الانقسامات الطائفية والدينية في دول الثورات العربية

   
    خليـل العنـاني  
   

لم يكن "الربيع العربي" مجرد ثورة ضد أنظمة الفساد والاستبداد في المنطقة، وإنما كان محاولة طموحة لغرس قيم الحرية والمواطنة والعدالة الاجتماعية في الواقع العربي، وهو ما جسده الشعار الأثير للثورات العربية "حرية، كرامة، عدالة اجتماعية". بيد أن خبرة العامين الماضيين كشفت حجم الصعوبات والتحديات التي تواجه بلدان "الربيع العربي" خاصة فيما يتعلق بملفات الديمقراطية والحرية والمواطنة. ويظل ملف العلاقات الطائفية والدينية من أهم الملفات التي طرحها "الربيع العربي" للنقاش، ويبدو أنه سوف يأخذ وقتا طويلا حتى يتم التعاطي مع تحدياته وتعقيداته بقدر من الجدية والاهتمام.

إعادة ترتيب الخارطة الطائفية والدينية

يعوم العالم العربي فوق رمال طائفية متحركة، فلا يكاد يخلو بلد عربي من التعدد الطائفي سواء كان ذلك على أساس مذهبي كما هي الحال بين السنة والشيعة أو على أساس ديني كما هو الوضع بين المسلمين والمسيحيين وغيرهم، أو على أساس إثني كما هي الحال بين العرب والأكراد والبربر والأفارقة، ناهيك عن الانقسامات داخل كل فرقة من هذه الفرق والجماعات والتي تصل أحيانا إلى حد الفسيفساء الطائفية والمذهبية، وعلى مدار العقود الستة الماضية شكلت المسألة الطائفية إحدى مداخل فهم السياسة العربية سواء كان ذلك من خلال التركيبة الطائفية لبعض الأنظمة العربية كما هي الحال في سوريا والعراق والبحرين ولبنان، أو من خلال فهم ديناميات المجتمعات العربية. وبوجه عام يمكن القول بأن الطابع الصراعي كان هو المهيمن على العلاقات البينية الطائفية وذلك على حساب التعاون أو التعايش. لذا فقد ظلت المسألة الطائفية، ونقصد هنا كيفية إدارة العلاقات الطائفية سواء على مستوى منظومة السياسات أو منظومة الحقوق والواجبات، إحدى القضايا المسكوت عنها في العالم العربي. بل الأكثر من ذلك أن هذه المسألة كان يجري التعاطي معها إما بالتجاهل وأحيانا الازدراء كما هي الحال مع المسيحيين في مصر والشيعة في السعودية أو بالقمع كما كانت عليه الحال بين السنة والشيعة والأكراد في العراق تحت حكم صدام حسين أو بين الحوثيين والنظام اليمني تحت حكم علي عبد الله صالح، وبوجه عام فقد نجحت الأنظمة السلطوية في استخدام المسألة الطائفية من أجل البقاء في السلطة وذلك وفق منهج "فرق... تسد"، وكثيرا ما كان يجري استخدام الانقسامات الطائفية والمذهبية سواء من أجل إثارة النعرات والتوترات بين مكونات المجتمع العربي كي تسهل السيطرة عليه مثلما كانت عليه الحال تحت حكم صدام حسين وحسني مبارك وحكم عائلة الأسد في سوريا.

لذا فقد أزاح "الربيع العربي" الغطاء عن المسألة الطائفية وهو ما أدى إلى انكشاف الكثير من الأنظمة وكيفية تعاطيها مع أقلياتها وانقساماتها المجتمعية. وعلى مدار العامين الماضيين انفجر الملف الطائفي بشكل غير مسبوق واختلط مع غيره من الملفات السياسية والإستراتيجية والثقافية في أكثر من بلد عربي ولسوء الحظ فقد انفجر الملف الطائفي في وقت لا تزال تمر فيه بلدان "الربيع العربي" كمصر وليبيا وتونس واليمن والبحرين والمغرب وسوريا بالعديد من الأزمات الهيكلية الأخرى والتي تزيد من تعقيدات الملف الطائفي فلا يزال كثير من هذه البلدان، خاصة تلك التي شهدت تغييرا لأنظمتها ونخبتها الحاكمة، يتحسس طريقه نحو إعادة بناء مؤسساته السياسية التي لا تزال هشة وضعيفة ولا تعبر عن التنوع الطائفي في العالم العربي. وهو ما يزيد العبء على الحكومات الجديدة خاصة تلك التي لا تمتلك خبرة كافية في كيفية التعاطي مع أقلياتها وطوائفها.

بكلمات أخرى، فإن الخارطة الطائفية والدينية في العالم العربي تمر الآن بمرحلة من إعادة التشكل خاصة فيما يتعلق بعلاقات القوة والنفوذ والتأثير، وأغلب الظن أنها لن تعود مثلما كانت عليه الحال طيلة العقود الستة الماضية.

الإسلاميون وإدارة المسألة الطائفية

يمثل وصول الإسلاميين إلى السلطة إحدى نقاط التحول في تاريخ المسألة الطائفية في العالم العربي وذلك لعدة أسباب أولها أن معظم هؤلاء الإسلاميين يحمل تصورات ورؤى معينة تجاه الطوائف والجماعات والفرق الأخرى. وهذه التصورات والرؤى هي نتاج عاملين أولهما البنية العقائدية والإيديولوجية للأحزاب الإسلامية وثانيهما ثقافة القمع والتضييق التي تعرض لها الإسلاميون طيلة العقود الخمسة الماضية وأدت إلى تشوهات فكرية وإدراكية تجاه المكونات الأخرى للمجتمع أهمها الشك وعدم الثقة بالآخر المختلف مذهبيا وطائفيا ودينيا. أما السبب الثاني فيتعلق بطبيعة الخطاب الفكري والإيديولوجي للإسلاميين تجاه الأقليات والذي يعني من مشاكل هيكلية حقيقية أهمها الخلل في فهم منظومة الحقوق والواجبات والحريات، أما السبب الثالث فيتعلق بضعف، إن لم يكن انعدام الخبرة العملية لكثير من الإسلاميين الذين وصلوا للحكم وعدم قدرتهم على فهم تعقيدات المجتمعات العربية وتنوعها الطائفي والديني والمذهبي وهو ما سوف ينعكس حتما على إدارة الملف الطائفي، فعلى سبيل المثال فقد أخفق الإسلاميون في مصر في علاج المسألة الطائفية حيث شهدت مصر طيلة العامين الأخيرين العديد من التوترات بين مسلمين وأقباط نتج عنها حوادث عنف وقتل وهجوم على الكنائس. في حين أن هناك تمدداً واضحاً وانتشاراً للخطاب الطائفي التعبوي خاصة بين الفئات الاجتماعية الأقل حظاً من التعليم والمكانة الاجتماعية وهو ما أدى إلى تسميم العلاقات الاجتماعية بين المسيحيين والأقباط.

من جهة أخرى فإن ثمة خلافات كبيرة بين المذاهب الدينية المختلفة كالصوفية والسلفية والجهادية أدت في بعض الأحيان إلى حوادث واشتباكات عنفية بين المنتمين لهذه الجماعات وهو أمر واضح في مصر وتونس وليبيا، وتمثل الخلافات بين السلفيين وجماعة "الإخوان المسلمين" في مصر وكذلك حركة النهضة في تونس نموذجاً لمدى تعقد العلاقات وتوترها داخل المعسكر الإسلامي ذاته. في حين تمثل الحالة السورية إحدى المرايا العاكسة، وبوضوح، لمدى تضخم المسألة الطائفية في العالم العربي. فبالرغم من أن الثورة السورية بدأت كحراك سياسي واجتماعي يرمي إلى تحقيق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وذلك على غرار ما حدث في بقية الثورات العربية، إلا أنه بمرور الوقت ومع تعقد الأزمة السورية، فقد تحولت الثورة إلى صراع طائفي مذهبي ليس فقط داخلياً وإنما أيضاً ذو أصداء وتشابكات خارجية لذا لم يكن غريبا أن يستبدل الخطاب الإعلامي الغربي كلمة "ثورة" بالحرب الأهلية في سوريا.

ويظل المدهش أن الفصيل الأكثر قوة وتأثيراً في مجريات الثورة هو التيارات الجهادية الراديكالية التي تنشط تحت ما بات يعرف ب"جبهة النصرة" التي تضم خليطا من الجهاديين المتشددين والراديكاليين من مختلف بقاع العالم الإسلامي، في حين أعلن بعض قادتها ولاءهم لتنظيم "القاعدة" وهو ما أصاب الثورة السورية في مقتل. ولسوء الحظ فإنه كلما ازداد حضور ونشاط الجهاديين ضمن ديناميات الثورة السورية، كلما مثل ذلك "طوق نجاة" ليس فقط لنظام بشار الأسد، الذي يبدو الآن متحكما في مسارات اللعبة، وإنما أيضا للغرب كي يتنصل من التزاماته الدولية تجاه الثورة ودوره في وقف نزيف الدم والتهجير للسوريين وأبنائهم بكلمات أخرى، فإن الحضور الكثيف للإسلاميين الراديكاليين في المشهد السوري، قد حول المعركة من ثورة سياسية مدنية إلى صراع أهلي ذي صبغة طائفية ومذهبية فاجعة.

ولعل أسوأ ما يواجه الأنظمة العربية الجديدة هو اختلاط المسألة الطائفية بقضايا الهوية والدين والتحزب السياسي وهو ما يزيد من التحديات المطروحة على هذه الأنظمة.

 

الأبعاد الإستراتيجية والإقليمية للمسألة الطائفية

تمثل المسألة الطائفية بأبعادها المذهبية والدينية والهوياتية إحدى المداخل المهمة لفهم الجغرافية السياسية للعالم العربي خاصة في مرحلة ما بعد الثورات. فمن الشرق وإلى الغرب تكاد هذه المسألة أن تمثل إحدى نقاط التوتر والالتهاب ليس فقط داخل دول ومجتمعات الشرق الأوسط وإنما أيضاً فيما بينها ولا يمكن بحال استبعاد أن تكون الحرب المقبلة في المنطقة هي حرب طائفية الطابع. من هنا يجب النظر للأبعاد الإستراتيجية للمسألة الطائفية والتي هي بمثابة "برميل بارود" قابل للاشتعال في أي وقت. فمن جهة فإن فشل الأنظمة العربية الجديدة في حل المسألة الطائفية داخليا سوف يمهد الطريق أمام الاستخدام الخارجي لهذه المسألة. وهو ما يبدو بوضوح في منطقة الخليج العربي التي تعيش الآن على وقع صراع طائفي ومذهبي حاد وإن كان مكتوما أو من تحت السطح وذلك بسبب المعالجات التقليدية القاصرة لهذه المسألة والتي لا تزال تدور في فلك إما التجاهل والتسويف أو القمع والإسكات بالقوة. وتبدو أنظمة الخليج في مأزق شديد بين الاستجابة للمطالب الداخلية للإصلاح والتغيير وما قد ينجم عن ذلك من استدراج قد يودي بها في النهاية كما حدث مع غيرها، أو أن تتتبع منهج الاحتواء والتسكين الذي هو بطبيعته مؤقت وقد يؤدي إلى انفجار غير متوقع للأوضاع يصعب السيطرة عليه لاحقاً.

ومن جهة ثانية، فقد كشفت الأزمة السورية حقيقة الانقسام الطائفي والمذهبي في المنطقة العربية والذي يمكن إشعال فتيله بسهولة من أجل تحقيق مصالح ومطامح قوى إقليمية مثلما يحدث الآن في العلاقة التشابكية بين سوريا والعراق وإيران وحزب الله بحيث باتت المنطقة مقسمة فعليا بين قوى شيعية وأخرى سنية بات التعايش بينهما أمرا معقدا فالمحور الشيعي الطائفي يبدو الآن في أكثر لحظاته تجليا وهو يدافع عن النظام السوري بكل قوة وكأنها مسألة حياة أو موت لهذا المحور. ولن يتوارى هذا المحور عن تفجير المنطقة العربية خاصة في المشرق من أجل حماية مشروعه ومصالحه والتي كان يتم حمايتها بشكل غير مباشر من خلال أو تحت مسميات وغطاءات أخرى كالقضية الفلسطينية والصراع مع العدو الصهيوني ... الخ. بكلمات أخرى فقد حفرت الأزمة السورية إخدوداً طائفياً عميقاً بين المحورين الشيعي والسني وأحيت قوى راديكالية في كلا المعسكرين ما سوف يأخذ المنطقة إلى مرحلة جديدة من الصراع سوف يصعب التكهن بطبيعتها ومآلاتها.

ومن جهة ثالثة، فإن عدم الفصل بين ما هو طائفي ومذهبي وما هو إستراتيجي وسياسي من شأنه أن يشعل المنطقة العربية ويقلبها رأسا على عقب فالخلط المتزايد بين الاختلافات السياسية والخلافات المذهبية والعقائدية من شأنه أن يفتت النسيج الاجتماعي ويضعف التماسك المجتمعي في كثير من البلدان العربية بشكل قد يصعب التخلص من آثاره سريعا كما حدث في العراق بعد غزوه قبل عشر سنوات.ومن شأن بناء الهويات السياسية الجديدة في العالم العربي على أسس طائفية ومذهبية أن يعمق الخلافات الإقليمية التي سيصبح تسجيرها لاحقاً أمراً في غاية الصعوبة خاصة إذا ما أريقت الدماء وسقط الشهداء.

ومن جهة أخيرة، من شأن تعميق الخلافات الطائفية والمذهبية أن يتم تفجير المجتمعات العربية من الداخل، وهو أمر يبدو واضحا في أكثر من بلد عربي كالعراق وسوريا ولبنان والبحرين واليمن. والآن لم يعد الفصل بين البعدين الداخلي والخارجي للمسألة الطائفية أمرا ممكنا بعدما تداخلا وتشابكا طيلة العامين الأخيرين. لذا لم يكن غريباً أن يصف بعض الساسة والباحثين الغربيين ما يحدث الآن في المشرق العربي باعتباره انهيارا لترتيبات "سايكس-بيكو" الطائفية والمذهبية والجغرافية التي جرى وضعها قبل قرن وكانت سببا في ظهور النظام العربي بصورته الراهنة.

الديمقراطية والمواطنة وبينهما الطائفية

بقدر ما تمثل المسألة الطائفية إحدى نقاط التوتر والاحتقان حاليا في العالم العربي، فإن الديمقراطية تكاد تكون هي الحل الناجع وربما الوحيد لهذه المسألة، وللحق، فلا تمثل المنطقة العربية استثناء فيما يخص الانقسامات الطائفية والمذهبية والإثنية والعرقية والتي توجد في الكثير من مناطق العالم بما فيها الدول الغربية. ولا يمكن هنا أن نتجاهل ما كان يحدث في أوروبا سواء طيلة القرون الوسطى أو ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية حين فشلت الدول الأوروبية في حل خلافاتها الإيديولوجية والسياسية والطائفية سلميا وهو ما أودى بحياة الملايين. وإذا كانت هذه البلدان قد نجحت في تجاوز الإرث الطائفي والمذهبي والإثني من خلال تجسيد قيم الديمقراطية، فلا مندوحة للعالم العربي من القيام بتجربة مماثلة وذلك من خلال تجسيد قيم المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات بين مختلف الطوائف والجماعات وللحق، فلا يمكن الحديث عن أي نجاح لـ "الربيع العربي" دون نجاح الأنظمة العربية الجديدة في حل المسألة الطائفية من خلال مدخل المواطنة، وهذا المدخل يتطلب أولاً الاعتراف بأن ثمة مشكلة حقيقية في إدارة العلاقات الطائفية بمختلف مستوياتها وأوجهها وأن ثمة إرثاً ثقيلاً من الصور النمطية وضعف الثقة بين مختلف الطوائف والجماعات المذهبية والدينية يجب تجاوزه بشكل حقيقي وجاد. ثانياً أن يتم تصحيح الخطاب السياسي والأيديولوجي للجماعات والقوى المختلفة بحيث تبتعد عن كافة أشكال العنف الطائفي سواء رمزياً أو لغوياً أو فعلياً. ثالثا أن تجري إعادة للنظر في البنية المؤسسية الحاكمة للعلاقات الطائفية بحيث يعاد النظر في آليات ومؤسسات وأدوات التعايش والدمج الطائفي. رابعا أن يتم إعادة النظر في سياسات المواطنة بحيث تقوم على أسس المساواة وحكم القانون والاعتراف بالآخر وبدون التعاطي الجاد مع مثل هذه الاستحقاقات فمن شأن الانقسامات الطائفية والمذهبية والدينية أن تدفع بالمجتمعات العربية نحو أتون صراع طائفي ومذهبي عنيف ومفتوح من شأنه أن يحيل "الربيع العربي" جزءًا من الماضي.

المصدر: http://arabaffairsonline.org/ArticleViewer.aspx?ID=f5ba97e9-6d06-41d4-aa...

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك