الرؤى والأفكار والمبادرات في فن الحوار والتفاوض

الوسائل السياسية والدبلوماسية التي يلجأ إليها عادة لتسوية المنازعات الدولية عامة تشمل مايلي ([1]): المفاوضات – المساعي الحميدة – الوساطة – التوفيق والمصالحة – اللجوء إلى المنظمات الدولية ([2]).

والمتعارف أن الاختيار من بين هذه الوسائل إنما يخضع في الغالب من الأحوال لبعض الاعتبارات الخاصة، والتي تختلف من حالة إلى أخرى، كأهمية النـزاع موضوع الاهتمام وطبيعة العلاقات السياسية بين أطراف والأوضاع الإقليمية والدولية المحيطة ([3]). وسنبين هنا الدور الكبير الذي تقوم به المفاوضات في مجال التسوية السلمية لكل منازعات الحدود الإقليمية ثم الوسائل الأخرى التي تندرج في نطاق ما يسمى بتدخل الطرف الثالث أو التسوية السلمية عن طريق تدخل طرف ثالث Third Party Settlement .. وعلى النحو الآتي:

المفاوضات: المفاوضات وسيلة هامة من وسائل التسوية السلمية للمنازعات الدولية، لأنها تعنى الالتقاء المباشر من جانب الأطراف المتنازعة بهدف حل منازعاتهم سلمياً، وذلك دون تدخل أي طرف ثالث ([4]). ومن التطبيقات العملية لهذا التفاوض، المفاوضات الثنائية التي جرت في السنوات الأخيرة بين المملكة العربية السعودية والجمهورية العربية اليمنية لتسوية بعض الخلافات الحدودية المشتركة.

ولعله من القول أن نؤكد هنا بأن المفاوضات المباشرة التي يجريها أطراف النـزاع فيما بينهم وهو من أفضل الوسائل السلمية لتسوية المنازعات الدولية على وجه العموم لأن أطراف النـزاع هم أدرى بفهم ظروف النـزاع وملابساته المختلفة وهذا فضلاً عن أن تدخل طرف ثالث معين فيه قد يؤدي في بعض الأحيان إلى تصعيده بدلاً من المساعدة على تسويته ([5]).

لذلك نعتقد أن المفاوضات ليست إجراءات شكلية ولابدّ من توافر النية الحقيقية والاستعداد الكافي لدى الأطراف المعنية للوصول إلى تسوية مقبولة ([6]). والواقع أن إدراك أهمية قيام أطراف النـزاع أنفسهم بالعمل على إيجاد تسوية ودية هو الذي يفسر العلة التي من أجلها تحرص بعض الاتفاقيات الدولية والمواثيق الدولية – كميثاق الأمم المتحدة مثلاً عام 1945م على أن يجعل من اللجوء إلى المفاوضات شرطاً أساسياً لابدّ من استنفاذه قبل التفكير في اللجوء إلى وسائل أخرى لتسوية المنازعات ومنها الوسائل القانونية ([7]).

ومع أن المفاوضات لا تفلح وحدها في التقريب بين وجهات النظر المتعارضة للأطراف المتنازعة، وقد يُعزى ذلك لعدم تمكن هذه الأطراف من الاتفاق مباشرة على حل وسط مقبول نتيجة لإصرار طرف منها – مثلاً – على رفض تقديم أي تنازلات يراها الطرف الآخر ضرورية ([8]). ثم أن حل النـزاع القائم قد يقتضي البحث في بعض الجوانب القانونية والفنية الدقيقة التي قد يتعذر على الأطراف أنفسهم الفصل فيها من خلال المفاوضات، وبالذات فيما لو كان النـزاع يستلزم مثلاً مناقشة الحجج أو القواعد القانونية التي يستند إليها كل طرف ويؤسس عليها موقفه. كذلك المطلوب الرغبة في التسوية السلمية، ونلاحظ أن هناك أطراف لا ترغب بالتسويات السلمية وسنوضح ذلك بعرض بعض الأمثلة من الواقع الحالي وكالآتي:

 1) عدم قبول إيران لمبدأ المفاوضات مع دولة الإمارات العربية المتحدة بشأن النـزاع وأحقية السيادة على الجزر العربية المحتلة في الخليج العربي (طنب الكبرى، وطنب الصغرى، وأبو موسى) وهذا يفسر بقاء النـزاع دون حل منذ عام 1971م إلى الآن، والجدير بالذكر أن دولة الإمارات العربية المتحدة قد بذلت جهوداً حقيقية متكررة من أجل حل هذه المشكلة. ومن هذه الجهود ([9]) قيامها بترتيب اجتماع ثنائي عقد في أبو ظبي في أيلول 1992م وتبعه اجتماع لاحق في الدوحة لحث إيران على القبول بمبدأ التفاوض والامتناع عن استخدام القوة المسلحة أو التهديد باستخدامها. والشيء السلبي هو عدم تجاوب إيران بالرغم من أن الإمارات العربية المتحدة لم تضع أي شروط مسبقة، كما لم تمانع في قبول مبدأ عرض النـزاع على محكمة العدل الدولية للفصل طبقاً للقانون الدولي ([10]).

2) حالة النـزاع بين الجزائر والمغرب خلال الفترة من عام 1963م – 1972 حيث لم تتحقق خطوة باتجاه الاتفاق إلا بعد أن تمكن الطرفان من الاتفاق مباشرة من خلال المفاوضات على أسلوب معين للتسوية يقوم على إنشاء تنظيم مشترك لإدارة الموارد الطبيعية واستغلالها في المناطق المتنازع عليها ([11]).

إن الدور التمهيدي الذي تضطلع به المفاوضات في مجال التسوية السلمية للمنازعات الدولية عموماً، مهم جداً فقد استقر الرأي، فقهاً واقتصاداً على القول بأن ثمة ما يمكن وصفه «بالالتزام بالتفاوض الذي ينبغي على أطراف النـزاع الوفاء به قبل اللجوء إلى تسويته عن طريق قبول تدخل طرف ثالث ([12]) ونرى أن الالتزام بالتفاوض يساعد كثيراً للتوصل إلى تسوية مرغوبة وتهدئة المواقف وفتح الأبواب أمام إمكانية استئناف جهود التسوية.

 

التسوية السلمية من خلال طرف ثالث

إن عجز الأطراف المتنازعة في إيجاد حل لمشاكلها الحدودية أو الإقليمية يتطلب في بعض الأحيان تدخل طرف ثالث. واصطلاح الطرف الثالث The Third Party قد جرى استخدامه بصفة عامة من جانب باحثي العلاقات الدولية للإشارة إلى الحالة التي تقرر فيها جهة دولية معينه يفترض فيها الحياد ولو من الناحية الرسمية على الأقل – للقيام بمحاولة التدخل لدى أطراف نزاع دولي معين أملاً في التوصل إلى تسوية سلمية له.

وتفسر محاولة التدخل هذه بإرجاعها إلى أسباب خاصة يقدرها الطرف الثالث المعين والتي تكون في التحليل الأخير ذات صلة بمصالحه ذاته. وطبقاً لما استقر عليه العمل الدولي فإن الطرف الثالث قد يكون دولة واحدة أو أكثر – كبرى أو صغرى أو متوسطة، وقد تكون منظمة دولية أو عالمية، كما أنه يمكن أن يكون شخصية دولية لها مكانتها المعتبرة. والطرف الثالث عادة له الرغبة في تحقيق الأهداف الآتية ([13]):

1- تيسير الاتصال بين الأطراف المتنازعة، ويستمد هذا الهدف أهميته من أن الصعوبة في حل النـزاع الدولي قد ترجع في بعض الأحيان ولو جزئياً، إلى عدم وجود اتصال مباشر بين الدول المتنازعة، وعليه تصبح هناك ضرورة ملحة لتغيير طبيعة نظر الدول بعضها لبعض كخطوة أولى من أجل حل هذا النـزاع ([14]).

2) تسهيل تقديم التنازلات عن طريق الطرف الثالث الذي يُعد مخرجاً لدول النـزاع من هذا الموقف النفسي المعقد.

3) تقديم الضمانات اللازمة لاحترام كل طرف من أطراف النـزاع لتعهداته الدولية.

فضلاً عمّا ما تقدم يمكن أن يكون تدخل الطرف الثالث من خلال الآتي:

أ) المساعي الحميدة (Good Offices): وهي بذل المساعي لتقريب وجهات النظر بين الأطراف المتنازعة وحثها على قبول مبدأ التفاوض المباشر أو الاتفاق على عرض النـزاع على جهة دولية لتسويته بواسطتها. ويقف دور الطرف الثالث هنا عند هذا الحد حيث لا يشترك في المفاوضات – بفرض إمكان الاتفاق على أجرائها.

كما لا يبدي أي رأي بشأن طريق التسوية ([15]). ومن التطبيقات العملية لهذه المساعي الحميدة في تسوية منازعات الحدود والمنازعات الإقليمية. مساعي الأمين العام للأمم المتحدة من خلال إيفاده مبعوثاً شخصياً له لمحاولة تسوية نـزاع الحدود الذي نشب في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين بين كمبوديا وتايلاند وأسفرت المساعي إلى عودة العلاقات الدبلوماسية، ومهدت لاتفاقهما على عرض موضوع النـزاع على محكمة العدل الدولية للفصل فيه بحكم ملزم.

ومساعي الرئيس المصري السابق حسني مبارك لتسوية النـزاع بين دولة قطر والمملكة العربية السعودية بشأن بعض أجزاء الحدود المشتركة بينهما عام 1992 وهي الجهود التي تكللت بالنجاح وتمت التسوية الودية بإبرام اتفاق في المدينة المنورة بتاريخ 20/كانون الأول – ديسمبر1992م بحضور قيادي الدولتين والرئيس السابق حسني مبارك والذي نصّ على مايلي ([16]):

أولاً: تنفيذاً للاتفاق الحدودي بين المملكة العربية السعودية ودولة قطر في 11شعبان لعام1385هـ الموافق 4كانون الأول 1965م، تم الاتفاق على إضافة خريطة موقعة من قبل الطرفين يبين فيها خط الحدود النهائي والملزم لكلا الطرفين.

ثانياً: تشكيل لجنة سعودية قطرية مشتركة وفقاً للمادة الخامسة من هذا الاتفاق يناط بها تنفيذ اتفاق عام 1385هـ/1965م يجمع بنوده وأحكامه وما جاء في هذا البيان المشترك، و تكليف هذه اللجنة بوضع علامات الحدود طبقاً للخريطة المرفقة، ولها أن تستعين في عملها بشركة مسح يتفق عليها، وبحيث تنتهي هذه اللجنة من إنجاز خريطة نهائيه يوقع عليها الطرفان. وتعتبر هذه الخريطة نهائية وجزءاً لا يتجزأ من اتفاق عام 1965م.

ثالثاً: تنهي هذه اللجنة من إنجاز مهامها المذكورة خلال عام من تاريخ توقيع هذا البيان المشترك وبذلك انتهى هذا الخلاف بتسوية ودية.

وكذلك جهود الأمين العام السابق لمنظمة المؤتمر الإسلامي الدكتور حامد القايد لاحتواء النـزاع الذي نشب بين موريتانيا والسنغال في أوائل عام 1989م، وحثهما على استئناف الحوار من أجل التوصل إلى تسوية النـزاع ([17]).

هذه بعض ما يتسع ذكره على الرغم من أن الحوادث في هذا المجال كثيرة واكتفينا بهذين المثلين لقربهما من الوطن العربي.

ب) الوساطة: (Mediation) إن هذا المصطلح يشير إلى قيام طرف ثالث – دولة واحدة أو أكثر أو منظمة دولية أو حتى شخصية دولية مرموقة كالأمين العام لإحدى المنظمات الدولية أو شخصية ذات اعتبارات دولية مثل نلسون مانديلا – بالتوسط بين أطراف النـزاع عن طريق الاشتراك بنفسه معهم في المفاوضات التي تجري، واقتراح ما يراه مناسباً من حلول لا تكون لها قيمة قانونية إلزامية بالنسبة إلى هذه الأطراف، والمراد في الأمور أن الوسيط يكون في العادة ذو نفوذ ومكانة ذاتية كبيرة، وهي التي تحمله على التدخل وهي أيضاً التي تحمل الأطراف المتنازعة كمبدأ عام على عدم رفض هذا التدخل ([18]).

ومن خلال تجارب العمل الدولي المعاصر، يمكن القول بأن الوساطة تأتي على رأس الوسائل السياسية التي تلجأ إليها الكثير من الدول لفض منازعات الحدود والمنازعات الإقليمية التي تظهر فيها بينهم بطريقة سلمية. وتأخذ الوساطة في الجانب العملي إحدى صورتين أو كلتيهما معاً ([19]) وكما يأتي. أولاً: الوساطة التي تقوم بها دولة واحدة أو دولتان على الأكثر. ثانياً: الوساطة الجماعية التي تقوم بها مجموعة من الدول وتكون عادة في إطار المنظمات الدولية.

ومن التطبيقات ذات الدلالة فيما يتعلق بدور الوساطة في التسويات السلمية لمنازعات الحدود الإقليمية محاولات الوساطة المتعددة التي قامت بها الدول الأفريقية – فرادى أو بشكل جماعي – لتسوية النـزاع الصومالي – الكيني والنـزاع الصومالي – الأثيوبي بشأن الحدود المشتركة منذ عام 1960.

والوساطة الأمريكية في النـزاع الذي نشب في أوائل الخمسينيات بين المملكة العربية السعودية ومشيختي أبو ظبي ومسقط من جانب آخر بشأن السيادة على واحة البريمي، وهي الوساطة التي كان لها دور كبير في تشجيع الطرفين على قبول مبدأ عرض النـزاع للتحكيم الدولي، لتسويته طبقاً للقانون الدولي، وإن كانا لم يسيرا في هذا الطريق إلى نهايته ([20]). كما تجدر الإشارة في هذا الخصوص أيضاً إلى الوساطة التي قامت بها الحكومة البريطانية بين الهند وباكستان في شأن النـزاع الذي نشب بينهما في أوائل الستينيات حول مسار الحدود في إقليم (Kutch) وهي التي أسفرت عن اتفاق الطرفين باللجوء إلى التحكيم الدولي وتجنب المواجهة العسكرية بينهما.

وكذلك جهود الوساطة المصرية الفرنسية لحث كل من اليمن واريتريا على قبول التحكيم الدولي لحل الخلاف بينهما بشأن السيادة على جزيرة حنيش الكبرى، وبعض الجزر في البحر الأحمر ([21]).

والخلاصة أن الوسائل السلمية ومازالت من العوامل الأساسية لحفظ السلم الدولي من خلال تجنب المواجهات والحروب وأن الحوارات والمفاوضات الجادة والحقيقة حتماً تؤدي إلى نتائج مقبولة ومرضية . إذا توفر للأطراف النوايا الصادقة في تسوية نزاعاتها عبر هذه الوسائل ودون اللجوء إلى القوة أو العنف، وتعد هذه أساليب حضارية مرموقة وتعبر عن وعي الإنسان ونضجه في معرفة ويلات الحروب ونتائجها على الشعوب.

المصدر: http://mail.almothaqaf.com/index.php/qadaya/76651.html

الأكثر مشاركة في الفيس بوك