حيث الهداية متعدّدة بتعدّد البشر

الكاتب: وفيق غريزي

إذا كان هناك مذهب يعتقد أن العقل واقع في أسر الأيديولوجية، فإنه سيملك رؤية خاصة عن الحرية، وإذا كان يعتقد أن عقل الإنسان لا يمكن أن يقع في أسر الأيديولوجية فسوف يكون له رأي آخر في مقولة الحرية. العقل الخالص، ولكنه ليس حراً من قيود المنطق، فالمنطق هو عين العقلانية، وأما العقل الملوّث فهو العقل الأسير، وما لم يتحرر من القيود الأجنبية فإنه لا يرى وجه الحرية. ومن أجل بقاء العقل في جو الحرية والخلوص والصفاء، فلا بد من توفير محيط حرّ له ليتمكن من خلال الاتصال مع عقول الآخرين ان يزداد صفاء وخلوصاً ويخرج من زاوية العزلة الفردية ويطهّر ذاته من غبار الفردية، وهذا الكتاب يستعرض في مجمل أبحاثه قضايا تتصل بالعقلانية والحرية، بشكل أساسي.
النسبية بين العلم والدين
إن أحد البحوث المهمة التي ينبغي الإشارة إليها وبحثها هو ما يتصل بموضوع النسبة بين العلم والدين، لأن هذه المسألة بمثابة المصدر الأساس لكثير من الحوادث الواقعة في مجال النزاع بين معطيات الحضارة الجديدة ومعطيات عالم الأديان. وقد وقع هذا النزاع التاريخي حسب رأي الكاتب في بلاد الغرب أولاً. ثم امتد إلى العالم العربي والإسلامي وسائر الأديان الأخرى. ويؤكد الكاتب على هذه النقطة، وهي أنه لا ينبغي أن نتصور في هذا الشأن وجود مؤامرة ضد الدين وأن جماعة من المتآمرين قد اجتمعوا في نقطة معينة من العالم وأخذوا يرسمون مؤامرتهم ضد الخطاب الإلهي وتعاليم الرسل والأنبياء، فالأمر ليس كذلك، وعلى فرض وجود متآمرين فإنهم لا يمثلون إلا قلة ضئيلة وليس لهم دور إلا في هامش التاريخ. وما يجري في التاريخ البشري بصورة طبيعية وبمقتضى التكامل التاريخي عبارة عن أن البشرية قد أنجزت قفزة حضارية وتوصلت إلى كشوفات وإبداعات ومعارف مهمة، وكثرة الكشوفات والمعارض الجديدة قد تتعارض في بعض الموارد مع الأفكار الدينية، وبالتالي، فقد وضعت القضايا الدينية تحت تأثيرها وعملت على تغيير رؤية الناس للدين والفكر الديني وعلمتّهم أن ينظروا إلى الدين من خلال قراءة جديدة.
إن التاريخ البشري عبارة عن تاريخ القضايا والمسائل لا تاريخ مؤامرات. فعندما ننظر إلى العالم والتاريخ البشري بمنظار سياسي فسوف نرى يد الشيطان وقوى الانحراف والمتآمرين دخيلة في جميع الحوادث الواقعة في حركة التاريخ والمجتمعات البشرية وخاصة تلك الحوادث التي لا نرغب فيها وتقع على خلاف مع رغباتنا، فهذا الأمر يقول الكاتب: «يمكنه أن يرضي بعض السياسيين، ولكن أذهان المحققين لا تقنع بهذه الفرضية، فيجب أن ننظر إلى تاريخ المعرفة البشرية من منظار كونه تاريخ المسائل الفكرية». وهذه المسائل الفكرية تظهر في أجواء التاريخ البشري بسبب التكامل الطبيعي لأذهان الناس وأفكارهم، وأما نتائج هذه المسائل الفكرية فلا أحد بإمكانه تخمين أو تقدير هذه النتائج وأين ستنتهي وإلى أين تصل. وعندما اشتعلت نيران النزاع بين الدين والعلم، وخاصة في أوائل النهضة الجديدة في عصر كوبرنيك وغاليليو، لم يتصور أحد أن النزاع هو نزاع مبارك وأنه سينتهي إلى أخذ العلم مكانته الواقعية وكذلك يأخذ الدين مكانته أيضاً، وستكون بينهما رابطة نسبة جديدة، هذا النزاع كان في ذلك الوقت نزاعاً مذموماً وغير مبارك في نظر المتنازعين في ذلك العصر، ولكنهم على أية حال لم يتمكنوا من إنهاء النزاع وقد انتهى إلى ما نعيشه في هذا العصر.
الفكر العلمي والعلمانية
بعد أن قسّم الكاتب العلمانية إلى قسمين، من موقع الفكر والدوافع، أضاف عنصراً مهماً في مجال التفكير العلماني وهو الفكر العلمي بالذات، فالفكر العلمي يغذّي العلمانية من طريقين، إحداهما: من خلال نزاعه مع الدين، والأخرى من خلال المحتوى والمضمون للعلم نفسه، وفي نظر بعض المؤرخين في دائرة العلم أن الفكر العلمي منذ البداية يتضمن في واقعه ظاهرة الوضعية، وبالتالي، ينفي الأسباب الغائية والفعلية وينظر فقط إلى العلل والشروط المادية، وعلى أية حال فإن مضمون العلم وكذلك منهجه يؤثران كثيراً في حركة الإنسان المعاصر. ويرى الكاتب أن إدعاءات العلم وتحليقاته تصاعدت في آفاق الفكر المعاصر بحيث استطاع حشر الدين في حدود ضيقة وزاوية حرجة واستطاعت العلوم أن تفرض بكل احترام نوعاً من التواضع على الدين والمتدينين، وأثبتت أن تعاليم الدين تختص بدائرة معينة ولا يمكن للدين أن يدّعي تغطية الدوائر المعرفية والإحاطة بجميع أبواب المعرفة البشرية.
يقول الكاتب: «من الطبيعي أن يؤدي هذا النزاع إلى تواضع العلم أيضاً، فالعلم أراد أن يحّل محّل الدين تدريجياً من حيث إدعاؤه استيعاب أبواب المعرفة كلها، وهذا الإدعاء تجلّى أكثر في المدرسة الوضعية، ولكن العلم أخذ تدريجياً بالتواضع وسحب إدعاءه السابق». واليوم إذا كان هناك نزاع بين العلم والدين فإنه نزاع على المستوى الهادئ الخفيف حيث فقد تلك الشدة التي كانت في السابق بسبب تواضع كلا الطرفين، العلم والدين. فالنزاع يقع عادة بين شخصين متكبرين وكلاهما يدعيان مقاماً أعلى ويتحرك كل واحد منهما في موقع الشمولية والغرور، ولكن على حد تعبير البعض لا تقع عداوة ونزاع بين عاقلين، فعندما يكون كلا الطرفين متواضعين وعاقلين فسوف يتحركان لحل مشكلاتهما بأدوات العقل وأساليب الجدل والنقاش الهادئ. ففي بداية تولد العلم الجديد والتجريبي كان هذا العلم مغروراً جداً ويدعي لنفسه مكانة عالية وتصوّر نفسه كالسيد المطلق في مقابل سيد آخر يدّعي بدوره الشمولية والمكانة العالية.
ومن هنا، حسب وجهة نظر الكاتب، فمن الطبيعي أن تقع نزاعات حادة بينهما، ولكن هذا النزاع أخذ يتجه نحو التعادل والتوازن. فبالرغم من تقدم العلوم وتطور المعارف البشرية أكثر من السابق بكثير فإننا لا نرى حدوث مثل هذه النزاعات اليوم، «ولو أردت التعرف على بلاد الغرب، فلا سبيل لك إلا بمراجعة تاريخ هاتين المعرفتين، العلم والدين». في القرون الأربعة الأخيرة كي نفهم جيداً ذهنية الإنسان الغربي كيف بدأت في حركة النهضة وإلى أن وصلت في هذا العصر. كما نراه في ساحة الواقع وأجواء المعرفة في الحضارة الجديدة يمثل ثمار الشجرة التي تمد جذورها في عمق أرض التاريخ. فما لم تتعرف على تراث هذه الأرض وتحفر في مطاوي تاريخها لا يمكنك أن تتعرف على تاريخ الغرب المعاصر.
ويؤكد الكاتب أنه من أجل التعرف بشكل أفضل على النسبة بين العلم والدين لا بد من إجراء بعض التقسيمات، ولكن قبل ذلك يشير الكاتب إلى نقطة مهمة، وهي أن أكثر الغموض والإبهام في حقل الفكر إنما هو بسبب وجود حقائق متعددة تحت عنوان واحد ومصطلح واحد، فعندما يذكر الشخص مفردة معينة ينتقل الذهن إلى حقائق عدة بدون قصد، وهذه الحقائق لكل واحد منها حكم خاص.
أدلة فلسفية
الفلاسفة يعتقدون أن جميع الموجودات تتحرك باتجاه غايتها وأن الأكثر والأغلب هو تحقيق الوصول إلى هذه الغايات، ويشكل عدم الوصول أمراً اتفاقياً ونادراً. وعلى هذا المبنى فإن أكثر الناس يصلون إلى غايتهم التي هي الكمال الإنساني. وأما من ينحرف عن الجادة ولا يصل إلى مرتبة الكمال فيمثل عدداً قليلاً جداً من الناس وحالهم حال نشارة الخشب التي تتناثر هنا وهناك أثناء عمل النجّار.
وحسب اعتقاد الكاتب الشخص الحكيم هو الذي يستمر بفعله حيث يصل إلى غايته ويستخدم الوسائل التي تساهم على الأغلب في إيصاله إلى المطلوب، فإذا اختار شخص مركبا لا يوصله إلى النتيجة المطلوبة في كثير من الموارد فلا يمكن تسميته بالحكيم.
ولا بد هنا من الفات النظر إلى نقطة مهمة، وهي أن كمالات البشر مختلفة وليست على نسق واحد، فالعرفاء تحدثوا عن الإنسان الكامل، وهذا المفهوم اقترن بسوء فهم من قبل البعض، فلا ينبغي أن تستوحي من مفهوم الإنسان الكامل أن هناك نموذجاً واحداً لجميع أفراد البشر، «الحقيقة أنه ليس لدينا نوع واحد من الإنسان، وبالتالي فلا يوجد نوع واحد من الإنسان الكامل بل إن كل إنسان له كمالات متناسبة معه، وكمال كل فرد يتناسب مع قابلية وشخصية ذلك الفرد لا غير». ومن هنا فإن عالم الإنسان زاخر بالتنوع. وهذا التنوع في عالم الإنسان يدل على أن الكمال الإنساني بعدد أفراد البشر وكل فرد يتمتع بكمال خاص وهداية خاصة. بحيث لا يمكن تعميمه وسرايته إلى الآخرين.
ومن الطبيعي أن يكون بين أفراد البشر قاسم مشترك، ولكن بمجرد أن تتجاوز هذا القاسم المشترك والشامل تبدأ الاختلافات والتنوعات فلا أحد يشبه الآخر، فمن الجينات الوراثية إلى بناء البدن والهيكل العظمي، الدم، البروتين و... فكل فرد يختلف عن الآخر في جميع هذه الموارد، وكذلك في الوجه والشخصية والعواطف، «ولكل واحد منا كماله المناسب له. فلو أخذنا هذا التفاوت بنظر الاعتبار ندرك جيداً أن هداية كل شخص تمثل هداية خاصة له مناسبة لشخصيته وتختلف عن هداية الآخرين، ومن هنا يسهل علينا قبول هذه الحقيقة، وهي شمولية الهداية الإلهية والرزق الإلهي لجميع أفراد البشر».
العلمانية واستغناء الإنسان الجديد
إن ظهور العلمانية لا يتنافى مع واقع الإيمان والتدين لدى أفراد البشر وان الأنبياء قد نجحوا في مسيرته الإصلاحية، والظاهر يقول المؤلف: «أن هذا المعنى يحتاج إلى شرح وتفصيل أكثر. فالمرحلة الجديدة التي تعيشها البشرية تسمى مرحلة العلمانية». فالعلمانية تعني عدم اهتمام الإنسان بمسألة الدين وتعاليمه بدون ملاحظة القيم والأوامر والنواهي الدينية لا نفياً ولا إثباتاً، وهذا لا يعني بالضرورة إنها تقف موقفاً معادياً لتعاليم الدين أو تتعامل معها من موقع الخصومة والعقدة، ولا تعني الإلحاد الصريح والعزم على إلغاء الدين من ساحة الحياة والواقع. فأحد لوازم عدم الالتفات للدين في العلمانية، إخراج الدين من الميدان العام في دائرة المجتمع وسياسة المدن وحصره في الضمير الشخصي للإنسان وفي دائرة الحالات الفردية.

المصدر: http://www.alimbaratur.com/index.php?option=com_content&view=article&id=...

الأكثر مشاركة في الفيس بوك