حوار في الدولة الدينية المدنية

ما هو شكل الحكم في العراق؟ .. تردد صديقي كثيرا قبل ان يطرح علي السؤال عن طبيعة شكل الحكم في العراق، اذ لا شكل يحده،

وهو جامع للاشكال بطريقة يصعب على العقل التنظيري ان يصنفه ضمن هيكل تنظيمي معين يعطيه شكلا من اشكال الحكم المتعارف عليها في بلدان العالم .

فأجبته : ان العراق اليوم دولة مدنية خاضعة لسيادة القانون .. ولا يعلوعلى القانون متعال مهما كان حجمه، والشعب هو صاحب السلطات من خلال نوابه في البرلمان ممثلة بمجموعة من الكتل كبيرة حاكمة وصغيرة معارضة، ولديه حكومة اتحادية مركزية وحكومات محلية في المحافظات وهو تعبير عن الفدرالية، الى جانب منظمات المجتمع المدني وهي غير منخرطة في الحكومة وتقوم بوظيفة التصحيح ... كل ذلك مفردات من قاموس الدولة المدنية، وهي نصوص تضمنها الدستور ايضا .

قال صديقي : اذا كان شكل الحكم مدنيا يعني انه ليس شموليا ولا عسكريا ؟

قلت : وقوف العسكر على قمة هرم السلطة هو قوام الدولة العسكرية، ومن خلالهم تحسم الخلافات والمنازعات .

قال : وهذا ما ينص عليه الدستور ايضا، ومن يتسنم قمة هرم السلطة التنفيذية هو ذاته القائد العام للعسكر بشكاله المختلفة، والخلافات كما ترى تحسم بالقنا لا بالقناة الدستورية .

و تبسم صديقي غير ضاحك وقال : ومن يتسنم صرح الثقافة هو وزيرالعسكر ايضا .

ثم استدرك قائلا : ولكن هيبة العسكر تضفي معالم من القوة والسيطرة وهذا ما لا يكاد يبين فيما تفصح عنه الحكومة من مواقف، وعندما يخفت صوت الحكومة ترتفع اصوات الاخرين، يرتفع صوت العشائرفي الغرب ويسمع صداه في الشمال والوسط والجنوب، ويكون لها موقف مغاير للحكومة، تفتح الحدود لاستقبال السوريين امتثالا لقيم الاخوة وحقوق الجار واكرام الضيف بعد غلق الحكومة له، لموقف تراه متوازنا من ازمة الشعب هناك مع حكومته، ويظل صوتهم مرتفعا مع المزيد من المطالب بتغييرالقوانيين ورفض الاجتثاث انتصارا لمن هم تحت مظلتها، والنساء والويل كل الويل لمن يسجن النساء مهما فعلن، ويظل صوت الحكومة خافتا لا يسمع الا همسا، وتتعالى الاصوات من كل فج عميق، وبالضد من ذلك ترتفع اصوات ممن ينتمون الى الله ويتوعدوا بالنزول الى الشارع وممارسة الاجتثاث على طريقتهم الخاصة ...كل هذه المفردات غريبة عن قاموس الدولة المدنية والعسكرية .

قلت : وتعلوا كل هذه الاصوات خطابات رجال الدين، ومحاولة رسم صورة الحكم بالطريقة التي تقربها من الدولة الدينية وتبعدها عن الشكل المدني الذي نظروا اليه منذ بداية التغيير .... وهذه الاشكالية سوف تلاحق كل البلدان التي تطبق بعض من مفردات الديمقراطية على استحياء، لكنهم يطاطئون الرؤوس لرموز المؤسسة الدينية، والعراق سائر على هذا النهج ان شاء الله تعالى .

و هنا بدا صديقي متوافقا مع ما طرحته واخذ يسرد الشاهد تلو الشاهد ..كان اخرها حضوره في خطبة صلاة الجمعة في الحسينية الفاطمية في النجف، وكيف صور امام الجمعة المرجعيات الدينية على انها اعلى مصدر قيادي للامة، وكيف انها تستمد مشروعيتها من الله، وان طاعتها واجبة على الجميع .

و الشواهد التي ساقها هذا الامام تثبت الحق الالهي للمرجعيات على الشعب وتوجيهه الى الوجهة التي تتوخاها من خلال حملهم على الاستفتاء على الدستور ومن ثم انتخاب من تراه الاصلح لادارة البلد ... وهذه مفردات من قاموس الدولة الدينية .

قلت : اجل ما ذكرته ينطبق تماما على شكل الحكم الديني الذي قوامه يتمثل بالحكم بالحق الالهي كما يقول هذا الامام، وان الله فوض لهم الحكم نيابة عن الله، ولهم حق التشريع وحق الطاعة ايضا ...

و لكن هذا النوع من الحكم ذكرته الكتب السماوية فيما تضمنته قصص الانبياء اوالملوك من الحق الالهي في الحكم وبحسب المقاييس التي يختارها الاله للناس لا ما يختارونه لانفسهم ... حدث ذلك مع طالوت عندما نصب ملكا ولم يؤت سعة من المال كما اراد الناس، لكن الله اصطفاه عليهم وزاده بسطة في العلم والجسم .

و حدث مع سليمان وداود عندما جمع الله لهم النبوة والملك .. وحشر لسليمان جنوده من الانس ومن الجن من يعمل بين يديه والطير والجبال والريح غدوها شهر ورواحها شهر ...

و لم يحدث ذلك مع نبي الاسلام فيما نقل عنه الكتاب الكريم من انه حكم بالحق الالهي ..قل لا اقول لكم عندي خزائن الله ولا اعلم الغيب ولا اقول لكم اني ملك ان اتبع الا ما يوحى الي ...و حكومته في المدينة كانت مستمدة من المجتمع ذاته وبحسب الاساليب المتبعة والمالوفة عندهم، وما جاء في نص الوثيقة التي كتبها النبي لم يخرج عن تلك الاساليب والتي حددت العلاقة بين القبائل في المدينة من مسلمين ويهود من جهة وبينهم وبين المشركين من جهة اخرى على شكل عقد اجتماعي انضوت تحته كل الاطراف رغم عدم التجانس بينهم، والجدير بذكره هنا ان الوثيقة جاءت نتيجة نقاشات مطولة وتوافقات من كل الاطراف مسلمة كانت او يهودية للحفاظ على مصالح الجميع ضمن اطار مجتمع المدينة الجديد .

و ارجاع الخلافات الى مرجعية النبي للبت فيها ليس من باب الحكم بالحق الالهي باعتباره رسول الله وانما هو امر قد اتفقوا عليه واثبتوه كبند من بنود الوثيقة .

و كذلك حكومة الخلافة الراشدة لم تشهد الحق الالهي قط، وانما استمدوا شرعيتهم في الحكم من البيعة وشورى اهل الحل والعقد، بما فيهم الامام علي القائل : فأن بيعتي لا تكون خفيا ولا تكون الا عن رضا المسلمين وفي ملأ وجماعة .

و عليه فالدولة الدينية اعني حكومة الحق الالهي لا وجود لها فيما ورثناه من تجربة النبي والخلفاء في الحكم .. نعم هي موجودة في مخيلة بعض المرجعيات الدينية تصورا منهم انهم يقوموا بدور النيابة عن الله ورسوله، وهذا يعطيهم الحق في الحكم ومن دون رادع من احد، لان الراد عليهم راد على النبي والرد على النبي رد على الله وهو كحد الشرك بالله، وقد بينت اكذوبة مثل هكذا تصور في مقال سابق نشر من على صفحات المثقف بعنوان المرجعيات الدينية ..المنشأ والمستند.

و الحكم بالشكل الذي يستند الى المؤسسة الدينية بأي نحو كان هذا الاتكاء سواء بشخص الفقيه او بشورى الفقهاء او المؤسسة ككل، مع قشور من مسميات الديمقراطية هذه هي الدولة الدينية المدنية .

لكن يبقى هذا الشكل الهجين في الحكم غير منطبق على حالة مثل العراق، اذ لا وجود لفقرة من فقرات الدستور توضح معالم الحيز الذي تشغله المؤسسة الدينية .

و ما دام الدستور طريا وغير واضح المعالم فالدعوة الى اعادة صياغته باتت اكثر جدية .

المصدر: http://almothaqaf.com/index.php/qadaya/71113.html

الأكثر مشاركة في الفيس بوك