الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة أثناء الثورات العربية في إطار القانون الدولي الجنائي

   
   

د.محمد عبد العزيز سهل

دكتوراة القانون الدولي - جامعة عين شمس، القاهرة

 
   

 تمهـــيد

إزاء تردي الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في بعض الدول العربية وتفشّي البطالة والجهل والفقر وتكريس شخصية السلطة والفساد والاستبداد وتوظيف القانون بدلاً من إعماله، وديمومة فرض حالة الطوارئ؛ خرجت أعداد كبيرة من المواطنين في تظاهرات واحتجاجات واعتصامات بدأت في تونس ثم مصر وامتدت إلى ليبيا واليمن وسوريا أسقطت بعض الأنظمة السياسية ولا تزال في طريقها إلى إسقاط البعض الآخر([1]) التي ترتكب وقتي السلم والحرب.

ومن ثم قامت هذه الأنظمة بقمع الثورات والقائمين عليها باستخدام العنف والقوة المسلحة، مما شكل جرائم جسيمة يعاقَب عليها بمقتضى القانون الدولي الجنائي والقانون الدولي لحقوق الإنسان، حيث تورَّط في اقتراف هذه الجرائم مستويات رفيعة في إطار الهيكل القيادي المدني أو العسكري أو الشرطي في الدولة، مما يرتقي بهذه الأعمال من مستوى الجرائم العادية إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية([2]).

وبدلاً من أن يعمل رؤساء هذه الدول وقادتها على حماية واحترام حقوق شعوبهم، قاموا هم بذواتهم أو تحت بصرهم وبصيرتهم بإهدارها، مما يترتب عليه مسئوليتهم جنائياً عما ارتكبوه ومرؤوسوهم من جرائم ضد المدنيين السلميين من المتظاهرين وغيرهم.

فالرؤساء هم المُنظار، والمدرسة، والكِتَاب

                             حيث عيون الرعايا تنظُر وتتعلّم وتقرأ([3]).

     

أولاً - تعريف الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة أثناء الثورات العربية

من استقراء التشريعات الجنائية الداخلية العربية يَبِين أنها جرّمت غالبية الأفعال التي اشتملتها الجرائم ضد الإنسانية، لكنها لم تعْرِف الجرائم ضد الإنسانية التي نص عليها القانون الدولي الجنائي، لأنها لم تكن أبداً محلاً لاتفاقية قبل ميثاق روما الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية الذي لم يصدق عليه سوى أربع دول عربية ليس من بينها أية دولة من الدول التي قامت فيها الثورات([4])، وهذا من شأنه أن يثير صعوبة عند تبرير وتأسيس العقاب والملاحقة بناءً عليها. ولم تنتهج محاولات وضع تعريف للجرائم ضد الإنسانية منهجاً واحداً وإنما تباينت مناهج تلك المحاولات على النحو التالي تفصيله.

(أ) التعريف العام للجرائم ضد الإنسانية

في إطار هذا المنهج الشامل المرن الذي يحتوي على تركيب كافة عناصر الجريمة، عرفها الفقيهRaphael Lemkin  بأنها "خطة منظمة لأعمال كثيرة ترمي إلى هدم الأسس الاجتماعية والثقافية والمشاعر الوطنية واللغة والدين والكيان الاجتماعي والاقتصادي للجماعات الوطنية، والقضاء على الأمن الشخصي والحرية الشخصية وصحة الأشخاص وكرامتهم، بل والقضاء على حياة الأفراد المنتمين لهذه الجماعات"([5]) كما عرفها الفقيه Glaser بأنها "الجرائم التي تنطوي على عدوان صارخ على إنسان معين أو جماعات إنسانية لاعتبارات معينة"([6]).

وحريّ بالبيان أن هذا المنهج اعترته بعض النقائص مفادها أن تعريف الجرائم ضد الإنسانية بعبارات منفلتة ومبهمة غير محددة يتعارض ومبدأ شرعية الجرائم والعقوبات وسيجعل حقوق الإنسان هدفاً لأسباب سياسية أو دينية أو أيديولوجية نتيجة لعدم تحديد عناصر هذه الجرائم وغموضها، بمعنى أن التجريم الواسع الغامض ينطوي ليس فقط على خطر تجريم الممارسات المشروعة لحقوق الإنسان وحرياته بل إنه أيضاً مناط تطبيق غير صحيح وتعسفي.

وقد أكدت المحكمة الدستورية العليا في مصر على ذلك عندما قضت بأن غموض النص العقابي يؤدي إلى جهل المشرع بالأحكام التي أثَّمها، فلا يكون بيانها جلياً، ولا تحديدها قاطعاً أو فهمها مستقيماً، بل مبهماً جافاً، ومن ثم يلتبس معناها على أوساط الناس، فلا يقِفُون من النصوص العقابية على دلالتها أو نطاق تطبيقها، مما يجعل أحداثهم طريقاً إلى التخبط، وذلك نتيجة لإهمال المشرع ضبط هذه النصوص بما يحقق المقاصد منها([7]).

(ب) التعريف الحصري للجرائم ضد الإنسانية

يتجنب هذا المنهج نقائص المنهج السابق بهدف وضع تعريف أكثر تحديداً من شأنه إعطاء المحكمة نوعاً من الحرية والقناعة عند إعمال وتطبيق النص على الوقائع التي تعرض عليها.

وقد أخذ به ميثاق المحكمة الدولية العسكرية في نورمبرج عام 1945م عندما عرف الجرائم ضد الإنسانية في الفقرة (ج) من المادة السادسة من الميثاق بأنها "القتل، الإبادة، الاسترقاق، الإبعاد وغيرها من الأفعال غير الإنسانية المرتَكَبة ضد أية مجموعة من السكان المدنيين قبل الحرب أو أثناءها، أو الاضطهاد لأسباب سياسية أو عرقية أو دينية تنفيذاً لأيِّ من الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة أو التي ترتبط بهذه الجرائم سواء أكانت هذه الأفعال مجرّمة أم غير مجرّمة بمقتضى القوانين الوطنية للدولة التي ارتُكِبت فيها هذه الأفعال"([8]).

مما سلف يَبِين أن التعريف الحصري من خواصه أنه يحترم ويؤكد مبدأ الشرعية في القانون الدولي الجنائي، كما أنه يتماشى والقوانين الوطنية التي تحدد الجرائم بدقة، حيث يُبيّن بوضوح الأفعال التي تندرج ضمن قائمة الجرائم ضد الإنسانية مما يوضح للأجهزة الدولية والإقليمية ذات الاختصاص السياسي أو القضائي أو الشرطي الجريمة ومرتكبها؛ فَيسْهُل توقيع العقاب والملاحقة.       

وقد عنّت لي بعض المآخذ على هذا المنهج مفادها أنه لا يستطيع تغطية كافة أفعال الجريمة نتيجة لإتباع سلطات الدولة العديد من الأساليب الحديثة والمتطورة لاقتراف الجريمة زمني الحرب والسلم، كما أن تعداد الأفعال على سبيل الحصر لا يعد تعريفاً بالمفهوم العلمي الصحيح لأنه يثير البحث في الصور التي تتخذها الجريمة دون النظر إلى الجريمة ذاتها، كما قد تُقترف أفعال تشكل بالفعل جريمة ضد الإنسانية ويتم استبعادها لأنها لا تندرج في عداد التعريف.

(ج) التعريف التوفيقي للجرائم ضد الإنسانية

يحاول هذا المنهج تلافي العوار الذي اعترى المنهجين السابقين من خلال الجمع بينهما، حيث يقوم بتعريف بعض صور الجرائم ضد الإنسانية على سبيل المثال لا الحصر، كي يتمكن من تجريم أية صورة قد يدلي بها المستقبل، خاصة في ظل النزاعات المعاصرة الدولية وغير الدولية التي تأخذ بناصيتها التطورات الحديثة الهائلة التي يشهدها العالم في العصر الحديث.

فقد أخذ ميثاق روما الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية عام 1998م([9]) بمنهج التعريف التوفيقي عندما نصت المادة السابعة منه على أن "لغرض هذا النظام الأساسي يشكل أيّ فعل من الأفعال التالية جريمة ضد الإنسانية متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي ضد أي من السكان المدنيين وعلى علم بالهجوم: (أ) القتل العمد (ب) الإبادة (ج) الاستعباد (د) النفي أو الإبعاد أو النقل الإجباري للسكان (هـ) التعذيب (و) السجن أو الحرمان الشديد من الحرية البدنية انتهاكاً للقواعد الأساسية للقانون الدولي (ز) الاغتصاب والاستعباد الجنسي أو الإكراه على البغاء أو الحمل القسري أو التعقيم القسري أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي على مثل هذه الدرجة من الخطورة (ح) اضطهاد أي جماعة محددة أو مجموع محدد من السكان لأسباب سياسية أو عرقية أو قومية أو إثنية أو دينية أو متعلقة بنوع الجنس أو لأسباب أخرى من المسلم علمياً بأن القانون الدولي لا يجيزها، وذلك فيما يتعلق بأي فعل مشار إليه في هذه الفقرة أو بأي جريمة تدخل في اختصاص المحكمة (ط) الاختفاء القسري للأشخاص (ك) جريمة التفرقة العنصرية (ل) أي أعمال لا إنسانية من نفس الشكل أو ما شابه والتي تسبب ألماً أو معاناة شديدة أو إصابة بالغة لسلامة البدن أو العقل"([10]).

مما سبق يَبِين أن التعريف الوارد في ميثاق روما مستقى من ميثاق نورمبرج مع مراعاة التطورات التي طرأت على القانون الدولي العام وما أفرزه هذا التطور من صور جديدة، على الرغم من أنه لم يربط الجرائم ضد الإنسانية بجرائم الحرب أو الجرائم ضد السلام مثلما فعل ميثاق نورمبرج، كما أنه تطلّب اقتراف الجريمة في إطار سلوك منهجي واسع النطاق حتى لا تدخل الجرائم العادية في اختصاص المحكمة الدولية الجنائية، كما أنه لم يشترط اقترافها أثناء النزاعات المسلحة الدولية أو غير الدولية بل تطلب فقط مجرد إتيانها في إطار سلوك هجومي واسع النطاق أو منهجي إزاء السكان المدنيين، فقد يكون هناك نزاع بين طرفين داخل إقليم الدولة أحدهما مسلح والآخر غير مسلح. كما أن التعريف لم يشترط إتيان الجريمة وفقاً لأسس تمييزية سياسية أو عنصرية أو دينية أو غيرها، إلا في أفعال الاضطهاد فقط. 

ومن مجمل ما سبق يتضح وجوب التفرقة بين الجـرائم ضد الإنسـانية وجرائـم القانون الجنـائي الداخلي، وذلك في الفُـرق التالية:   

1- أن الأعمال التي تعد جريمة ضد الإنسانية يجب أن تكون موجهة فقط ضد مجموعة من السكان المدنيين أو الأعيان المدنية، وأن تأخذ شكل سلوك هجومي واسع النطاق أو ممنهج وفقاً لخطة مرسومة أو سياسة يتم تنفيذها، بينما الأعمال التي تعد جرائم وفقاً للقانون الداخلي من الممكن اقترافها ضد هذه الفئات أو غيرها، كما لا يشترط إتيانها في إطار واسع النطاق أو منهجي.           

2- أن الأعمال المكونة لجرائم القانون الجنائي الداخلي غالباً ما تقع من أفراد بعيداً عن سلطات الدولة، بينما الأعمال التي تعد جرائم ضد الإنسانية بمفهوم الجريمة الدولية لا تعد كذلك إلا إذا كانت سلطات الدولة طرفاً فيها أو قامت أو سمحت بتنفيذها، فقد تضع الدولة قواتها العسكرية أو الشرطية في خدمة هذه الأعمال، مما يجعلها ضالعة ومشتركة في اقتراف جرائم ضد الإنسانية، إن لم تكن هي المدبر الأساسي لها عن طريق موظفيها باعتبارها جزءاً من سياستها([11]).

3- أن الجرائم ضد الإنسانية تطرح مجموعة من الوقائع المعقدة، خلافاً لجرائم القانون الجنائي الداخلي، فغالباً ما يتورط فيها عدة مقترفين، وينتج عنها عدد كبير من الضحايا، حيث تقع غالباً في الحالات التي يدمَّر فيها النسيج الطبيعي للمجتمع، ويتفكك فيها التسلسل القيادي المعترف به، ويختلط الحابل بالنابل فلا يُعرَف المدني من العسكري أو الضحية من الجاني([12]).

ومن جانبي أرى أن الجرائم ضد الإنسانية يجب أن يتوافر لها خمسة عناصر مفادها كالآتي:

أ-   أن يكون هناك هجوم. "يقصد بالهجوم وفقاً للفقرة 2 من المادة 7 من ميثاق رومـا الأسـاسي: نهج سلوكي يتضمـن الارتكاب المتكرر للأفعـال التي تدخل في عداد الجرائم ضد الإنسانية.

ب-  أن يوجه هذا الهجوم إلى السكان المدنيين.

ج- أن يكون هذا الهجوم واسع النطاق أو منهجياً.

د-   أن تكون الأفعال المقترَفة جزءاً من هذا الهجوم.

هـ- أن يكون المقترِف على علم بهذا الهجوم.

ثانياً - الأركان القانونية للجرائم ضد الإنسانية المرتكبة أثناء الثورات العربية

لا ريب أن الأفعال التي اقتُرِفت أثناء الثورات العربية من شأنها الاعتداء على مصالح يحميها القانون، ومن ثم يجب أن توضع في قالب القواعد التجريمية الدولية التي يقررها العرف الدولي والاتفاقات والمواثيق الدولية.

(أ) الركن المادي للجرائم ضد الإنسانية المرتكبة أثناء الثورات العربية :

الركن المادي للجرائم ضد الإنسانية ما هو إلا فعل تخرج به الجريمة من طور التدبير والتصور إلى طور الحقيقة والواقع الملموس. ومن ثَم فإن هذه الأفعال يجب أن تعكس ما تؤدي إليه من إهدار لحق الإنسان في الحياة والحرية والكرامة الإنسانية وسلامة الجسد وحرية التعبير وعدم إصابته بألم شديد أو معاناة شديدة سواء بدنياً أو نفسياً وعدم سجنه أو حرمانه من حريته البدنية. والركن المادي يتمثل في السلوك المادي الإيجابي أو السلبي الذي قامت به القوات المسلحة أو القوات الشرطية أو الأشخاص العاديون الذين يعملون لصالح الدولة ضد المتظاهرين والمحتجين المدنيين السلميين، وسواء تم هذا السلوك في صورة تحضير أو شروع أو مساهمة أو تحريض أو اتفاق أو مساعدة على الجريمة.

فقد قامت القوات الليبية وبعض الجماعات من المواطنين والمرتزقة الذين يعملون لصالح الرئيس السابق بسلوك إجرامي يتمثل في أعمال القتل خارج نطاق القانون لآلاف من المدنيين الذين تجمعوا في الأماكن العامة، واضطهادهم([13])، وتفتيش المنازل دون سند من القانون، واعتقال المعارضين تعسفياً واقتراف أفعال الاختفاء القسري لآلاف من المتظاهرين، والتعذيب والاعتداءات الجنسية، وذلك في جميع أنحاء البلاد وعلى وجه الخصوص بنغازي ومصرّاتة وطرابلس([14]).   

كما قامت القوات السورية بالتخطيط والتنفيذ لعمليات مشتركة ضد المتظاهرين السلميين في عدة مناطق، منها دمشق وحمص وحماة واللاذقية ودرعا ودير الزور، حيث اقترفت العديد من أعمال القتل العمد بإطلاق النار عشوائياً على الأجزاء العلوية للمتظاهرين السلميين والمنشقين عن القوات المسلحة أو الشرطة المعارضين لارتكاب هذه الجرائم، مما يشكل انتهاكاً للحق في الحياة الذي كفلته المادة 6 من العهد الدولي المعني بالحقوق المدنية والسياسية، والبند (أ) من المادة 7 من ميثاق روما الأساسي، والمادة 5 من الميثاق العربي لحقوق الإنسان الموقع عام 2004م، كما قامت هذه القوات بأعمال الاحتجاز التعسفي والحبس الانفرادي دون توجيه أية اتهامات جنائية أو إشراف قضائي واعتقالها المتكرر والمنظم لمجموعات من المتظاهرين وأفراد أسرهم، مما يمثل انتهاكاً لحق الإنسان في الحرية والأمن الشخصي وفي محاكمة عادلة، وهذا ما كفلته المواد 9، 10، 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والبند (و) من المادة 7 من ميثاق روما الأساسي، والمادتان 13، 14 من الميثاق العربي لحقوق الإنسان، كما اقتُرِفت أيضاً أفعال الاختفاء القسري، والتعذيب وغيرها من ضروب إساءة المعاملة ضد المتظاهرين السلميين، والعنف الجنسي ضد الذكور والأطفال، مما يشكل انتهاكاً للمادة 7 من العهد الدولي المعني بالحقوق المدنية والسياسية، ولاتفاقية مناهضة التعذيب، والبنود (هـ)، (ز)، (ط) من المادة 7 من ميثاق روما الأساسي، والبند 1 من المادة 8 من الميثاق العربي لحقوق الإنسان، ناهيك عن أعمال الاضطهاد المتمثلة في تقييد هذه القوات للحق في التجمع السلمي والحق في حرية التعبير وحرية التنقل مما أدى إلى فرار عدد كبير من السوريين كلاجئين إلى تركيا ولبنان والأردن ومصر([15]).

(ب) الركن المعنوي للجرائم ضد الإنسانية المرتكبة أثناء الثورات العربية :

الركن المعنوي للجريمة قوامه علاقة نفسية تربط بين ماديات الجريمة وشخص الجاني، وجوهر هذه العلاقة هي الإرادة، متى كانت صالحة قانوناً([16]). ويتخذ الركن المعنوي في الجرائم ضد الإنسانية صورة القصد الجنائي الذي يبنى على العلم والإرادة، ولكن القصد العام في هذه الجرائم لا يكفي لقيام ركنها المعنوي، وإنما يلزم إلى جواره توافر قصد خاص يعبر عن نية الجاني في انتهاك حقوق الإنسان وحرياته الأساسية لمجموعة من السكان المدنيين بهدف تغيير موقفها إزاء أمر معين، وهذا ما يميز الجرائم ضد الإنسانية عن غيرها من جرائم القانون الجنائي الداخلي.

ويتضح القصد الجنائي العام للجرائم ضد الإنسانية التي اقتُرِفت أثناء الثورات العربية في العلم المتوافر لدى مرتكبيها الخاضعين لسلطة وأوامر رؤسائهم، بأن أعمالهم تمثل جزءًا من هجمات مسلحة على مستوى أنحاء البلاد، ومسلسل الخطابات التي تم بثها عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، كما يظهر القصد العام أيضاً في استهدافهم للصحفيين لمنعهم من تغطية الأحداث، وحجب بث الأقمار الصناعية عن بعض القنوات الفضائية بشكل متكرر، وتعطيل خدمات الإنترنت والاتصالات السلكية واللاسلكية، ومصادرة آلات التصوير وشرائح الهواتف المحمولة عند التوقيف والتفتيش، وإزالة جثث الموتى من المستشفيات، والبحث عن الجرحى من المتظاهرين، وإزالة أدلة المقابر الجماعية.

فقد اطمأنت الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الدولية الجنائية إلى توافر القصد الجنائي في حق الرئيس الليبي السابق ونجله من خلال إدانتهما للتظاهرات الليبية وسلسلة الخطابات اللاحقة عليها التي أعلنا فيها عن نيتهما الإجرامية في منع وقمع أية مظاهرات داخل البلاد، كما اتجهت إرادتهما إلى تنفيذ ذلك، عندما دبرا وخططا وصمما على إتيان ذلك بصورة متكررة في عدة مناطق، وأصدرا الأوامر إلى مرؤوسيهم المباشرين بقمع المظاهرات الشعبية بكافة أشكال العنف([17]). أما القصد الجنائي الخاص فيتمثل في النية الخاصة المتمثلة في اقتراف الجريمة ضد مجموعة أو جزء من السكان، وإرغامهم على عدم المطالبة بالحرية والإصلاح والتطوير والتغيير الديمقراطي والعدالة الاجتماعية، وتغيير مواقفهم إزاء هذه المطالب المشروعة([18]).

(ج) الركن الدولي للجرائم ضد الإنسانية المرتكبة أثناء الثورات العربية :

الركن الدولي مفاده اعتداء السلوك الإجرامي على مصالح الجماعة الدولية التي أكدها وعمل على حمايتها النظام القانوني الدولي([19]). والركن الدولي في الجرائم ضد الإنسانية قد يتخذ صورة أخرى إضافة إلى ذلك، وهي الغالبة، مفادها أن الدولة ترتكب هذه الجريمة في إقليمها أو بناء على تسامحها مع من يقترفونها وسواء أكان المجني عليهم من رعاياها أم أجانب، بمعنى أنه يكفي لقيام هذا الركن وقوعها بناء على خطة منظمة واسعة النطاق من جانب الدولة ضد جماعة بشرية ذات عقيدة معينة ولو كانت تتمتع بجنسية الدولة ذاتها([20]). وقد أشارت إلى الركن الدولي المادة 7 من ميثاق روما الأساسي عندما تطلبت توافر الهجوم الواسع النطاق أو الممنهج الموجه ضد مجموعة من السكان المدنيين متى كان تنفيذاً لسياسة دولة أو منظمة.

ومن ثَم يمكننا القول بأن الركن الدولي في الجرائم ضد الإنسانية التي اقترفت أثناء الثورات العربية بدا واضحاً في غالبية الحالات، عندما قامت سلطات كل دولة بإتيان الجريمة في عدة مناطق داخل البلاد وبطريقة منظمة ومنهجية وعلى نطاق واسع بواسطة قواتها المسلحة أو الشرطية ضد مجموعة من السكان المدنيين([21]) الذين خرجوا في مظاهرات سلمية للمطالبة بحقوقهم الأساسية التي كفلتها لهم دساتير بلادهم، والعديد من المواثيق الدولية ذات الصلة.    

(د) الركن الشرعي للجرائم ضد الإنسانية المرتكبة أثناء الثورات العربية :

إن الركن الشرعي للجريمة الدولية قوامه الصفة غير المشروعة التي تسبغها قواعد القانون الدولي على الفعل. فما هي القواعد التجريمية الدولية التي تكسب الأفعال التي تعد جرائم ضد الإنسانية بخضوعها لها الصفة الدولية غير المشروعة؟([22]).

 إن القاعدة التجريمية في القانون الجنائي الداخلي تتمثل في أن يُنصّ على الجريمة في تشريع يضفي عليها عدم المشروعية، ويرصد لها عقاباً، إذ يجب أن تكون مكتوبة، وكما قلنا سلفاً إن التشريعات الجنائية العربية للدول التي اقتُرِفت فيها هذه الجرائم تجرم غالبية الأفعال الواردة في الجرائم ضد الإنسانية، إن لم يكن جميعها. بينما لا ضرورة لذلك في القانون الدولي الجنائي الذي لا ينكر مبدأ لا جريمة ولا عقوبة دون نص، ولا يقلل من أهميته. فالقواعد التجريمية الدولية ذات صبغة عرفية، يقررها العرف الدولي والاتفاقيات والمبادئ العامة للقانون والسوابق القضائية الدولية وآراء فقهاء القانون الدولي، وحتى لو وجدت الجريمة الدولية في متن اتفاقية ما، فإنها لا تكون منشئة لجريمة، وإنما هي كاشفة ومؤكدة لعرف دولي([23]).

فقد قضت محكمة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان عام 2006 بأن حظر الجرائم ضد الإنسانية هو قاعدة قطعية أو آمرة، ولابد من العقاب على تلك الجرائم عملاً بالمبادئ العامة للقانون الدولي، وعلاوة على ذلك، فالجرائم ضد الإنسانية تشكل ذروة انتهاكات حقوق الإنسان الأساسية، كالحق في الحياة وحظر التعذيب أو غيره من ضروب المعاملة اللاإنسانية أو المهينة([24]).

ومن ثَم يَبِين أن القاعدة التجريمية للجرائم ضد الإنسانية المرتكبة أثناء الثورات العربية قد تم إقرارها بموجب ميثاق الأمم المتحدة، والعهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، واتفاقية مناهضة التعذيب، واتفاقية الطفل، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والميثاق العربي لحقوق الإنسان لعام 2004 الذي صدقت عليه إحدى عشرة دولة كان من بينها ليبيا وسوريا واليمن([25]) والعديد من القرارات والمواثيق والأحكام ذات الصلة، من بينها ميثاق المحكمة العسكرية في نورمبرج، وميثاق المحكمة العسكرية في طوكيو، وميثاق المحكمة الدولية ليوغسلافيا السابقة، وميثاق المحكمة الدولية لرواندا، وميثاق المحكمة الدولية لسيراليون، وميثاق روما الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية، كما أن الأفعال التي احتوتها الجرائم ضد الإنسانية جرمتها المبادئ العامة للقانون التي من أهمها مبدأ احترام السلامة الجسدية للأفراد، وكذلك احترام الحقوق المكتسبة للأفراد والدول والجماعات، ومبدأ تحقيق السلامة والسكينة والطمأنينة في ربوع النظام الدولي.

ثالثاً - المسئولية الجنائية للقادة والرؤساء عن الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة أثناء الثورات العربية

إن المسئولية الجنائية الشخصية للقادة والرؤساء عن الجرائم التي يقترفها مرؤوسوهم لا تقتصر فقط على حالة إصدارهم أوامر لمرؤوسيهم باقتراف هذه الجرائم، وإنما تمتد أيضاً إلى الحالات التي يكون فيها هؤلاء القادة والرؤساء على علم ومعرفة أو كان في استطاعتهم العلم والمعرفة بجرائم مرؤوسيهم، ومع ذلك لم يحركوا ساكناً لاتخاذ التدابير اللازمة والمعقولة لمنع اقتراف تلك الجرائم أو معاقبة مقترفيها، ومن ثَم يحملون أوزارهم كاملة جرّاء جرائمهم أمام القضاء الدولي الجنائي.

1- ثبوت مسئولية القادة والرؤساء عن الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة أثناء الثورات العربية :

من استقراء السوابق القانونية التي انبثقت عن المحاكم الدولية الجنائية، يَبِين أن هناك توافقاً عاماً مفاده ثبوت مسئولية القادة والرؤساء عندما تتوافر في الفعل ثلاثة عناصر مفادها كالآتي: الأول: يجب أن تكون هناك علاقة بين القائد أو الرئيس ومرؤوسيه، سواء أكانت هذه العلاقة قائمة بحكم القانون أو بحكم الواقع، بحيث تكون ممارسة القيادة أو السيطرة أو السلطة الفعالة محددة ومحسومة للقائد أو الرئيس([26]). الثاني: أن يعلم القائد أو الرئيس أو أن العلم مفترض لديه، بأن واحداً أو أكثر من مرؤوسيه قد اقترفوا أو كانوا على وشك اقتراف أفعال يجرمها القانون. الثالث: أن يتهاون أو يتغاضى القائد أو الرئيس في اتخاذ التدابير اللازمة والضرورية لمنع اقتراف هذه الأفعال التي يجرمها القانون أو المعاقبة عليها.

فقد لا تطأ أقدام الرئيس موقع أو منطقة اقتراف الجريمة، ولكن جميع الرؤساء الأعلى في التسلسل القيادي يتحملون المسئولية الجنائية، على الرغم من عدم استخدامهم للسلاح مباشرة، وذلك لكونهم تقاعسوا عن إتيان التصرف الملائم والضروري للسيطرة على مرؤوسيهم وإنزال العقاب عليهم. فمسئولية الرؤساء أداة حيوية ذات أهمية خاصة في يد المدعي العام للمحاكم الدولية من شأنها محاكمة رؤساء الحكومات والوزراء وغيرهم من المدنيين في المناصب العليا الذين لعبوا بصفتهم الوظيفية دوراً رئيسياً واضحاً في اقتراف الجرائم ضد الإنسانية([27]). ومن ثَم فإن جميع الرؤساء الأعلى في التسلسل القيادي المدني أو العسكري أو الشرطي للدول العربية التي اقترفت فيها هذه الجرائم يتحملون المسئولية الجنائية عن تقاعسهم وعدم اتخاذهم التصرفات اللازمة للسيطرة على مرؤوسيهم بمنعهم من اقتراف أفعال ضد الإنسانية أو إنزال العقاب عليهم جراء أفعالهم.            

2- معيار مسئولية القادة والرؤساء عن الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة أثناء الثورات العربية :

وضعت المادة 28 من نظام روما الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية معيارين منفصلين لإقرار مسئولية القادة والرؤساء، الأول: يتعلق بالقادة العسكريين، وقوامه العلم المفترض، فالقائد إما علم أو يفترض أن يكون قد علم، وذلك وفقاً للظروف السائدة آنذاك، أن القوات الموجودة تحت قيادته وإمرته تقترف أو على وشك أن تقترف جرائم ضد الإنسانية([28]). الثاني: يتعلق بالرؤساء المدنيين، وقوامه العلم اليقيني، فالرئيس إما علم بأن مرؤوسيه قد اقترفوا أو على وشك أن يقترفوا جرائم ضد الإنسانية أو أنه تجاهل عن قصد معلومات توضح أو جعلته على دراية بأن مرؤوسيه اقترفوا أو كانوا في طريقهم لاقتراف جرائم ضد الإنسانية([29]). بمعنى أن الرؤساء المدنيين لابد وأن تتوافر لديهم بعض المعلومات التي تمكنهم من العلم بارتكاب مرؤوسيهم جرائم ضد الإنسانية، ومن ثَم فإن العلم المتطلب لقيام مسئوليتهم هو العلم اليقيني وليس المفترض. وهذا المعيار أكثر تشدداً من سابقه، حيث إنه يجعل من قيام مسئولية الرئيس المدني عن جرائم مرؤوسيه أكثر صعوبة في الإثبات عن تلك المتعلقة بالقائد العسكري.

فقد أكدت على ذلك المحكمة الدولية الجنائية لرواندا عندما قضت بأن "لا يُتَطلب إثبات وجود معرفة فعلية، سواء صراحة أو حسب الظروف، ولا أن تقتنع الدائرة بأن المتهم علم فعلاً أن الجرائم كانت تقترف أو في سبيلها للاقتراف، بل يُتَطلب فقط أن تقتنع الدائرة بأن المتهم كانت لديه بعض المعلومات العامة التي من شأنها أن تجعله على دراية بالأفعال المخالفة للقانون التي ربما يقترفها مرؤوسوه"([30]).      

3- عدم جواز الدفع بالحصانة للإعفاء من المسئولية عن الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة أثناء الثورات العربية :

لقد أصبح من مسلمات القانون الدولي الجنائي عدم الاعتداد بالحصانة للإعفاء من المسئولية الجنائية، فقد ذهبت المادة 27 من ميثاق روما الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية إلى إعمال وإنفاذ نظام روما على جميع الأشخاص بصورة متساوية دون أي تمييز بسبب الصفة الرسمية، حيث اعتبر الصفة الرسمية للشخص سواء أكان رئيساً لدولة أم حكومة أم عضواً في حكومة أم برلمان أو ممثلاً منتخباً أم موظفاً حكومياً لا تعفيه بأي حال من الأحوال من المسئولية الجنائية ولا تخفف العقوبة عنه([31]).

ومن جانبي أرى أن مشرع الميثاق أصاب الصواب عندما جرد مرتكبي الجرائم الدولية من حصانتهم أمام القضاء الدولي، وذلك في أمرين، الأول: تعداده للأشخاص المتمتعين بالحصانة مؤكداً عدم الأخذ والاعتراف بها، حيث تجاوز بذلك الغموض الوارد في نصوص أخرى تقصرها على رئيس الدولة. الثاني: إلزامه صراحة المحكمة بألا تعتبر الحصانة سبباً لتخفيف العقوبة، حيث إنه لو سكت عن ذلك، كان سيترك لها سلطة تقديرية في هذا الخصوص. كما أرى أن أصحاب الحصانات يجب تشديد العقاب عليهم، لأن الدولة تمنحها لمن له سلطة ليباشر مصالحها والتعامل مع عدد كبير من الأشخاص والتأثير عليهم، وذلك من شأنه مضاعفة انتهاكات القانون الدولي الجنائي وخاصة الأعمال اللاإنسانية.

وبناء على ما سلف يَبِين عدم استفادة أصحاب الحصانات مقترفي الجرائم ضد الإنسانية أثناء الثورات العربية من الإعفاء من المسئولية الجنائية ويتحملون أوزارهم كاملة أمام القضاء الدولي الجنائي، كما لا تعتبر حصاناتهم سبباً لتخفيف العقاب عليهم، ومن ثَم فإن جميع الأشخاص مقترفي هذه الجرائم يتم تجريدهم من صفاتهم الرسمية بصورة متساوية دون أي تمييز بين الشخص العادي ومن يتمتع بالحصانة.     

4- عدم جواز الدفع بأمر الرئيس الأعلى للإعفاء من المسئولية عن الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة أثناء الثورات العربية :

غالباً ما يدرأ المرؤوس عن نفسه الاتهامات بأنه كان ينفذ الأوامر الصادرة إليه ليس إلا، عندما يقترف أفعالاً تندرج في عداد الجرائم ضد الإنسانية، حيث غالباً لا يتساءل عن مشروعية الأوامر الصادرة إليه، لأن هناك افتراضاً مفاده أن الرؤساء في وضع أفضل لتحديد المشروع من غير المشروع، ومن ثم كان أمامه أحد خيارين، إما عدم تنفيذ الأمر الصادر إليه واحتمال توبيخه وعقابه من رئيسه أو محاكمته عسكرياً، وإما تنفيذ الأمر الصادر إليه وملاقاة العقوبة الجنائية المرصودة للجريمة([32]).

وفي ذلك نصت المادة 33 من ميثاق روما الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية على أن:

"1- لا يعفى الشخص من المسئولية الجنائية إذا كان ارتكابه لتلك الجريمة قد تم امتثالاً لأمر حكومة أو رئيس، عسكرياً كان أو مدنياً، عدا الحالات التـالية: (أ) إذا كان على الشخص التزام قانوني بإطاعة أوامر الحكومة أو الرئيس المعني. (ب) إذا لم يكن الشخص على علم بأن الأمر غير مشروع. (ج) إذا لم تكن عدم مشروعية الأمر غير ظاهرة.

2- لأغراض هذه المادة، تكون عدم المشروعية ظاهرة في حالة أوامر ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية أو الجرائم ضد الإنسانية"([33]). 

ويُفهم من هذه النص أن المرؤوس إذا اقترف أية جريمة محل اختصاص المحكمة لا يمكنه أن يتذرع بأنه كان ينفذ أمر رئيسه الأعلى سواء أكان رئيساً عسكرياً أو مدنياً، وذلك لتوافر حرية الاختيار والإدراك والتمييز في حقه بين إهدار وعدم إهدار المصالح التي يحميها القانون الدولي، ويستثنى من ذلك متى كان عليه التزام قانوني بطاعة رئيسه أو إذا لم يكن يعلم بأن الفعل غير مشروع أو إذا كانت عدم المشروعية غير ظاهرة. ومن ثَم يجب التعرض لأمرين:

الأول: مدى حرية تصرف المرؤوس في الأمر الصادر إليه من رئيسه :

إن العلم بعدم مشروعية الفعل يفترض وجود اختيار أخلاقي يحتمل الطاعة أو عدم الطاعة، وهو ما يزيد في ظروف معينة على حرية التصرف المحدودة المتاحة للمرؤوس في عدم طاعة الأوامر، وهناك قضيتان توضحان مدى الحرية في التصرف.

ففي قضية السفينة "دوفر كاسل" استفاد قائد الغواصة الألماني الذي نسف السفينة المستشفى البريطانية من الدفع بأمر الرئيس الأعلى لأنه أُبلغ من الحكومة الألمانية وإمارة البحر بأن السفن المستشفيات كانت تستخدم في الأغراض الحربية خلافاً لقوانين الحرب، وعلى ذلك فإن القائد لم يكن يعلم أن الأمر غير مشروع، حيث أشارت المذكرات إلى أن السفن المستشفيات كانت أهدافاً مشروعة.

وعلى النقيض في قضية "لاندوفري كاسل" رُفض الدفع بأمر الرئيس الأعلى من مرؤوسين نفذا أمر قائد غواصتهما بإطلاق النار على الناجين من السفينة المستشفى وهم في زوارق النجاة، حيث اعتُبر الأمر انتهاكاً لقاعدة معروفة من قواعد القانون الدولي، ولا يمكن للمرؤوسين ادعاء جهلهم بعدم مشروعية الأمر([34]).

وقد عكس المبدأ الرابع من مبادئ نورمبرج ذلك بقوله "إن تصرف شخص ما بناء على أمر من حكومته أو رئيسه لا يعفيه من المسئولية بموجب القانون الدولي، بشرط أن تتوافر له فرصة الاختيار الأخلاقي".

ومن جانبي أرى أن حرية الاختيار الأخلاقي للمرؤوسين مقترفي الجرائم ضد الإنسانية أثناء الثورات العربية قد توافرت بكل عناصرها سواء أكانوا عسكريين أم مدنيين، ولا دفع لهم بأمر الرئيس الأعلى، حيث كان عليهم واجب عدم طاعة الأوامر الصادرة إليهم لأنهم يعلمون يقيناً عدم المشروعية الواضحة لتلك الأوامر.

الثاني: عدم المشروعية ظاهرة في الأوامر الصادرة باقتراف جرائم ضد الإنسانية:

من خلال الفقرة الثانية من المادة 33 من ميثاق روما يتضح أن الأوامر الصادرة باقتراف الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية أوامر غير شرعية ظاهرة، بينما الوضع يختلف في الأوامر الصادرة باقتراف جرائم العدوان وجرائم الحرب، ومن ثَم يمكن استنتاج أن ميثاق روما سمح بذلك، نظراً لتعقد الحروب الحديثة غير المتكافئة التي تنخرط فيها أطراف كُثر، ويختلط فيها المقاتل بالمدني، وإلكترونية التحكم في الأسلحة، مما يصعّب على المرؤوس التقييم والتمييز بين المشروع وغير المشروع الظاهر.

فقد أكدت على ذلك القاعدة رقم 155 من قواعد القانون الدولي العرفي المعنية بدراسته اللجنة الدولية للصليب الأحمر عندما قضت بأن "لا تُعفِي المرؤوس من المسئولية الجزائية إطاعة أوامر عليا إذا عرف المرؤوس أن الفعل المأمور به كان غير قانوني أو كان بوسعه أن يعرف ذلك بسبب الطبيعة غير القانونية الواضحة للفعل المأمور به"([35]).

من هذا يتضح أن عدم المشروعية ظاهرة في الجرائم ضد الإنسانية التي اقترفت أثناء الثورات العربية وتستتبع المساءلة الجنائية، ويؤكد على ذلك أيضاً أن جامعة الدول العربية ومجلس الأمن وبعض المنظمات الدولية والإقليمية أدانت اقتراف هذه الأنظمة لجرائم في حق شعوبها، وفرضت على بعضها عقوبات مختلفة، وطلبت من قواتها المسلحة رفع الحصار العسكري المفروض حول بعض المناطق السكنية، والامتناع عن القصف ومداهمة الأماكن السكنية.

 

5- عدم سقوط الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة أثناء الثورات العربية بالتقادم :

إن الجرائم ضد الإنسانية جرائم جسيمة تترك آثاراً بالغة في نفوس من اقترفت في حقهم وأسرهم، بل والمجتمع الدولي، لأنها اعتداء على إنسانية الإنسان وحياته وحريته وكرامته التي جُبِل عليها. ومن ثَم فطن المشرع الدولي الجنائي إلى ذلك فوضع اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم المقترفة في حق الإنسانية عام 1968، حيث نصت المادة الأولى منها على أنه "لا يسري التقادم على الجرائم التالية بصرف النظر عن وقت ارتكابها: ...... ب- الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، سواء في زمن الحرب أو زمن السلم، والوارد تعريفها في النظام الأساسي لمحكمة نورمبرج العسكرية"([36])، كما جاءت المادة 29 من ميثاق روما الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية مؤكدة على ذلك، عندما قضت بعدم سقوط الجرائم محل اختصاص المحكمة بالتقادم([37]).

مما سبق يتضح أن الجرائم ضد الإنسانية التي اقترفتها بعض الأنظمة العربية ضد المتظاهرين المدنيين السلميين أثناء الثورات العربية لا تنقضي بمضي المدة، فيجوز في أي وقت تحريك الدعوى الجنائية بناءً عليها، ومن ثم عاجلاً أم آجلا سوف تطال يد العدالة مقترفي هذه الجرائم، فالشعوب العربية لن تنسى انتهاكات اقترفت في حقهم على نطاق واسع وبصورة منظمة من أنظمة كانت تحكمهم.

والخلاصة أن وضع الجرائم المرتكبة أثناء الثورات في قالبها التجريمي الصحيح يعد أحد أدوات العدالة الجنائية التي من شأنها تحديد الجريمة ومرتكبيها ويسهل مهمة القضاء الجنائي، ومن شأنه أيضاً وضع المجتمعات العربية والدولية أمام مسئولياتها وتبصيرها بمسارها كي لا يفلت مقترفو هذه الجرائم الجسيمة من الملاحقة والمساءلة والعقاب أياً ما كانت مستوياتهم أو مراكزهم.



([1])  See: Maya Bhardwaj: Development of Conflict in Arab Spring Libya and Syria: From Revolution to Civil War, Washington University International Review, Volume 1, Spring 2012, page 77.

([2]) فقد رأى مجلس الأمن في قراريه رقمي 1970، 1973 أن الهجمات الممنهجة الواسعة النطاق التي تشن في الجماهيرية العربية الليبية ضد السكان المدنيين قد ترقى إلى مرتبة الجرائم ضد الإنسانية. راجع:

- S/RES/1970 (2011).

- S/RES/1973 (2011). 

-  كما ذهب أستاذنا الدكتور/ حازم عتلم إلى القول بأن "لا يوجد داخل نظام القانون المصري ما يُعرف بالجرائم ضد الإنسانية، لكن ما صدر من النظام السابق أثناء ثورة 25 يناير كان جرائم ضد الإنسانية، لكنه سيحاكم على ارتكابه جرائم قتل فقط، والفارق ضخم بين جرائم القتل والجرائم ضد الإنسانية". راجع: كلمة سيادته أمام المؤتمر الذي عُقد في بيروت من 26 – 28 من مايو عام 2011م، تحت عنوان "من المحاكم الخاصة إلى المحكمة الجنائية الدولية والمحكمة الخاصة للبنان: تطور القضاء الجنائي الدولي"، الذي نظمته الهيئة العلمية لنشر الثقافة القانونية ومنظمة عدل بلا حدود بالتعاون مع المحكمة الخاصة بلبنان. 

-  كما ذهب السيد مارك لايل غرات عضو مجلس الأمن عن المملكة المتحدة في كلمته التي ألقاها إزاء المشروع المعني باللجوء إلي تدابير الفصل السابع من الميثاق ضد الجمهورية العربية السورية، إلى القول بأن "استخدام النظام السوري للقوة المفرطة ضد شعبه، واحتجازه للآلاف بشكل تعسفي، وقتله ما يقرب من ثلاثة آلاف شخص من المدنيين، ربما يرتقي إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية". راجع: محضر جلسة مجلس الأمن S/PV.6627 الصادر في 4 من أكتوبر عام 2011م، ص 8.

-  كما أكد تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية على أن جرائم ضد الإنسانية قد اقتُرِفت ابتداءً من مارس عام 2011م، في مواقع مختلفة منها على سبيل المثال، دمشق ودرعا وحمص وحماة وإدلب. راجع: التقريرA/HRC/S-17/2/Add.1  الصادر في 23 نوفمبر 2011، ص26-28.

- كما أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة على أهمية ضمان المساءلة وضرورة وضع حد للإفلات من العقاب ومحاسبة المسئولين عن الانتهاكات التي يمكن أن تعد جرائم ضد الإنسانية، راجع: البند 5 من القرار A/RES/66/253 الصادر في 21 فبراير 2012 بشأن حالة الجمهورية العربية السورية.     

([3]) راجع: الأديب العالمي، ويليام شكسبير، اغتصاب لوكيريس.   

([4]) حريّ بالبيان أن الدول العربية الأربع هي: الأردن في 11 من أبريل عام 2002م، جيبوتي في 5 من نوفمبر عام 2002م، جزر القمر في 18 من أغسطس عام 2006م، وقد انضمت تونس بعد الثورة التي أسقطت النظام في 24 من يونيه عام 2011م.

([5])     Raphael Lemkin: Le Crime Genocide, Revue Belge de Droit International, 1964, P. 79.

([6]) Glaser Stefan: Droit international pénal conventionnel, Bruxelles, É. Bruylant, 1970, P. 17.

([7]) راجع: حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 5 من يوليه عام 1997م، مجموعة أحكام المحكمة الدستورية العليا، س 8، ص 709.

([8]) راجع: عبد الواحد عثمان إسماعيل، الجرائم ضد الإنسانية، دراسة تأصيلية مقارنة تطبيقية، رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية الدراسات العليا بجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، عام 2006م، ص 27.

([9]) حريّ بالذكر أنه أصبحت 116 دولة أطرافاً في ميثاق روما الأساسي بعد انضمام تونس في 24 من يونيه عام 2011م.

([10]) راجع: نص المادة السابعة من ميثاق روما الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية، وثائق الأمم المتحدة، الوثيقة:    PCN.ICC/1999/IN F/3.

أيضاً: د. محمود شريف بسيوني، المحكمة الجنائية العراقية المختصة بالجرائم ضد الإنسانية في ضوء ضمانات المحاكمة المنصفة، الطبعة الأولى، دار الشروق، القاهرة، عام 2005م، ص 182، 183.

([11]) راجع: د. عبد الواحد محمد الفار، الجرائم الدولية وسلطة العقاب عليها، دار النهضة العربية، القاهرة، عام 1995م، ص 291.

([12]) راجع: جيمي آلان ويليامسون، بعض الاعتبارات حول مسئولية القيادة والمسئولية الجنائية، المجلة الدولية للصليب الأحمر، المجلد 90، العدد 870، يونيو عام 2008م، ص 60.

([13]) يقصد بالاضطهاد: حرمان جماعة من السكان أو مجموع السكان حرماناً متعمداً وشديداً من الحقوق الأساسية بما يخالف القانون الدولي، وذلك بسبب هوية الجماعة أو المجموع. راجع: البند (ز) من الفقرة الثانية من المادة 7 من ميثاق روما الأساسي.

([14]) راجع: البيان الثاني للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إلى مجلس الأمن عملاً بالقرار رقم 1970 لعام 2011م. وأيضاً: بيان مجلس جامعة الدول العربية رقم 136- د.غ.ع- 22/2/2012م.

See also: Maya Bhardwaj: op, cit, page 81.

([15]) راجع: تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية، مرجع سابق، ص 14-25. وأيضاً: قرار مجلس جامعة الدول العربية المعني بمتابعة تطورات الوضع المتفاقم في سوريا، قرار رقم 7446- د.غ.ع.م- 12/2/2012م. وأيضاً: محضر جلسة مجلس الأمن R/PV.6826 الصادر في 30 من أغسطس عام 2012م، ص 3 وما بعدها.

([16]) راجع: د. محمود نجيب حسني، دروس في القانون الجنائي الدولي، دار النهضة العربية، القاهرة، عام 1960م، ص 131.

([17]) راجع: البيان الثاني للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، مرجع سابق، ص4 وما بعدها.

([18]) في هذه المطالب راجع: بيان مجلس جامعة الدول العربية بشأن المستجدات الخطيرة التي تشهدها ليبيا، رقم 136- د.غ.ع- 22/2/2011م. وأيضاً: قرار مجلس جامعة الدول العربية المعني بمتابعة تطورات الوضع المتفاقم في سوريا، رقم 7446- د.غ.ع.م- 12/2/2012م.

([19]) راجع: د. إبراهيم العناني، النظام الدولي الأمني، المطبعة العربية الحديثة، القاهرة، 1997، ص123.

([20]) راجع: د. محمود نجيب حسني، دروس في القانون الجنائي الدولي، مرجع سابق، ص177. وأيضا: د. حسنين إبراهيم صالح عبيد، الجريمة الدولية، مرجع سابق، ص259.

([21]) أدانت الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن في العديد من قراراتهما الانتهاكات المنهجية واسعة الانتشار لحقوق الإنسان من جانب السلطات السورية والجماعات المسلحة، راجع: القرار A/RES/66/253 الصادر في 21 فبراير 2012، والقرار A/RES/66/176 الصادر في 23 فبراير 2012، والقرار   S/RES/2042 (2012)الصادر في 14 أبريل 2012، والقرار S/RES/2043 (2012)  الصادر في 21 أبريل 2012.

([22]) راجع: د. طاهر عبد السلام إمام منصور، الجرائم ضد الإنسانية ومدى المسئولية القانونية الدولية عنها، رسالة دكتوراه مقدمة إلى كلية الحقوق جامعة عين شمس، 2005، ص172.

([23]) راجع: د. طاهر عبد السلام إمام منصور، المرجع السابق، ص177. وأيضاً: عبد الواحد عثمان إسماعيل، الجرائم ضد الإنسانية، مرجع سابق، ص38.

([24]) راجع: حكم محكمة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان، قضية ألموناسيد – أريانو وآخرين ضد شيلي، الصادر في 26 سبتمبر 2006، ص7.

([25]) تم التوقيع على الميثاق العربي لحقوق الإنسان في 23 من مايو عام 2004م، ودخل حيز النفاذ في 15 مارس 2008 بموجب البند 2 من المادة 49 منه. وصدقت عليه إحدى عشرة دولة هي:                =

=   الأردن في 28 أكتوبر 2004، الجزائر في 11 يونيه 2006، البحرين في 18 يونيه 2006، ليبيا في 7 أغسطس 2006، سوريا في 6 فبراير 2007، فلسطين في 28 نوفمبر 2007، الإمارات في 15 يناير 2008، اليمن في 12 نوفمبر 2008، قطر في 11 يناير 2009، السعودية في 15 أبريل 2009، لبنان في 8 مايو 2011.

([26]) فقد قضت المحكمة الدولية الجنائية ليوغسلافيا السابقة في قضية شيليبيتشي بأن "المسئولية لا تقع فقط على عاتق الأفراد مرتكبي الجريمة، بل أيضاً على قادتهم أو أي شخص في مقام أعلى منهم ممن يثبت بالدليل أنهم كانت لهم عليهم سيطرة حتى دون تفويض أو تعيين رسمي. ربما تعجز أي محكمة عن تنفيذ القانون الإنساني ضد رؤساء بأمر الواقع إذا لم تقبل سوى خطاب رسمي بالسلطة كدليل على وجود سلطة القيادة، رغم واقع الأمر، أن الأعلى مقاماً تصرفوا في الوقت المعني بكل السلطة التي يمكن أن يتمتع بها مسئول أو قائد معين رسمياً". راجع: حكم المحكمة الدولية الجنائية ليوغسلافيا السابقة الصادر في 20 فبراير 2001، المدعي العام ضد ديلاليتش وآخرون (قضية شيليبيتشي)، رقمIT-96-A ، ص195.     

([27]) راجع: جيمي آلان ويليامسون، مرجع سابق، ص59.

([28]) راجع: الفقرة (أ) من المادة 28 من ميثاق روما الأساسي.

([29]) راجع: الفقرة (ب) من المادة 28 من ميثاق روما الأساسي.

([30]) راجع: حكم المحكمة الدولية الجنائية لرواندا الصادر في 3 يوليو 2002، قضية رقم ICTR-95-IA-A، المدعي العام ضد باغلشيما، الفقرة 28.

([31]) راجع: المادة 27 من ميثاق روما الأساسي. 

([32]) راجع: جيمي آلان ويليامسون، مرجع سابق، ص64.

([33]) راجع: المادة 33 من ميثاق روما الأساسي. 

([34]) راجع في هاتين القضيتين: جيمي آلان ويليامسون، مرجع سابق، ص65.

([35]) راجع: جيمي آلان ويليامسون، المرجع السابق، ص66.

([36]) راجع: نص المادة الأولى من اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 26 نوفمبر 1968.

([37]) راجع: نص المادة 29 من ميثاق روما الأساسي.

المصدر: http://arabaffairsonline.org/ArticleViewer.aspx?ID=1b81f2a5-b2b7-4fa5-a9...

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك