الظاهرة الاستشراقية

المقدمة

الحمد لله حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

أصدر الدكتور ساسي سالم الحاج عام 1990م كتاباً من مجلدين وأربعة أجزاء كتاباً بعنوان (الظاهرة الاستشراقية)([2]) وقد ضمنه الحديث عن الاستشراق في مختلف مجالات العلوم الإسلامية. وقد ناقش الحاج مسألة هل الاستشراق ظاهرة أو عـلم وأكد بأنه من الصعب أن نعد الاستشراق علماً ذلك أن كل علم له أصوله وقواعده ومناهجه بينما نجد أن الاستشراق اهتم بالعلوم الإسلامية المختلفة ابتداءً بالعلوم القرآنية من تفسير وتجويد وقراءات، وعلوم الفقه، وعلوم الحديث، وعلوم اللغة العربية، والعلوم الاجتماعية التي تتعلق بالعالم الإسلامي وبالمسلمين. ومع ذلك فإنه من الممكن أن يستخدم المستشرق المنهج العلمي في طرحه القضايا التي تتعلق بالعلوم الإسلامية وفقاً للعلم الذي يبحثه.([3]) ومع ذلك فمن الممكن أن نقول بأن الظاهرة مسألة لها بداية ونهاية فهل ظاهرة الاستشراق هذه طالت كثيراً جداً.

وإن كنت شخصياً لا أميل إلى التوسع في الجدال حول هل الاستشراق ظاهرة أو علم ذلك أن الـذي يهمنا نحن المسلمين أن نعرف ونوقن تماماً أن الغرب يدرسنا في جميع المجالات حتى توصل إلى معرفة التفاصيل وتفاصيل التفاصيل أو كما قال الدكتور أبو بكر باقادر الجزئيات، وجزئيات الجزئيات.([4]) لذلك علينا أن نعمل ونعمل على أن نعرف أنفسنا أولاً ونمثل أنفسنا أمام نفسنا أولاً ثم ننتقل إلى تمثيل أنفسنا أمام الآخرين.([5]) وإن كان هذا الترتيب الذي رآه الدكتور العمري ليس ضرورياً فيمكننا أن نقوم بأكثر من عملية في وقت واحد؛ فيمكن لبعضنا ممن عرف اللغات الأوروبية أن يقوم بعملية عرض الإسلام القضايا الإسلامية أمام الآخرين سواءً كانوا في الشرق أو في الغرب شريطة أن يتميز عرضه بالفهم الجيد للإسلام أن يكون مقتنعاً بقضيته لا أن يكون من العلمانيين أو المتغربين مثل أولئك الذين تستضيفهم بعض الجامعات الأمريكية أو الأوروبية لتدريس الإسلام، فكيف لماركسي أو علماني أو متغرب أن يعرض الإسلام رضاً منصفاً. فنحن مأمورون أن نبلغ هذا الدين للعالم أجمع عملاً بقوله تعالى )قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن ابتعن(([6]) وقوله صلى الله عليه وسلم (نضّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فبلغها إلى من لم يسمعها فربّ مبلغ أوعى من سامع) وقوله تعالى )ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة) ([7])وقوله تعالى)قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا باناّ مسلمون(([8])

وأضيف هنا أننا يجب أن ننتقل من مجرد دارسين لما قاله الغرب عنّا إلى أن نعرف هذا الغرب وما دوافعه وما أهدافه وأن نعرف المبادئ والفلسفات التي تحكم حياة الغرب، كما علينا أيضاً أن نواصل دراسة الغرب لنعرفه تماماً كما يعرفنا. ولكن على الذين يتصدون لدراسة الغرب أن يتسلحوا أولا بمعرفة الإسلام حتى يكون في أيديهم الميزان والمعيار الذي يحكمون به على هذه المعرفة. فقد يتولى هذه الدراسات من لا يملك الرؤية الإسلامية فبدلاً من أن ندرس الغرب دراسة نفيد منها ونفيد الغرب نتحول إلى مرددين لما يقوله الغرب عن نفسه بل يصيب بعضنا الانبهار بالغرب فيمدح ما لا يستحق المدح ويذم ما يستحق المدح.

ومما يؤكد هذا أن البعثات السعودية إلى أمريكا في أواخر الستينيات من القرن الماضي عانت أمرين أولهما الصدمة الحضارية والاجتماعية والفكرية، وثانيهما لم تجد المرشد والدليل ليقودها إلى الحقيقة فيما رأت وعاشت. ولا بأس أن أذكر مثالاً شخصياً فقد قرأت رواية (زوربا اليوناني) للروائي اليوناني المشهور كازانتزاكي في أثناء دراستي الجامعية في أمريكا وكنت لم أتجاوز العشرين بكثير فأعجبت بشخصية زوربا الرجل العجوز الذي لا يأبه بسنِّه، ويستمتع بملذات الحياة حلالها وحرامها بينما كان الراوي شاباً في الثلاثينيات من عمره يلتزم بالأخلاق وبالقيم. فكان في نظر كاتب الرواية -وهو الانطباع الذي يتأثر به القارئ وبخاصة إذا لم يكن لديه معرفة بالإسلام- جامداً بليداً.

وفي الوقت الذي ظهرت فيه ترجمة كتاب زوربا اليوناني ظهرت كتابات الروائي والشاعر الألماني اليهودي الأصل هرمن هسه Herman Hesse وكانت من أكثر القراءات شيوعاً لدى الشباب في الجامعات الأمريكية. ولا بد أن انتشارها كان متوافقاً مع ظهور موجة الهبييز والتمرد على قيم المجتمع والفضيلة أو ما سمّيَ ب (الثورة الجنسية). حيث كانت هذه الروايات تروج للانحلال والتمرد على القيم والأخلاق واغتنام الفرصة(!) لاقتناص لذائذ الحياة .

ولما شاء الله أن أعود إلى المملكة وأقوم بدراسة الإسلام من جديد عرفت أن زوربا اليوناني رجل فاجر لا يأبه بالأخلاق الفاضلة، وكل ما يهمه في الحياة عبادة هواه. وهو الذي قال الله فيه {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم}([9])وكذلك كان الحال مع هرمن هسه وغيره من الكتاب.

ونبدأ الحديث عن الظاهرة الاستشراقية بتحديد مظاهرها وميزاتها:

أولاً : أنها أطول ظاهرة فكرية.

فقد بدأت هذه الظاهرة لدى اليونان فهم أول من اهتم بدراسة الشعوب الشرقية حيث وجهوا علماءهم لدراسة البلاد المجاورة فقد كانت البعثات اليونانية تأتي إلى البلاد الشرقية (مصر والعراق والشام وغيرها) ذات الحضارة العريقة للتعلم منها لبناء الحضارة اليونانية. وقد اقتبس اليونان من حضارة الشرقيين وبخاصة في النواحي العملية وفي الأخلاق والسلوك.

ومنذ انطلاقة اليونان هذه والغرب ظل منطلقاً، ولكن الذي اختلف هو الهدف. فقد بدأ اليونان بهدف علمي معرفي سرعان ما تغير إلى هدف استعماري ثقافي حيث الحملات التي شنها اسكندر المقدوني في مطلع القرن الرابع قبل الميلاد على بلاد الشرق الأدنى(التسمية غربية) القديم (العراق والشام وحوض البحر المتوسط) حتى وصل إلى أطراف الهند. وأما السبب أن تأخرت الحملات الاستعمارية هو أن اليونان كان في الفترة الماضية في مرحلة بناء حضارته ولذلك كان حريصاً على التعرف على حضارات الأمم الأخرى فلما استوعبها وبنى حضارته التي ازدهرت في القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد بظهور علمائه وفلاسفته المشهورين، بدأ في حملاته الاستعمارية. وقد كان الشرق عموماً وثنياً عدا التوحيد الذي ظهر في بني إسرائيل في فلسطين.

ويرى الدكتور خليفة - وفقاً للمذكرة- أن دول الشرق رحّبت بهذا الغزو الثقافي فانتشرت المراكز الثقافية في الشام ومصر وشمال أفريقيا وجزر البحر المتوسط. ولا بد أن أضيف أن النزعة الاستعمارية والاستعلائية وفرض اللغة اليونانية والثقافة اليونانية كان هو السائد حتى عرف بما يسمى ب (الأغرقة) أي طبع البلاد المحتلة بالطابع اليوناني. وقد أخذ الفرنسيون هذا المسلك عندما احتلوا البلاد العربية الإسلامية وأطلقوا على ذلك الفرنسة. حتى أصبحت اللغة الفرنسية هي اللغة القومية في عدد من مستعمراتها السابقات رغم أن الغالبية في هذه الدول لا تعرف الفرنسية. ولكن إصرار فرنسا على ذلك إنما هو من أجل الهيمنة وفرض النظم والقيم والثقافة الفرنسية لا سيما أن النخب الحاكمة هي التي تتكلم اللغة الفرنسية.([10])

وكان من مظاهر الاحتلال اليوناني تأسيس مدن يونانية جديدة منها "مدينة الإسكندرية" التي أصبحت أكبر مركز ثقافي يوناني في التاريخ القديم. وقد نجحت الثقافة اليونانية في الانتشار في الشرق للأسباب الآتية:

1- ضعف الثقافة الوثنية السائدة شرقا، وعدم قدرتها على موجهة الثقافة اليونانية. (ولكن هل كانت الثقافة اليونانية إلاّ ثقافة وثنية أيضاً؟)

2- عقلانية الثقافة اليونانية في مقابل أسطورة الثقافة الشرقية آنذاك ومصدر هذه العقلانية الفلسفة المعتمدة على العقل والتي جعلت الفكر اليوناني فكراً عقلياً تحليلياً نقدياً سقطت أمامه الثقافة الوثنية بقاعدتها الخرافية.

3- حيازة اليونان للعلوم الحديثة التي لم يعرفها الشرق إلاّ في شكل عملي بسيط مرتبط بالدين، لأن المعرفة الشرقية طورت أصلاً لخدمة الوثنية.

إذن يعود الاستشراق بنوعيه العلمي والسياسي والفكري إلى اليونان باعتباره بلداً غربياً اتجه إلى الشرق للحصول على المعرفة، وبعد أن وضع القاعدة العلمية اليونانية -على العلوم الشرقية- انطلق إلى الشرق غازياً عسكرياً وفكرياً في أيام الإسكندر الذي جمع بين الهدف الاستعماري والهدف الثقافي الفكري، وفرض الثقافة اليونانية على الشرق القديم.

ويستمر هذا الغزو الثقافي اليوناني بعد انحسار اليونان كقوة عسكرية، وزوال هذه القوة على يد الإمبراطورية الرومانية. فقد تأثرت اليهودية والنصرانية بالفكر اليوناني-كانت اليهودية واليونانية ديانتين شرقيتين- وانقسم اليهود أولاً إلى فريق مرحب بالثقافة اليونانية وفضلها على اليهودية ذاتها، وفريق رافض للثقافة اليونانية واعتبرها مهددة للديانة اليهودية. وفريق ثالث رأى في الفكر اليوناني منهجاً عقلياً يمكن الإفادة منه في فهم اليهودية وتفسيرها.

وقد تأثرت اليهودية بالفلسفة اليونانية التي استخدمت لتفسير الوحي التوراتي، ودخلت في اليهودية عناصر من الفكر اليوناني أدت إلى دخول اليهودية في مرحلة من تاريخها تسمّى (اليهودية اليونانية)، ومن أشهر علماء اليهود في هذا الاتجاه هو الفيلسوف اليهودي "فيلوت" من القرن الأول الميلادي الذي أخضع اليهودية وكتابها للعقل اليوناني وسمح بالتأثيرات اليونانية على الفكر اليهودي.

أما النصرانية فهي أيضاً ديانة شرقية خضعت للفكر اليوناني ووجدت في الفلسفة أسلوباً للتفسير، وأدخلت على الألوهية -في النصرانية- أفكاراً فلسفية أدت إلى اختلاط الفكر الديني بالفكر الفلسفي مما أدى إلى تعقيد الديانة وزيادة غموضها، وعدم صلاحيتها للإنسان ذو الثقافة المتوسطة فضلاً عن اختلاف ذوي الثقافة العالية بسبب اختلاط مذاهبهم الفلسفية في تفسير النصرانية.

وقد ازدادت النصرانية تعقيداً بأخذها عن الفلسفة من جهة وعن اليهودية من جهة أخرى وعن التصوف من جهة ثالثة. وأيضاً لمحاولتها التكيف مع وثنية العالم القديم. فأصبحت ديانة مركبة من عناصر يهودية يونانية وثنية صوفية (قبل الإسلام)

وبعد الإسلام اهتم العالم النصراني -الذي فتحه الإسلام- بدراسة الإسلام كظاهرة دينية سياسية لأن الإسلام ظهر كدين قوي مهدد لبقائهم، كما ظهر كقوة سياسية عسكرية فبدأوا في دراستهم سواء من داخل العالم الإسلامي أو من خارجه.

ثانياً: تنوع الاستشراق:

المقصود بالتنوع أن الاستشراق بصفته ظاهرة فكرية لا يقوم على أساس من التوجه الفكري الواحد، ولكن تتنوع التوجهات الفكرية للاستشراق، ويمكن تصنيف هذه التوجهات كما يأتي:

1- التوجه الديني، فالاستشراق ظاهرة فكرية دينية طورها المستشرقون اليهود والنصارى للتعبير عن وجهة نظر دينية يهودية أو نصرانية تجاه الإسلام.

فالمدرسة اليهودية والنصرانية في الاستشراق مدرسة دينية هدفها الدفاع عن اليهودية والنصرانية ضد الإسلام، والرد على النقد الإسلامي لهما، وهذا هدف ديني دفاعي بمعنى أن الذي يوجه المستشرق هنا هو الدين يهودياً كان أم نصرانياً.

ثم انتقلت المدرسة اليهودية والنصرانية فيما بعد من الدفاع عن ديانتهما إلى الهجوم على الإسلام ونقده من منطلق ديني خالص. وتعتبر هاتان المدرستان من أهم مدارس الاستشراق وتمثلان الاستشراق الديني فيما يتعلق بالنظر إلى الإسلام.

وهناك اهتمامات استشراقية بالديانات الأخرى-غير الإسلام- فالاستشراق مهتم بدراسة أديان الشرق عامة، ولكن يلاحظ أن الدراسات الاستشراقية التي تتناول الديانات الأخرى كالهندوسية والبوذية وغيرهما تخلو تقريباً من مسألة الهجوم والتحدي والصراع الذي يدفع المستشرق في دراسته للإسلام. بل نجد أحياناً بعض التعاطف مع ديانات الشرق الأقصى لغرابتها من ناحية ولعدم وجود صراع مباشر بينها وبين اليهودية والنصرانية ولغياب البعد الخاص بالتحدي، ولعدم وجود خطورة من هذه الديانات على اليهودية والنصرانية مقارنة بخطورة الإسلام عليهما.([11])

2- التوجه المذهبي أو الفكري: فبالإضافة إلى الاستشراق الديني الممثل في استشراق اليهود والنصارى يوجد استشراق مذهبي فكري ينطلق من مذهب معين أو أيديولوجية معينة ويدخل تحت هذا التصنيف المدرسة الشيوعية في الاستشراق، ولها نقطة انطلاق مختلفة -تماماً- عن المدرستين السابقتين.

فالأيديولوجية الشيوعية تمثل مذهباً رافضاً للدين ومعادياً له، ولا تعترف بالأديان سماوية كانت أم أرضية. ولا يوجد ما يسمى ب"الدين" فمن أبرز شعارات الشيوعية "لا إله والحياة مادة. وهذه نقطة انطلاق مغايرة عن نقطة انطلاق اليهودية أو النصرانية المعترفة بالدين- وإن صرحت بالعداء لبعض الأديان مثل الإسلام، ولكن ليس من منطلق رفض الدين أصلاً، ولكن من منطلق الخطورة التي يمثلها الإسلام عندهم والوازع التنصيري الذي يرغب في تنصير المسلمين.

وتقوم رؤية المدرسة الشيوعية في الاستشراق على أساس مادي بحت يعتبر العوامل الاقتصادية المحرك الأساس في حياة الإنسان، ولا يعترف بأية عوامل أخرى. وتتهم الشيوعية الأديان بأنها مستغلة للشعوب ومؤدية إلى سيادة المذاهب الاقتصادية المدمرة للحياة البشرية مثل الرأسمالية، والاعتراف بنظام الملكية الخاصة. وهو من وجهة نظرها نوع من الإقطاع الذي ينتج عنه تركيز الثروة في طبقة بعينها وحرمان بقية الطبقات.

وقد فسرت الأديان من هذا المنطلق وعملت الشيوعية على فرض رؤيتها المادية الاقتصادية على شعوبها أولاً والشعوب الخاضعة لها ثانياً وكانت ترغب في تحويل العالم كله إلى الشيوعية. وانعكست هذه الأيديولوجية على مدرسة الاستشراق الشيوعي، وأصبحت هي الوسيلة الدعائية لتوصيل الأفكار الشيوعية إلى الشعوب الأخرى. وتخصص عدد كبير من مستشرقي هذه المدرسة في الإسلام والشعوب الإسلامية كمجتمعات. وخرجت هذه المدرسة بتصور شيوعي للإسلام يري في الإسلام قوة مادية ظهرت لأسباب اقتصادي تخص مجتمع شبه الجزيرة وفسرت الفتوحات تفسيراً مادياً اقتصادياً بحتاً.

وصوٍّر الإسلام في صورة تتفق مع الاشتراكية وسمي بمسميات تعبر عن هذا الاتفاق مثل "الإسلام الاشتراكي" و"الإسلام الثوري" و"الإسلام اليساري" أو "اليسار الإسلامي" إلخ من المصطلحات الشائعة في المدرسة.

والعجيب أن سقوط الشيوعية فضح فشل الأيديولوجية الشيوعية في جميع أنحاء العالم ماعدا شراذم في العالم العربي الإسلامي ما تزال متمسكة بهذا الفكر. وإن كان هؤلاء الشيوعيون السابقون أسرعوا في الانضمام إلى صفوف العلمانيين في تحذير الدول من انتشار الصحوة الإسلامية واتخذوها عدواً بعد أن كان عداؤهم موجهاً في السابق إلى الرأسمالية والإمبريالية والاستعمار وكانوا يربطون الإسلام مع الاستعمار. ومع ذلك فإن بعض هؤلاء ما زالوا يتمسكون بمصطلحات الشيوعية رغم سقوطها. ومن هؤلاء على سبيل المثال الدكتور عبد العظيم رمضان (من مصر) الذي يزعم أنه تقدمي. ومن تونس وجدت رفعت المحجوبي من أولئك الشيوعيين المتمسكين بأذيال الشيوعية رغم سقوطها. ومن الطريف أن الجامعات الغربية بدأت تخطب ود هؤلاء الشيوعيين السابقين وتفتح لهم الأبواب للمحاضرة وحضور الندوات والمؤتمرات في الغرب.

ومن المدارس الاستشراقية الأخرى القائمة على أساس فكري: المدرسة العلمانية في الاستشراق وهي مدرسة تخلط بين الاتجاه الإلحادي العلماني غير الديني في دراسة الأديان عامة والإسلام خاصة. والأساس في هذه المدرسة في شطرها الإلحادي إنكار الدين المبني أساساً على إنكار الألوهية، وهي قريبة من توجه المدرسة الشيوعية، إذ تشتبهان في رفض الدين وإنكار الألوهية ويختلفان في استقلال الإلحاد العلماني عن الفكرة الشيوعية.

أما المدرسة العلمانية فترى ضرورة الفصل بين الدين والدنيا، وبناء الحياة الإنسانية على أساس دنيوي خالص غير مرتبط بالدين، ولذلك طالبوا بفصل الدين عن الدولة ونجحوا في الغرب حيث انتهى الصراع بين البابوية والإمبراطورية إلى فصل السلطتين الديني والزمني عن بعضهما وسارت الحياة الأوروبية منذ عصر النهضة على أساس من هذا الفصل.

والمقصود بالمدرسة العلمانية في الاستشراق هذا الفريق من المستشرقين الذي رفض اليهودية والنصرانية وآمن بالفصل بين الدين والدولة واعتبر العقل ومنجزاته هي الأساس من المنطلق نفسه خاصة وأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي تمكن من ربط الدنيا بالدين ربطاً عضوياً ورفض الفصل بينهما وطور نظماً للحكم والسياسية والاجتماع والاقتصاد تعكس هذا الربط العضوي بين الدين والدنيا.

3- توجه عربي إسلامي متأثر بالاستشراق: بالإضافة إلى التوجه الديني الذي يمثله الاستشراق اليهودي والنصراني، والتوجه المذهبي المتمثل في المدرسة الشيوعية والتوجه الفكري المتمثل في المدرسة العلمانية، تطور التوجه الاستشراقي وتبناه عدد من العلماء المسلمين الذين تأثروا بالاستشراق وطبقوا مناهجه على دراساتهم للإسلام والمجتمع الإسلامي. وهو - في الحقيقة- توجه متنوع داخلياً فأتباعه ينتمون إلى عدة اتجاهات؛ فمنهم مسلمون منبهرون بالاستشراق وحضارة الغرب عامة ويعتبرون منهج الاستشراق هو المنهج المناسب في دراسة الإسلام ومجتمعاته وانبهارهم موزع بين الأخذ بمناهج المستشرقين دون توجهاتهم أو الأخذ بالمناهج والتوجهات معاً.

ومن بين الذين تأثروا بالاستشراق مجموعة علماء انتموا إما إلى المدرسة الشيوعية- محمود أمين عالم، ورفعت السعيد، وعبد العظيم رمضان في مصر ومحمود إسماعيل (مصر) ورفعت المحجوبي، وعبد القادر الزغل(تونس) - حينما انتشرت الشيوعية في بعض البلاد العربية الإسلامية، وبدأوا يطبقون المناهج الشيوعية والعلمانية في دراسة الإسلام ومجتمعاته.

وهناك فئة أخرى عربية وليست إسلامية -وفئة غير عربية عاشت في البلاد العربية وامتزجت بها أو أقليات في بلاد غير عربية مثل إيران. هؤلاء يكونون عدداً من العلماء المنتمين إلى العالم الإسلامي ولكنهم ليسوا مسلمين (يهود ونصارى)

وهؤلاء توجههم غربي-رغم حياتهم في المجتمع الإسلامي- وهم يعادون الإسلام، ولذلك يحتلون مكاناً وسطاً بين المستشرقين في الغرب والمسلمين المتأثرين بالاستشراق. ويمكن أن نضم إليهم هؤلاء اليهود والنصارى من العلماء الذين هاجروا إلى أوروبا وأمريكا واشتغلوا بالدارسات الإسلامية في جامعاتها ومؤسساتها التعليمية. ومن الأمثلة على هؤلاء فيليب حتّي وفؤاد عجمي، وصادق جلال العظم، وعبد القادر الزغل، ومحمد سعيد العشماوي، ونوال السعداوي، ونصر حامد أبو زيد، وسلمان رشدي، وعزيز العظمة، وبسام الطيبي وغيرهم كثير.

وأضيف أن هذا التوجه وتطبيقاته هي الأخطر في العالم العربي الإسلامي في العصر الحاضر، ذلك أن الاستعمار حينما رحل عن البلاد العربية الإسلامية حرص على أن يترك الأمور في أيدي هؤلاء من أتباعه. كما أنه حاول بعد رحيله أن يكون لهم تأثير في السيطرة السياسية والفكرية والثقافية في العالم العربي الإسلامي. ومن مظاهر قوة نفوذهم في العالم الإسلامي أنهم يهيمنون على كثير من منابر الإعلام والتوجيه والرأي. كما أنهم يعقدون الندوات والمؤتمرات الخاصة بهم التي من الصعب أن يقتحمها أحد غيرهم. ومن الأمثلة على هؤلاء مؤسسة التميمي بتونس([12]) ومؤسسة الأهرام بمصر، ومؤسسة ابن خلدون الإنمائية التي أسسها سعد الدين إبراهيم الأستاذ بالجامعة الأمريكية في القاهرة.([13]) وهذه المؤسسات تتلقى دعماً سخياً من المؤسسات الغربية مثل مؤسسة فورد (الأمريكية) ومؤسسة اديناور كونراد (الألمانية) وغيرها من المؤسسات.

ومن مظاهر سطوة هذا التوجه الاستشراقي أن معظم الدول العربية الإسلامية جعلت الشريعة الإسلامية أحد المصادر الرئيسة في تشريعاتها وليس المصدر الرئيس. وقد صرحت عدة دول إسلامية بأنها علمانية ومن هذه الدول تركيا وإندونيسيا وتونس. والعجيب أنها علمانية تختلف عن علمانية الغرب؛ فالعلمانية في الغرب تفصل بين الدين والدنيا ولكن علمانية من تعلمن من المسلمين هي محاربة الدين الإسلامي بل وصل الأمر ببعضهم إلى المناداة بتجفيف منابع التدين. مع أنه في العلمانية الغربية يعد الدين مسألة شخصية لا يضار أحد بسبب تدينه. بل يشهد الغرب في السنوات الأخيرة دعوات جادة وقوية للعودة إلى الدين حتى إن التجمع البروتستانتي في الولايات المتحدة الأمريكية يعد من أقوى التجمعات السياسية هناك.

ومن الأمثلة المؤلمة في العصر الحاضر أنه بعد أن سقطت الشيوعية تنادى الشيوعيون السابقون إلى التمسك بالعلمانية والعقل وظهر مثل هذا في محاربة الحركات الإسلامية أو الدعوات الإسلامية التي تدعو أبناء الأمة الإسلامية العودة إلى الهوية الإسلامية ونبذ الانحرافات العقدية والسلوكية والاستقلال عن التشبه بالغرب والذوبان في الثقافات الأخرى. ويعد نموذج تركيا والجزائر ومصر من الأمثلة التي تواصل العلمانية فيها محاربة الاتجاه الإسلامي بشتى الوسائل ويتنادى المستشرقون بتأييد هذه الاتجاهات العلمانية فيهتمون بهؤلاء من أبناء العالم الإسلامي. فالجامعات الغربية والندوات والمؤتمرات الغربية مفتوحة لهؤلاء وكذلك الصحف ووسائل الإعلام الغربية. فمن المحاضرين الذين يترددون إلى الجامعات الغربية صادق جلال العظم -الذي يعلن بصراحة إلحاده - ومحمد سعيد العشماوي، ونصر حامد أبو زيد، ونوال السعداوي، وعزيز العظمة، ورفعت حسن (الباكستان) وفضل الرحمن (باكستان) وفؤاد عجمي ومسعود ضاهر (لبنان)

ثالثاُ: شمولية الظاهرة الاستشراقية
المقصود بالشمولية احتواء الظاهرة كظاهرة فكرية لكل مجالات المعرفة الشرقية، فهي ظاهرة علمية تحتوي الشرق عامة وليس الشرق الإسلامي فقط، فدراساتها تغطى الهند والصين واليابان وغيرها فضلاً عن تغطيتها للعالم الإسلامي. فهي إذن تحتوي معرفياً الشرق كله.

ومن مظاهر الشمولية أيضاً تغطيتها لكل مجالات المعرفية الإنسانية المرتبطة بالشرق. فهي تغطي المجالات الدينية والسياسية والتاريخية والاقتصادية والجغرافية والاجتماعية والأخلاقية والأدبي والعلمية والفنية للشرق وغيرها. ولم يُبْق الاستشراق شيئاً شرقياً إلا درسه.

وفي زيارة لي لعدد من أقسام الدراسات الشرق الأوسطية أو معاهد الدراسات الشرق أوسطية أو مراكز البحوث أو المعاهد في الجامعات الأمريكية في صيف عام 1416(1995) وجدت أن العالم الإسلامي (الشرق الأوسط) يدرس في جامعة كاليفورنيا بفرعها في مدينة بيركلي من خلال ثمانية عشر قسماً يقوم بالتنسيق بينها مركز دراسات الشرق الأوسط وأذكر فيما يأتي بعض الأقسام التي تدرس العالم الإسلامي: علم الإنسان (الأنثروبولوجي)، والاقتصاد، والسياسة، ودراسات المرأة في الشرق الأوسط، والزراعة، والتعدين، والجيولوجيا، والعمارة، والأدب والتاريخ، ومقارنة الأديان ...ويمكن أن أضيف إلى ذلك الفولوكلور واللهجات العامية أو اللغات العامية، والغناء والرقص والطعام والشراب حتى الخرافات والأساطير وغيرها مما يمكن أن يوجد في العالم الإسلامي فإنه يُدْرس في الجامعات الغربية. وقد استحدثت جامعة نيويورك دراسة الصحافة والشرق الأوسط فيتخصص الباحث الغربي في الصحافة ويطبق ذلك على العالم العربي الإسلامي. وبعض هذه التخصصات قد استحدثت من أجل إيجاد وظائف للمتخرجين فيها؛ فهم قوم عمليون. ولا بد أن أضيف أن هذه الأقسام تعتمد في الحصول على مادتها العلمية ومصادرها التي يمكن أن يصعب على الغربيين الحصول عليها فإنهم يحصلون عليها من أبناء المسلمين الذين ذهبوا للدراسة في هذه الجامعات للحصول على الدرجات العلمية وبخاصة الدراسات العليا.

رابعاً: تعدد أهداف الظاهرة الاستشراقية
تتصف الظاهرة الاستشراقية بأنها متعددة الأهداف، ولذلك يصنف الاستشراق وفقاً لأهدافه الموضوعة له. فهناك استشراق علمي هدفه تحصيل المعرفة العلمية عن الشرق بعامة والعالم الإسلامي بخاصة، من أجل العلم ذاته وبدون الخضوع لأية أهداف أخرى غير علمية، وكثيراً ما يكون الدافع للمعرفة الاستشراقية دافعاً ذاتياً معبراً عن رغبة شخصية لدى الدارس يتجه على أساسها إلى التخصص في بلد شرقي دينياً وحضارياً وفكرياً. فلا يخضع المستشرق هنا تحت تأثير أية حكومة أو مؤسسة، ويمثل هؤلاء عادة قله بين المستشرقين ومعظمهم في الوقت نفسه يتصف بحب الموضوع الشرقي الذي يدرسه والتعاطف مع الحضارات الشرقية، وبالتالي الاتصاف بالموضوعية العلمية في دراساته. ولكننا يجب أن ندرك أن هؤلاء يُستغلّون من قبل حكوماتهم بأن نتائج دراساتهم وبحوثهم تصل إلى دوائر صناعة القرار السياسي ويستفاد منها. كما أن دول الغرب تستفيد أيضاً من الدراسات التي يقوم بها العرب والمسلمون. فمكتبة الكونجرس مثلاً لديها مندوب في دول العالم العربي الإسلامي، كما أن لديها مندوبين إقليميين. فالقاهرة لديهم هي المركز الإقليمي بالنسبة للعالم العربي. وهم يتابعون كل ما يصدر عندنا في جميع التخصصات. فيحصل هذا المندوب على ثلاثة نسخ من كل عمل، ثم بعد دراسة هذه الكتب يمكن أن يطلب عشرة نسخ أو زيادة، وتقوم مكتبة الكونجرس بتبليغ الجامعات بالكتب الجديدة مع تقارير عن هذه الكتب وأهميتها فيمكن لهذه الجامعات أن تطلبها من مندوب الكونجرس الذي قد يطلبها من المؤلف نفسه إن لم يجد الكتاب في الأسواق ومع توفر شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) أصبح الإعلان عن صدور الكتب العربية أسرع.

وهناك استشراق سياسي هدفه خدمة المصالح السياسية لبلده وبخاصة إذا كان بلداً استعمارياً يتبنى محاولة فرض السيادة السياسية على البلد الشرقي من خلال معرفة علمية وافية عن هذا البلد على المستويات الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهناك عدد كبير من المستشرقين عملوا في السياسة في خدمة أهداف بلدانهم بل خدم بعضهم في جيوش بلدانهم أو في استخباراتها([14]). وينتمي معظم هؤلاء إلى البلاد الاستعمارية المشهورة مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال وهولندا ، وينتمي بعضهم إلى الاتحاد السوفيتي(سابقا) ومن النماذج الحديثة جداً عن هذا التوجه السياسي أن مؤسسة راند (مؤسسة غير ربحية في سانتا مونيكا بكاليفورنيا) قد كلّفت الباحث الأرمني الأصل الأمريكي الجنسية اللبناني المولد والنشأة جوزيف كيششيان للقيام بإعداد بحث عن الأوضاع الأمنية في المملكة العربية السعودية، وقد استضافته القنصلية الأمريكية في جدة، كما استضافته السفارة في الرياض و الظهران ودعت عدداً من أساتذة الجامعات السعوديين وبعض المثقفين للاجتماع مع هذا الباحث ليفيد من آرائهم حول أوضاع بلادهم وما يرونه. وقد زرته في مكتبه بكاليفورنيا فأشار إلى أدراج خلفه وقال بنبرة فيها بعض الكبرياء والافتخار: "إن في هذه الأدراج بحثاً يحمل معلومات سرية عن السعودية." وثمة نموذج ثان وهو الباحث الأرمني ريشارد هرير دكمجيان الذي أعد بحثاً بتمويل من بعض المؤسسات حول الأصولية في العالم العربي، فنشر الكتاب في طبعته الأولى عام 1985م يتضمن الحديث عن اثنتين وتسعين جماعة إسلامية وأعيد طبع الكتاب عام 1996م وتضمن الحديث عن ثمان ومئة جماعة إسلامية. وقد درسها من خلال منشوراتها العلنية والسرية ومن خلال المقابلات مع أعضاء في هذه الجماعات أو من معلومات استخباراتية. ولا شك أن الحكومات الغربية تفيد كثيراً من هذه الدراسات.([15])

وثمة استشراق ديني فهذا الاستشراق يهدف إلى الدفاع الديني عن اليهودية والنصرانية ضد الإسلامية والنقد الموجه لهاتين الديانتين، وقد بدأ هذا الاستشراق دفاعياً في هدفه ثم تحوّل إلى الهجوم على الإسلام من أجل تحريفه وتشويهه وتقديمه في صورة محرفة إلى الغرب وسعياً وراء إبعاد المسلمين عن دينهم من جهة، وتنمية عداوة الغرب للإسلام من جهة أخرى. ويتوزع الاستشراق الديني بين مدرستين كبيرتين: المدرسة اليهودية والمدرسة النصرانية. ولكل مدرسة أهدافها الخاصة ولكنهما يشتركان في هدفين أساسيين هما:

1- الدفاع عن اليهودية والنصرانية ، 2- الهجوم على الإسلام.

وقد تطورت المدرسة النصرانية وجمعت بين هذين الهدفين وبين هدف آخر انفردت به عن المدرسة الأخرى وأدى إلى تطور نوع جديد من الاستشراق هو "الاستشراق التنصيري" . فمن المعروف أن النصرانية تدعي العالمية وتسعى إلى الانتشار في كل العالم، فاستغلت المعرفة الاستشراقية من أجل تيسير التنصير ومد المنصِّرين بالمعلومات الضرورية عن المجتمعات المستهدفة بالتنصير، وهي تغطي العالم كلِّه، فظهر فريق من المستشرقين النصارى المهتمين بانتشار النصرانية، واشتغل بالاستشراق من أجل الحصول على المعرفة الخاصة بالمجتمعات الشرقية، كما أن الحركة العلمية التنصيرية لا تتوقف عند معرفة الشرق فقط، ولكنها تدرس كل المجتمعات في الشرق والغرب من أجل تقديم النصرانية إليها. ويصح أن نطلق على هؤلاء النصارى الغربيين العاملين في مجال التنصير في البلاد الإسلامية وغيرها من الشرق اسم المستشرقون المنصرون لأن الهدف من استشراقهم هدف ديني تنصيري. وقد ارتبط الاستشراق التنصيري بالتعليم فقد أسست المؤسسات الكنسية المعاهد والجامعات في العالم العربي الإسلامي ومن هذه المؤسسات التي ما تزال قائمة حتى الآن الجامعة الأمريكية في القاهرة وفي بيروت وفي استنبول وفي دبي، بالإضافة إلى المعاهد الأخرى. وقد أسهمت هذه الجامعات في تخريج أعداد من الطلاب العرب المسلمين الذين تسنموا مناصب مهمة في بلادهم.

ونظراً لأن الاستشراق له أهداف فكرية يسعى إلى تحقيقها ومن أهمها نشر الفكر والثقافة الغربية في بلاد الشرق، وتحقيق تغريب الشرق وربطه بالحضارة الغربية نشأ استشراق يمكن أن تسميته "الاستشراق الفكري" وهو يخدم - في المقام الأول- الفكر الغربي ويسعى إلى نشر قيم الحضارة الغربية. ولم يقتصر هذا الاستشراق على البحوث الأكاديمية فقد انضم إلى الجامعات وسائل الإعلام المختلفة من صحافة وتلفاز وسينما. وأخيراً جاء البث المباشر الذي تولى كبره بعض المؤسسات العربية الإسلامية وأخذت تروج للثقافة الغربية وفي الغالب تروج لأسوأ ما في هذا الثقافة حيث تحرص على تسطيح الفكر وإشغال الناس بالتفاهات من الأمور. وقد ظهر هذا الاستشراق مع انتشار الاستعمار في الشرق .

وارتبط بالاستشراق السياسي نوع من الاستشراق يسعى إلى الحصول على المعلومات الاقتصادية عن البلاد المستعمَرة والمساعدة في فتح أسواق جيدة للمنتجات الغربية من خلال دراسة السوق الشرقي. فتطور الاهتمام بالموضوعات الاقتصادية ومع انحسار الاستعمار ظهرت وظيفة جديدة تمثل امتداداً لهذا الاهتمام الاقتصادي في الحقبة الاستعمارية وهي وظيفة الخبير الاقتصادي في العصر الحاضر، وهو يعمل لدى الحكومات الغربية وبخاصة في وزارات الخارجية والاقتصاد، ويتخصص الباحث منهم في بلد شرقي ليقدم المعلومات والدراسات اللازمة في الناحية الاقتصادية.

وتوجد هذه الوظيفة لدى الشركات الكبرى الغربية الاقتصادية التي تعتمد على السوق الشرقي، أو تعمل في مجالات اقتصادية مرتبطة ببعض الشعوب الشرقية مثل شركات البترول العالمية، وشركات السيارات، والأجهزة الإلكترونية ...الخ، حيث يتوفر لديها الخبراء الاقتصاديون المتخصصون. ومن الجهات التي تهتم باقتصاد العالم الإسلامي بعض البنوك العالمية مثل البنك السويسري، وبنك لويد وبنك تشيس مانهاتن وغيرها. ومن المعروف أن بنك سويسرا يصدر تقريراً شهرياً عن أوضاع الدول الإسلامية المختلفة ولا يهتم بالاقتصاد وحده بل يقدم معلومات عن الأوضاع السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية والاقتصادية.

بالإضافة إلى هذه الأنواع من الاستشراق المرتبطة بالأهداف المعروف: علمية وسياسية ودينية و اقتصادية فهناك نوعان من الاستشراق يعبران عن مناحي أدبية وفنية تبلور عنها ما يعرف ب"الاستشراق الأدبي والفني" حيث تخصص بعض المستشرقين في الآداب العربية والإسلامية كما تخصص بعضهم في الفنون الإسلامية، وقد تميزت هذه النوعية من المستشرقين باندماجها الشخصي ورغبتها الذاتية في تثقيف نفسها -أدبياً وفنياً- والرفع من درجة تذوقها للآداب والفنون الغربية من خلال إدخال موضوعات شرقية -أدبية وفنية- في الأدب والفنون الغربية.وقد تجاوز تأثيرهم الجانب الذاتي أو الشخصي إلى التأثير العام في الحركة الأدبية والفنية في الغرب، وكانت النتيجة ظهور أدباء وفنانون غربيون لا يعملون بالاستشراق أصلاً، ولكنهم تأثروا بالموضوع الشرقي من خلال الاستشراق الأدبي والفني فطوروا فناً غربياً يخلط بين الأذواق الشرقية والغربية، أو يستفيد من الموضوع الشرفي في ترقية الفنون الغربية .

والحقيقة أن هذا المجال- الأدبي والفني- يعدّ أكبر مجال متأثر بالثقافة الإسلامية الأدبية والفنية، فقد دخلت الموضوعات الإسلامية بدون حساسية في بنية الأعمال الأدبية والفنية، وحدث توجه شامل للحركة الأدبية والفنية إلى الموضوع الشرقي بعامة، والإسلامي بخاصة. والسبب في حدوث هذا التأثير الشرقي على الفكر الغربي هو بعده عن أمور الدين والعقيدة، وكونه موضوعاً فنياً لا يحدث من خلاله تأثير عقدي أو ديني على الإنسان الغربي. وقد أطلق على هذا النوع من الاستشراق بالاستشراق الأدبي أو الفني، وهو مجال مهمل في الدراسات الاستشراقية عند المسلمين الذين انشغلوا بقراءة الأعمال الاستشراقية الدينية والعقدية للدفاع عن الإسلام والرد على الشبهات، ودفع التأثير الاستشراقي في مجال الدين.

أما الاستشراق الأدبي والفني فيمثل تأثيراً مضاداً أو عكسياً فالمؤثر هو الإسلام وموضوعاته بتراثه الفني والأدبي. والأمثلة على ذلك تتضح في التأثير الكبير لقصة " ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة"، والملاحم والسير العربية الإسلامية والشرقية، وعناصر أخرى من التراث الشعبي على الأدب الغربي، وكذلك تأثير الموضوعات والأشكال الفنية الشرقية على الفنون الغربية الذي سيطر على الحركة الفنية في الغرب لفترة من الزمن.([16])

ويمكن أن نضيف اهتمام الغرب بفن العمارة الإسلامي وأنهم بلا شك أفادوا كثيراً من فن العمارة الإسلامي، وما زال هناك اهتمام بالعمارة الإسلامية في الدراسات العربية والإسلامية في الغرب ضمن أقسام الهندسة المعمارية أو أقسام العمارة أو أقسام الفنون الجميلة. وسوف تكون إحدى ندوات مهرجان الجنادرية الذي يقيمه الحرس الوطني لعام 1417 ندوة حول تأثير فن العمارة الإسلامي في العمارة الغربية ويشارك فيها الأمير تشارلز ولي العهد البريطاني.

ولكن لهذا الاستشراق جانب سلبي ربما طغى على ما تقدم من الجوانب الإيجابية وهو أن الاهتمام بألف ليلة وليلة على ما فيها من قصص مجون وفجور ألصقت بالإسلام زوراً وبهتاناً فالإسلام دين العفة والطهر، ويحارب الرذيلة والفسق والفجور. ومن جناية هذه القصص أنها أقحمت اسم الخليفة العظيم هارون الرشيد في هذه القصص، مع أن هذا الخليفة كان من أبعد الناس عن المجون واللهو؛ فقد كان يحج سنة ويغزو سنة، كما كان يصلى كثيراً من النوافل وقد اهتم بالعلم والعلماء.

ويتركز الاهتمام المعاصر بالآداب العربية الإسلامية في الاهتمام بالكتاب والأدباء العرب المسلمين المتأثرين بالفكر الغربي. فها هو نجيب محفوظ ينال جائزة نوبل لأنه ثبت تبنيه للفكر الغربي، كما أنه كتب في بعض رواياته يتجنى على الحركات الإسلامية في مصر وعلى العقيدة الإسلامية. وانظر إلى المؤسسات والمعاهد الأدبية والغربية تهتم بمن يزعم أنه كاتب مثل محمد شكري صاحب كتاب (الخبز الحافي) وغيرهم. ومن الأمور الطريفة التي وجدتها في نشرات مركز دراسات الشرق الأدنى والأوسط بجامعة لندن (مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية) اهتمامهم بنوال السعداوي وعبد الرحمن منيف ومحمد شكري وفاطمة مرنيسي وغيرهم. ولدى مراجعة نشاطات رابطة دراسات المرأة في الشرق الأوسط التي تتخذ من الولايات المتحدة الأمريكية مقراً لها تهتم بالأدباء والكتاب المتغربين ،وتعلي من شأنهم وتفسح لهم المجال في المنتديات الأدبية في الغرب. ولو كان هذا الاهتمام إيجابياً كما أشار الدكتور خليفة فلماذا لا تتم ترجمة كتابات كتّاب مثل على أحمد باكثير أو محمد صادق الرافعي أو نجيب الكيلاني وغيرهم. فهم لا يهتمون الاهتمام إلاّ بمن كان متأثراً بهم. فقد جاء وفد مؤسسة مالوني وهم مجموعة من أساتذة الجامعات الأمريكية لزيارة المملكة العربية السعودي للتعرف على هذا البلد معرفة أولية فكان ممن اهتم بمقابلته الكاتبة رجاء عالم، ومحمد على قدس (أمين سر نادي جدة الأدبي) وغيرهما. وأتساءل لماذا لم يحرصوا على الالتقاء بأصحاب الاتجاه الإسلامي الرصين المعتدل وهم الغالبية في هذا البلد الطيب؟

خامساً : اتساع دائرة التأثير الاستشراقي.

من خصائص الظاهرة الاستشراقية أنها على الرغم من أنها ظاهرة فكرية غربية ، فقد اتسع مجال تأثرها لكي تصل إلى الشرق والغرب معاً. وعادة ما يظن أن التأثير الاستشراقي محصور في الشعوب الشرقية لكن الحقيقة أن الاستشراق له تأثيره الكبير في الفكر الغربي نفسه، وبهذا ينفرد الاستشراق كظاهرة في مسألة شمولية التأثير وتغطية العالم بأسره.

أما بالنسبة للتأثير الاستشراقي في الغرب فيتضح في الأمور الآتية:

1- إن الاستشراق مسؤول عن نقل المعرفة الإسلامية والشرقية -عامة- إلى الغرب الذي أفاد من هذه المعرفة حيث عكف المستشرقون على ترجمة النصوص الأساسية في الديانات وأيضاً ترجمة النصوص العلمية في العلوم عند المسلمين، وعند أهل الشرق وهي العلوم التي كانت أساساً في النهضة العلمية في الغرب. وهذا يعني أن الاستشراق مسؤول عن نهضة الغرب العلمية وله إسهاماته في تقدم العلم في الغرب من خلال النصوص الشرقية والإسلامية التي ترجمت إلى اللغات الأوروبية قبل عصر النهضة.

2- هو أيضاً مسؤول عن تطور المنهج النقدي العقلي في الغرب وبخاصة في مجال الدين ، فقد أفاد المستشرقون وغيرهم من علماء الدين في الغرب من المادة والنصوص الدينية التي ترجمت إلى اللغات الأوروبية ومن أهمها ترجمات معاني القرآن الكريم، والكتابات الإسلامية في تاريخ الأديان، ونقد الكتب المقدسة، وبخاصة اليهودية والنصرانية، وترجمة النصوص الكلامية والفلسفية ولاسيما النصوص ذات الاتجاه العقلاني مثل النصوص الاعتزالية وأعمال الفلاسفة مثل الفارابي، والكندي وابن سينا.

وقد أثر بعض هؤلاء في الفكر الغربي تأثيراً مباشراً مثل ابن رشد الذي أصبحت له مدرسة غربية تسمي " المدرسة الرشدية" وينتمي أتباعها من الفلاسفة الغربيين إلى فلسفة ابن رشد ومنهجه.

3- يمتد تأثير الاستشراق في الغرب إلى صبغ الحركة الأدبية والفنية في الغرب بصبغة شرقية من حيث الموضوع في الأدب والفن ومن حيث الأشكال الفنية والأدبية.

4- أثر الأدب الشعبي الشرقي في الفكر الغربي:وهذا الأدب كان له دور في تطور الفن القصصي والروائي في الغرب، وفي الملاحم، وله تأثيره أيضاً في الحركة السينمائية في القرن الأخير بإدخال موضوعات شرقية في الأعمال الروائية.

5- من تأثير الاستشراق أيضاً ظهور حركة نقد الكتاب المقدس في الغرب منذ القرن الثامن عشر وحتى الآن على أساس من النقد الإسلامي لكتب اليهود والنصارى ويشار بالذات إلى مدرسة المستشرق الألماني يوليوس فلهاوزن، وهو مستشرق كبير ومؤسس حركة نقد الكتاب المقدس.

سادسا: أنها ظاهرة مُستَغَلّة:

تتصف الظاهرة الاستشراقية في تاريخها الطويل بأنها "ظاهرة مُسْتَغَلَّة" باسم العلم بواسطة قوى دينية وسياسية واقتصادية وفكرية. فالاستشراق في ظاهره علم واسع يغطي مجالات من الحياة الشرقية ولكنه في حقيقة الأمر " علم موجه لخدمة أغراض وأهداف سياسية واقتصادية وفكرية." وقد تمّ استغلاله بواسطة الاستعمار، كما اعتمد الاستشراق أيضاً على الاستعمار في تحقيق ما يمكن تسميته ب "السيادة الاستشراقية" في مجال الفكر في الغرب والشرق" والاستعمار اعتمد على الاستشراق واستغله من أجل الحصول على المعرفة اللازمة عن شعوب الشرق حتى يتمكن من معرفة أوضاعها ويخطط لاستعمارها.

وظل الاستشراق مستغَلاً من قبل الاستعمار، ويظهر ذلك في صورة واضحة في المرحلة الاستعمارية الأخيرة منذ القرن الثامن عشر. حيث انطلقت جيوش الاستعمار بصحبة المستشرقين الذين عملوا أحياناً كضباط وجنود وموظفين في جيوش بلادهم، فأساءوا إلى العلم أو وظفوه لخدمة مصالحهم السياسية.

ووصل الأمر إلى حد قيام بعضهم بأعمال التجسس من خلال جمع المعلومات عن البلاد الشرقية، وتسليمها للمسؤولين لاستخدامها سياسياً وعسكرياً وفي التاريخ المعاصر -بعد انحسار الاستعمار- لا يزال الاستشراق مستغَلاً من جانب الحكومات الأوروبية والأمريكية، حيث خصصت في دوائر الخارجية وظائف " الخبراء السياسيين والدينيين والاقتصاديين" الذين يمدونها بالمعلومات ويشاركون في تخطيط السيطرة السياسية...الخ. ومن المعروف أن عدداً من الجامعات الأمريكية ومراكز البحوث تتلقى دعماً من الحكومة الفدرالية في البرنامج الذي بدأ منذ انتهاء الحرب الثانية (العالمية) فهذه الجامعات لا شك تقدم ما لديها من بحوث وندوات إلى الجهات الرسمية.

وقد قامت وكالة الاستخبارات المركزية قبل سنوات بتمويل عقد ندوة في جامعة هارفرد حول الحركات الإسلامية في العالم العربي بإشراف اليهودي ناداف سفران، فلما انكشف الأمر قبـل انعقاد الندوة تم إلغاؤها. ولكن ما مرت سنوات حتى كانت الاستخبارات المركزية الأمريكية تعلن أنها ستعقد ندوة شهرية وإن كانت ستظل مفتوحة حول الحركات الإسلامية (الأصولـية) حيث يشارك المتخصصون من الأمريكيين وغيرهم في تقديم معلومات وآراء حول هذه الحركات. وقد نشرت هذه الأخبار صحيفة ( الشرق الأوسط) في صفحتها الأولى([17]).

وكما تم استغلال الاستشراق بواسطة الاستعمار، تم استغلاله -أيضاً- بواسطة الدوائر الدينية في الغرب، فقد استخدمته الكنيسة كعلم يدرس أديان الشرق وبخاصة الإسلام. ويقدم لها المعرفة الدينية اللازمة لمحاربة الأديان الأخرى وتشويهها فضلاً عن استخدام الدوائر التنصيرية له لتيسير مهمتها في البلاد الإسلامية، من خلال دراسة الأوضاع الدينية للشعوب والبحث في أنجح السبل لتقديم النصرانية إليهم. وقد تطور قطاع استشراقي سمي باسم " الاستشراق التنصيري " ويديره عدد كبير من المستشرقين المنصرين.

ومن الجهات التي استغلت الاستشراق واستخدمته لتحقيق مصالحها: الدوائر اليهودية الصهيونية التي استخدمته من أجل الدفاع عن اليهودية ضد الإسلام بالذات، واستخدمته ...من اجل تحقيق هدف قومي وهو إنشاء "الوطن القومي لليهود في فلسطين." والدور الذي قام به هذا الاستشراق يتراوح ما بين "الدور النظري التأصيلي." و"الدور العملي التطبيقي."

فمن الناحية النظرية ركزت المدرسة الاستشراقية الصهيونية على عملية "تأصيل الوجود اليهودي في فلسطين على المستوى التاريخي والديني." فصدرت آلاف البحوث المثبتة للحقوق التاريخية لليهود في فلسطين، وتؤكد على الوجود اليهودي المستمر في فلسطين عبر التاريخ، ولا تعترف بالسيادة النصرانية فيها في الفترة من بداية الميلاد حتى ظهور الإسلام، وبالتالي بالسيادة الإسلامية منذ فتحها حتى عام 1948م.

ويتجه هذا الاستشراق إلى تضخيم الوجود اليهودي في فلسطين ومحاولة إثبات " أن اليهود أغلبية فيها." واستخدموا في هذا المجال علمي التاريخ والآثار بتطوير نظريات تاريخية قديمة وحديثة تثبت ذلك، وتنقب عن الآثار المثبتة لذلك، أو تفسر الآثار الموجودة -فعلاً- تفسيراً صهيونياً، يثبت أصالة الوجود اليهودي واستمراريته، وتزيف أحداث التاريخ والآثار لإثبات هدفهم .

وسعى الاستشراق اليهودي على المستوى الديني إلى تأكيد الوجود الديني في فلسطين منذ القدم وحتى الآن، وذلك من خلال الدراسات التي تبرز اليهودية وتجعلها ديانة مستمرة في فلسطين عبر التاريخ وتضعها على المستوى نفسه مع النصرانية والإسلام. بل تظهرها أيضاً في شكل الدين السائد في فلسطين، وأن النصرانية والإسلام لم تكن لهما سيادة دينية بل سياسية.

ويستخدم التاريخ -أيضاً- لتزييف الحقائق الدينية وتأصيل الوجود الديني فيها، وتوظيف علم الآثار لتفسير الأثر الديني الموجود فيها من زاوية تخدم المصالح الصهيونية، والتركيز على أعمال التنقيب، وتطوير النظريات الأثرية التي يقصد منها " تشويه الآثار النصرانية والإسلامية الموجودة في فلسطين." إما باعتبارها منتمية إلى اليهودية أو عن طريق القيام بأعمال تنقيبية تحت وبجوار الأثر النصراني والإسلامي. ومن الأمثلة القريبة على ذلك النفق الذي فتحته دولة اليهود تحت المسجد الأقصى زاعمين أنه نفق قديم لهم وليثبتوا من خلاله حقهم في المنطقة.

ثامناً : ظاهرة فريدة من نوعها وليس لها مقابل في الحضارات الأخرى.

فهي فريدة في تكريس عدد من العلماء لجهودهم العملية في دراسة الشرق ، ولفترة طويلة دون أن تتوقف هذه الظاهرة، وفي الوقت لم تظهر حركة مضادة لها تتولى دراسة الغرب من جانب أهل الشرق.([18])

ويمكن تفسير هذا الأمر من خلال عدة أمور :

1- كان الشرق بالنسبة للغرب مصدراً للحكمة والفكر الديني، وذلك لأن معظم الأديان العالمية الهامة ظهرت في الشرق([19])، كما أن ديانات التوحيد ديانات شرقية (شرق أدنى)، فجمعت منطقة الشرق بين الحكمة العامة والتوحيد والفكر الديني الطبيعي، فلذلك كان الغرب معتمداً على الشرق في فكره الديني، ويلاحظ أن الغرب لم ينتج أدياناً كبرى وإنه في مسألة الأديان تابع للشرق منذ القدم.([20])

وقد عوّض الغرب هذا النقص بالتفوق في مجال الفلسفة، وإن كانت فلسفته هذه متأثرة بالفلسفة الهندية والصينية. فإذاً هناك توجه ديني غربي إلى الشرق دون مقابل معاكس فالشرق هو مصدر الأديان والحكمة.

2- إن الغرب محدود جغرافياً وبالتالي كان الشرق يمثل طموحاته السياسية والاقتصادية، ونحن نتحدث عن الغرب قبل أمريكا واستراليا ، فكان محصوراً في أوروبا، وهي قارة مزدحمة بالدول والقوميات والصراعات، ولذلك كان الشرق يمثل متنفساً للغرب ومحطاً لطموحاته وتوسعاته، فكان موضع طمعهم وغزواتهم. والجيوش الصليبية في العصور الوسطى(الأوروبية) التي سعت إلى فتح أسواق جديدة وتامين أسواق قديمة وحل مشكلات النظام الإقطاعي الغربي الذي ضاق بهم، فاتجهوا إلينا بحثاً عن إقطاعيات جديدة للنبلاء والأمراء. ويضاف إليه الأطماع الاستعمارية الحديثة تجاه الشرق، والتي نتج عنها -في الغرب - اكتشاف العالم الجديد، واستعمار معظم العالم الشرقي.

وهذا الأمر جعل معرفة الشرق مهمة للغرب عبر التاريخ، وأدت إلى الاحتكاك المستمر، وقامت منطقة الشرق الأدنى( الأوسط) بدور الوسيط الحضاري بين الغرب والشرق الأقصى (الهند)، وكان الشرق الأوسط يمثل منطقة وسطى يعبر منها الغرب إلى الشرق.

وفي مقابل هذا الاهتمام الاستعماري الغربي، لم يتوفر لدى أهل الشرق الهدف الاستعماري، وإن ظهر هذا الهدف لدى بعض القوى فعادة ما يقف اتساع الشرق حائلاً دون فرض السيطرة على الشرق بأكمله ثم العبور إلى الغرب، فمثلاً غزوات المغول التي أتت من أقصى الشرق، وقبل أن تكمل غزو الشرق كانت قد تحللت وسقطت.

3-تأثير ما يسمى بعض الكشوف الجغرافية، واكتشاف العالم الجديد على تقوية نزعة الغرب الاستعمارية وحب السيطرة فضلاً عن نمو الرغبة في معرفة الشعوب واكتشافها، وإن هذا الاكتشاف دفع الغرب إلى اكتشاف العالم القديم رغبة في استعماره ومعرفة شعوبه دينياً وحضارياً، وحباً في الرحلة إلى الأماكن المجهولة من العالم ودراسة شعوبها ومثل هذا التوجه لم يتوفر لدى الشرق.([21])

ويمكن أن نشير إلى أن الإسلام بانتشاره بين شعوب الشرق أدى إلى تطور حركة هجرة داخلية من البلاد العربية إلى البلاد الآسيوية والإفريقية بهدف نشر الدين في مناطق جديدة، وبعيداً عن النزعة الاستعمارية التي طغت على غزوات الغرب للشرق. وقد تطور عند المسلمين بداية حركة علمية دراسة لشعوب الشرق، خاصة وأن العلم الإسلامي اعتمد منذ البداية على الرحلة في طلب العلم، ولذلك تفوق المسلمون في علوم الجغرافيا والفلك واكتشفوا بلاداً جديدة، ووضعوا جغرافية البلاد الشرقية وعاداتها ودوّنوها في مصادر أساسية في علم جغرافية ودراسة الشعوب إلى يومنا هذا. ولكن هذه الحركة العلمية الإسلامية المكتشفة للشعوب الأخرى ظلت محصورة في إطار الشرق، وبخاصة آسيا وأفريقيا، ولم تدرس من شعوب أوروبا سوى بعض البلاد الأوروبية الشرقية التي تمكن الإسلام من الوصول إليها.

وفي التاريخ الحديث للمسلمين ظهر اهتمام جديد بالغرب وشعوبه وبخاصة عندما أصبح الغرب مصدراً للعلم والمعرفة، فبدأت حركة علمية لا تهدف إلى أخذ المعرفة عن الغرب فحسب بل إلى معرفته ديناً وحضارة. ولذلك يوجد اهتمام إسلامي حديث بالحضارة الغربية ودياناتهم،وبالفكر الغربي والفلسفة، والعلوم، والتكنولوجيا الغربية.

ولكن يلاحظ على هذه الحركة العلمية الإسلامية أنها لا تمثل توجهاً إسلامياً عاماً لدراسة الغرب -كما هو حال الاستشراق - كما أن الدافع إلى دراسة الغرب يخلو من أهداف الاستشراق ومقاصده. كما يلاحظ أن الدراسات الشرقية للغرب دراسات عشوائية غير منظمة، وانتقائية وليس لهـا هدف واضح ولا تتصف بالشمولية، وضعيفة التأثير في الغرب ولا تستطيع مواجهة الاستشراق كفكر مؤثر في الشرق .

وقد نادى بعض الناقدين للاستشرق بتطوير علم (الاستغراب) ويقصد به (علم يدرس الغرب دراسة شاملة) كما يفعل الاستشراق مع الشرق. ولكن هذا العلم غير موجود ولا يمكن أن ينشأ عشوائياً بلا أهداف، ولا بد من توافر الأسباب المؤدية إلى ظهور الاستغراب حتى يظهر هذا العلم.([22])

 - الحواشي :

 [1]-أستفدت في إعداد هذه المادة من المحاضرات التي كان يلقيها الأستاذ محمد خليفة حسن أحمد في قسم الاستشراق بكلية الدعوة بالمدينة المنورة عام 1416هـ

[2] - ساسي سالم الحاج. الظاهرة الاستشراقية. ( مالطا: مركز دراسات العالم الإسلامي ) 1990. مجلدان في أربعة أجزاء.

[3] -الحاج ، مرجع سابق م1 ،ص 19 وما بعدها.

[4] - أبو بكر باقادر. من حديثه في إحدى ندوات الجنادرية المهرجان الحادي عشر في الرياض عام 1416هـ. وكانت الندوة بعنوان الإسلام والغرب.

[5] -أكرم ضياء العمري. " الاستشراق هل استنفد أغراضه؟ في ملحق التراث- صحيفة المدينة المنورة. ع 9116، بتاريخ 15/11/1412هـ

[6] -سورة يوسف آية.108

[7] -سورة النحل آية 125

[8] - سورة آل عمران آية 64.

[9] - سورة الجاثية آية 23.

[10] -عبد العلي الودغيري. الفرنكفونية والسياسة اللغوية والتعليمية الفرنسية بالمغرب.(الرباط: سلسلة كتاب العلم) 1993 م، وهو عبارة عن عدد من النصوص المترجمة من اللغة الفرنسية تفضح خطط فرنسا في فرض لغتها على الشعوب التي كانت مستعمَرة مع تعليقات من الدكتور الودغيري.

[11] - مراد هوفمان، محاضرته في مهرجان الجنادرية لعام 1416 ، ذكر بأنها سوف تنشر بنصها في مجلة دراسات إسلامية التي تصدر من الهند. وقد قال ما نصه:" وفي الحقيقة فإن هذه التعددية المعاصرة وما تظهره من تسامح لا محدود يختفيان بشكل مفاجئ في وجه الإسلام. فالعادات والممارسات التي تقبل بسهولة من الآخرين تلاقي الشجب والاستنكار إذا صدرت من مسلمين ويتهم أصحابها بأنهم متعصبون بدائيون غير دستوريين ورجعيون.. كما أن مريم العذراء أم تصور البتة دون غطاء رأس بينما لو أرادت فتاة مسلمة أن تغطي رأسها وتذهب إلى مدرسة في فرنسا فقد تقابل بالرفض. ونشر هذا النص في كتاب صدر عن إدارة الإصدارات بالجنادرية، 1417هـ

1-تعقد هذه المؤسسة مؤتمرات بتمويل من مؤسسة كونراد إديناور الألمانية ،وهذه المؤسسة تدعم نشاطات مؤسسات أكاديمية في إسرائيل أيضاً ومنها مركز موشيه ديان لدراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

1- وجهت له الحكومة المصرية اتهاماً بالاتصال بدول أجنبية والحصول على تمويل أجنبي وحكم عليه بالسجن ولكنه أفرج عنه بعد فترة من الوقت، ويمكن أن نذكر أنه كان يعادي( وربما لا زال) الاتجاه الإسلامي ويحرض الحكومة المصرية والغرب ضد الحركات الإسلامية.

1 –أصدرت الحكومة الأمريكية قبل عدة سنوات مرسوماً لتمويل دراسات الشرق الأوسط في عدد من الجامعات واشترطت على من يلتحق بهذه البرامج أن ينتمي إلى الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) وقوبل هذا القرار بالاستهجان والاستنكار من العديد من المنتسبين لهذا المجال، ولكن لا أشك أنه التحق عدد من الباحثين بهذه البرامج وقبلت بعض الجامعات الأمريكية التي تعاني من نقص في التمويل أو أزمات مالية.

2- ظهرت كتابات استشراقية كثيرة قبل الحملة الأمريكية على العراق تحث الحكومة الأمريكية والعالم الغربي على محاربة العالم الإسلامي وانضم هؤلاء المستشرقون إلى ما عرف في الدوائر السياسية الأمريكية بالصقور. وقد كانت أصواتهم أقوى فقد نجحوا في جر الحكومة الأمريكية لحرب العراق واحتلالها رغم أن هذا الأمر لم يحصل على تفويض من الأمم المتحدة.

[16] - زينات بيطار. الاستشراق الفني الرومانسي الفرنسي ، ( الكويت : سلسلة عالم المعرفة. 1992م)

[17] - الشرق الأوسط، ع 3888في 21يوليو 1989م (18/12/1409هـ) ،

[18] -كتب الدكتور السيد محمد الشاهد في مرآة الجامعة مقالة يقدم فيه اقتراحاً بإنشاء قسم للدراسات الغربية ، وظهر بعد ذلك كتاب للدكتور حسن حنفي بعنوان ( مقدمة في علم الاستغراب) كما تيسر لكاتب هذه السطور تقديم محاضرة في نادي أبها الأدبي بعنوان (المعرفة بالآخر بالآخر :ظواهر اجتماعية من الغرب) وقد كتبت داعياً لدراسة الغرب في كتابي الذي صدر عام 1409بعنوان :(الغرب في مواجهة الإسلام)

[19] -ترد كلمة ديانات في هذه المذكرة والذي يؤمن به المسلم هو أن الدين واحد كما جاء في قوله تعالى ( إن الدين عند الله الإسلام) وإنما هي شرائع ورسالات نزلت على الأنبياء والرسل في مختلف العصور والأزمان. ولكن هذا الأمر خطأ شائع .

[20] - عجيب مثل هذا الكلام فالبشر لا يصنعون ديناً ، والشرق لم يأت بالدين من عند نفسه ولكن الله أعلم حيث يجعل رسالته ، فلذلك ليس للشرق فضل في هذا الأمر، ثم لماذا نسميه شرق ، وهو قلب العالم وإنما هو شرق بالنسبة للأوروبيين. فسامح الله الدكتور خليفة على مثل هذه العبارات، وعفا عنّا وعنه.

[21] - هذا الكلام ليس صحيحاً على إطلاقه فقد كانت لدى شعوب الشرق فكرة مفادها أن أوروبا إنما هي مجموعة من الشعوب الهمجية البربرية التي لا طائل من التعرف إليها أو الذهاب إلى بلدانها وقد جاءت بعض هذه الأوصاف في كتب اليونان ، وبعض الرحالة المسلمين فيما بعد .أما رغبة المسلمين في الرحلة والسفر فكانت لدى العرب رحلتان إحداهما إلى الشام والأخرى إلى اليمن ، وكان العرب على معرفة بالفرس والروم ،

[22] - دعت ندوة أصيلة بالمغرب التي عقدت صيف العام الماضي 1996 إلى إنشاء معهد للدراسات الأمريكية في أصيلة ، وقد تناول هذا الموضوع عدد من كتّاب جريدة (الشرق الأوسط) ولكن ينبغي أن نعلم أن الذي يتصدى لدراسة الغرب يجب أن يكون أولا على معرفة بالإسلام حتى يكون لديه المعايير والميزان للحكم على الأمور من الوجهة الإسلامية. وقد كتبت مقالة أشيد بقسم الاستشراق بكلية الدعوة بالمدينة المنورة، وكان عنوان المقال:" جامعة الإمام سبقت ندوة أصيلة" ومن المهم أن أشير إلى أن جامعة لندن قد أنشأت معهداً باسم معهد دراسات الولايات المتحدة ، ويعطي درجة الماجستير في هذا الدراسات ، كما علمت أن في كنداً معهداً مماثلاً للمعهد البريطاني.

المصدر: http://www.madinacenter.com/post.php?DataID=246&RPID=246&LID=1

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك