قراءة في الفضاء النقدي .. صورة الآخر في جمهورية البرتقال

إنّ المقدرة التي يمتلكها الشاعر إبراهيم الخياط، في مجموعته (جمهورية البرتقال)، تفصح عن نوع النشاط الابداعي الذي تتحدد فيه عناصر فنية وإنسانية فذة، تضمن الثبات وبقاء التأثير، وهي في أعلى درجاتها المتتالية، إذ تحكم هذه الجمهورية استمرارية، وتنبعث منها ضرورة تدعو الإنسان أن يراجع نفسه، وأن يحدد مسلكه، وأن يعيد النظر فيما هو عليه، فهي بمثابة الصوت العالي، إذا ما أعوزتنا الحيلة واستبدّ بنا العجز.

وفي هذا المدار، يطرح الشاعر ذلك الصراع الدائم بين الأنا والآخر، من دون أن يضحي بالعاطفة الإنسانية، ومن دون أن يلغي المسافة التي يستخلصها من الموقف اليومي، حين يتمكّن من إحالة الحقيقة إلى كتابة شعرية فاعلة في كل شيء، لطرح الإشكالية وخلق البديل، وهو بذلك – واعني الشاعر- يتجاوز النمط التقليدي ليتميّز عن باقي الشعراء بإندفاعه العفوي، في جعل مناخات جمهوريته بكل تجلياتها تهيمن على المتلقي الواعي، الذي يساير الركب الابداعي أينما حلّ، وعلى ما يبدو أن الشاعر إبراهيم الخياط قد نجح في هذا السياق، وذلك بفضل ما قدمه من نماذج شعرية، تحوّل سكون الصورة الشعرية إلى حركة ثرية، تحفظ المزيد من الاشعاع، محاولة الاقتراب من حالات الفرح والألم والدهشة، وهذا ما يجعل النص في انه لم يعد فيضاً تلقائياً أو سيلاناً رومانسياً، وإنما صار فناً واعياً لما يجري وثمرة جهد متواصل، ومن هنا يكون العنصر الفكري أو الشحنة الثقافية في العمل الشعري هي الغالبة لسمة أرادها الشاعر في أن تنصهر وتصبح ملتحمة جنباً إلى جنب مع شتات العناصر الاخرى من انفعالات وعواطف ورؤى وغيرها من ذرات النهر النفسي – إذا صح التعبير- الذي يصبّ في اتجاه ضرورات الشعر، أو يصبّ في العناصر القادرة على فك سر المجهول والوصول إلى الآخر لتؤثر فيه.

والواقع ان مجموعة) جمهورية البرتقال)، تتجه صوب الشعر الذي يلغي كل ازدواجية، ويشغل المكانة الفريدة كجهد إنساني ضروري، وفي ضوء هذا الفهم لمهمة الشعر، نجد أن نصوص هذه المجموعة لها جهدها الذي تكمن فيه رؤيا نافذة، تعجز عنها الرؤيا العادية، بحيث تعطي بنية تعبيرية جديدة تكشف وتضيء، وانطلاقاً من هذا الأمر يبدأ فعل جمهورية إبراهيم الخياط، الذي يعاني هاجس الوجود والمصير، لتثقل كلماته وتعابيره بطاقة إيحائية تهزّ، كما في نصوص (يا امرأة الوجع الحلو، مدمي الشباب، زينب، الضيوم، النبي الصامت، طواسين،...)، إذ ينتقي هذا الشاعر الألفاظ التي هي أقرب إلى الفهم أو أفعل في الذهن بشكل واع، ينحت من خلالها صيغاً جديدة، فيضع اللفظة في محلها الأنسب الذي لا تنخلع عنه، ثم الرنين البعيد، الذي يتناهى وراء التعبير إلى أبعد ما تحس الأذن، فتكون هذه المحاولات بلورة لما غمض في نفسه، فهو يعلم تماماً منذ الوعي الشعري الأول، أن الشاعر هو من يقوى على الإبداع، إذا امتلك حيوية صاهرة تكمن من تفادي التخمة وعسر الهضم، ويضبط مقود حالته النفسية، لتبدأ وفود الصور بالتوالي من نقطة معينة وتنتهي في نقطة غير منتظرة، ولعلّنا نلاحظ تلك الصور الشعرية في قصيدة (نادي الببغاوات)، التي تقوم على أدوات حيوية أساسها التشبيه، وما يقوم به الحسّ الوجداني الذي لا يفسد كيمياء الألفاظ:

والدستور والفجر الكذوب والليل

النائم وديك الجارة الذي لا يصيح

ولا يحتج ولا يعترض ولا يتكلم

إلاّ كرجيع الببغاوات الغبيّة وهي

ترتاد ناديها فتستريح كلماتي جمّاً

ثم تعترض باشتداد كاحتجاج الديكة

المرتقية على الليل الطويل لتعلن

فجرها الحقيق، وتستلقي كالشمس

الغامرة على تلّة القشّ الغزير

لتتمرغ بالهباء المأنوس فتجتاحها

السِنة رويداً وتنتبذ سريراً معبأ

بالأمنيات فلا يغري منها سوى حلم

أو إرث أخرس كببغاء بكماء أتعبت

كلماتي المعارضة المحتجة على

الليل الأسود والمعلنة إرتقاء الفجر

وبهذا تكون القصائد في مجموعة (جمهورية البرتقال)، تنطلق من تفسير نمطية الشكل، الذي يملأ النفس بالالفاظ الشعرية ووجودها في البناء الشعري ككل، إذ يتيح هذا الشكل أن نتأمل شيئاً آخر وراء النص، فنجد المتلقي الواعي وهو يستشف عالماً لا حدود له، على أساس الشعرية التي تتوحد مع الألفاظ في كيان بنيوي واحد، وتعكس بجرسها وعلائقها النغمية والبصرية للأذن والفكر معاً، وهذا ما نستشفه في قصيدة (قلبي)، التي تعبّرعن حالة الإنسان في وقت قد يواجه فيه مناخاً غير ملائم، وهو يستضيف النهار، ليحرس الأناهيد الموهومة باللقيا، حين يخيّل إليه إنه يكشف عن النوافل المشرئبة بالحزن ،انها تحيط به وبالآخر:

قلبي، أو هذا الجدار الذي يحرس

الأناهيد الموهومة باللقيا، ويخبىء

سرب الليالي النائمات على أنينه

المسجوع – وفي استضافة النهار

الماكر – ينهارعلى المواجع، وعلى

المراجع، وعلى قفص اضلاعه الحمام

وفي هذا الاختيار، فإن الشاعر يرصد الخط البياني الذي تصعد فيه اللغة نحو الشاعرية لتصل إلى مستوى الذوق، لينجز المهمة الأكثر صعوبة، وأعني بها مهمة بناء البنية الفنية، من خلال نماذجه الشعرية في جمهورية البرتقال، التي لم تكن نمطية الأسلوب أو تقليديته، وذلك بفعل دوافع يطمح الشاعر فيها إلى تأسيس بنى جديدة، تؤدي وظيفة فاعلة في البحث عن الحلول في فيض الحياة وغناها، والدعوة بصدق إلى تبني الإنسان بجحيمه وخيبته، فنرى إبراهيم الخياط يبتعد عن الموضوعات التي تشله وتعزله عن الحياة، كي يتمكّن من الكتابة بعفوية وإخلاص، مراعياً في اختيار نصوصه أن تواكب الرؤية المتضمنة حضور الآخر، وهذا هو المفهوم الذي يجمع النصوص الشعرية في (جمهورية البرتقال)، فلا يعتقد المتلقي أن الشاعر في هذه المجموعة تغرّب كثيراً، وجعل من القصيدة كهفاً مغلقاً، لا يمكن الدخول إليه، بل على العكس من ذلك، جعل من القصيدة أن تكون في إطار من العموميات غير المحددة، التي تمدّ المتلقي بمخيلة فاعلة ترفعه إلى حالة كيانية يتوحد فيها الانفعال والفكر، كما في قصيدة (هناءة المحابس)، التي فيها ينطلق الشاعر للحديث عن نجمة مطفأة في ليل العراق:

قالت: أريد طفلاً

ـ هناءة المحابس، دقّ الجرس

ولكن التلاميذ لم يغادروا

الصفوف الصامتة من جبروت

المعلم ليملأوا الهواء بالضجيج

المستحبّ لأن وطني يحيا

بلا صغار، فهل – يحيا – من

لا صغار له؟

وعند هذا الفهم، يمكن القول: إن للشعر مصدراً واحداً هو الحياة، وهذا ما يفعله إبراهيم الخياط، وهو يعيش عالمه في (جمهورية البرتقال)، والبحث عن الذات التائهة، ليس في الشكل أو الاطار وإنما في المحتوى النابع من الحياة، وهو بالتالي ليس ضئيل المحصول الإنساني، إذ يقول في قصيدة (الضجة الصديقة):

أطفأت روحي

ثم رميت عقبها المفحم خلف اباب

فلجارتنا،

بين مسائي

وبين صباحات الجبهة

بيت من جمرات الوجد البلدي

ولخديّ

ـ كنبقتنا ـ

طعم إغتراب ِ

ترى ـ أمن الضجة كل ما بي؟

فعند إلتقاء المدارات

شاعراً أطلقت قلبي

وسميت عشقي برتقالاً

ومما يلفت الانتباه، تسمية هذه المجموعة بـ (جمهورية البرتقال)، على غرار جمهورية أفلاطون، ولكنّ الاختلاف بين الجمهوريتين، يعود إلى الانبثاق أو الممارسة الابداعية المستمرة خارج الإطار المرسوم، والى تأسيس رؤيا جمالية خاصة في الكتابة الشعرية، وهذا الأمر تمثل  بـ (جمهورية الخياط)، الذي لا يركن إلى التراكم والقنوط، ويشعر على الدوام ان النفس لا تقوى إلاّ إذا تجردت من أدران هذا العالم.

المصدر: http://almothaqaf.com/index.php/readings/74446.html

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك