهم وأحياناً حتى ضمن عائلاتهم. 
وقد شجعت سهولة استعمال كاميرا الفيديو في كل مكان من أن يصبح كل مصوري الفيديو الذين يوثقون حياتهم، ولكن بالأساس ما كان منتجو الأفلام ومصوري الفيديو يرغبون في توثيقه، (سواء في الأفلام المهنية أو أفلام الهواة) في تكاثر الصور التي تكشف عن الذات عبر توثيق الجوانب الرئيسة للحياة على غرار طقوس التحول (أعياد الميلاد أو حفلات التخرج أو الزواج..) والأعياد الدينية والتقويمية (عيد الميلاد عيد الفصح..) أو الأنشطة والفعاليات (من رياضة الأطفال إلى المهرجانات العرقية). كما أنتجت أفلام التراث سيراً ذاتية لفناني التراث لتوثيق أنشطتهم التقليدية (على غرار الأنشطة الترفيهية أو الأغاني التراثية أو الصناعة اليدوية)، وكانوا يشكلون الروايات الأساسية لفيلم التراث. وفي نفس الوقت استغل منتجو الأفلام مختلف المواضيع، عبر التوثيق والتحليل والعرض، لتسويق صور عن الذات والآخر، وبالتالي لم يكن الفيلم يقدم أدوات متعددة المستويات لتصوير أوجه ثقافة ما أو مجموعة أو عائلية فقط بقدر السعي إلى بناء الصورة المتكاملة والمرجوة عن الذات.

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك